تلك ممرّاتُنا الأثيرة . منها تشظينا الى فوضى المدائن ، وأنوارها الكاذبة . لكنّها علمتنا دروساً في الوفاء والعناد والقراءة التي غدتْ شاغلنا الأوحد . البصرةُ هي الاُخرى مدينة ٌ، لكنّها ليست كالمدائن الأُخر .فلها رئاتٌ من النخل وشجر البمبروالتفاح والبرتقال والعنب . وكذا الماء / شطاً ونهيرات / وأجملُ ايامها كائنة ٌ في رُوعي ، بكلّ جمالها الأبدي من مبتدأ ستينيات القرن الماضي / باستثناء عام 1963 الذي دفعنا الى الهرب والإختفاء والسجن/ عدتُ اليها لا قبلاً ولا بعداً ، لكنْ في رواق حلم مخملي رخيّ .وكانت النخلُ حيّة سامقة وسعفها كثيث اخضر . ولمّا يزلْ يرقصُ مع الريح . ويُلامسُ السماء ، قبل أن تحرقه طوفاناتُ الحروب . وإن انسَ لا أنسى زيارتنا الى الفاو بعد منتصف ثمانينات القرن المنصرم / وغبّ انتهاء المعارك الدموية / بصحبة بعض الأدباء البصريين . وكانت صفوفُ النخل على ميسرتنا من البصرة حتى ضفاف الخليج مهدورة ، مُتفحّمة ، اختفت جدائلُها الخضرُ ، آلافُ آلاف ٍ جذوع سود غادرها السعفُ والأعذاق ، بيدَ أنّها واقفة ٌ لا تقوى على التداعي . في الفاو قرأ الشعراءُ قصائدهم ، كلّ ما قرأوا كان نزيفَ حزن على النخل المحتضرة . ولن تغيب عن بالي صورُ ما قبل الطوفان التي ظلت مُتشبثة ً بنسيج ذاكرتي . ولا ادري / الساعة َ / كيف هي البصرة بعد الغزو الأمريكي ، وتفشي الخراب وانتشار الأوبئة التي فتكت بالبشر والشجر والهواء والتراب والماء والبيئة والزمن ؟
لكنّي عدتُ اليها / يوم وطئت قدماي تربَها ، ويومَ تعرّفتُها اولَ مرّة / والنخل كانت باسقات لها طلعٌ نضيد وشطُّها متخمٌ بالسفائن وقوارب الصيد / وتاكسيات الماء / تنقل اناسيها الى قراهم البعيدة . عدتُ اليها حالماً استيقطتُ توّاً من حلم قبله ، احملُ بيدي بضعَ حبات تمر . اقسمتُ لكلّ من التقيتُهم اني جئتُ بها من هناك . الهي ؛؛ ايُعقلُ أنْ يحملَ الحالمُ من رواق حلمه شيئاً الى عالم يقظته ؟ لستُ مُهتماً أنْ يُصدّقني الآخرون أويُكذّبوني ، لكنّي فتحتُ كفي لكلّ مَنْ التقيه ويلتقيني ، بيدَ ان الوضعَ الذي جئتُ اليه كان حلماً آخر جوار حلم سابق . انّه البصرةُ التي جئتُها يومَ كنتُ يافعاً طرىّ الإهاب والعقل ، قبلَ أنْ تعصفَ بها الحروبُ والأحقادُ واللامُبالاة ، جلستُ لصقَ الشط ّ الذي أعرفه ويعرفني ، وطالما جلسنا مع صحبي في مقاهي كورنيشه . كانت رموشي تمخرُ فوق سعفات النخل في الضفة الثانية ، فما اسعذَ البصريين وهواءُ مدينتهم صاف نقيّ ينبعثُ من رئات النخل والشجر المُمتدّ مع امتداد الشط .حتى حافات الخليج .وما اسلسَ الماءَ يجري صامتاً بلا ضجيج ، تطوفُ فوقه اسرابُ النوارس والبط ، والقواربُ والسفين والنظرات الجارية على ضفّتيه . هنا وهناك كان يجلسُ السيّابُ والصقر والصكار والبريكان ومحمود عبد الوهاب ومحمد خضير وكاظم الحجاج وآخرون / عددَ النخل والشجر والنوارس / ممّن صنعوا ابداع البصرة ومجدها الثقافي . وكم تغنّوا بهذا الشط ّ الكبير العزيز الذي يكادُ يختنق الآونة َ بانفاس الأحقاد والتلوّث والإهمال المُتعمّد .
