وأخيرا فعلها حزب الدعوة وأجبر حكومة الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على الرضوخ لإرادته، والانصياع لكل قراراته وأوامره دون نقاش، وعذره أنه يحافظ على وحدة العراق، أرضا وشعبا، ويرفض المتجاوزين على القانون وعلى الدستور.
بعبارة أخرى، لقد فعل حيدر العبادي بالشعب الكوردي، بكل تنوعاته السياسية والعشائرية والمناطقية والإقطاعية المتوارثة من قديم الزمان، ما لم يفعله أحدٌ قبله من حكام الدولة العراقية، سنيا كان أو شيعيا، مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، ابتداءً بنوري السعيد، ومرورا بالزعيم عبد الكريم قاسم، ثم عبد السلام محمد عارف، ثم أحمد حسن البكر، وانتهاءً بخاتم الأقوياء والجبارين، صدام حسين.
لقد تمكن من أن ينتزع حق الإدارة والإجازة والرقابة والإشراف على كل مداخل الإقليم ومخارجه المعلومة والمجهولة، وجرد حكومتها، عمليا وواقعيا، من صلاحياتها، وأغلق الباب، من الآن وإلى أن يشاء الله، لا على الانفصال، فقط، بل أسقط حتى صيغة الحكم الذاتي التي قد يطالب الكورد بالعودة إليها، عد أن تكبروا عليها ووطووها من سنين.
فبعد شهور من عقابه الجماعي لشعب كردستان رفع العبادي حظره الذي كان قد فرضه على الرحلات الدولية عبر مطاري أربيل والسليمانية، بعد أن استجابت حكومة كردستان لشرط تسليم مهمة إدارة المطارين لحكومة حزب الدعوة الحليف القديم الحميم. وكان قد استعاد، قبل ذلك، صلاحية إدارة موارد الإقليم من نفط كركوك ومعابر الحدود.
وبهذا يكون مسعود البارزاني، باستفتائه غير القانوني وغير المبرر، وبتهديداته بالانفصال، قد ذبح لنا نظام المحاصصة، من الوريد إلى الوريد، ونَسَف النظام الفيدرالي المغشوش، من جذوره، وأعلن للعالم أن العراق كله، من جنوبه إلى شماله، قد أصبح، بعد اليوم، مستعمرة واحدة موحدة ملحقة بدولة الولي الفقيه، ولو كره الكارهون.
ورغم أن صدور قرار فتح المطارين ودفع رواتب الموظفين أفضل من عدم صدوره إلا أن شعب كردستان لن يعود بهذا القرار إلى سابق حريته وبحبوبة العيش القديم، بل سيبقى تحت مطرقة الحلفاء العراقيين والإيرانيين والأتراك، زمنا ليس بقصير.
أما مسعود البارزاني، وقد هجر السلطة بعد أن جرَّ كل هذه المصائب على الشعب الكردي، فقد علق على القرار قائلا “إن مشاكل الإقليم مع بغداد ليست محصورة في المطارات والموزانة فقط”. مؤكدا أن “المشاكل بين بغداد وأربيل هي تاريخية وسياسية وقومية وإنسانية وإقتصادية ودستورية”.
وهو بهذا يؤكد أنه ما زال في نفس عنجهيته وعناده وقصور فهمه لظروف المنطقة والعالم، وما زال يدير نفس اسطوانته المشروخة التي تكسرت وأصبحت شظايا.
والحقيقة التي ينبغي أن نُذكر قراءَنا بها هنا هي أن حيدر العبادي، رغم قسوته وجبروته، قد يصبح، عما قريب، حمامة سلام رقيقة مع كردستان إذا ما تحققت إرادة الباب العالي في طهران وتُوج هادي العامري رئيسا للوزراء، أو غيرُه من صقور المليشيات الإسلامية التي لا ترحم.
والموعظة التي نخرج بها من كل ما حدث، بعد أن ثبت أن تحالف القادة الكورد، وبالأخص اثنين منهم، مسعود البارزاني وجلال الطالباني، مع أحزاب ولاية الفقيه ومخابرات حافظ أسد وبشار، كان خطأ قاتلا، هي أن استمرار الحكومة الكوردية وأحزابها في السعي لاستعادة التحالفات القديمة، وتحقيق التراضي مع تلك الأحاب والمليشيات، من جديد، مضيعةُ وقتٍ وجهد، وجريٌ لقبض سراب.
فبعد أن أدار مسعود وجلال ورفاقهما قادةُ الجبهة الكردستانية ظهورهم للقوى العراقية الديمقراطية الليبرالية العربية والكردية، من أيام المعارضة العراقية السابقة، وحتى قبل غزو صدام للكويت بأعوام، وتآمروا عليها، وهمشوها، ومنعوها من دخول نادي محاصصتهم، بعد الغزو الأمريكي والاحتلال الإيراني، والتي اعتبروها إقطاعايات خاصة بهم دون شريك، آن أن تفهم الجماهير الكوردية العاقلة أن قادتها، بانتهازيتهم وفسادهم وغرورهم، لم يفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في كردستان وحدها، بل ذبحوا حلم الشعب العراقي كلِه في ولادة دولته الجديدة الديمقراطية المتحضرة المتنورة العاقلة، دولة العدل والمساواة وسلطة القانون، وتعاونوا مع شركائهم في المحاصصة على اعتماد ثقافة التزوير والاختلاس والاقتتال. فهل تعود إلى شقيقتها الجماهير العراقية الأخرى الغاضبة المتحفزة، وتبدأ نضالها المشترك من أجل طرد أعداء حريتها وكرامتها ولقمة عيشها الكريم، من القصر الجمهوري ورئاسة الوزراء والبرلمان؟.
فكل الخراب الذي أحدثته العمائم العراقية الإيرانية وحلفاؤها السياسيون الكرد ليس في كردستان العراق وحدها بل في العراق كله، والخراب المقبل الذي سيحدثه القادة الجدد القادمون، هادي العامري وأبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي، في قادم الأيام، لم يكن ليحدث لو كان القادة الكورد، قبل سقوط النظام السابق وبعده، لم يتحالفوا مع أحزاب المرشد الأعلى الإيراني، ولو أصروا على أن كردستان العراق في دولة عراقية واحدة قوية عزيزة آمنة ومزدهرة أفضل وأشرف وأنفع من وهم جعلها دويلة صغيرة لن ترى النور في عشراتٍ قادمة من السنين.