26 نوفمبر، 2024 9:26 م
Search
Close this search box.

في كلّ موضع ٍ

اراك ، ارى عمرَك المُهلل يسعى الى أين ؟ خرج من دهليز فنائه البعيد : تعالَ ، قلتَ لي ، نظِفْ البلاط ، ازل ِ الأغبرة من السقف والجدران والنوافذ / أيّة بقعة لم تُكلفني بتنظيفه ، وما تطلبه فوق طاقتي / سكت ابي ومضي يجرّ رميم هيكله . حملتُ عُدتي وبدأتُ ، النهارُ مطاط لا ينتهي ، كما الحال مع العمل ، غرفٌ تتوالدُ ، يُفضي بعضُها الى بعض .تُرى أيّة لعنة حلت بهذ ا الحلم الذي بلا نهاية . ابي ، لمَ تضطهدني حتى في سوح احلامي ؛؛ … ثمة درج يصعد بسالكه الى الطبقة الثانية ، من هناك رمى عليّ صديقي ابو غسّان كتاباً : يقول ابوك دعْه يقرأه، إنّه كلفٌ بقراءة عزرا باوند ، كما انّه يُهدّيءُ سورته . فليأخذ ْ قسطاً من الراحة . حين قبضت يدي على الكتاب وضعتُ عُدة العمل جانباً ، ومضيتُ ، فالى أين يمضي الحالم ؟ وساحة ُ حُلمه محصورة ٌ طيّ زمانها ومكانها الضيّقين . ولصق حائط واطيء لمبنى يُشيّدُ حديثاً ، شممّتُ رائحة السمنت والرطوبة ، قلتُ مع نفسي : سأجلسُ هنا ولن امرضَ . أخذتني قصائد باوند الى اصقاع بعيدة ، كنتُ حرّاً خلالها ، تنقلني صورةٌ الى سواها وسواها حتى انتهيتُ من الكتاب ، لا أدري كم استغرقت في القراءة . لكن اجمل ما علق في ذاكرتي من شعره هذه الأبيات ( قلبي هو وطني / كلُّ مكان انت فيه وطنٌ / الغنى في الغربة وطن ٌ / الفقرُ في الوطن غربة ٌ / لم يعدِ الصمتُ مُمكناً …و …اذا لم تُعجبك حياتُك غيّرها …) وقبل أن اقوم واعود لإنهاء ما تبقى من عملي مرّ الى جواري صديق لم ارَه من سنوات . توقف قليلاً بعد ان حيّاتي .كان مثلي يحملُ كتاباً ، وتمرأى لي اسمه على الغلاف / المدينة الفاضلة / للفارابي ، تأوّه وسمعته : حتى المدن الفاضلة لا تخلو من ظلم وعسف .والعدل يُنظر اليه بمنظارين . عدل يحظى به القويّ كنعمة ، وعدلٌ يقمعُ حق آخرين . اذن العدالة هرطقة ٌ ليس لها ميزان . قال تلك العبارات بتأفف ومضى . وقبل ان اعود ظهر ابي يحملُ السطل والممسحة : / خذهما وانجزْ ما بقي من عملك / .. / العملُ الذي اقوم به مضيعة ُ وقت ، فالى متى سيستمرُ ؟ / لم يجبني ، مضى حانقاً غاضباً من دون سبب . كنت أغمس الممسحة في الماء واعصرها وامسح بها البلاط ، وما ان انتهي من غرفة حتى تظهرَ اخرى ، ولا اتذكّرُ كم غرفة ً نظفتُ .. وحين عراني المللُ والتعب قررتُ أن اتمرّد على ابي .. كان قبل موته يُكلفني باعمال فوق طاقتي . ويضطرني الى العمل في العطل الصيفية / صانع خياط ونجار وحلاق وحداد وعامل بناء / ورماني خلال ذلك الى مدرسة مسائية ، كان اصغر زملائي في الصف اكبر من اخي الكبير الذي يزيد عمرُه عن عمري بعشر سنين . كانوا عمالاً واصحاب دكاكين في السوق وجزارين . كنتُ بينهم مثل احد ابنائهم . لكنّهم احبّوني يحملون اليّ الشوكولاتة ، كنتُ احلّ لهم خلال الفرص على السبورة الواجبات التي نُكلف بحلها من قبل معلمينا . وخلال الآمتحانات كانو يجلسون حولي ينقلون مني وينقل ابعدُهم من اقربهم اليّ . والمعلمون يتغاضون عن جريان الغش .  