23 نوفمبر، 2024 12:06 ص
Search
Close this search box.

لا اقتسام لسلطة العراق بعد الآن

لا اقتسام لسلطة العراق بعد الآن

حاولت أحزاب الإسلام السياسي في العراق ترويج خدعة سياسية عبر أربعة عشر عاما من حكمها مفادها أن السلطة مشتركة بين المكونات الثلاثة شيعية وكردية وسنية، وأن هناك تقاسما طائفيا وعرقيا يتم بصورة دورية كل أربع سنوات، وكل الذين هم خارج هذه القسمة لا مكان لهم بالعملية السياسية، والمعنيون بذلك هم الداعون إلى بناء عراق ديمقراطي جديد يعزز الهوية الوطنية العراقية ويفي بمتطلبات المواطنين، لكن هذه البدعة التمويهية قد تبددت هذه الأيام، بعد سقوط العقد الكردي الشيعي على منصة استفتاء الأكراد عام 2017 وقبلها سقوط ما سمي بالتقارب السني الشيعي على منصات الاعتصام في الأنبار 2013 وإلباس العرب السنة ثوب الإرهاب وإنتاج داعش رغم ما يقال اليوم إن داعش صناعة أميركية، في حين أن أبناء العرب السنة في الأنبار كانوا أول كتائب المقاومة المسلحة ضد الأميركان والقاعدة ثم داعش.

جميع ما يظهر حاليا من ترويج لقوائم وتحالفات انتخابية وخطاب يبتعد عن المواجهة الحقيقية أمام الجمهور، إنما ذلك تعبير عن تجديد لسلطة الإسلام الشيعي الذي فشل فشلا ذريعا أمام متطلبات وحاجات الناس سواء من داخل الطائفة التي يدعون تمثيلها، أو لباقي مكونات الشعب العراقي.

ومنذ عام 2010 حيث التجديد لولاية نوري المالكي الثانية بعد إسقاط فرصة إياد علاوي برئاسة الحكومة الذي كان يحمل، ومن معه مشروعا لا طائفيا جادا، أخذت بوادر الاستفراد بالسلطة تتزايد عبر تهميش شركاء الأحزاب والكتل السنية، وإرغامها على تبعية مهينة قبلتها بعض الزعامات السنية لتحقيق منافعها الشخصية.

ولو كان هؤلاء يعبرون حقيقة عن تطلعات أبناء ملتهم لرفضوا السلطة بشجاعة وانضموا إلى كتلة وطنية لا طائفية معارضة داخل البرلمان كان يمكن أن تحدث صدى سياسيا، وأن تعبر عن نبض الشارع العراقي لكن ذلك لم يحدث ولم يتوقع أحد أن يحدث بعد موجات التخريب المبدئي والأخلاقي التي تم ترويض أغلب السياسيين التقليديين والناشئين بها، فتخربت النفوس بالمال المسروق من أفواه الأطفال والجياع العراقيين، كما تمكن أولياء السلطة من توفير وحفظ وثائق ومستمسكات لي الأذرع، الإرهاب والفساد، ضد من يرفع رأسه بوجه زعامة الأحزاب الشيعية لمواجهتهم عند الحاجة.

ولم يكن غريبا على سبيل المثال تبرئة عضو البرلمان سليم الجبوري من تهم الإرهاب الموجهة ضده ثم تنصيبه رئيسا للبرلمان تمثيلا للعرب السنة عام 2014، لكي يطيع ما يؤمر به، ولا مانع من أن يطلق لسانه بين أوساطه ليتمثل أمامهم كقائد كبير رغم أنه لم يتمكن من الاقتراب من مدينته المقدادية، خلال أعوام ولايته حين واجهت تلك المدينة وغيرها في محافظته ديالى انتهاكات حقوق الإنسان المعروفة.

الزعامات العربية السنية واقعة تحت السيف الشيعي، في كل يوم تواجه اتهامات بدعم الإرهاب وصناعة داعش والارتباط بالمحيط العربي السعودي والخليجي، أو دعم البعثيين، في حين يتندر زعماء الأحزاب الشيعية الكبيرة في ما بينهم حول نجاح اللعبة، وتبتهج إيران من خلف الحدود بأنها استطاعت ضم الجميع (شيعة وسنة عرب وتركمان وجزء من الأكراد) وأنها تلعب بالجميع وخصوصا الكثير من الزعامات السنية.

ولهذا فإن ما عُرف بالشراكة السياسية هو وَهْمٌ تم تسويقه بعناية ابتلعته الزعامات السنية ذاتها. الشراكة الحقيقية والقسمة الباطلة كانت بين الشيعة والأكراد، حين كانت قيادة مسعود البارزاني تمرر ما تريده من قرارات سياسية تهم كل العراق، بل إنه كان له الدور الحاسم في صناعة رئيس الوزراء ونوري المالكي شاهد على ذلك عام 2010، ثم حيدر العبادي عام 2014 في حين لم تتمكن القيادات الشيعية من إيقاف طموح البارزاني بعد حصوله على النفط والمال والسلطة المطلقة، وأخيرا طموحه بالاستقلال عن العراق.

