16 نوفمبر، 2024 9:49 ص
Search
Close this search box.

التحولات السياسية في المشرق العربي في 2018

التحولات السياسية في المشرق العربي في 2018

إعداد/ حسن نافعة
تقرأ هذه الورقة حالة النظام العربي، في 2017، وفشله في إيجاد حلول جذرية لتناقضاته الداخلية مما حال دون تمكنه من مواجهة الأطماع والتحديات الخارجية التي تتربص به. وتستشرف استمرار تآكل قدراته تدريجيًّا في 2018، وقد تُسَرِّعه هزات إقليمية كبرى مفاجئة.
مقدمة

لا تشكِّل بدايات الأعوام بالضرورة قطيعة مع نهاياتها؛ فعجلة الزمن تدور بلا توقف في صيرورة أبدية، ومع كل لحظة تمر، تقع أحداث متباينة في كل ركن من أركان المعمورة، بعضها روتيني محدود التأثير، وبعضها الآخر استثنائي تتجاوز تأثيراته حدود الزمان والمكان. ولأن الأبعاد الكاملة لما يخلِّفه كل حدث من نتائج أو آثار لا تتضح في أحيان كثيرة إلا بعد فترة زمنية، قد تطول أو تقصر حسب الأحوال، فقد جرت العادة على التوقف عند فواصل زمنية معينة، كنهايات الأعوام، لرصد ما وقع من أحداث خلال عام رحل، لعلنا نستطيع استخلاص ما قد يساعدنا على فهم أفضل لدلالة ما انقضى واستشراف ما هو آت.

في سياق ما تقدم، تستهدف الورقة التي بين أيدينا:

1. رصد وتحليل أهم الأحداث التي وقعت خلال عام 2017 وكان لها تأثير ملموس على أوضاع العالم العربي.

2. تحديد أثر هذه الأحداث على تحولات السياسة العربية، خاصة على بنية وأداء وفاعلية النظام السياسي العربي.

3. استشراف اتجاهات التطور في المستقبل القريب.

ونظرًا للتداخل العضوي بين النظام العربي وبيئته الدولية والإقليمية المحيطة، رأينا تقسيم هذه الورقة إلى أربعة محاور، وذلك على النحو التالي:

محور أول: يتناول أهم الأحداث العالمية، وفيه نولي عناية خاصة للتأثيرات الناجمة عن فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، من ناحية، وتواصل الدور الروسي في الأزمة السورية، من ناحية أخرى.

محور ثان: يتناول أهم الأحداث الإقليمية، وفيه نولي عناية خاصة لتطور مواقف إيران وتركيا وإسرائيل من قضايا وأزمات العالم العربي وتأثيراتها المحتملة على موازين القوى في المنطقة.

محور ثالث: يتناول أهم التفاعلات البينية والمحلية العربية، وفيه نولي عناية خاصة لأزمة حصار قطر، من ناحية، وللتحولات التي يشهدها النظام السعودي عقب رحيل الملك عبد الله، من ناحية أخرى.

محور رابع: يحاول استشراف مستقبل النظام العربي واتجاهات تطوره في ضوء النتائج التي أمكن التوصل إليها.

أولًا: تحولات البيئة الدولية
شهد النظام الدولي، خلال عام 2017، سلسلة من الأحداث المهمة كان لبعضها تأثيرات بعيدة المدى على أوضاع العالم العربي؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية، أسفرت الانتخابات الرئاسية، التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، عن فوز دونالد ترامب الذي تعهَّد بإحداث تغييرات عميقة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، خاصة ما يتصل منها بمنطقة الشرق الأوسط. وفي روسيا، واصل فلاديمير بوتين سياسة خارجية ترمي إلى تمكين روسيا من استعادة دورها على الساحة الدولية، وبدا واضحًا أن سوريا أصبحت هي الحلبة التي قرر أن يستعرض فوقها قدراته على الفعل وإحداث التغيير المنشود. وفي أوروبا، برزت تحديات ومخاطر جديدة هددت حالة استقرار وازدهار سادت القارة طوال عقود مضت. فبعد تصويت أغلبية الشعب البريطاني في منتصف العام 2016 لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ازدادت المخاوف من أن يصبح عام 2017 هو عام انفراط عقد الاتحاد الأوروبي بسبب تنامي التيارات اليمينية المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا وألمانيا. ورغم عدم وقوع أحداث جسيمة أو غير مألوفة في الدول الكبرى الأخرى، كالصين واليابان والهند وغيرها(1)، راح النظام العالمي يواصل مسيرته البطيئة نحو تعددية قطبية لم تكتمل ملامحها النهائية بعد. ولأن نتائج معظم الانتخابات التي جرت في عدد من الدول الأوروبية عام 2017، خصوصًا في فرنسا وألمانيا، أكدت توقف نمو اليمين المتطرف مؤقتًا، وربما تراجعه مقارنة بتوقعات سابقة، فقد ظلت التوجهات العامة للسياسة الخارجية الأوروبية كما هي دون تغيير. لذا، سيقتصر تحليلنا في هذا المحور، على حدث وصول ترامب إلى البيت الأبيض، من ناحية، وتواصل الدور الروسي الداعم لبشار الأسد، من ناحية أخرى.

1- ترامب وسياسته شرق الأوسطية

لم تكن انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة حدثًا تقليديًّا بأي معنى، وإنما كانت حدثًا استثنائيًّا خشي كثيرون من تأثيراته السلبية، خاصة على منطقة الشرق الأوسط. فالرئيس الجديد لأهم وأقوى دولة في العالم رجل محدود الخبرة بعالم السياسة. ولأنه ترعرع خارج الإطار الرسمي والمؤسسي للنظام السياسي الأميركي، بما في ذلك مؤسسة الحزب الجمهوري نفسه، فقد أصبح مولعًا بالتغريد خارج السرب ويصعب التنبؤ بسلوكه. لذا، بدت المواقف التي عبَّر عنها خلال حملته الانتخابية بمثابة قطيعة شبه تامة مع السياسات التي انتهجها سلفه، ومن ثم توقع كثيرون أن تُواجَه سياساته بمقاومة عنيفة من داخل المؤسسات الرسمية الأميركية نفسها إن قُدِّر له دخول البيت الأبيض(2). وأيًّا كان الأمر، فقد أكدت المواقف التي اتخذها، خلال عام 2017، على أنه:

1. رجل أفعال لا أقوال ومصمم على الوفاء بوعوده وتعهداته الانتخابية.

2. لديه رؤية أيديولوجية واضحة المعالم يستند إليها في تحديد مواقفه، رغم سلوكه البراغماتي المكتَسَب من خبرته كرجل أعمال يجيد عقد الصفقات التجارية.

والواقع أننا إذا حاولنا التعرف على الملامح العامة لسياسته الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط، فسوف نجد أنها تكاد تكون ترجمة عملية لشعارات ثلاث ترددت كثيرًا إبَّان حملته الانتخابية، هي: أميركا أولًا، وإسرائيل مصلحة أميركية، والإسلام السياسي مصدر تهديد رئيسي للولايات المتحدة والعالم(3)، وهو ما يتضح بجلاء تام من خلال استعراض موقف إدارته من أزمات عصفت بالمنطقة:

أ- أزمة حصار قطر

تُعَدُّ “أزمة حصار قطر” نموذجًا للأزمات التي عكست شعار “أميركا أولًا” كموجِّه لبوصلة السياسة الخارجية الأميركية في عهد ترامب. فقبل أسابيع من اندلاع هذه الأزمة وقع اختيار ترامب على المملكة العربية السعودية لتصبح محطة توقفه الأولى في أول رحلة خارجية يقوم بها كرئيس للولايات المتحدة؛ الأمر الذي بدا مفاجئًا بالنسبة لكثيرين بعد كل الانتقادات الحادة التي سبق له توجيهها للمملكة إبَّان حملته الانتخابية. فقد تبين لاحقًا أن هذه الزيارة لم تكن مدفوعة فقط باعتبارات المجاملة لدولة حليفة، وإنما بدت وكأنها تمهد لاعتماد وتدشين السعودية وكيلًا لقيادة المنطقة، خصوصًا بعد أن وقع عليها الاختيار لتنظيم أول مؤتمر أميركي عربي إسلامي يُعقَد في عاصمة عربية، ويصلح في الوقت نفسه كمنبر يمكن لترامب أن يخاطب من خلاله دول وشعوب المنطقة ويوجه إليها ما يشاء من رسائل. وقد لفت نظر المراقبين ما تضمنه خطاب ترامب في هذا المؤتمر من إشادة كبيرة بالدور الإيجابي للسعودية في مكافحة الإرهاب، ومن هجوم شرس على إيران التي اعتبرها المصدر الرئيسي لزعزعة الاستقرار في المنطقة، وما إن انتهت الزيارة حتى كان ترامب قد قبض ثمنها غاليًا في صورة صفقات وصلت قيمتها إلى حوالي 460 مليار دولار(4).

كانت هذه الزيارة، في نظر بعض المراقبين، بمثابة ضوء أميركي أخضر للسعودية كي تواصل ليس فقط سياستها التصعيدية تجاه إيران وإنما أيضًا سياستها الرامية لاحتواء وتحجيم الدور القَطَري ومنعه من التغريد خارج السرب السعودي. ورغم عدم توافر معلومات مؤكدة تقطع بدخول الإدارة الأميركية طرفًا فيما يُحاك لقطر، إلا أنه ليس من المستبعد أن يكون قد صدر عنها ما يفيد ضمنًا عدم اعتراضها على هذا التوجه. وأيًّا كان الأمر، وبصرف النظر عن مدى ضلوع ترامب شخصيًّا في إشعال شرارة الأزمة، إلا أنه اعتمد عقب اندلاعها مباشرة نهجًا يقوم على إدارة الأزمة وليس حلها، وبدا واضحًا أن لديه نية مبيَّتة على استثمارها للحصول على أقصى مكاسب سياسية واقتصادية، بدليل:

1. التزام المؤسسات الأميركية الصمت تجاه ما أُعلِن عن تعرض وكالة الأنباء القطرية لعملية قرصنة، رغم توافر معلومات مؤكدة لدى وكالات الاستخبارات الأميركية، وفقًا لما نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، يوم 16 يونيو/حزيران 2017، تشير إلى ضلوع دولة الإمارات العربية في هذه العملية(5).