امضيتُ سنة في المدسة المسائية اعود منها في التاسعة متعباً ، وقد لا اتعشى احياناً . ولا ارى احداً من اخوتي  . والنهار طويل مملٌّ امضيه رغماً عني . هكذا كان ابي ، وذا هو يعود ثانية من قاع موته البعيد يُكلفني بتنظيف هذا البيت الغريب الذي لا تُعد غرفُه ولا تُحصى ، ولا شكلَ له ولا مساحة . حيناً يأتيني ليراقب عملي وحيناً يأتي بسعفة : / خذْ ها ونظف السقف والجدران / .. اقولُ له : / الغبار الساقط يدخل عيني وانفي / افٍ من تذمرك المستمر ، بوسعك أن تُغمضهما وحسبُ وانت تتحرّك داخل الغرفة ، وسترى العمل سهلاً / بعد أن تركني بوقت امتلأ حلقي بالغبار ، واحتقنت عيناي بالدمع / تبّاً يا ابي ، لم تفعلُ بي هذا ؟؛ / لستُ أنا ، وانّما الحلمُ الذي رماك الى هنا / سمعت كلامه ينهمرُ من مكان ما / سألتُه : / البيتُ ليس بيتنا فلمَ تكلفني بهذا العمل ؟ / … وتركني ابلعُ الغبار واتعرّق من التعب . وكم تمنيتُ لو ينقطع شريط الحلم ، وساحاول الّا انام ابداً / مجنونٌ انت / سمعته يُعقب على كلامي ، / اذا لم ينم المرءُ لن يعيش ، وان لم يحلم فسيعروه الخبالُ /
انتهى الحلمُ البغيضُ ، وجعلتُ اتساءلُ : لم تكون احلامُ الآخرين نزهات عشوائية سائبة ينتقلون خلالها من صقع الى صقع . لهم احباؤهم وحبيباتُهم ، وتضيّفهم موائدُ الطعام وتُطعمهم ما حُرّم عليهم آناء اليقظة . بينما تنطوي احلامي على الترهات اللامعقولة . لكنّ ميزة َ حلمي أنّ ابي اتاح لي أن اقرأ كتاباً ، قال مرّة ً : / القراءة ُ متعة ،ٌ انّه أفضل من مائدة طعام / وكان محقّاً في هذه النقطة ، لكنّ اضطهاده إياي عملٌ بغيضٌ لن انساه . مع ذلك عملتُ بصدق وحظيتُ برضاه .
حين استيقظتُ كنتُ متعباً ، صدري وظهري يتصببان عرقاً . في الخارج كان الصبحُ يشقشقُ بياضاً ، الثلج يغطّي الأفضية ، بياض فوق بياض ، لكنّ جذوع الشجر وحدَها كانت بنية ً كالحة . وترامت اليّ كركرةُ اطفال الروضة القريبة من الحديقة بصحبة معلماتهم ، كانوا يتزلجون على منحدر عشبي مغطىً بالثلج . بعضهم على زلاجات بلاستيكية ، وآخرون بكامل ملابسهم الثخينة يرمون بانفسهم فوق المسطح الثلجي وينحدرون نزولاً الى الأسفل . كنتُ اسمع صراخ فرحهم . هنا الطفلُ سيّدٌ لا يرقى الى مكانته البالغون ، لهم البلدُ والدنيا والزمنُ طولاً وعرضاً . الهي ؛؛ ما كان اقسى طفولتَنا ، ولمّا ازل في احلامي  كالطفل يجيئني ابي من تلافيف غيابه المديد يقضّ هدوء حياتي ويُعيدُني الى ايام طفولتي البائسة . ويُكلفني بأعباء فوق طاقة الطفل . لم احظَ بفسحة فراغ ، ولم اعشْ ساعة فرح . فما ابعدَ البونَ بين طفولتهم وطفولتنا في مدائننا المشرقية . ولهم هنا برامجُ يومية : قسم منهم دخلوا صالة السينما، وبعضٌ يجولون في السوق ، وفريق آخر يغشون المكتبة العامة . وصفٌّ آخر يستقلون المترو ذاهبين الى احد المتاحف او المسارح . الرحلات موزّعة بين المتعة والثقافة .
وكان ابي يقول : لكلّ زمن تقاليدُه وعادته .  وايامنا تختلف عن ايام اجدادنا ، وايامُ غدنا ستختلف عن حاضرنا . كما ان الإختلاف يكون ايضاً بين البلدان .
…………………………
لنعبُرْ الى أينَ
وأينَ هو ال(اينَ) ؟
كلُّ درب ٍ
يتشظى
بخُطى السابلة
فيسعى كلُّ أحد
الى مسعاه
ويتورّمُ المدى
بالمناكب واللهاثُ
……….
سأمضي
الى / أ…ي…ن/
وكلّ أينَ لغزٌ
شططُ ُ
دائرة ُ رماد
خيط ُ متاه
جرحٌ
على الجبين
 معضلة وخيبة
………
و…. العبورُ
 الى أين
مضيعة ُجهد
ووقت

أحدث المقالات