يعتمد ج. م. كوتسي تقنية سردية لافتة في بناء روايته ( يوميات عام سيء/ ترجمة: دكتور أحمد هلال يس.. الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009 ) فيقطع الصفحة عرضياً، في البدء، بخط مستقيم واحد، ليُحشِّد في القسم الأعلى، وحتى الصفحة 316 خمساً وخمسين مقالة تتراوح موضوعاتها بين السياسة والأدب والفن وقضايا المجتمع. وهي عموماً ذات نبرة تهكمية ناقدة. وسنعرف بأن هذه المقالات يكتبها روائي مسن بتكليف من مؤسسة فكرية ألمانية لتكون شهادة كاتب محترف ومشهور، ووجهة نظره، حول أبرز مشكلات العصر. وفي القسم الأسفل يحكي الروائي ذاك عن كيفية لقائه بامرأة شابة وجميلة تدعى آنيا يعجب بها ويعرض عليها العمل عنده بوظيفة طبّاعة لاستنساخ مقالاته على آلة كاتبة، فتنشأ بينهما علاقة أقل ما يُقال عنها أنها ملتبسة ولا تخلو من ودّ متبادل وأخيلة جنسية. ويستمر سرد الراوي والذي يُشار إليه باسم السنيور ( ك ) حتى الصفحة 61 من الرواية ( بطبعتها العربية ).
في الصفحة 59 يفاجئنا الكاتب بخط مستقيم عرضي ثانٍ فنكون مع خط سردي مضاف حيث يشرع الراوي نفسه ( السنيور ك ) باستئناف قصته مع آنيا وإنارة زاوية أخرى منها وهذه المرة بمزاج يبدو مختلفاً فالعلاقة الآن تدخل مرحلة جديدة وإن بقيت في حدود الهواجس والتخيلات والثرثرة، فهي لن تصل إلى درجة العشق وممارسة الحب. وبإقحام تفاصيل متشعبة ستنتقل حالة التوتر التي تنتابهما إلى لغة السرد ونسيجه. فيما تأخذ آنيا دور راوٍ ثانٍ بدءاً من الصفحة 62 وحتى الصفحة 398 ( الأخيرة ). وهكذا نكون إزاء ثلاثة خطوط سردية ( أو أربعة إذا ما شطرنا سرد السيد ك إلى خطين سرديين بحسب تقسيم الروائي نفسه ). وتغدو المقالات التي تحتل الجزء الأعلى من كل صفحة جزءاً من المتن الحكائي للرواية وتدور عنها نقاشات مختلفة تفضي إلى خلافات ومشادات، لاسيما بين آنيا وعشيقها الغيور آلن.
يلتقي السنيور ك امرأته الجميلة للمرة الأولى في حجرة الغسيل في العمارة التي يسكنها فتتولاه مشاعر مختلطة تتراوح بين الإعجاب والشهوة والحسرة والشجن والإحباط والعبث ذلك أنه في أرذل العمر، ولا يستطيع أن ينال هذه الأنثى الشابة الرائقة، الموّارة بطاقة الحياة.. بيد أنها كانت تحدس ما يدور في رأس الشيخ المتهدم الذي يتلصص على قوامها الفتي فتعمد إلى السير أمامه متثنية الأعطاف، عارضة أمام عينيه الكليلتين مفاتنها لتشوش حواسه وتهيّج رغباته المكبوتة والدفينة. يغريها بأجر جيد قتقبل أن تكون ناسخة كتابه، لكنها تُصاب بخيبة أمل حين تعرف أن مادة الكتاب الرئيسة هي السياسة. فهي تكره السياسة وتضجر من الحديث الدائر بصددها. تقول: “إنني لا أني عن محاولة إثنائه عن مواصلة الكتابة في مجال السياسة، فقد ملّ الناس السياسة حتى طفحوا بالملل”. أما مقالاته فتتناول في جزئها الأول مسائل سياسية معاصرة