2. إقدام ترامب عقب اندلاع الأزمة مباشرة على نشر تغريدات تشير إلى عدم استبعاده ضلوع قطر في دعم وتمويل الإرهاب، وتنطوي من ثم على تأييد ضمني للحصار(6). ولم يتراجع ترامب جزئيًّا عن هذه التصريحات إلا بعد عدد من الصفقات بين قطر والشركات الأميركية، كان أبرزها صفقة شراء طائرات إف 15 بقيمة 12 مليار دولار. ثم راحت الصفقات تتوالى بعد ذلك تباعًا لتشمل الإمارات والبحرين أيضًا(7).

3. صدور تصريحات رسمية من كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع الأميركيين تعكس وجود تباين في رؤية مؤسسات صنع القرار الأميركي حول كيفية التعامل مع هذه الأزمة. وبينما رأى البعض في هذا التباين انعكاسًا طبيعيًّا لتعدد مراكز ومؤسسات صنع القرار في النظام السياسي الأميركي، رأى فيه البعض الآخر توزيعًا للأدوار(8).

4.التظاهر بالاهتمام الفائق بتسوية الأزمة، عبر إيفاد عدد كبير من المسؤولين الأميركيين للمنطقة، على رأسهم وزير الخارجية، لكن دون إصرار أو تصميم من جانبها على فرض تسوية. وبينما يعتقد البعض أن التحرك الأميركي نجح فعلًا في كبح جماح الأزمة والحيلولة دون تحولها إلى عملية لتغيير النظام القَطَري بالقوة، يرى آخرون أن الإدارة الأميركية بدت أكثر حرصًا على أن تظل علاقة الولايات المتحدة قوية بكل الأطراف حتى ولو جاء على حساب تسوية الأزمة(9).

ب- الصراع العربي-الإسرائيلي

تعاملت إدارة ترامب مع الجوانب المختلفة للصراع العربي-الإسرائيلي وفق شعار “إسرائيل مصلحة أميركية”. صحيح أن جميع الإدارات الأميركية السابقة كانت منحازة كليًّا لإسرائيل، غير أن المواقف والسياسات التي أفصح عنها ترامب بالذات تجاوزت مواقف وسياسات جميع الإدارات السابقة واقتربت إلى حدِّ التطابق مع مواقف وسياسات أكثر قوى اليمين الإسرائيلي تطرفًا. فقد ذهب ترامب في دعمه لسياسات نتانياهو إلى حدِّ الإفصاح علنًا عن عدم اعتراضه على سياسة التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعن عدم تمسكه بحل الدولتين وتفضيله لأي حل تتفق عليه الأطراف المعنية. وتأسيسًا على هذه المواقف، راح يتحسس طريقه لبلورة حل شامل، عُرِف إعلاميًّا باسم “صفقة القرن”، لكن ملامحه لم تكتمل ولم تُعلَن بعد. ومع ذلك، فقد ذهب البعض إلى حدِّ التأكيد على أن أفكار ترامب تتجاوز “حل الدولتين” وتذهب إلى حدِّ الموافقة على ترحيل الفلسطينيين إلى الدول المجاورة(10).

يصعب الحديث عن “صفقة” لم تُبرَم بعد ولا تتوافر معلومات كافية عن النهج الذي قد يستخدمه ترامب لإنضاج الشروط الضرورية لجعلها مقبولة ولتهيئة بيئة دولية وإقليمية مواتية لإبرامها، ومع ذلك، فإن الانطباع السائد في أوساط عربية وإسلامية عديدة يميل إلى الاعتقاد بأن هدف ترامب الحقيقي هو تصفية القضية الفلسطينية، بتمهيد الطريق أمام فرض تسوية بالشروط الإسرائيلية، وتمكين إسرائيل من الاندماج في المنطقة قبل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967. ولأن التوصل إلى صفقة كهذه يستلزم بالضرورة إزاحة العقبات التي تعترض طريق إبرامها، لا أستبعد أن يكون تمريرها مرتبطًا في ذهن ترامب بإجراءات أخرى تستهدف تحييد إيران وحزب الله وحركات المقاومة المسلحة الفلسطينية.

بقي أن أشير هنا إلى أن إقدام ترامب، يوم 6 ديسمبر/كانون الأول من عام 2017، وبشكل مفاجئ، على الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل وإصداره أمرًا لوزارة الخارجية الأميركية باتخاذ إجراءات فورية لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، يبدو متناقضًا تمامًا مع ما يدَّعيه من حرص على التوصل إلى تسوية شاملة للقضية الفلسطينية وعلى إبرام “صفقة القرن”. صحيح أنه كان قد تعهد بذلك إبَّان حملته الانتخابية، غير أن أغلب المراقبين كانوا أميل إلى الاعتقاد بأنه سيُضطر -كغيره من الرؤساء السابقين- إلى تأجيل اتخاذ مثل هذا القرار، على الأقل إلى أن يتمكن من بلورة الخطوط العريضة للتسوية التي يُعِدُّ لها ويضمن حدًّا أدنى من توافق الأطراف المعنية حولها. لذا، جاء قراره صادمًا ومثيرًا لردود أفعال غاضبة في جميع أنحاء العالم، قد تفضي فعلًا إلى إنهاء دور الولايات المتحدة كوسيط في الصراع، وربما إلى إنهاء اتفاقية أوسلو وإعلان فشلها تمهيدًا لإقدام السلطة الفلسطينية على حلِّ نفسها رسميًّا والتحلل من أي التزامات بالتنسيق الأمني مع إسرائيل(11).

ج- إيران

شهد عام 2017 تحولات جذرية حول رؤية الولايات المتحدة لإيران؛ فقد عبَّر ترامب خلال حملته الانتخابية عن رفضه التام للاتفاق الذي أبرمته إدارة أوباما حول برنامج إيران النووي وتعهد بتمزيقه. وفي معرض تبريره للأسباب التي دفعته لاتخاذ موقف كهذا، عبَّر ترامب عن قناعته التامة بأنه اتفاق سيء يؤجِّل حصول إيران على السلاح النووي لكنه لا يقطع عليها هذا الطريق نهائيًّا، ومن هنا الإصرار على إلغائه والدخول في مفاوضات جديدة لتعديله. غير أن مخاوف ترامب الحقيقية لا تتعلق، في تقديري، باحتمال تصنيع إيران للسلاح النووي مستقبلًا، بقدر ما تتعلق بالقلق من وجود نظام أصولي على رأس دولة تمتلك إمكانات التحول إلى قوة إقليمية مهيمنة، بكل ما يمثله ذلك من تهديد محتمل لأمن إسرائيل. فبالإضافة إلى برنامج إيران النووي، توجد جملة من المسائل الأخرى الأكثر إثارة لقلقه، كبرنامج إيران الصاروخي، وتمدد نفوذها داخل العديد من الدول العربية. ولأنه يعتقد أن نفوذ إيران لا يقتصر على وجود قوى وتيارات سياسية وفكرية في دول مجاورة تتعاطف مع سياسات وتوجهات النظام الإيراني، وإنما يمتد ليشمل وجود ميليشيات مسلحة موالية له، يبدو أن ترامب بات مقتنعًا تمامًا، وهو هنا يتبنى وجهة نظر نتنياهو بالكامل، بأن وجود النظام الإيراني نفسه بات يشكِّل مصدر تهديد خطير لأمن واستقرار المنطقة والدول الحليفة، خاصة إسرائيل، ومن ثم فلا حلَّ إلا بالعمل على إسقاطه(12).

وُوجِهَت مواقف ترامب المطالبة بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران بمقاومة شديدة، ليس فقط من جانب الأطراف الدولية الموقعة عليه، وإنما أيضًا من جانب مؤسسات رسمية أميركية، كوزارات الخارجية والدفاع وأجهزة الاستخبارات، ومع ذلك يصعب القول: إن ترامب تخلَّى نهائيًّا عن هدفه. ففي خطاب ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول 2017 لشرح موقف إدارته من هذه القضية، شنَّ ترامب هجومًا لاذعًا على إيران التي اتهمها بانتهاك الاتفاق النووي وعدم احترام ما ورد به من التزامات، إضافة إلى حزمة الاتهامات الأخرى المعروفة، ومن ثم رفض ترامب، تأسيسًا على هذه الاتهامات، التصديق على إشعار يفيد احترام إيران لالتزاماتها بموجب الاتفاق المبرم معها، فاتحًا بذلك الباب واسعًا أمام الكونجرس لإعادة فرض العقوبات على إيران. لذا، يمكن القول: إن الملف الإيراني ما زال مفتوحًا أمام الإدارة الأميركية، وربما يشهد تطورات مثيرة وخطيرة خلال الأشهر الأولى من عام 2018(13).

2- بوتين ومحاولات استعادة المكانة

شهد عام 2017 محاولات مستميتة من جانب بوتين لتمكين روسيا من استعادة مكانتها كقوة كبرى على مسرح السياسة العالمية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، بالتوازي مع استمرار تراجع دور ومكانة الولايات المتحدة. فبعد أن تمكن من ترسيخ مكانة روسيا في جوارها الجغرافي المباشر ومن إفشال المخططات الغربية الرامية لحصارها؛ الأمر الذي تجلَّى بوضوح إبَّان أزمتي جورجيا ثم أوكرانيا، راح بوتين يراقب بقلق ما يجري على الساحة شرق الأوسطية، خاصة عقب اندلاع ثورات “الربيع العربي” التي أطاحت برؤوس أنظمة حاكمة، من بينها أنظمة صديقة كنظام القذافي في ليبيا وبدأت تهدد أنظمة أخرى كنظام الأسد. وقد حاولت روسيا في البداية تفهم أسباب تلك الظاهرة وإبداء تعاطفها مع حاجة الشعوب العربية للتغيير، الأمر الذي دفعها للامتناع عن استخدام الفيتو لعرقلة تدخل حلف الناتو في الأزمة الليبية. لكن بعد سقوط نظام العقيد القذافي وتحول ليبيا بسببه إلى دولة فاشلة، أدركت روسيا أن استمرار موقفها المحايد سيضر بمصالحها، خصوصًا أن الناتو تجاوز الصلاحيات الممنوحة له في الأزمة الليبية. لذا، أصبحت روسيا أكثر حرصًا في المراحل التالية من مسار “الربيع العربي” على عدم رؤية “النموذج الليبي” يتكرر مرة أخرى، ومن ثم راحت تراقب الوضع في سوريا بكثير من القلق، إلى أن قررت في نهاية المطاف أن تلقي بثقلها وراء نظام بشار الأسد لإفشال المخططات الغربية والإقليمية الرامية إلى إسقاطه(14).

كان الدعم الروسي لنظام بشار قد اقتصر طوال الفترة الممتدة من 2011-2015 على تقديم الحماية السياسية في مجلس الأمن ومدِّه بما يكفي من الأسلحة لتمكينه من الصمود عسكريًّا على الأرض. لذا، لم تتردد روسيا في استخدام الفيتو مرات عديدة في مجلس الأمن للحيلولة دون صدور أي قرار يفرض عقوبات على نظام بشار الأسد أو يطالبه بالتنحي(15). لكن حين بدأت موازين القوى على الأرض تميل لصالح القوى المعادية لنظام بشار، قررت روسيا، في سبتمبر/أيلول عام 2015، أن تتدخل عسكريًّا إلى جانبه. حينها ظهرت تحليلات تؤكد أن هذا التدخل ينطوي على مغامرة غير مأمونة العواقب، ويهدد باستنزاف روسيا اقتصاديًّا وسياسيًّا، وبمرور الوقت بدأ يتضح تدريجيًّا أن قرار التدخل العسكري لم يُتَّخذ جزافًا وبُنِي على حسابات وتقديرات دقيقة من منظور الأهداف الاستراتيجية لروسيا. ومع اقتراب عام 2017 من نهايته، بدا واضحًا للجميع أن روسيا على وشك أن تكسب رهانها السوري(16).

لم يكن منع سقوط نظام بشار الأسد الحليف، على أهميته، هو الدافع الوحيد لتدخل روسيا عسكريًّا في الأزمة. صحيح أن سقوطه كان سيُجهِز على ما تبقى لروسيا من نفوذ في المنطقة، لكن كانت هناك دوافع أخرى لا تقل عنه وربما تفوقه أهمية. فالصراع على الساحة السورية، والذي ظهر في البداية كصراع بين حاكم مستبد وشعب يتوق للحرية، سرعان ما تحول إلى صراع إقليمي ودولي تُستَخدم فيه الجماعات الإرهابية كأدوات لحسمه، ويدور في منطقة متاخمة تدخل تقريبًا في نطاق المجال الحيوي لروسيا، وتشارك فيه عناصر جهادية من الشيشان ومن دول أخرى كانت يومًا ما جزءًا من الاتحاد السوفيتي سابقًا. وقد أشارت تقارير صحفية إلى أن أعداد هذه العناصر الجهادية، والتي كانت تتدفق على سوريا عبر الحدود التركية، وصلت، في عام 2014، إلى عدة آلاف، وأن السلطات الروسية ربما تكون قد سمحت لها بالمغادرة، بل وشجعتها على ذلك، لاستدراجها وقتالها على الساحة السورية أملًا في استئصالها قبل العودة للقتال على الأرض الروسية. في سياق كهذا، يمكن القول: إن التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية أَمْلَتْه، من منظور صانع القرار الروسي، اعتبارات الأمن الوطني بمعناه المباشر، خصوصًا أن البديل المحتمل لنظام بشار في سوريا لم يكن يخرج عن واحد من اثنين: نظام تسيطر عليه جماعات جهادية، ومن ثم قابل للاستخدام كنقطة ارتكاز لانتشار هذه الجماعات وسط وجنوب شرق آسيا، أو نظام تابع لقوى دولية وإقليمية معادية لروسيا(17).

ربما يكون قرار روسيا بالتدخل عسكريًّا في سوريا قد شكَّل عند اتخاذه مغامرة غير مأمونة العواقب، وانطوى على مخاطر منها:

1. احتمال الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة أو أحد حلفائها الإقليميين، خاصة تركيا التي لم تتردد قواتها المسلحة في إسقاط طائرة حربية روسية، يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، أي بعد حوالي شهرين فقط من بدء العمليات العسكرية الروسية.

2.احتمال الدخول في حرب استنزاف طويلة المدى، مما قد يهدِّد روسيا نفسها بالتفكك على غرار ما حدث للاتحاد السوفيتي. غير أن التطورات اللاحقة، خاصة تلك التي وقعت خلال عام 2017، أثبتت أنه لم يكن قرارًا عشوائيًّا وخضع لحسابات دقيقة(18)؛ فمن ناحية، كان من غير المحتمل أن تُقدِم إدارة أوباما على تغيير سياستها الرافضة للانخراط في عمليات عسكرية جديدة خارج الحدود، خصوصًا أن انتخابات الرئاسة الأميركية كانت على الأبواب، فضلًا عن أن خريطة توزيع القوات المتصارعة على الساحة السورية لم تكن، من ناحية أخرى، تسمح بتحويل الأزمة السورية إلى حرب عصابات، نظرًا لاعتماد روسيا بالأساس على قوات جوية وبحرية أكثر من اعتمادها على القوات البرية. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أنه لم يكن بمقدور أي من حلفاء الولايات المتحدة اتخاذ قرار منفرد بالتصعيد ضد روسيا، لتَبَيَّن لنا أن القرار الروسي بالتدخل استند إلى حسابات دقيقة وعقلانية. لذا، أدركت روسيا أنه لن يكون بمقدور تركيا أن تذهب بعيدًا على طريق المواجهة معها، ومن ثم اكتفت بفرض عقوبات سياسية واقتصادية مؤثِّرة، وسرعان ما بدأ موقف تركيا يتراجع قبل أن يعكس المسار، وساعد على ذلك عاملان رئيسيان:

الأول: وقوع انقلاب عسكري فاشل يوم 15 يوليو/تموز 2015، واتهام فتح الله جولن، المقيم في الولايات المتحدة، بتدبيره، ورفض الولايات المتحدة تسليمه إلى السلطات التركية، فضلًا عن توجيه الاتهام لقيادات عسكرية أميركية في الناتو بالتستر على عناصر شاركت في الانقلاب.

الثاني: إقدام الولايات المتحدة على توثيق علاقاتها السياسية والعسكرية بمنظمات كردية سورية تعتبرها تركيا إرهابية وترى فيها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني الذي يقود تمردًا مسلحًا في مواجهة النظام التركي.

ظهرت وتنامت شكوك تركية في حقيقة النوايا الأميركية تجاه ما يجري على الساحة السورية، استغلها بوتين ببراعة شديدة ليس فقط لتصفية آثار حادث إسقاط الطائرة العسكرية، وإنما أيضًا لإبعاد تركيا قدر المستطاع عن حلف شمال الأطلسي، ثم لإقناعها بالدخول مع روسيا في شراكة للبحث عن تسوية سياسية قابلة للدوام وتستجيب للحد الأدنى من مصالحهما المشتركة. ومع تنامي الانتصارات الميدانية للجيش السوري، بفضل الدعم العسكري المقدَّم له من أطراف مختلفة وليس من روسيا وحدها، بدأ يتشكَّل عمليًّا تحالف دولي إقليمي غير معلن تقوده روسيا وتشارك فيه عمليًّا كل من إيران وتركيا وحزب الله. وقد أثبتت أحداث 2017 أنه التحالف الأكثر تماسكًا في الميدان والأقدر على التعامل بفاعلية مع معطيات الأزمة السورية بعيدًا عن إملاءات الولايات المتحدة وحلفائها. وبهذا، يكون التدخل العسكري في سوريا قد نجح، حتى الآن على الأقل، ليس فقط في الحيلولة دون سقوط نظام حليف له في المنطقة، وإنما ساعد روسيا في الوقت نفسه على الإمساك أيضًا بخيوط التسوية السياسية للأزمة السورية وسمح لها باستعادة دورها ومكانتها المفقودين على الصعيدين العالمي وشرق الأوسطي(19).

ثانيًا: تحولات البيئة الإقليمية

تحيط بالدول العربية ثلاث قوى إقليمية، هي: إيران وتركيا وإسرائيل، تتنافس فيما بينها للحصول على أكبر قدر ممكن من النفوذ داخل عالم عربي متهالك إلى درجة تغريها بالسعي للإجهاز عليه واقتسام غنائمه. ويرتبط العالم العربي مع هذه القوى الثلاث بعلاقات تاريخية شديدة التباين، رغم غلبة الطابع الصراعي عليها؛ فتركيا وإيران دولتان إسلاميتان راسختا الجذور في المنطقة، رغم طموحاتهما الإمبراطورية، وتربطهما بالعالم العربي علاقات تاريخية تراوحت بين التعاون والصراع. أما إسرائيل فيُنظَر لها في العالم العربي باعتبارها دولة دخيلة عدوانية وتوسعية في الوقت نفسه. ورغم إقدام دول عربية، كمصر والأردن، على إبرام معاهدات سلام معها، وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاقية أوسلو، إلا أن الشعوب العربية لا تزال تنظر إلى إسرائيل كمصدر تهديد رئيسي للأمن القومي العربي. ولكل من هذه القوى الإقليمية الثلاث أدوات وآليات مختلفة لممارسة النفوذ والتأثير داخل العالم العربي.

وقد أثبتت الأحداث التي تداعت على المنطقة، عام 2017، أن كفة إيران في حلبة التنافس الإقليمي المشتعل على النفوذ فيها هي الأرجح. فالنفوذ الإيراني داخل العالم العربي في حالة تمدد، بينما يبدو النفوذ التركي في حالة انحسار، رغم إمساك تركيا بأوراق عديدة لا تزال قابلة للاستخدام. أما إسرائيل فربما يصبح عام 2017 نقطة تحول في تاريخها على هذا الصعيد، على الرغم من أنها قد لا تجني ثماره إلا عام 2018، وذلك بسبب ما طرأ من تغيرات عميقة على السياستين، الأميركية والسعودية، تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي، كما أشرنا سابقًا وسنشير لاحقًا.

1- إيران

لم يقع خلال عام 2017 حدث بعينه يمكن اعتباره فارقًا في مسار العلاقة بين إيران والعالم العربي، ومع ذلك يمكن القول: إن مجمل أحداث هذا العام أكدت اتجاهًا قائمًا يشير إلى تواصل ظاهرة تمدد النفوذ الإيراني في العالم العربي، إما بسبب وضوح الرؤية لدى إيران وإصرارها على تحقيق أهدافها الاستراتيجية بدأب وأناة، وإما بسبب ما ارتكبه الآخرون من أخطاء. وقد راحت إيران تتابع بقلق طوال عام 2017 ما طرأ من تغير على السياسة الخارجية الأميركية، مدركة أن ترامب سيسعى لتعميق واستغلال التناقضات القائمة بينها وبين العالم العربي، وهي تناقضات ليست وليدة اليوم وإنما تعود إلى الأيام الأولى لانطلاق الثورة الإيرانية التي شكَّلت منذ اندلاعها، في نهاية عام 1978، قطيعه شبه تامة مع النظام الإيراني القديم، وسلَّحت النظام الجديد بآليات وأدوات أكثر فاعلية لمد وتوسيع نفوذه على الصعيدين الإقليمي والدولي. فقد تبنى النظام الإيراني الجديد منذ اللحظة الأولى توجهات راديكالية مناوئة للسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، وهو ما يفسر إقدامه على طرد السفير الإسرائيلي من طهران وتسليم مبنى السفارة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، كما يفسر اجتياح الحرس الثوري لمقر السفارة الأميركية في طهران واحتجاز العاملين فيها كرهائن لأكثر من عام.