جلستُ في مقهى / مقهى في ضاحية الحُلم / كنتُ اُرِي اصدقائي بإصرار ، وربّما بحماقة ، حبات التمر التي جئتُ بها من رحاب حلم سابق ، وعقّب كاظم الحجاج : /غريب أن يحملَ حالمٌ حبات ِ تمر الى مدينة التمر ، هي بضاعتنا جئت تردّها الينا / استغرق فوزي السعد والأحمدي وحسين عبد اللطيف ومجيد الموسوي في الضحك ، تم اضاف الحجاجُ : / ربّما صافحك احدهم في الطريق وتركها داخل كفك / بيد ان مجيداً حسم الأمر : / دعوه يعشْ لحظات حلمه في مدينتنا التي احبّها وجاءها بعد سنين غياب ، بعد قليل سيصحو ويجد نفسه في زمهرير ستوكهولم / امّا البريكان الذي دخل علينا فابتسم قبل ان تلمس شفتاه استكانة الشاي، لكنّه كتم ابتسامته بأصابعه .
ومن مكاني ، وأنا جالس مع احبتي ، كنتُ ارى واسمع دويّ مهرجاناتها ، وضحيج اسواقها ومقاهيها ، ارى نهر العشار يخترقُ الزحام ويحيي اسد بابل وجامع المقام وسوق حنا الشيخ ومقهى / (ابومضر) ملاذنا الآمن ومؤل ابداعنا ، يُزيح عنا التعب والقلق والوحدة التي تأكلُ لحم ادميتنا / ثم يمضي النهرُ بأمان حتى محلة النظران وما بعدها ، حيث يتوقفُ هناك . واذ اقوم بجولة في الشارع الوطني التقاني شابٌ عربي من المغرب ، سألتُه : / ما الذي جاء بك الى هنا / اعترض على كلمة ( هنا ) : / قل ِ البصرة ، ردّ عليّ / ثم مضى قائلاً : / نحنُ في المغرب الأقصى نحلم ان نزور العراق ، ونرى البصرة : مدينة النخل والشعراء والخليل ، فعبرتُ الى اوربا وانتقلت بين دولها وصولاً الى تركيا ومنها الى العراق . لقد جئتُ عاشقاً وحاجاً اليها ….. ثمّ جُلنا / قبل ان ادعوه الى مقهى علي بابا لشرب فنجان من القهوة / في احشاء البصرة والعشار واسواقهما ودروبهما . ولأنّ البصرة كانت خللَ أيامها الجميلة // ندوات ثقافية ، عروض مسرحيات واوبريتات تلامس هموم العراقيين ، والأغاني الجنوبية الشجيّة باصوات عائلتي الفنانين حميد البصري وطالب غالي ، وفؤاد سالم وآخرين لا اتذكر اسماؤهم وما زال يتواصلُ ابداعُهم // فما كان بودّي ان أتركها واُغادرَها …. غبئذ ٍالتقيتُ ابني ، أخذ بذراعي وسحبني من جنتي التي ما زلتُ احملها معي حيثُ اكون . عدتُ الى مثواي في ستوكهولم ، هكذا حالُ العاشق يبتكر الف الف وسيلة ليلتقي معشوقته ، ويجد لديها ما يُحبُّ وما يرضى ……