في السادس عشر من آذار العام٢٠١٦،،غادرنا المفكر النقدي جورج طرابيشي في رحلته الأبدية، وهو في أوج نضجه الفكري وعطائه المعرفي، وبعد أن خاض معارك التغيير والحداثة والفلسفة والفكر والثقافة، وشكل رحيله خسارة كبرى للثقافة الديمقراطية الانسانية.
جورج طرابيشي هو مفكر وناقد ومترجم عربي سوري، ولد في حلب الشهباء سنة ١٩٣٩، حصل على الاجازة باللغة العربية والماجستير في التربية من جامعة دمشق.
اشتغل مديرًا لاذاعة دمشق بين السنوات ١٩٦٣-١٩٦٤، ورئيسًا لتحرير مجلة دراسات عربية(١٩٧٢-١٩٨٤)، وترأس تحرير مجلة”الوحدة”.
أقام في لبنان لفترة من الزمن، وابان الحرب الأهلية غادرها الى فرنسا، حيث عاش وبقي فيها حتى وفاته متفرغًا للكتابة والبحث والتأليف.
ترك طرابيشي وراءه حوالي مائتي كتاب مترجم في الفلسفة والايديولوجيا والرواية والتحليل النفسي. بالاضافة الى مؤلفاته ومنجزاته الهامة في الماركسية والنظرية القومية، وفي النقد الأدبي للرواية العربية، ومن أبرز كتبه: معجم الفلاسفة، من النهضة الى الردة، هرطقات، فضلًا عن مشروعه الضخم الذي اشتغل عليه أكثر من عشرين عامًا، وصدر منه خمسة مجلدات في”نقد نقد العقل العربي”، وكان آخرها الجزء الخامس “من اسلام القرآن الى الاسلام الحديث”،وفي نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري”في نقد العقل العربي”.
تنقل جورج طرابيشي عبر محطات عدة، أهمها الفكر القومي والثوري والوجودي والماركسي، وانتهى بتبني نزعة نقدية جذرية يرى أنها الموقف الوحيد الذي يمكن أن يصدر عنه المفكر، لا سيما في الوضعية العربية الراهنة.
ويرى جورج طرابيشي أن”الآليات التي أدت الى استقالة العقل العربي وغروبه في الحضارة هي آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتي كومن انكماش لهذا العقل على نفسه، وليس من غزوة خارجية، منوهًا أن هذا العقل يحمل مسؤولية النهوض من جديد.
وقد شخص طرابيشي بدقة متناهية علل المجتمعات العربية، وأشار الى أن التأخر في العالم العربي سببه أساسًا ومرده الى التعلق بالتراث الديني واضفاء القدسية عليه، وعدم القدرة على مغادرته الى الحداثة والمعاصرة.
ومن أهم المشروعات الفكرية التي نهض بها طرابيشي تأسيس”رابطة العقلانيين العرب”مع الراحلين نصر حامد أبو زيد ومحمد اركون، وهي رابطة تدعم مشروع التنوير العربي، وتعتمد مقاربة عقلانية في فهم الواقع ومعالجة القضايا، وتتبنى شعار”ثقافة نقدية تنويرية علمية”.
جورج طرابيشي مفكر نقدي تخصص في تحليل الأدب ونقده، واستلهم موضوعاته من تجارب عميقة ناتجة عن أسفاره واستقراره، واتصفت كتاباته بالأمانة والجرأة النادرة، التي قد لا يتحملها البعض، لكنها مصحوبة بتواضع غير مألوف لدى الأوساط الثقافية والفكرية العربية.
والحق يقال أن الثقافة العربية المعاصرة فقدت رائدًا من روادها ونقاد العقل العربي، لا تتحملها في زمن الخيبات والهزائم والانكسارات، وكم كان صادقًا بقوله:”لا يجوز أن تعلو فوق سلطة العقل أي سلطة أخرى”.