شتى منها نشأة الدولة، والديمقراطية والإرهاب، ومنظمة القاعدة، وخليج جوانتانامو، واليمين واليسار، ليعرِّج على قضايا اجتماعية وأدبية وفنية وعلمية وطبيعية منقوعة هي الأخرى في دورق السياسة، منها؛ الجسم البشري وذبح الحيوانات وإنفلونزا الطيور ونظرية الاحتمالات والموسيقى. فيما الجزء الثاني الذي يطلق عليه تسمية اليوميات فيتحدث فيها عن أحلامه وأبيه وخطابات المعجبين والقبلة والأعمال الكلاسيكية وديستويفسكي، وغيرها.. وكقارئ لا أشاطر آنيا رأيها بأن المقالات ثقيلة ومملة. صحيح أن بعضها يحمل روحاً سوداوية لكن طابعها الساخر وما تتضمن من أفكار وتلميحات دقيقة وذكية بشأن ما تعالجها تجعل منها مقالات رصينة تظهر وكأنها كُتبت لتُنشر في صحيفة محترمة، ولا تعدم عنصر المتعة. ومثالاً ترد الملاحظة التالية في مقال ( نشأة الدولة ): “إن الدولة في الحقيقة لا تهتم أعاش أحد رعاياها أو مات، ما يهمها في الحقيقة هو صحة ما ترويه عنه السجلات”. وفي حديثه عن توني بلير يقول: “إن البشر الذين يجفلون من فكرة التخلي عن المبادئ الأخلاقية لا يصلحون لتعاطي السياسة”. وغالباً ما تكون تجاربه حاضرة في متن مقالاته، لاسيما تلك المدوّنة في قسم اليوميات. يقول عن نفسه: “أنا فوضوي عدمي لأن التجارب علّمتني أن ما يعيب السياسة هو الغرام بالسلطة في حدّ ذاتها، أما خمول الرأي وكساد العقل فيرجعان إلى ما يساورني من شكوك حيال طبيعة الإرادة التي تحفِّز المرء لتغيير العالم فهي إرادة تؤججها الرغبة في السلطة والسيادة”. ونراه غير متفائل بالمرة فيما يتعلق بالوضع البشري وإمكانية تغييره نحو الأفضل.
* * *
بين أعطاف السيد ك، وفي فج عميق من روحه تضطرم رغبات حسّية عارمة، تشوِّش ذهنه، وتلقي بظلالها الكثيفة على سلوكه.. رغبات مبهمة لا تفصح عن طبيعتها بيسر.. إن جسده الشائخ والعاجز، هو المُصاب بالشلل الرعاشي، يُحيل تلك الرغبات إلى محض أخيلة مقموعة، ودفقات نشوة ضعيفة يائسة لذا لا يود الانقياد لها. أو هو لا يستطيع. لكنه يعاني من أجل ترويضها والتكيف معها. إنها تؤلمه، هو الواقف على شرفة العدم.. يحاول أن يواريها، وأن يكبح حالة انبعاث شراراتها عبر كلماته التي ينطق بها، أو عبر نظراته التي تفضحه، فهل يستطيع؟. آنيا امرأة فائرة ألأنوثة، ذكية، وربما تكون بحاجة إلى إشباع غرورها. بحاجة إلى أن تكون مقصد اهتمام كاتب مشهور مثل السنيور ك، حتى وإنْ كان على وشك الرحيل من عالمنا. وهي صريحة، صراحتها وقحة وجارحة.. تقول له؛ “إنني لا أعتب عليك إذعان عينيك في مطاوعة متزايدة لرغباتك الجامحة فجعلت تمدّ بصرك إليّ بنهم فيتلكأ ناظرك عند كل ثنية من ثنيات جسمي اللدن”. كانت تعتقد أنها قادرة على قراءة أعماقه كصفحة من كتاب، في حين تبقى هي عصية عليه، يجهل “ما يدور برأسها من أفكار، وما يعتلج في صدرها من مشاعر وأحاسيس”.
