تأمل معي عزيزي القارئ ما تسمع وتشاهد وتقرأ في الصحف والمواقع ووسائل التواصل الإجتماعي , وغيرها من المنافذ التفاعلية ما بين البشر في واقعنا المبتلى بوجودنا السقيم , وقل لي ماذا وجدت , وماذا قرأت , وما هي إستنتاجاتك؟
ربما لا تتفق معي , لكن السائد أن المجتمع يستهلك طاقاته وقدراته في توافه الأمور , وكأنه لا يعيش في القرن الحادي والعشرين , وإنما في أقبية أجداث عصور ما قبل التأريخ , بل أن في الإنتاج الفكري والثقافي للحضارات القديمة ما هو رائع وأصيل , وبمستويات إبداعية وفكرية راقية ومنيرة تتحدى إرادة الزمن وسطوته.
وبسبب هذا الهدر التوافهي (من التفاهة) للطاقات تجدنا في محن متوالدة وتداعيات متراكمة , وويلات متعاظمة وحروب وصراعات متفاقمة , فالواقع يعكس محتويات الرؤوس ويترجم ما فيها بصدق وتفصيل وتأكيد مثير.
فعندما تقرأ مقالة في صحيفة أجنبية وتقارنها بمقالة في صحيفة ما من صحفنا , تجد الفرق الشاسع وتستدل على معنى التفاهة المقصودة في هذا المقال , وكذلك عندما تستمع لتصريح أو خطاب أو نقاش سيتبين مدى الغرق في توافه الأمور , وإغفال ما هو أساسي وجوهري وضروري لبناء الحاضر والمستقبل.
ويبرع أدعياء الدين في سوح التوافه بما يتداولونه من أضاليل وخرافات وخزعبلات وأباطيل , ومداعبات للرغبات والغرائز البشرية التي يمنحونها معانٍ دينية , ويؤطرونها بمرويات وفتاوى وسلوكيات مقيتة تشوه القيم والمعاني الإنسانية السامية للدين.
وتجد الشباب والنشأ الصاعد منغمس بالتفاعل مع التوافه التي تشوه رؤيته وتبدد تصوره , وتميّع إرادته وتفرغه من الطموح النبيل والأمل الأثيل , وتدفع به للدوران حول سلال المهملات المحشوة بسموم الأفكار والسلبيات السلوكية الماحقة للحياة.
وفي هذا المأزق التوافهي تكمن معضلة أمة ومهلكة أجيال , تتوارد إلى حياض التافهات وتتمرغ بأوحالها فتختنق وتموت , كما تموت الأسماك المتقافزة من الماء إلى الجرف اللئيم , مأزق يحرم البشر من أوكسجين العصر ويتسبب بإختناقه بأول أوكسيد الكربون الذي يعصف في كل مكان , والناس تهيم وتتساقط هامدة تحت سنابك التافهين المروجين للذي يخزي ويشين.
ولا يمكن لمجتمع أو أمة أن تكون وتتواصل في مسيرتها , إن لم تتطهر من تفاهات الرؤوس وتتعامل مع عصرها وترى نور شمس النهار , وتدرك أن الضلال يدمر وجودها ويسحق إرادتها , وأنها مطالبة بالعمل والجد والإجتهاد , ووعي قيم إنسانية إقتصادية ثقافية فكرية معاصرة تمضي البشرية في دروبها , وتبني معالم صيرورتها المتنامية في أروقتها ذات الآفاق المطلقة الواعدة بالأرقى والأفضل.
فهل ستتنقى الرؤوس والنفوس من التوافه النحوس؟!!