اليوم، وبعد أربعين عامًا من اندلاع الثورة الإيرانية، يفاخر النظام الإيراني بما استطاع إنجازه على هذا الصعيد، بعد أن تمكن ليس فقط من الصمود في وجه التحديات، وإنما مدَّ نفوذه أيضًا خارج حدوده إلى أن أصبح يشكِّل رقمًا صعبًا في معادلات السياسة الداخلية في عدد من الدول العربية المجاورة، كالعراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وغيرها. غير أنه ينبغي ملاحظة أن تلك المنجزات الباهرة لم تتحقق فقط بفضل قوة النظام الإيراني ومهارته في إدارة سياسته الخارجية فقط، وإنما أيضًا -وعلى وجه الخصوص- بسبب ضعف الخصوم وكثرة ما ارتكبوه من أخطاء في إدارتهم لمختلف أزمات المنطقة. ولا شك أن الأحداث التي وقعت خلال عام 2017 تؤكد هذا الاستنتاج، لكن أبعادها الكاملة لا تتضح إلا من خلال ربطها بما وقع في المنطقة من أحداث خلال العقود الماضية(20).

فحين اندلعت الثورة الإيرانية، كان الرئيس السادات قد وقَّع منذ أشهر قليلة على اتفاقيتي كامب ديفيد، وبعد نجاح الثورة بشهور قليلة أبرم معاهدة سلام منفردة مع إسرائيل؛ الأمر الذي أدى إلى إصابة النظام العربي بشرخ عميق، نُقل على إثره مقر الجامعة العربية إلى تونس وتم إعلان قيام “جبهة الصمود والتصدي” بقيادة صدام حسين، والتي ما لبثت أن تفككت بدورها عقب إقدام صدام على شنِّ الحرب على إيران، فتراجع اهتمام العالم العربي بالقضية الفلسطينية وانشغل بقضايا أخرى. وحين أقدمت إسرائيل على اجتياح لبنان، مستغلة اغتيال السادات، في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، بدأت إيران تبني لنفسها خطوط دفاع خارج حدودها، معتمدة على تأييد المكونات الشيعية في المنطقة وتحمس الشعوب لها بسبب موقفها الصلب تجاه إسرائيل، وقامت بتأسيس حزب الله الذي نجح خلال سنوات قليلة في تدعيم صورته كأهم حركة مقاومة مسلحة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، كما قامت بترسيخ علاقاتها بحركات المقاومة الفلسطينية المسلحة ومن ثم بدت وكأنها أكثر من الدول العربية إصرارًا على مواجهة إسرائيل وحرصًا على القضية الفلسطينية.

وعندما اضطر الإمام الخميني إلى “تجرع كأس السم”، بقبوله قرار وقف إطلاق النار مع العراق، بدأ صدام يتصرف كقائد منتصر ويتطلع لقيادة العالم العربي كله، غير أن طموحاته دفعت به نحو طريق أفضى إلى إقدام الولايات المتحدة على تدمير واحتلال العراق، وعندما اضطرت الولايات المتحدة للخروج من وحل العراق، كانت إيران قد تغلغلت في أحشاء هذا البلد العربي وبدأت تمسك بأهم مفاصل الدولة هناك. وبدلًا من القضاء على الإرهاب وفتح الباب أمام التحول الديمقراطي في المنطقة، فاقم احتلال الولايات المتحدة للعراق من خطورة الظاهرة الإرهابية التي اتسع نطاقها، واشتعلت الفتن الطائفية في كل مكان في المنطقة. وحين حاولت إسرائيل استغلال هذه الأوضاع المضطربة في العالم العربي لتصفية حزب الله، بإعلان الحرب على لبنان عام 2006، ثم لتصفية حماس، بإعلان الحرب على قطاع غزة نهاية 2008 وبداية 2009، أسهم فشلها في تقوية النفوذ الإيراني في المنطقة بدلًا من إضعافه(21). ثم جاءت ثورات “الربيع العربي” لتضع المنطقة كلها أمام تحديات وفرص جديدة. ومرة أخرى، استطاعت إيران إدارة المرحلة بطريقة مكَّنتها من التغلب على معظم ما واجهته من تحديات وانتهاز الفرص التي أُتيحت أمامها لمد نفوذها أكثر فأكثر داخل العالم العربي.

فقد اهتمت إيران منذ اندلاع شرارة الربيع العربي بما يجري في المنطقة عمومًا، وبصفة خاصة بما يجري في البحرين واليمن وسوريا، وتفاوتت حظوظها بين النجاح والفشل. ففي البداية، حاولت استثمار المستجدات لإحداث تغيير في النظام الحاكم في البحرين، لكن مسارعة السعودية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، بإرسال قوات عسكرية لدعم وتثبيت النظام البحريني، قطع عليها الطريق. وشعرت إيران بالارتياح حين تمكنت الثورة اليمنية من إسقاط نظام علي عبد الله صالح، لكنها حرصت في الوقت نفسه على إفشال المخططات الرامية لتأسيس نظام بديل تابع للسعودية، ونجحت في توثيق علاقاتها بالمكوِّن الحوثي لتصبح من خلاله طرفًا في معادلة السياسة اليمنية، واستفادت في الوقت نفسه من أخطاء كثيرة لاحقة ارتكبتها السعودية في إدارتها للأزمة اليمنية، خاصة بعد قرارها شنَّ الحرب لإعادة عبد ربه منصور إلى السلطة. أما في سوريا، فقد حرصت إيران منذ اللحظة الأولى على دعم نظام بشار الأسد سياسيًّا وعسكريًّا، وسعت بكل الوسائل المتاحة للحيلولة دون سقوطه، بما في ذلك تشجيع حزب الله على التدخل عسكريا إلى جانب نظام بشار(22).

وتدل تطورات الأحداث التي وقعت في كل من اليمن وسوريا خلال عام 2017 على أن كفة المعسكر الإيراني تبدو هي الأرجح؛ ففي اليمن جاءت هذه الأحداث كاشفة لحقائق على جانب كبير من الأهمية:

الحقيقة الأولى: استحالة حسم الصراع الدائر عسكريًّا، بتمكين نظام عبد ربه منصور هادي من استعادة السلطة، ومن ثم تبدو الحرب الدائرة هناك قابلة للتحول إلى عملية استنزاف طويلة الأمد للسعودية وحلفائها، وقد تنتهي بتقسم اليمن إلى عدة دويلات، وهو تطور سيصب لصالح إيران وحلفائها(23).

الحقيقة الثانية: ظهور شروخ عميقة في التحالفات المحلية والإقليمية والدولية المتصارعة على الساحة اليمنية. فتحالف الحوثيين مع على عبد الله صالح أملته الضرورة، لكنه بدا غير منطقي وضد طبائع الأمور. والتحالف العربي الذي تقوده السعودية لا يبدو على قلب رجل واحد. فالدول الفاعلة فيه، خاصة السعودية والإمارات، لا يتبنيان استراتيجية موحدة الدوافع والأهداف، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصدع التحالف الذي يقودانه في مرحلة أو أخرى، خصوصًا إذا نجحت محاولات وقف القتال. وقد أظهرت تفاعلات الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر/تشرين الثاني وبداية ديسمبر/كانون الأول 2017، مدى هشاشة التحالف بين الحوثيين وعلى عبد الله صالح. ففي مرحلة أولى تمكن التحالف العربي بقيادة السعودية من إغواء صالح وإغرائه بالانشقاق على الحوثيين، فبدا ميزان القوى على الأرض وكأنه يميل لصالح التحالف العربي، غير أن الأوضاع على الأرض ما لبثت أن تغيرت بسرعة بعد أن رجحت كفة الحوثيين ودفع صالح حياته ثمنًا لانشقاقه، فمالت موازين القوى من جديد لصالح الحوثيين، وبالتبعية لصالح إيران. وأيًّا كان الأمر، فقد خلق إقدام الحوثيين على اغتيال صالح واقعًا جديدًا بالغ الخطورة ومفتوحًا على كل الاحتمالات، فهو من ناحية قد يعرقل جهود التسوية ويزيد من أمد الحرب والمعاناة في هذا البلد العربي الفقير، لكنه قد يؤدي، من ناحية أخرى، إلى تكتل كافة القوى السياسية الأخرى ضد الحوثيين وبالتالي عزلهم تمامًا؛ الأمر الذي قد يعجِّل بالحسم العسكري(24).

الحقيقة الثالثة: تصاعد الانتقادات الموجهة للسعودية، وأيضًا للتحالف العربي الذي تقوده، بسبب المآسي الإنسانية التي يتعرض لها الشعب اليمني ليس فقط نتيجة الحرب ولكن أيضًا نتيجة الحصار المفروض على الموانئ والمطارات، وبدأ المجتمع الدولي يتجه نحو تحميل السعودية والتحالف المسؤولية كاملة عمَّا قد يحدث من كوارث إنسانية بسبب نقص الغذاء والدواء. والأرجح أن تؤدي هذه الانتقادات إلى تكثيف ضغوط المجتمع الدولي على السعودية لوقف الحرب ورفع الحصار، وهو ما قد يؤدي بالأزمة السياسية اليمنية إلى العودة إلى نقطة الصفر، ويفتح فرصًا جديدة أمام تزايد النفوذ الإيراني في اليمن(25).

وفي سوريا، جاءت أحداث 2017 كاشفة أيضًا لعدة حقائق على جانب كبير من الأهمية:

الحقيقة الأولى: صمود نظام الأسد وتمكن جيشه من تحقيق انتصارات كبيرة ليس فقط في مواجهة الجماعات الإرهابية، وإنما أيضًا في مواجهة قوى المعارضة التي تحمل السلاح في وجهه، وذلك بفضل العون العسكري المقدَّم له من الدول الحليفة، وفي مقدمتها إيران.

الحقيقة الثانية: دخول إيران كطرف رئيسي، جنبًا إلى جنب كل من روسيا وتركيا، في معادلة التسوية السياسية للأزمة في سوريا. ورغم أن الدور الروسي كان الأكبر والأهم في حسم المعارك العسكرية، إلا أن تواجد إيران الكثيف على الأرض السورية وقدرتها على ممارسة نفوذ سياسي وأيديولوجي أكبر يضفيان على دورها مزية إضافية في مواجهة روسيا وتركيا.

