في تسعينيات القرن الماضي ذهب أحد الاشخاص الى رجل الدين السيد حسين اسماعيل الصدر في الكاظمية ليأخذ رأيه و يستفتيه في أحد المسائل الفقهية ، و عند إنتهاء اللقاء سأله ماذا تعمل فأجابه هذا الشخص بأنه حاليا أحد طلبة معهد القضاء العالي في بغداد ليكون قاضياً بعد الدراسة لمدة سنتين ، فردّ عليه رجل الدين متبرماً (أعوذ بالله !) فرجع هذا الشخص و هو يقلّب ماطرقه رجل الدين على مسامعه من التعوذ بالله من مهنة القضاء ، ليتخذ بعدها قراره الحازم و الخاطيء و يتخلى عن إكمال الدراسة في معهد القضاء ، مقتنعاً بان كلام رجل الدين هو الصحيح ، فأضاع على نفسه فرصة طيبة كان بامكانه تقديم خدمات من خلالها الى المجتمع ، و بعد أحداث 2003 لاحظنا كيف حصل مع رجل الدين السيد حسين اسماعيل الصدر من الثراء الفاحش و كيف بدأ يسرق بكلتا يديه و امتلاكه العقارات و الارصدة و المقام الرفيع و الحمايات و الوفود و الضيافات و الموائد المُتخمة و السيارات المظللة ، و جميعها من قوت الشعب و من المال الحرام ، في وقت كان يعتبره البعض قدوة في كلامه و تصرفاته.
إن مهنة القضاء هي كباقي المهن التي تخدم المجتمعات و أنها تتفوق عليها لما لها من أثر كبير في إنصاف الناس ، وأن الاتهامات التي تُوجه الى مهنة القضاء و الى القضاة هي على شاكلة التهم التي تُوجه الى كل المهن الاخرى في المجتمع.
هنالك مشكلة يعيشها المجتمع العراقي ، و هي أنه لايفرق بين القضاء الذي يعمل في دور العدل و مؤسساته في الشؤون الاعتيادية من خلال أقسام المحاكم في قضايا البداءة و الشرعية و الاحوال المدنية و الجنح و الجنايات ، و إنجاز و ترويج المعاملات المتعلقة بحقوق الناس ، و بين القرار السياسي الذي تنتزعه بعض السلطات العراقية المستبدة من القضاء العراقي بالاكراه و التهديد ، لتغيير موازين اللعبة السياسية في العراق ، و التي أفقدت القضاء إستقلاليته في نظر الكثير و جلبت السمعة السيئة و الشائنة للقضاء العراقي ، الذي يكنّ له المجتمع العراقي كل الاحترام ، و الامثلة كثيرة في هذا الصدد سواءاً في عهد صدام حسين أو في عهد نوري المالكي الذي تفوّق في الظلم و الانحراف و الغطرسة على صدام حسين.
إن سياقات العمل في المحاكم العراقية ، لاتدع مجالاً لبخس حقوق الناس لما يتمتع به القاضي العراقي من مهنية عالية و لما تلتزم به قوانين التقاضي من توفير فرص حق الدفاع و الطعن و الاعتراض أمام هيآت الاستئناف و محاكم التمييز ، إضافة الى الجوانب الانسانية التي تشكل رافداً طيباً مليئاً بالرحمة ، حينما تجد أن القاضي يُحاكي الوجدان و الحس الانساني و المروءة بين سطور نصوص القوانين ، ليخفف من غلوائها و من الضغوط الواقعة بسبب صرامة القوانين في بعض الحالات.
إن القاضي يجد نفسه مضطرا لتطبيق القانون بحذافيره و يمكن إعتبار القاضي بأنه هو الجهة المُنفذة أو التنفيذية للقوانين ، و قد ترك المُشرّع و الفقيه القانوني (عن قصد) قدراً من المسافة (range) لكثير من القوانين لتكون فيها نسبة محددة ينفذ من خلالها المحامي للاستفادة في تخفيف شدة الاحكام مراعاة للجوانب الانسانية و التي يرضخ أمامها القاضي في إعادة النظر في تكييف الاحكام لقوانين بديلة عند تقديم المحامي لدفوعاته.
إن مهنة القضاء كغيرها من المهن ، قد إمتهنها بعض القضاة الذين نكثوا بالقسم و أساؤوا الى أنفسهم و الى مهنتهم و الى حقوق المجتمع ، و هذا وارد و حاصل لجميع المهن ، و لهذا علينا أن لانُعمم هذه النظرة على الجميع ، و علينا ان نعرف ان هنالك قضاة شرفاء مخلصين يرفضون المساومة و الابتزاز مهما بلغ الامر.
إن القضاة و نقابتهم المهنية قد وقفوا مكتوفي الايدي ، و لا زالوا ، في عدم تبيان الحقائق الخافية على الكثير من أفراد المجتمع ، و أن الواجب يُحتم عليهم إيضاح دورهم و عملهم ليكون جلياً للجميع ، و عليهم مسؤولية كبيرة في التصدي الى الذين أساؤوا الى مهنة القضاء سواءاً من أقرانهم القضاة الذين تسوّل لهم أنفسهم هضم حقوق الناس و التهاون فيها من أجل منافع شخصية ، أو من الجهات الحكومية التي حاولت و تحاول التشبث بالقضاء و إتخاذه مطيّة لتحقيق مآربها و جعله أداة نافعة لهم في تثبيت أركان حكمهم للتمسك بكراسيهم و مناصبهم ، كما لاحظناه في قرارات المحكمة الاتحادية المُجحفة بحق الدكتور أياد علاوي في الانتخابات البرلمانية تحت تأثير ايران و سمسارها حزب الدعوة العميل في موضوع رئاسة الوزراء التي سرقها المجرم نوري المالكي و جلب من خلالها الدمار ليعم جميع أجزاء العراق ، حينها و بكل تأكيد ستتغير نظرة المجتمع لهم و يستعيد القضاء هيبته ، و لا يكون ذلك إلاّ عند إكتمال إستقلالية القضاء المطلقة ، و في ذلك مصلحة للجميع ، و لهذا يقتضي من الجميع الوقوف الى جانب القضاة في هذا الجانب سيّما أن الاعلام لم يُسلط الضوء على هذا الامر و لم تتناوله ندوات عامة أو مؤتمرات أو جلسات ثقافية أو محاور إذاعية في القنوات الفضائية ، مما يُبين أن هنالك تقصيراً قد يكون متعمداً ، مما سبب الاجحاف و أنعكس سلباً بحق المجتمع عامة ، و لا يمنع من قيام مسيرات تقوم بتحشيدها أحزاب وطنية أو منظمات عاملة في المجتمع المدني ، تُندد بما تقوم به بعض السلطات الحكومية ضد إستقلالية القضاء بدلا من الانتقاص من أشخاصه الذين يعرف الجميع أنهم يرضخون تحت تعسف السلطات السياسية و هيمنتها الجبروتية ، و أنهم بحاجة أكثر من غيرهم للوقوف الى جانبهم و حماية أرواحهم و أرواح عوائلهم من بطش المتنفذين من عناصر الاحزاب الاسلامية الاجرامية.