لم يتعد السنيور ك حدود الأدب واللياقة مع امرأته التي ظهرت في حياته في الزمن غير المناسب. لم يفكر باغتصابها، أو إغوائها بهمسات الغزل البذيء والفاحش، وامرأته تعرف هذا: “فحياؤك وأدبك يمنعانك من التفوه بألفاظ الفحش والدعارة فأنت مقلوم الظفر عن أذى الآخرين، تجفل من تخطي الأعراف والتقاليد المرعية”. غير أنها تتمادى، بقسوة، في نزع القناع عن أعماقه التي تضطرب فيها خلجات ونوازع ورغبات تصفها بالمخزية والقذرة.. “إحساس مبهم بذنب يعتمل في ضميرك حتى لصق به كرائحة طعام في إناء لم يُحسن غسله، لا تعرف كيف تتخلص من هذه الرائحة العطنة التي تستثير ذكريات مثقلة بالخزي والعار”. وحين يحاول هو الآخر أن يرفع البرقع عن دخيلتها ويكشف ما تخبئ هناك من أسرار مخزية تغضب صارخة بوجهه: “ماذا تعرف عن مشاعر النساء وأحاسيسهن”.. إنها لعبة القط والفأر حيث يتبادل الاثنان الأدوار. ويصفّي كل منهما حسابه مع ذاته وماضيه وواقعه. وستتخلى هي عن عشيقها آلن على إثر جلسة يجتمع فيها الثلاثة ليحتفلوا بمناسبة الانتهاء من تأليف الكتاب. حيث يسكر آلن ويبين عن غيرته وحقده على الكاتب العجوز، بعدما فكّر بالتحايل عليه وسلب أمواله، باستخدام تقنيات الحاسوب والانترنت، لتدوير تلك الأموال واستثمارها في عمليات مضاربة، لأنه ( الكاتب ) قاب قوسين أو أدنى من الموت. وقد أوصى أن تؤول أمواله الطائلة إلى مؤسسة خيرية مغمورة، كانت تعمل فيها أخته المتوفاة، تُعنى بالمعالجة النفسية للحيوانات. فآلن يعتقد أنهما، هو وآنيا، أولى بالاستفادة من هذا المال من تلك الحيوانات. وهكذا يتكشّف العشيق للمعشوقة عن كائن آخر؛ “نفعي ماكر ومشعوذ ودجّال بارع”. فتحذِّره من تنفيذ خطته وإلاّ ستنهي علاقتها به. وسنرى كيف أنها ستنهي تلك العلاقة على الرغم من أن آلن سيصرف النظر، أخيراً، عن خطته.
آلن سيء الظن بالكاتب ك، ويعتقد أنه يسعى لنيل وطره من آنيا. فالسنيور “رغم شيخوخته الذي استحال معها هيكلاً عظمياً مكسواً بجلد ذابل تطل نظرة الموت من محجريه، لا يزال له غرام في الباه، لذته فرجه، لا يعدل بالهوى ومعاشقة النساء شيئاً”. وسيستغل آلن، الذي يفتقر إلى التهذيب، دعوته إلى تلك الحفلة المتواضعة ليضع حدّاً للسنيور ك. فيفرط في إهانته وجرح مشاعره، وتسخيف آرائه الواردة في مقالاته والتي قرأها آلن في غفلة من آنيا. فيخاطبه واصفاً إياه بـ “مكّار داهية تروغ روغان الثعلب حتى تستمكن من مرادك… إنني مثلك مكّار داهية ولكني لا أتلثم بقناع زائف من الطيبة والوداعة”. وأعتقد أن آلن كان هو الآخر يقوم بتصفية حساب مع ذاته وماضيه وواقعه. وفي النهاية ستتبدل المصائر، وسيمضي كل منهم في سبيل مختلف، بعد أن تسمح آنيا للسنيور، للمرة الأولى والأخيرة، بضمِّها إلى صدره.
لا شك في أن الدكتور أحمد هلال يس بذل جهداً مضنياً في ترجمته الرصينة لرواية ج. م. كوتسي ( يوميات عام سيء )، مستخدماً مفردات وصياغات تُذكِّر بلغة وأساليب كتّاب النصف الأول من القرن العشرين مثل طه حسين والعقّاد والمازني. وهي، كما أرى، لغة وأساليب مفعمة بالطراوة والعذوبة والقوة.