الحقيقة الثالثة: تضاؤل احتمالات الحسم العسكري أو السياسي للأزمة السورية، رغم تمكن حلفاء النظام السوري من إنقاذه من السقوط؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى بقاء الأزمة السورية مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها احتمالات التقسيم(26).

2- إسرائيل

كان عام 2017 محوريًّا في تاريخ إسرائيل لسببين:

الأول: أنه شهد بداية تولي دونالد ترامب، والذي راهنت عليه إسرائيل، للسلطة في الولايات المتحدة الأميركية. فقد كانت إسرائيل على يقين تام من أن فوز ترامب سيؤدي إلى تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه جميع أعدائها في المنطقة: إيران، وحزب الله، وحركات المقاومة الفلسطينية، وسيقدم دعمًا غير مسبوق لسياستها الاستيطانية في الأراضي المحتلة ولموقفها من القضية الفلسطينية ومن عملية التسوية(27).

الثاني: أنه شهد تعيين محمد بن سلمان وليًّا للعهد في المملكة العربية السعودية، ومن ثم أصبح الطريق أمامه مفتوحًا لتولي المُلك في أية لحظة بعد أن تم التخلص من كل منافسيه. ومن المعروف أن إسرائيل كانت تتابع صعود نجم محمد بن سلمان وعلى يقين تام من أنه سُيحدث تحولًا دراماتيكيًّا في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في نفس الاتجاه الذي تسعى إليه وتتمناه إسرائيل(28).

فالتغير الذي طرأ على موقف الولايات المتحدة تجاه إيران عقب تولي ترامب للسلطة يصب تمامًا في صالح أكثر المواقف الإسرائيلية تطرفًا، وذلك من زاويتين على الأقل، الأولى: أنه يشكِّل غطاء سياسيًّا لإسرائيل للذهاب في عدائها لإيران إلى أبعد مدى، بما في ذلك احتمال استخدام القوة المسلحة، والثانية: التغلب على العراقيل التي تعترض طريق التسوية بالشروط الإسرائيلية، ومن ثم فتح باب تطبيع علاقة إسرائيل بالعالم العربي، خاصة السعودية، دون انتظار أو اشتراط انسحابها مسبقًا من الأراضي المحتلة.

ومن المعروف أن نتنياهو كان أكثر السياسيين في العالم اعتراضًا على الاتفاق المبرم مع إيران حول برنامجها النووي، وبذل جهدًا خارقًا للحيلولة دون إتمامه، وذهب في تصميمه على إجهاض الجهود الرامية لإبرامه حدًّا دفعه لتحدي أوباما علنًا وقام بزيارة لواشنطن رغم أنفه، وألقى خطابًا في الكونجرس شنَّ فيه هجومًا شخصيًّا عنيفًا عليه. ومن الواضح أن نتنياهو يبدو مطمئنًّا تمامًا إلى نوايا ترامب إزاء إيران، ويعتقد أنه إذا لم ينجح في إلغاء الاتفاق النووي معها لأي سبب كان، فلن يتوانى عن مواصلة ضغوطه المكثفة على إيران لردعها عن أي سلوك أو تصرف معرقل للجهود الرامية للبحث عن تسوية سياسية بالشروط الإسرائيلية، بل وقد يذهب بعيدًا في هذا الاتجاه إلى حدِّ شن هجوم مسلح لتدمير المنشآت النووية الإيرانية أو حتى لتغيير النظام الإيراني نفسه إذا أصرت إيران على مواصلة التحدي(29).

على صعيد آخر، من المعروف أيضًا أن إسرائيل تدرك أن المملكة السعودية هي المفتاح الرئيس لتطبيع العلاقة مع العالم العربي، وسعت دومًا لتليين الموقف السعودي بكل السبل الممكنة، بما في ذلك تأجيج الصراع بين السُّنَّة والشيعة، ولا شك أنها لعبت دورًا رئيسيًّا في تعميق التناقضات السعودية-الإيرانية، ثم راحت تستثمر قلق السعودية المتزايد من التمدد الإيراني في المنطقة لفتح قنوات حوار مباشر أو غير مباشر معها. وقد أشارت تقارير صحفية عديدة إلى أن إسرائيل نجحت خلال العامين الماضيين في ترتيب لقاءات غير مباشرة داخل وخارج إسرائيل، بين مسؤولين سابقين سعوديين وشخصيات إسرائيلية بارزة رسمية وغير رسمية، إلى أن تمكنت في نهاية المطاف من ترتيب زيارة سرية للأمير محمد بن سلمان نفسه إلى تل أبيب، وهو ما أشارت إليه تقارير صحفية عديدة(30). ورغم نفي المصادر الرسمية السعودية لهذا الخبر، إلا أن شواهد كثيرة رجَّحت حدوثه، بل إن البعض يعتقد أن إسرائيل كانت هي المخطط الرئيسي لعملية نقل جزيرتي تيران وصنافير إلى السيادة السعودية، وشجعت النظام الحاكم في مصر على المضي قدمًا في هذا الاتجاه رغم صدور حكم قضائي نهائي وباتٍّ من المحكمة الإدارية العليا يقضي بمصرية الجزيرتين. فنقل السيادة على الجزيرتين إلى السعودية يؤدي، من ناحية، إلى تحويل مضيق تيران إلى ممر دولي، بدلًا من وضعه القانوني الحالي كجزء من المياه الإقليمية المصرية التي يسمح لإسرائيل بحق “المرور البريء” فيها، لكنه يفتح الباب، من ناحية أخرى، أمام تطبيع رسمي للعلاقات بين السعودية وإسرائيل، عبر عملية تبادل للخطابات بين البلدين تؤكد التزام السعودية بالترتيبات الأمنية السارية على الجزيرتين بموجب معاهدة السلام مع مصر، وقبول إسرائيل لهذا الالتزام، وهي ما يبدو أنها تمت بالفعل. وإذا صحَّ هذا الاستنتاج، فسوف نكون إزاء تحول دراماتيكي في موقف السعودية من الصراع العربي-الإسرائيلي قد يضع المنطقة كلها أمام مرحلة تاريخية جديدة، خصوصًا إذا نُظِر إليه في سياق “صفقة القرن” التي يعكف ترامب على إعدادها وإنضاج الشروط اللازمة لتمريرها.

غير أن قرار ترامب المفاجئ بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، وهو القرار الذي رحَّب به نتنياهو بشدة، قد يؤدي إلى تعقيد الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات السعودية-الإسرائيلية، خصوصًا أنه أثار موجة غضب عارمة في جميع أنحاء العالم قد تجعل من الصعب حتى على الزعماء العرب الآخرين ممن يرتبطون مع إسرائيل بمعاهدات سلام أن يحتفظوا بنفس المستوى الحالي من العلاقات معها في ظل الوضع الجديد.

3- تركيا

لم يطرأ على مسار العلاقة بين تركيا والعالم العربي خلال عام 2017 تغير حاسم أو استثنائي. ولأنها تنتمي إلى نمط شديد التعقيد ومشحون بحساسيات تاريخية تضفي عليه نكهة خاصة تجمع بين المتناقضات، فهي علاقات معرَّضة دائمًا لتقلبات غير متوقعة وتشهد بين الحين والآخر مراحل من المد والجَزْر والشد والجذب والتعاون والصراع(31).

كانت صورة تركيا قد استقرت في أذهان معظم النخب الحاكمة في العالم العربي، وعلى مدى عقود طويلة، كدولة غربية الهوى ومشوَّهة الهوية في الوقت نفسه، إلى أن تمكن حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان من تغيير هذه الصورة تدريجيًّا بعد وصوله إلى السلطة وتمكنه من تحقيق إنجازات كبيرة على صعيدي الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية معًا. ولا شك أن القلق المتزايد من المد الإيراني “الشيعي” أسهم في تعميق العلاقات بين تركيا ومعظم الدول العربية، رغم كل الحساسيات التاريخية، خاصة خلال المرحلة الذهبية التي رفع فيها نظام أردوغان شعار “صفر مشاكل” كموجِّه لدفة السياسة الخارجية التركية. وعندما اندلعت شرارة ثورات “الربيع العربي”، وبدا أن تيار الإسلام السياسي المعتدل لديه فرص كبيرة للوصول إلى السلطة في عدة دول عربية، راودت أردوغان، على ما يبدو، أحلام استعمال الروابط التاريخية في الـتأثير على تحولات المنطقة بما يخدم المصالح التركية. وليس من المستبعد أن يكون هذا التوجه قد لقي تشجيعًا من جانب الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، على أمل أن يساعد في استلهام النموذج السياسي التركي كنموذج بديل للنظم الاستبدادية التي أسقطتها الثورات العربية. ويبدو أن التدخل التركي في انتفاضة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد، في مارس/آذار 2011، والإقدام على تقديم دعم مسلح لبعض القوى السياسية المطالِبة بتغيير هذا النظام، جاء في سياق هذا التوجه العثماني الجديد(32). غير أن الرياح لم تأت بما تشتهيه سفن أردوغان؛ فبعد سقوط الرئيس محمد مرسي في مصر، عام 2013، وتدخل قوى دولية وإقليمية عديدة في الأزمة السورية التي راحت تتحول تدريجيًّا إلى حرب أهلية تدار بالوكالة، وقرار روسيا بالتدخل عسكريًّا في الحرب إلى جانب نظام بشار، تراجعت أحلام أردوغان وبدأت السياسة التركية تواجه مأزقًا على جميع الجبهات، خصوصًا وأن بريق النظام السياسي والاجتماعي التركي كان قد بدأ يخفت(33). وكان هذا هو السياق الذي وقع فيه الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، يوم 15 يوليو/تموز 2016.

كاد هذا الانقلاب يعيد تركيا إلى مرحلة ما قبل حزب العدالة والتنمية، وبعد فشله اندلعت حركة تطهير واسعة النطاق شملت مختلف مؤسسات الدولة التركية، خاصة الجيش والقضاء وأجهزة الأمن والمؤسسات التعليمية، كان لها تأثير عميق على السياسات الداخلية والخارجية معًا في مرحلة ما بعد الانقلاب. لذا، يمكن القول بدرجة كبيرة من الثقة أن تركيا أردوغان أصبحت تختلف تماما في مرحلة ما بعد الانقلاب عمَّا كانت عليه قبله، خصوصًا على صعيد السياسة الخارجية. فقد طرأت على هذه السياسة تغييرات عميقة لم تقتصر فقط على توجهاتها العامة وإنما امتدت لتشمل أيضًا إعادة صياغة للأسس التي تقوم عليها تحالفات تركيا الدولية والإقليمية.

فقد أعادت تركيا صياغة أسس العلاقة التي تربطها بكل من الولايات المتحدة وروسيا، الأمر الذي دفعها للاقتراب رويدًا رويدًا وبحذر من روسيا والابتعاد بنفس القَدْر عن الولايات المتحدة الأميركية، مع الحرص في الوقت نفسه على عدم القطيعة معها. ولأنه كان من الطبيعي، في سياق هذا التوجه الجديد، أن تحتل الأزمة السورية وتأثيراتها المحتملة على الوضع الداخلي أولوية قصوى في السياسة الخارجية لتركيا، فقد راحت تركيا تعيد صياغة تحالفاتها مع القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في هذه الأزمة وفقًا لما تمليه الاعتبارات الخاصة بأمنها الوطني في مرحلة ما بعد الانقلاب. وهكذا، انطلقت في تركيا عملية تفكيك وإعادة تركيب تدريجية لتحالفاتها مع القوى المحلية والإقليمية والدولية المتصارعة على الساحة السورية. وفي سياق هذه العملية راحت ترتسم معالم لمصالح مشتركة دفعتها للتعاون والتنسيق على نحو متزايد مع كل من روسيا وإيران وبعض القوى السياسية والعسكرية المتحالفة معهما، إلى أن أصبحت شريكًا كاملًا في الجهود الرامية لتخفيف حدة التوتر في بعض المناطق، ثم في الجهود الرامية للبحث عن تسوية سياسية للأزمة السورية. وتشير دلائل عديدة إلى أن تركيا لم تعد تصر على رحيل نظام بشار الأسد، على الأقل خلال المرحلة الانتقالية؛ الأمر الذي يعكس عمق التغير الذي طرأ على سياسة تركيا تجاه الأزمة السورية منذ اندلاعها(34).

على صعيد آخر، يُلاحَظ أن عام 2017 كان هو العام الذي تواصلت فيه الجهود التركية الرامية إلى تطبيع العلاقة مع إسرائيل، بعد أن كانت قد وصلت إلى ما يشبه القطيعة بسبب هجوم إسرائيل عام 2010 على سفينة مرمرة التركية التي كانت تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة المحاصر(35). غير أن تركيا بدت حريصة في الوقت نفسه على ألا يؤدي هذا التقارب إلى الإضرار بعلاقتها مع حركات المقاومة الفلسطينية، خاصة حماس. كما حرصت في الوقت نفسه كذلك على الاحتفاظ بعلاقاتها ومصالحها الاقتصادية والتجارية مع دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة السعودية، قوية إلى أقصى حدٍّ ممكن. غير أن أزمة الحصار الذي فُرِض على دولة قطر من جانب السعودية والإمارات والبحرين ومصر، أدى إلى حدوث تعقيدات جديدة على هذا الصعيد. فبعد محاولات فاشلة للوساطة، وجدت تركيا نفسها مضطرة للانحياز إلى الموقف القطري وذهبت إلى حدِّ دعم قطر عسكريًّا، بتفعيل اتفاقية للتعاون العسكري والأمني كانت قد وُقِّعت بين البلدين في وقت سابق، في محاولة واضحة من جانبها لردع دول الحصار عن القيام بأي تحرك عسكري لتغيير النظام القَطَري بالقوة. وفي هذا السياق، كان من الطبيعي أن تتراجع أحلام السعودية بتشكيل معسكر سُنِّي متماسك لمواجهة التمدد الإيراني(36).

ثالثًا: التفاعلات البينية والمحلية

لم تكن التحولات التي شهدها النظام السياسي العربي في الحقبة الأخيرة نتاج أطماع أو عوامل خارجية فقط، ولكنها كانت أيضًا نتاج معطيات وعوامل داخلية تتعلق ببنية الأنظمة والنخب الحاكمة. ولأنها أنظمة ونخب تتسم إجمالًا بتفشي الفساد والاستبداد، رغم تباين كبير في الدرجة وليس في النوع، فغالبًا ما يكون وقوع الأحداث البينية أو المحلية الكبرى والمؤثِّرة على النظام العربي ككل، مفاجئًا وبطريقة يصعب التنبؤ بها. لذا، غالبًا ما تأخذ هذه الأحداث أشكالًا استثنائية أو شاذة، كإقدام دولة عربية على مهاجمة أو قطع علاقتها بدولة عربية أخرى، أو اندلاع ثورة شعبية، أو وقوع انقلاب عسكري، أو تفكك ائتلاف حاكم…إلخ. وقد شهد عام 2017 وقوع أحداث بين أو داخل دول عربية عديدة كان لها تأثيرات واسعة النطاق على مجمل أوضاع المنطقة، نكتفي منها هنا بنموذجين:

الأول: حصار قطر، كنموذج للتفاعلات البينية.

والثاني: تعيين الأمير محمد بن سلمان وليًّا للعهد في المملكة العربية السعودية، كنموذج للأحداث المحلية التي قد تتجاوز تأثيراتها كثيرًا حدود دولة المنشأ.

1- حصار قطر

الخلافات بين قطر وبعض دول مجلس التعاون الخليجي، خاصة السعودية والإمارات، قديمة وعميقة الجذور، غير أن التباين في موقفها من الثورات العربية عمومًا ومن النظام الذي أطاح بحكم بالرئيس محمد مرسي في مصر عام 2013، على وجه الخصوص، كان الأكثر عمقًا وتسبب في إثارة أزمة تعاقبت موجاتها ومرَّت بمراحل متباينة. ففي مارس/آذار 2014، أعلنت الدول الثلاث فجأة سحب سفرائها لدى قطر “بسبب عدم التزام الأخيرة بقرارات سبق التوافق عليها في مجلس التعاون الخليجي”، لكن أمكن طي صفحة هذه الأزمة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، حين تم الإعلان فجأة أيضًا عن عودة سفراء الدول الثلاث إلى الدوحة. غير أن عواصف الأزمة نفسها عادت لتهب من جديد في مايو/أيار 2017 بعد أن بثت وكالة الأنباء القطرية تصريحات لأمير قطر انتقد فيها “المشاعر المعادية لإيران”، وهي التصريحات التي سارعت قطر بإنكارها والتأكيد على أنها مختلقة ونُشِرت بعد تعرض وكالتها الرسمية للأنباء لعملية “قرصنة”. غير أن هذا الإنكار لم يغير من مسار الأزمة التي راحت تتصاعد إلى أن بلغت ذروتها يوم 5 يونيو/حزيران 2017 بإعلان هذه الدول الثلاث، ومعها مصر هذه المرة، قطع كافة أشكال العلاقات مع قطر، بما في ذلك إغلاق المجالات الجوية والطرق البرية والموانئ أمام حركة البضائع والأشخاص، وليس الاكتفاء بقطع العلاقات الدبلوماسية كما حدث في المرة السابقة. غير أن قطر لم ترضخ لهذا الحصار الشامل والمباغت، وسارعت باستخدام كل ما لديها من أوراق لإفشاله، بما في ذلك تدعيم علاقاتها بإيران وتركيا التي لم تتردد في إرسال قوات وبناء قاعدة عسكرية لها في قطر(37).

حين نشطت الجهود الدبلوماسية، عربيًّا ودوليًّا، بحثًا عن مخرج، اشترطت دول الحصار على قطر تنفيذ ثلاثة عشر مطلبًا، لم تُنشَر رسميًّا وإن كانت تسريبات صحفية قد أشارت إلى أنها شملت:

1. إغلاق قناة الجزيرة.

2. قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران وطرد عناصر الحرس الثوري الإيراني وتنفيذ العقوبات الدولية المفروضة على إيران بكل تفاصيلها.

3.إغلاق القاعدة العسكرية التركية وإيقاف التعاون العسكري مع أنقرة.

4.قطع العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين وعدم التعاون مع حزب الله وتنظيمي القاعدة وداعش.

5.الامتناع عن تجنيس مواطنين من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وطرد من سبق منحهم الجنسية كجزء من التزام أشمل بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول.

6. تسليم الأشخاص المطلوبين والمتهمين بالإرهاب للدول الأربع.

7. وقف الدعم لأي كيان تصنِّفه الولايات المتحدة إرهابيًّا.

8. تقديم معلومات تفصيلية عن المعارضين من مواطني الدول الأربع الذين أقاموا فيها أو تلقوا منها دعمًا ماديًّا.

9.التعويض عن الضحايا والخسائر التي تحملتها الدول الأربع بسبب سياساتها السابقة.

10. الالتزام بالانسجام مع محيطها الخليجي العربي على كافة الأصعدة، بما يضمن الأمن القومي الخليجي والعربي وتفعيل اتفاق الرياض عام 2013 واتفاق الرياض التكميلي عام 2014.

11. تسليم كافة قواعد البيانات الخاصة بالمعارضين الذين قامت بدعمهم وكذلك إيضاح كافة أنواع الدعم الذي قُدِّم لهم.

12.إغلاق كافة وسائل الإعلام التي تدعمها بشكل مباشر أو غير مباشر.

13.إعداد تقارير متابعة دورية مرة كل شهر للسنة الأولى ومرة كل ثلاثة أشهر للسنة الثانية، ومرة كل سنة لمدة عشر سنوات(38).

رفضت قطر تلك الشروط واعتبرتها إملاءات تمس بسيادتها واستقلالها، وأبدت استعدادها للتفاوض بحثًا عن حل يقوم على احترام سيادة الدول والالتزامات المتبادلة. أما دول الحصار فقد اعتبرت موقف قطر تهربًا من المسؤولية ودليلًا على أنها تمارس سياسة “دعم الإرهاب” وحريصة على استمرارها. لذا، راحت الأزمة تتعقَّد أكثر فأكثر، واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن اقترب موعد انعقاد قمة مجلس التعاون الخليجي في الكويت، فلاحت بارقة أمل، حين أُعلن في البداية أن جميع قادة دول مجلس التعاون الخليجي سيحضرونها، لكنها سرعان ما تلاشت بعدما تبين عزوف معظم قادة المجلس عن حضور هذه القمة، فيما عدا أمير دولة الكويت المضيفة وأمير دولة قطر المحاصرة. لذا، تحولت قمة مجلس التعاون الخليجي من آلية لمحاصرة واحتواء الأزمة إلى حدث كاشف عن ضعف وتصدع مجلس التعاون الخليجي نفسه. وهكذا تحول حصار قطر إلى أزمة كاشفة عن عقم وخطورة الأسلوب العربي التقليدي في التعامل مع الأزمات الكبرى، والتي غالبًا ما تُترك بلا حسم، ومن ثم تظل الجروح مفتوحة بلا علاج إلى أن يصاب الجسد العربي كله بالتسمم. حينئذ فقط يدرك القادة العرب عدم جدوى العلاج بالأدوية وتظهر الحاجة ماسَّة إلى جراحة قد تفضي إلى البتر أو الموت. لذا، يمكن القول: إن أزمة حصار قطر كانت بدورها أزمة كاشفة عن جملة من الحقائق:

الحقيقة الأولى: خلو الجسد العربي المصاب بأمراض مزمنة من أي عضو سليم أو محصن ضد الإصابة؛ فحتى وقت قريب ساد اعتقاد مفاده أن مجلس التعاون الخليجي حصن منيع، أو القلعة الوحيدة الصامدة في نظام عربي آيل للسقوط، إلى أن اندلعت أزمة حصار قطر الأخيرة فتبين أن النظام العربي خال من أية حصون وأن بنيانه كله يتداعى.

الحقيقة الثانية: غياب كامل للشفافية في آليات عمل النظام العربي الذي يبدو الآن كثقب أسود كبير يصعب التعرف على حقيقة ما يجري فيه، وتبدو الأزمات التي تكاد تعصف بحاضره ومستقبله طلاسم يلفها الكتمان، أو جبال ثلج تخفي تحت السطح أكثر مما تكشف فوقه.

الحقيقة الثالثة: افتقار النظام العربي إلى آليات مؤسسية قادرة على معالجة أزماته البينية، بسبب افتقار الدول العربية نفسها إلى مؤسسات داخلية فعَّالة تضمن لشعوبها مشاركة حقيقية في صنع القرار والرقابة على أداء السلطة التنفيذية. ولأن جذور النظام العربي لا تزال مغروسة في تربة الدولة القُطْرية المعجونة بالفساد والاستبداد، فلن تثمر شجرته أبدًا وستظل فروعها هزيلة وضامرة ومعرَّضة للموت والذبول إلى أن يتم تغيير التربة نفسها.

2- صعود ابن سلمان

ظل النظام السياسي السعودي على مدى عقود طويلة، محافظًا على صعيد السياسة الداخلية ومتحالفًا مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب، على صعيد السياسة الخارجية، ومن ثم بدا عصيًّا على الإصلاح أو التغيير. ورغم تمكنه من الصمود في وجه تيار قومي حداثي، أجبره على اتخاذ موقف دفاعي إلى أن تكفلت إسرائيل بتوجيه ضربة قاصمة له في يونيو/حزيران 1967، إلا أن النظام السعودي سرعان ما وُوجِه بتحديات أشد خطرًا تعيَّن عليه مواجهتها، كان أهمها تحديين رئيسيين:

الأول: فرضته ثورة إسلامية اندلعت في إيران في نهاية سبعينات القرن الماضي، بنموذجها الراديكالي الشيعي المتناقض كليًّا مع نموذجه السني المحافظ.

والثاني: فرضته ثورات “ربيع عربي” اندلعت شرارتها في تونس عام 2010 وسرعان ما امتدت إلى عدد من الدول العربية إلى أن وصلت إلى حدوده الجنوبية، بأطروحاتها الليبرالية المتناقضة أيضًا مع أطروحاته الثيوقراطية المحافظة.

في مواجهة التحدي الأول، تحالف النظام السعودي مع نظام صدام حين دخل في حرب طويلة الأمد لإجهاض الثورة الإيرانية، ثم تحالف مع الولايات المتحدة حين دخلت في حرب مع العراق، عقب احتلال صدام للكويت، انتهت بتدمير العراق وتمكين النظام الإيراني من التغلغل في أحشائه، فخرج النظام الإيراني منتصرًا في هذه الجولة. وفي مواجهة التحدي الثاني، تحالف النظام السعودي مع كافة القوى الداخلية والخارجية صاحبة المصلحة في إجهاض ثورات “الربيع العربي”، ونجح مؤقتًا في وقف زحفها، رغم عدم تمكنه من القضاء على احتمالات تجددها، لكن سياساته ساعدت على مزيد من التمدد الإيراني في المنطقة. لذا، ظلت المخاطر الناجمة عن هذين التحديين الكبيرين قائمة، بل ومرشحة للتفاقم في المرحلة القادمة. وفي سياق الجهود المبذولة لمواجهتهما بوسائل وأساليب مختلفة عمَّا اعتاد عليه النظام السعودي من قبل، يمكن فهم بعض جوانب وأبعاد الصراع المحتدم على السلطة داخل المملكة العربية السعودية حاليًّا. فلهذا الصراع أسباب شخصية، يعكسها طموح محمد بن سلمان وحرص الملك الوالد على احتكار السلطة لأولاده من بعده، وله أيضًا أسباب أخرى موضوعية، تفرضها مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد المملكة بالتفكك والنظام بالانهيار التام.

كان الأمير محمد بن سلمان، حتى من قبل أن يصبح وليًّا للعهد ويتمكن من إزاحة سلفه الأمير محمد بن نايف، قد أمسك بمعظم مفاصل الدولة السعودية وأصبح الشخصية الأكثر تأثيرًا في عملية صنع القرار في المملكة، وارتبط صعوده السياسي بتغييرات كبيرة وغير مسبوقة راحت تشهدها سياسة المملكة السعودية تباعًا على الصعيدين الداخلي والخارجي معًا؛ إذ تشير معظم التحليلات السياسية والتقارير الإعلامية إلى أنه:

1. ألقى بثقله كاملًا وراء قرار شنِّ الحرب على اليمن، انطلاقًا من قناعته التامة بضرورة المواجهة الشاملة مع إيران وعدم السماح لها بامتلاك أي مواقع نفوذ جديدة في أي مكان في العالم العربي(39).

2. يعد المسؤول الرئيسي عن إثارة قضية جزيرتي تيران وصنافير مع مصر وبدا شديد الحرص على أن يوقِّع بنفسه على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، والتي تم بموجبها نقل السيادة على الجزيرتين إلى المملكة السعودية(40).

3. يعد أكثر المتحمسين والمشجعين للانفتاح على إسرائيل ولمحاولات التقارب معها، بل إن إحدى الصحف الإسرائيلية أشارت إلى أنه قام بنفسه بزيارة إسرائيل في 2017 والتقى فيها بالعديد من المسؤولين، ويقال إنه أيضًا أحد أهم المتحمسين لصفقة القرن والمروجين لها والعاملين على تذليل العقبات التي تقف في طريقها(41).

4. المدبر الحقيقي للأزمة السياسية التي كادت تعصف باستقرار لبنان حين قام بالضغط على سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان، لتقديم استقالته من الرياض بعد احتجازه هناك(42).

5. كان شديد الحرص على أن يقترن اسمه دائمًا بوثيقة 2030 التي تضمنت برنامجًا طموحًا للتغيير في السعودية، وهو ما يفسر الحملة التي استهدفت الترويج لصورته كصاحب مشروع كبير للتحديث والتنمية في المملكة(43). لذا، فما أن تم تعيينه رسميًّا وليًّا للعهد حتى خرج من وراء الكواليس التي كان يتخفى وراءها منذ تولي والده للسلطة في المملكة، وأصبح هو الصانع الرسمي وربما الوحيد للقرار في المملكة العربية السعودية. لذا، يتوقع كثيرون أن يتولى بنفسه الملك قريبًا، سواء في وجود والده أو في غيابه.

بوصول محمد بن سلمان إلى أعلى مواقع السلطة، تكون المملكة العربية السعودية قد طوت صفحة من تاريخها، وبدأت صفحة جديدة تبدو ملامحها كالتالي:

1. تحالف وثيق مع دولة الإمارات يتطلع لقيادة النظام العربي ككل، وليس فقط مجلس التعاون الخليجي، تساعد على تيسيره علاقة شخصية وعمرية قوية تربطه بولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد.

2. إصرار على مقاومة النفوذ الإيراني في المنطقة بكل الوسائل الممكنة، حتى لو تتطلب الأمر خوض جولات مواجهة عسكرية معها.

3. تقارب مع إسرائيل يطمح لتسوية القضية الفلسطينية، ولو بالشروط الإسرائيلية، والتفرغ لمواجهة إيران ومحاصرة واحتواء نفوذها في المنطقة.

رابعًا: خلاصة ورؤية مستقبلية

كان عام 2017 كاشفًا ليس فقط عن حجم الأطماع والتحديات الخارجية التي يتعرض لها النظام العربي، وإنما أيضًا عن حجم التناقضات الكامنة في بنيته الداخلية. ومن الواضح أن فشل النظام العربي في إيجاد حلول جذرية لتناقضاته الداخلية هو الذي حال دون تمكنه من مواجهة الأطماع والتحديات الخارجية التي تتربص به.

ففيما يتعلق بالأطماع والتحديات الخارجية، بدا العالم العربي في نهاية عام 2017 أكثر انكشافًا وعجزًا، وهو ما تجلَّى بوضوح من خلال:

1. ابتزاز أميركي واستهتار بالحقوق العربية: ظهر واضحًا في مؤتمر الرياض وفي الطريقة التي أُديرت بها أزمة حصار قطر؛ فقد نجح ترامب في توظيف زيارته الأولى للرياض لعقد صفقات ضخمة مع السعودية، وصل مجموعها إلى ما يقرب من نصف تريليون دولار، ونجح في إدارة أزمة حصار قطر بطريقة مكَّنته من إضافة عدة مئات من المليارات إلى الخزينة الأميركية، ولم يتردد في الرد على هذا الكرم العربي بالاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لدولة إسرائيل. وإن دلَّ هذا السلوك على شيء فإنما يدل على استخفافه بعالم عربي يعتقد أنه كلما ضغط عليه أكثر ازداد قُربًا من الولايات المتحدة وارتمى في أحضانها، خوفًا منها وطمعًا في حمايتها في الوقت نفسه.

2. نفوذ روسي متزايد: فقد نجحت روسيا بدورها في استغلال الأزمة السورية ليس فقط لتدعيم وجودها العسكري الدائم هناك وإنما أيضًا لتدعيم نفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية والأمنية في المنطقة ككل، حيث أضافت إلى قاعدتها العسكرية القديمة في سوريا قاعدة جديدة رغم إعلانها في نهاية 2017 سحب معظم قواتها المقاتلة، ووسَّعت كثيرًا من نطاق نفوذها في المنطقة ككل، بإقامة علاقات متينة في مختلف المجالات مع دول عربية عديدة، في مقدمتها مصر، ومع دول غير عربية، في مقدمتها تركيا وإيران.