كثيرون حاولوا معرفة ما ستواجهه الأحزاب الكبيرة من استحقاقات أمام جمهور العراقيين لما بعد داعش، وكثرت التحليلات عما ستحدثه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من مسار جديد للوضع العراقي بعد انكشاف وظيفة الجهات المتطرفة من الإسلام السياسي، الشيعي والسني، في زعزعة الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة، إضافة إلى الفشل الفاضح للسياسات الطائفية، والحاجة الملحة إلى نهضة وطنية عراقية تزيح كابوس الطائفية المرير، وتضع البلد أمام مقدمات التغيير الحقيقي لدولة مدنية حقيقية أساسها المواطنة وحقوق الإنسان وتعزيز الهوية الوطنية.

لكن الأحزاب الكبيرة التي لم تستسلم لواقع الفشل الذي اقترفته بحق العراقيين أخذت تشتغل على لعبة الاستفراد الناعم بالسلطة، عبر توظيف ذات الشعارات الوطنية العابرة للطائفية، فأخذت تظهر عناوين لقوائم انتخابية مرّة باسم “الأغلبية السياسية”، ومرة أخرى تحت عنوان “النصر على داعش”، وأخرى تحت عنوان “الجبهة الوطنية” وتعود ملكيتها لذات الأحزاب الطائفية التي فتحت معركتها بالاستفراد المقبل في اتجاهين الأول ضد الأكراد والثاني ضد العرب السنة.

مع العرب السنة لم تتبدل برامج الإذلال الطائفي تحت عنوان داعش عبر الاعتقالات العشوائية وخطف وتغييب المئات من شباب أهل المحافظات المحررة، وتمرير خطاب إعلامي متواضع يستعيد حوادث سياسية واجتماعية للتأجيج الطائفي مثل “منصات الاعتصام” التي قيل إن تنظيم داعش ولد من داخلها، في حين يقول حيدر العبادي إن داعش جاءنا من سوريا، ووزير العدل العراقي السابق يقول إنه تم هروب المئات من السجناء الداعشيين عام 2014 بمؤامرة وترتيب أمني مدبّر من سجني أبوغريب والتاجي، أو تلك التصريحات المتطرفة التي تخاطب أهل الموصل قبل تحرير مدينتهم بأن الزعامات الشيعية جاءت لتقتص من أتباع يزيد على يد أتباع الحسين.

خلاصة البرنامج هي إزاحة الزعامات العربية السنية الحالية ومنعها من أخذ دورها بالمنافسة داخل تلك المحافظات بعد إحلال الكثير من البدائل الذين انضموا ووالوا رغبات قادة الحشد الشعبي خلال الشهور الأخيرة، وهذا ما يفسّر موجة المطالبات بتأجيل الانتخابات شعورا بأنها وسيلة لتأجيل الضربة القاسية ضد تلك الزعامات البائسة التي لم ترتصف في مواقع الدفاع الحقيقي عن أهلها، وإنما كانت تتشبث بالكراسي الذهبية المطرزة بآلام الملايين من العرب السنة.

كما تحاول الأحزاب الشيعية الكبيرة عدم الوقوف بوجه بروز بعض الأسماء العربية السنية الجديدة في الموسم الانتخابي الحالي التي لن تقف عقبة بوجه الاستفراد في قيادة الحكم تحت شعار فني “محاربو داعش”، رغم التلويح بأن هذا السياسي أو ذاك إذا ما حاول التجرؤ على تقديم خطاب وطني لا طائفي فإنه سيقع تحت طائلة تهمة “دعم الإرهاب”.

أما مع الأكراد فإن الأمور أكثر تعقيدا، فالأحزاب الشيعية بعد انفراط ذلك العقد المصلحي الطائفي غير قادرة على الإفصاح عن تحالفات مع هذا الطرف أو ذاك في ظل استحقاقات على مستوى توزيع الثروة والسلطة بإدارة مركزية من بغداد، وهناك متطلبات قاسية في كركوك لم تقدم أحزاب الحكم حلا جذريا لحالتها المقررة بالدستور وهي “المناطق المتنازع عليها”.

لقد ولى زمن الرخاء الكردي، وحل محله الإذعان للحكم الشيعي، كما انتهى زمن “الشراكة السياسية” مع الأكراد والعرب السنة، وتحل الآن “دكتاتورية” الكتلة الشيعية حتى وإن حصل صراع مؤقت بين من يدعون الوسطية والنعومة في خطابهم، وبين أصحاب الخطاب الطائفي المتشدد الموالي لطهران، لكن تلك الخطط والمناورات حتى وإن نجحت في الاستفراد بالحكم مثلما كانت خلال أربعة عشر عاما، إلا أنها ستتسبب في تلاشي آمال الناس بالاستقرار والطمأنينة وتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات