23 ديسمبر، 2024 11:26 م

طبقات الحضارة العراقية… بين الأصالة والفكر.. المنقب والاثاري برهان شاكر  

طبقات الحضارة العراقية… بين الأصالة والفكر.. المنقب والاثاري برهان شاكر  

يعد العراق مهد الحضارة الإنسانية التي أغنت العالم اجمع بكل إبداع وابتكار ابتداءَ باختراع الكتابة في عصر فجر السلالات السومرية مروراً باختراع العجلة وابتكار الزقورة التي تعد تحولاً معمارياً كبيراً شهدته عصور التطور الحضاري الأولى، إذ توزعت الأمصار والمدن الحضارية العراقية القديمة على أرجاء العراق القديم في أور واريدو والوركاء وبابل وأكد وايسن ولكش ونينوى وآشور ونمرود وغيرها.. استطاع المنقبون الأجانب الذين كانوا أول من اكتشف تلك الآثار العظيمة التي جمعت مختلف النواحي الإبداعية في ابتكار الشكل وماهيته ووظيفته، فقد أسهمت تنقيبات (ليوناردو وولي، وبارو، وصموئيل نوح كريمر، وفرانكفورت، ومكواير جبسون وغيرهم كثر) في الكشف عن مكنونات حضارة العراق الإنسانية. في وقت لم يكن في العراق آنذاك منقبون متخصصون في هذا الميدان منذ بدايات القرن العشرين ولاسيما بعد الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني للعراق، إذ استطاع البريطانيين من استغلال ذلك التخلف السائد في العراق، وعدم معرفتهم بقيمة آثارهم التي نهبوها ونقلوها إلى بلدانهم ليعرضوها إلى العالم، وما تزال تلك الآثار تشكل جزءً أو حيزاً كبيراً من مساحة المتحف مخصصة للآثار العراقية بمختلف عصورها الحضارية والتاريخية. استمر المنقب الأجنبي بدوره الكبير في التنقيب عن الآثار العراقية القديمة حتى جاء الأستاذ طه باقر والأستاذ فؤاد سفر ليكونوا أول متخصصين عراقيين في ميدان الآثار وتنقيبها، ولاسيما عندما أصبح الأستاذ طه باقر مديراً عاماً لمديرية الآثار العامة آنذاك، وكانت من أولويات عمله هي إنشاء إدارة وطنية عراقية تحافظ على الآثار، ويكون التنقيب عن الآثار عراقياً وبكادر عراقي، فضلاً عن تأسيس أول قسم متخصص للآثار في الشرق الأوسط ضمن كلية الآداب والعلوم ببغداد، التي تأسست عام 1942، قبل تأسيس جامعة بغداد عام 1957، استمر هذا القسم الذي أسسه الأستاذ طه باقر ليخرج أول كادر متخصص في ميدان علوم الآثار ودراستها والتنقيب عنها، وقراءة الكتابات المسمارية، أي العراقية القديمة السومرية والاكدية وغيرها، وكان أول رئيس للقسم، لقد بدأ زمن عراقي وطني جديد في التنقيب عن الآثار وبإشراف كبير من عالم وآثاري كبير هو الأستاذ طه باقر، لقد استمر باقر في التدريس حتى تخرج على يده كبار المنقبين والاثاريين والأكاديميين وكان من ابرز المنقبين هو الأستاذ برهان شاكر سليمان.
عمل برهان شاكر لسنين طوال في أعمال التنقيب عن الآثار العراقية القديمة بعد تخرجه من قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة بغداد، وكانت رغبته الكبيرة في الحفاظ والبحث عن الأصالة ونقاطها المضيئة في قيمة التعبير ودلالة المعنى التي تعبر عنها الرموز الاثارية العراقية القديمة. ولد برهان شاكر في ناحية (قرة تبة) التابعة لمحافظة ديالى عام 1944،ثم التحق عام 1962 للدراسة في قسم الآثار/كلية الآداب، وبسبب نشاطه السياسي فصل من الكلية عام 1963 بعد الصراع السياسي آنذاك، وكان ولا يزال في مرحلته الأولى ،ثم عاد للدراسة ليتخرج من القسم المذكور عام 1967 .عمل منقباً للآثار بعد تخرجه في مديرية الآثار العامة عام 1968. إذ عمل في ميدان التنقيب والمسح الآثاري وصيانة  اللقى والمعمار الأثري لمدة تزيد عن أربعة عقود في مختلف المناطق والمراكز الحضارية العراقية.  كما نقب فيما بعد في مناطق سد مكحول وحمرين ومناطق دوكان،حديثة، الشرقاط، العظيم، بابل، الديوانية، ذي قار. تعرض برهان شاكر خلال فترتي السبعينيات والثمانينيات إلى الكثير من المضايقات بسبب نشاطه الوطني  بيد أنها لم تضنيه عن إكمال مشواره العلمي ونهجه الوطني في الكشف عن أصالة التاريخ العراقي المشرق ودوره الريادي والسيادي العالمي. فقد أصبح خلال فترة قياسية وعن جدارة (المنقب الأول) في الهيئة العامة للآثار والتراث، وصولاً إلى توليه منصباً مهماً وهو مدير عام التنقيب في الهيئة العامة للآثار والتراث للفترة ما بين 2003-2006 حتى أحيل إلى التقاعد. فقد كان بحق موسوعة متنقلة يستشيرها الجميع من المنقبين والباحثين. نقب برهان شاكر خلال الفترة ما بين 2000- 2002 في منطقة تل مكحول أثناء قيام الحكومة آنذاك بتشييد مشروع إقامة سد في منطقة مكحول إلى الشمال من منطقة الفتحة، وهي الممر الذي يفصل جبال حمرين وجبل مكحول الكائن إلى الشمال الغربي من تلك الجبال أو التلال. وخرج بعدة حقائق لابد من الإشارة إليها، ولعل أهم تلك الانجازات التي كشفها في أعماله التنقيبية، كانت المباني المدورة التي كشفتها التنقيبات في مواقع تل النمل وتلا مرموص وتل الفرس، وغيرها التي وجدت في منطقة سد مكحول، والمباني المدورة التي تعد ابتكاراً معمارياً عراقياً سبقت حضارات العالم القديم في طريقة البناء والتكوين الهندسي، إذ نسب بعض الباحثين أن أصول  المباني المدورة هي أصول غربية من حيث نمط البناء والهدف منه، بيد أن الحقيقة التي كشفها برهان شاكر أكدت بما لا يقبل الشك أن المرجعية الحضارية والفكرية للمباني المدورة في العالم القديم هي عراقية الأصول والجذور والابتكار.
كما تنوعت الآراء حول أهمية المباني المدورة وما تشكله من أهمية معمارية في العراق القديم إذ عدها المنقب الاثاري  (مكواير جبسون) والباحث الاثاري (جون اوتيس) بأنها مخازن للحبوب والغلة، بيد أن (جبسون) غير رأيه فيما بعد واصفا المبنى المدور بأنه حصن أو قلعة، بينما عد  برهان شاكر المبنى المدور معبداً. كما وجد العديد من الطبقات التاريخية والحضارية التي تعود إلى عصور مختلفة، منذ عصور فجر السلالات السومرية، وقد وجدت فوقها طبقات تعود إلى الدولة الاكدية والآشورية، بمختلف تراكم عصورها بعد أن حلل مواد البناء، وطبيعة التكوين الذي يرتبط كل منها بخصوصية، من حيث المواد المستعملة، في تشييد طبقات اللبن المستعمل في بناء تلك المباني المدورة. ومن اللقى الأثرية المهمة التي اكتشفها برهان شاكر هي الجرار الكبيرة التي تحمل في شكلها الخارجي رسوماً بارزة لوجه آدمي وقد عدها برهان شاكر قبوراً تدفن يدفن فيها الموتى، وهذا ما وجده في موقع تل الذهب وغيرها من المواقع الأخرى.
نشر برهان شاكر العديد من الدراسات والأبحاث المتخصصة بالآثار والتنقيب في العراق القديم وكانت من تلك الدراسات المهمة هي دراسة تتعلق بالاهوار وتاريخ تكونها في العراق، وما يثيره هذا الموضوع من جدل كبير في أصل الاهوار ونشأتها، إذ يؤكد وجود خطأ شائع في الأوساط العلمية والعامة، يقول بأن السهل الرسوبي في جنوبي ووسط العراق كان بحرا في العصر الحجري القديم، أي قبل نصف مليون سنة، وبدأ هذا البحر بالتراجع نحو الجنوب بفعل ترسبات الطمى التي يأتي بها نهرا دجلة والفرات وروافدهما.  وهكذا ظهر السهل الرسوبي بوضعه الحالي، وكان أصحاب هذا الرأي يقولون بأن الاهوار في جنوبي العراق هي من بقايا البحر المزعوم.  لقد بني هذا الرأي الخاطئ على نظرية وضع أسسها في أواخر القرن التاسع عشر الاثاري المعروف “دي مورغن” الذي اشتهر بتحرياته الأثرية في مدينة “سوسة” عاصمة العيلاميين في جنوب غربي إيران.  والذي أكد نظريته أن معظم القسم الجنوبي والأوسط من العراق كان مغمورا بمياه البحر وحدد خط الساحل إبان العصر الحجري القديم، أي قبل نصف مليون سنة كما أسلفنا (والحديث مستمر لبرهان شاكر)، بالخط المار بين هيت وسامراء نزولا إلى بلد.  وأشار أيضا إلى أن المرتفعات الموجودة في هذه المناطق كانت جرفاً لساحل الخليج.  كما قال أشار برهان شاكر في معرض حديثة إلى أن في هور الحمار الذي تقدر مساحته بمليون وثمانية وأربعين ألف دونم تمكنا من تثبيت 122 موقعاً اثرياً بين صغير وكبير وتاريخ بعضها يعود إلى عصر فجر السلالات السومرية أي بحدود 2800-2350 ق.م وتتوزع هذه المواقع على المناطق التالية، منطقة الجبايش، الإصلاح، العكيكة، السديناوية، كرمة بني سعيد، وهذه المواقع إما كانت مغمورة بالهور أو  يحيط بها الماء وذلك حسب ارتفاعها.
اصدر برهان شاكر كتابه المهم والموسوم (تنقيبات عراقية في منطقة سد مكحول) الذي يجمع فيه خلاصة تجربته ورحلته المعرفية في سبر أغوار حضارة العراق العظيمة بمكوناتها الإنسانية، والذي يعد مرجعاً مهماً من المراجع الأثرية والتنقيبات التي أجراها برهان شاكر لسنين طوال في البحث والتنقيب والتقصي عن المعرفة، وقد صدر الكتاب عن أكاديمية هايدلبرك العلمية ومعهد التاريخ القديم وآثار الشرق الأدنى القديم في جامعة هايدلبرك في ألمانيا عام 2010، ويعد من الكتب المهمة التي تطبع في الدول الأوربية. هكذا هو الإبداع العراقي الذي جسده فكراً وعلماً وجهداً برهان شاكر من اجل إثبات أحقية العراق في ابتكار الحضارة الإنسانية، وانتشار تلك الحضارة إلى العالم بكل استحقاق وجدارة، ليودعنا بسلام ومحبة في 7/1/2013 . كما عرفناه كرجل سلام ومحبة وعطاء.. هكذا ودعنا برهان شاكر بكل صمت وسكون… تاركاً فينا العزم للمضي نحو الحقيقة بالتنقيب والتقصي والبحث الرصين… وداعاً أبي سامر.. عرفتك ذا مجلساً رائعاً بفكاهتك وجمال أخلاقك وتواضعك الجم.. وداعاً وداعاً…. وداعاً… لقد رحلت عنا جسداً وستبقى فينا فكراً ومنجزاً يتباهى به العراق وتاريخ العراق لكل الأجيال ذكرى ومحبة… وداعاً.