3. صلف إسرائيلي واختراق إقليمي: فلا تزال إسرائيل تحتل أراضي عربية، في سوريا ولبنان، وتواصل بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وتحاصر قطاع غزة، وتزداد تعنتًا في موقفها الرافض لتسوية عادية. والنفوذ الإيراني يتمدد ويزداد رسوخًا في عدة دول عربية، بل وأصبحت إيران تسيطر بالفعل على “هلال شيعي” يمتد من حدودها الشمالية الشرقية حتى البحر المتوسط. أما تركيا فلها -رغم المأزق الذي تواجهه حاليًّا- تواجد عسكري في سوريا بات أكثر بروزًا بعد عملياتها العسكرية في عفرين وقاعدة عسكرية في قطر.

4. تدهور في العلاقات البينية وفي الأوضاع داخلية معًا: فالحرب التي يقودها “تحالف عربي” في اليمن لا تلوح لها نهاية في الأفق وتنذر بكوارث إنسانية رهيبة، والانقسامات بين دول مجلس التعاون الخليجي تزداد عمقًا وتهدد بانهياره، وليبيا لا تزال أقرب ما تكون إلى “دولة فاشلة” منها إلى دولة على وشك الدخول في مرحلة النقاهة، والإرهاب يضرب بعنف في دول عربية عدة، ومصر تُحكَم بقبضة من حديد لا تلوح معها انفراجة في الأفق، وفي السعودية نظام يهتز بشدة تحت وقع تغييرات كبرى قد لا يستطيع السيطرة على تفاعلاتها المتعاكسة، الأمر الذي يعرضها لمخاطر كبيرة.

في سياق كهذا، تبدو قدرة الدول العربية، منفردة أو مجتمعة، على معالجة تحدياتها الداخلية والخارجية محدودة، خصوصًا في غياب مؤسسات محلية وإقليمية فاعلة. لذا، يبدو مستقبل العالم العربي محكومًا، على المديين القصير والمتوسط، بثلاثة سيناريوهات:

السيناريو الأول: استمرار الأوضاع على ما هي عليه. ويُتوقَّع، وفقًا لهذا السيناريو، أن تستمر قدرات العالم العربي في التآكل التدريجي البطيء، خصوصًا في حال عدم وقوع هزات إقليمية كبرى مفاجئة، وهذا هو السيناريو الأرجح.

السيناريو الثاني: تغير مفاجئ نحو الأسوأ قد يمهد لتفكك العديد من الدول العربية، خاصة إذا اندلعت حرب ضد إيران بمشاركة دول عربية إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو أسوأ السيناريوهات على الإطلاق. واحتمالات وقوعه محدودة لكنها ليست مستبعدة تمامًا.

السيناريو الثالث:
تغير مفاجئ يوقف حالة التدهور، خاصة إذا أدت ردود الأفعال إزاء القرار الأميركي بإعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل إلى صحوة تسهم في احتواء الفتنة الطائفية وتعيد بوصلة الاستراتيجية العربية والإسلامية إلى وجهتها الصحيحة، والتعامل مع إسرائيل كمصدر التهديد الرئيسي للأمة ككل. ورغم أنه السيناريو الأكثر استجابة لطموحات الشعوب، إلا أن تحققه على أرض الواقع يبدو مستبعدًا حتى الآن ولا توجد أية مؤشرات جادة لوضعه ضمن قائمة السيناريوهات المحتملة.

______________________________________________

*د.حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة.

مراجع

(1) نافعة، حسن، “نظام عالمي مرتبك يقوده متعصب أميركي”، الحياة اللندنية، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

(2) نافعة، حسن، “ترامب سيسقط حتمًا” الحياة اللندنية، 1 فبراير/شباط 2017.

(3) نافعة، حسن، “قراءة في مخاطر وتناقضات سياسة ترامب الخارجية”، الحياة اللندنية، 1 مارس/آذار 2017.

(4) Landler, David E. Sanger, Mark; Schmitt, Eric. “Trump Has Busy Day in Vortex of Middle East Relations”. The New York Times. Archived from the original on 7 June 2017 .

(5) “UAE orchestrated hacking of Qatari government sites, sparking regional upheaval, according to U.S. intelligence officials”. The Washington Post. 16 July 2017

(6) “Qatar row: Trump claims credit for isolation”. BBC. 7 June 2017 see also “Trump sides with Saudis, other Arab nations against Qatar”. ABC News.

(7)Gaouette, Nicole; Browne, Ryan. “Trump reverses course in Qatar call”. CNN 8 June 2017

(8)”U.S. military praises Qatar, despite Trump tweet”. Reuters. 6 June 2017

(9) DePetris, Daniel, “American Role in the Qatar Crisis, Defence Priorities”.

(10) صالحة، رائد، “أفكار ترامب لحل الصراع العربي الإسرائيلي تتجاوز حل الدولتين إلى ترحيل الفلسطينيين إلى الدول المجاورة”، القدس العربي، 25 فبراير/شباط 2017.

(11) المركز العربي لدراسة السياسات، “قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل: الدوافع والمعاني والآفاق”، سلسلة تقدير موقف، وحدة تحليل السياسات، ديسمبر/كانون الأول 2017.

(12) Hassan, Mehdi, “Is Trump Going to Lie Our Way Into War With Iran, New York Times, 29 Nov. 2017

(13) Taraby, Jamie, “Decertifying the Iran Deal: A Crisis of Trump’s own making”, CNN, December 6 2017

(14) Nafaa, Hassan:” Globl Powers and the Arab Spring”, paper presented to a workshop on “Arab Spring: Retrospect and Prospect”, organized by Taiwan Journal of Democracy, Tunis, march 7 ،2017.

(15) Mckirdy, Euan, “8 Times Russia Blocked UN Security Council Resolution on Syria’, CNN, April 13, 2017.

(16) Bishara, Azmi, Russian Intervention in Syria: Geostrategy is Paramount, Arab Center for Research and Policy Studies, research paper, Nov. 2015

(17) Mamon, Marcin. “In Turkey, a Chechen Commander Makes Plans for War in Syria”. The Intercept, 3 September 2016

(18)Menon, Rajan: “What’s Russia Doing in Syria and Why”، Huffpost, the WorldPost 190، 2017.

(19) Marcus, Jonathan, “Russia in Syrias ‘victory’ in war, but can Moscow win the peace”, BBC, 27 November, 2017.

(20) نافعة، حسن، “قوة إيران أم ضعف العرب؟”، الحياة اللندنية، 20 يناير/كانون الثاني 2016.

(21) الصمادي، فاطمة، إيران والمقاومة الفلسطينية: معادلة الأيديولوجيا والمصالح، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، دراسات، 17 يناير/كانون الثاني 2017.

(22) ناجي، محمد عباس، إيران والربيع العربي: اعتبارات متداخلة واستحقاقات مؤجلة، مركز الأهرام للدارسات السياسية والاستراتيجية، دراسات، 3 مارس/آذار 2012.

(23) محمد، علي صالح، إيران تبدو مستفيدة من الصراع في اليمن فليس له خسائر عسكرية ومدنية (حوار)، صحيفة المرصد، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2017.

(24) سمير، أيمن، “سيناريوهات مظلمة للبلد الذي كان سعيدًا.. “متاهة” اليمن بعد رحيل رجل المتناقضات”، الأهرام العربي، 6 ديسمبر/كانون الأول 2017.

(25) Al-Maghafi, Nawal, “The Catastrophe of Saudi Arabia’s Trump Backed Intervention in Yemen, The New Yorker, 17 November 2017

(26) Rogin, Josh, “The U.S must prepare for Iran’s next move in Syria, The Washington Post, Global Opinions, 19 November 2017.

(27) Zilber, Neri, “Israel Plays its Trump Card Card”، Foroeign Policy, 20 January 2017

(28) May,Ian …” Inside the Prospective Israel-Saudi Arabia Rapprochement”، The Jerusalem Post, 2 December 2017.

(29) Woodward, Paul, “Netanyahu Challenges Obama on Iran”، The National, April 1, 2009

(30) “Meet the New Friend of Israel: Saoudi Arabia”, The Independen.IN, 20 November 2017.

(31) مركز دراسات الوحدة العربية، العلاقات العربية التركية (حلقة نقاشية: بيروت 29 مارس/آذار 2016)، المستقبل العربي، العدد 447، أبريل/نيسان 2016.

(32) مركز كارنيجي للشرق الأوسط، علاقة تركيا مع عالم عربي متغير (ندوة)، 3 مايو/أيار 2011.

(33) سرحان، همام، “أي مستقبل للعلاقات التركية العربية في عهد أردوجان؟”، SWISSINFOCH , 13 أغسطس/آب 2014.

(34) مركز دراسات الوحدة العربية، العلاقات العربية التركية (ندوة)، مرجع سابق.

(35) الزعتري، أحمد خالد، العلاقات التركية الإسرائيلية 2002-2016، مركز الزيتونة للدارسات والاستشارات، بيروت، 2017.

(36) خليل، محمد عبد القادر، الحسابات التركية حيال الأزمة الخليجية القطرية، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، متابعات تحليلية، 17 يونيو/حزيران 2017.

(37) حول تفاصيل وتطورات الأزمة خلال الأشهر الثلاثة الأولى، راجع:

تقية، الحواس، وعبد المولى، عز الدين (محرران)، حصار قطر: سياقات الأزمة وتداعياتها، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2017.

(38) Wintour, Patrick “Qatar given 10 days to meet 13 sweeping demands by Saudi Arabia”. The Guardian, 23 June 2017

(39) MIDDLE EAST EYE, “ANALYSIS: Yemen, a nation destroyed by ben Salman’s aggression” , 22 June 2017.

(40) MAZZETTI, Mark, and HUBBARD, Ben, “Rise of Saudi Prince Shatters Decades Royal Traditions”، NYT, 15 October 2017

(41) MIDDLE EAST MONITOR, “Israeli Official confirms: Ben Salman visited Israel last month”، 21 October 2017

(42) Lnch, Mark, “What Arabia’s Purge Means for the Middle East”، The Washington Post, 6 November 2017

(43) Dickinston, Elizabett, “Saudi Arabia Is Betting Its Future on a Desert Megacity”، Foeign Affairs, 3 November 2017.
المصدر/ الجزيرة للدراسات

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة