لاشك ان الاعتقاد عند الانسان يكون سهلا في المشاهدات المحسوسة، حتى وان كان يتعذر عليه لمسها ببصره،وذلك لان ادراكه العقلي للمحسوسات، يسهل عليه تمثلها الحقيقي،وبالتالي ييسرعليه عملية الاعتقاد بوجود تلك المحسوسات،ويتحقق له عندئذ الايمان بها، الى درجة اليقين التام.لذلك كانت الظواهر المحسوسة من الكون المرئي للإنسان، سهلة الرصد، ويسيرة الملاحظة،بحيث تمكن الانسان مع تطور قدراته العلمية، وتقدم ادواته المعرفية،من اخضاع الكثير منها الى التجربة والاستقراء العلمي، الامر الذي مكنه من استكشاف العلل، ومعرفة العلاقات القائمة بين الظواهر، وتحديد الاسباب التي تحكم العلاقة بينها، حيث افلح في صياغة قوانين مكنته من التنبؤ بما سيحصل من نتائج، فيما لو استمرت معطيات الحال لتلك الظواهر على وضعها،حتى ان المعرفة المتراكمة في هذا المجال قد اصبحت من قبيل البديهيات،واليقينيات العلمية.ولعل ذلك المنجز الانساني العظيم،يتوافق مع مراد الله من تأمل الانسان العقلاني في تعامله مع الكون المنظور،على قاعدة (علم الانسان ما لم يعلم).
ولعل الحقائق العملية التي تمكن الانسان من استكشافها،والتيقن علميا من موضوعيتها،ساعدته على تعزيز ايمانه بالخالق العظيم،الذي حث الانسان على النظر في ملكوت السماوات والأرض،من اجل الاستدلال على رب السموات والأرض، عن طريق تدبر المحسوس من اياته،على نهج(ان في ذلك لآيات لأولي الالباب).
على ان من الصعب على الانسان بقدراته العقلية المجردة المحدودة، ان يتجاوز ما وراء المحسوس خارج ما تقع عليه حواسه، ليقف على حقيقة ما ورائها،على غرار تجربته مع ما حققه من نتائج مذهله، في تعامله مع المحسوسات التي تقع في حدود امكانيات تناوله.لذلك تعددت رؤاه الفلسفية،وتنوعت مناهجه الفكرية،وتعقدت تناولاته المعرفية لتلك الاشكالات التي واجهته في مسيرته البحثية في هذا المجال.ولعل وصول الانسان الى هذه المحصلة، يتوافق تماما مع عظمة المراد الالهي من امتداح ذلك النمط من الايمان بالغيب على قاعدة(ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. اولئك على هدى من ربهم واولئك هم المفلحون)في اشارة بليغة،الى احاطة الكتاب المسطور بكل حقائق الوجود،الحسية منها،والغيبية اولا، وتعذر احاطة الانسان بحقائق ما وراء الغيب ثانيا،فكان لابد من اطراء الهي للمؤمنين بالغيب يقينا،اواستدلالا،ووصفهم بالفلاح الروحي،والحسي، لرجاحة قناعاتهم،وسمو تصوراتهم،التي تنأى بهم عن النظر الضيق الذي يقودهم الى الوهم، والضلال،فيما لو انفرد العقل بتلك المهمة،مهووسا بقدراته المحدودة.
وهكذا نجد ان القران الكريم ذلك الكتاب المسطور،مثل المنهج الروحي للهداية على قاعدة(ان هذا القران يهدي للتي هي اقوم ويبشر المؤمنين..) في تناول ما وراء المحسوس،معززا بالكون المادي المنظور،كوسيلة ملموسة تمكن الانسان من التوصل الى معرفة الخالق بقين تام كأنه يراه.