23 ديسمبر، 2024 7:49 م

لاحت أطلال البنايات المهدمة اثر المعارك الشرسة التي نهشت جسد المدينة المنهك في الأفق الأحمر البعيد الذي يرتسم على مد البصر..
ليست المرة الاولى التي يصعد فيها الى سطح الطابق العلوي في منزله منذ العودة ..تلك العودة التي كانت منقوصة من فرحتها بعد سنوات التجوال القسري في البيوت الغريبة التي نسي عددها منذ تلك الظهيرة المشؤومة التي غادر فيها منزله مكرها تحت وابل القصف المتقطع أيام المعارك بين الجيش والمسلحين الذي لايعرف أماكن تواجدهم أصلا,وذابت الحدود الفاصلة بين خطوط المتقاتلين مثلما ذابت الحدود بين العدل والظلم في الوطن المكلوم منذ أن احتلته أمريكا..عاد للبيت بلا أخويه الذين فقدهما في سنوات الحرب..اعتقل أخوه الأصغر على يد جهة غير معلومة قبل سنوات ثلاث..ومات الثاني حسرة في إحدى سنوات الغربة الإجبارية..في وطن هو الوطن الوحيد على الأرض الذي اعتاد أن يأخذ ولا يعطي..
أدار رأسه في نصف دائرة يتفحص الأفق المضطرب في التفاصيل باحثا عن بعض الملامح التي كان يتذكرها قبل النزوح ..
هامات المآذن التي كان يعرف عددها في الإحياء المجاورة لحيه..والتي يصل إليها البصر ,,أعمدة المحولات الكهربائية العملاقة التي كبر تحت بعضها طفلا يلعب تحت عواميد قواعدها الضخمة تلك التي كان يتصور شكلها امرأة ترتدي ثوبا فضفاضا عند نهايته ..كذا تصورها وهو يتأمل أشكالها ,ربما بسبب تعلقه بالأشكال وميله لتفسير الرموز في بيئته بما يعرف ويستوعب خياله الجامح ..كان كذلك مع الغيوم التي يحاول تأويل أشكال تداخلها وتقطعها ومع أسراب العصافير والطيور وقطعان الماشية التي كان يعبر بها الرعاة المناطق بين حين وآخر..تأكل كل ما تقع عليه أعينها..
منظر الأفق كان خلفية للخراب الذي حل بكل شيء فبعد أن كان لكل درجة في زوايا استدارته قصة أصبح يمتلك قصة واحدة لكل الزوايا ..الخراب وحسب..ذلك الذي يختزن تحت مسماه خرابات أعمق ,يحاكي كل منها انكسارات الذات في مجتمع هشمته الحروب..
هنا في هذا الجزء الحميمي من الأفق تقع المدرسة التي كانت تداوم فيها المرأة التي أحبها..قبل أن تختفي ذات أمسية ويغيب صوتها في آخر اتصال هاتفي بينهما أخبرته فيها أنها ستنتقل إلى محافظة أخرى للاقتران بابن عمها وفقا لحكم العائلة..لطالما ارتبط بالأماكن وهذا المكان ظل عالما مغلقا عنده..لم يمر أمام المدرسة أبدا ولم يرها منذ ست عشرة وجيعة مضت من عمره,هي الفترة التي انقضت بعد تلك المكالمة..
هنا يقع بيت الأقارب الذين لايعرف صلة قربته بهم على وجه التحديد,البيت الذي دخله مرة يتيمة فحسب مع أمه على اثر تلك الحادثة التي توفي فيها رب البيت وكانت وفاته يومها حدثا مدويا يوم كان الموت يمثل فاجعة حقيقية على عكس ما تحول إليه اليوم ليصبح حدثا يوميا عابرا مألوفا,إلى درجة تحولت فيها المدينة إلى مجموعة مقابر متناثرة هنا وهناك واحتل الموتى الحدائق العامة بسبب المعارك والمناوشات التي أصبحت واقعا يوميا تعايش معه الناس اثر ظهور كل تنظيم مسلح يقارع الدولة والأمريكان..
عاد إلى لحظته الآنية يرقب تفاصيل افقه المدمر..لا يكاد يرى بيتا لم يسلم من الدمار بدرجات متفاوتة تتراوح بين التحول إلى كومة أحجار مهشمة والتشوه البشع الذي جعل الواجهات تشبه وجها مصابا بالجدري والبثور البشعة التي أصبحت صورا مألوفة في كل بيت ..
حتى أسراب الحمام والطيور التي كانت تملأ صفحات السماء متراقصة هنا وهناك يرافقها صفير(المطيرجية) المسموع اختفت…لم تعد العصافير نفسها بل بدا أن أنواعا من الطيور الغريبة التي كانت لا ترى إلا نادرا صارت مألوفة الظهور على الأسلاك والأعمدة الكهربائية القديمة ..ربما ملت هي الأخرى الاحتجاب وشاركت المصائب ظهورها العلني..
وضع يده على الحافة الإسمنتية المتربة يتأمل احد البيوت متنهدا بحسرة :
آه يا أخي..
كان احمد الذي غيبته فجيعة الاعتقال والإخفاء القسري حاضرا في كل الهواجس..كان قد اعتادا أن يتشاركان متعة النظر إلى التفاصيل في الأفق قبل أن تمتد إليه اليد الوسخة التي اعتادت أن تترك الجناة وتقتاد الأبرياء الذي تجدهم في طرق الهرب مع عوائلهم اثر كل هزيمة يتعرض لها الجيش..
ويتحول كل من في المدن المغلوبة على أمرها إلى أعداء وخونه ومارقين..اطل في رأسه ذلك السؤال الذي يعرف إجابته لأنه سأله لنفسه عشرات المرات..كم مضى على غيابه؟؟لازال يذكر يوم 7/2 كآخر ما بقي في الرأس من تواريخ يوم جدد اشتراك النت بلا فائدة ..وحيث لا تغطية بسبب تساقط أبراج الاتصالات ..مع أن هناك أياما يذكرها بعد هذا التاريخ ومنه ذلك اليوم الذي انفجر فيه الانتحاري أمام باب البيت وكان واقفا لحظتها يكلم احمد على الدرج العلوي للطابق الذي يتقاسمان السكن فيه في غرفتين متقابلتين..يوم اعتز البيت وانتهى الأمر بهما يجمعان الأشلاء في سطح البيت ..بين المرارة والضحك ..كانا يفترضان أن هذه قطعة من كذا وكذا من جسد الغريب..ستكون عشاءا مناسبا لبيت لم يذق أهله اللحم منذ بدأت المعارك تشتد وتعذر الخروج من البيت..عشاء أمسية ملئى بالخوف والترقب والغضب..
غريب كأنه عن هذا المشهد ويبدو هو غريبا عنه..تغيرت الصور والأشياء وحتى الأفق لم يعد هو الأفق ..
قطع صوت طفله صمت دقائق التأمل المذهول بما حوله..
أبي..أريد أن أشاهد…احملني لأرى الشارع..
تقاطع شغف الطفل ويديه المرفوعتين إلى قامته التي تفوق طاقة رقبة الطفل على الامتداد..رفع رأسه بابتسامة ملؤها فرح مجروح ..ابنه الذي كبر مع الوجع وظلت روحه الصغيرة تتبع خطواته أينما ذهبت ..يرفعه فيغمر ضوء الشمس الخافت ملامح وجهه التي تطل من سياج السطح..يصرخ الطفل مستغربا..
– إنها كبيرة..أخاف منها!!!
كأنما أدرك بفطرته اتساع مساحات الخراب التي تحيط بكل شيء ..
فكر في سره بأنه لم يكن هناك شيء يستحق أن تبدد طمأنينة النفس لأجله..والعالم حوله لايسمع لا يرى لا يتكلم..كأنما تواطأ على قتل الأرواح بالصمت المخيف إزاء الحياة وهي تسلب كل الأشياء الجميلة ..
أعاد نظره إلى الأفق وهم بدس انفه بين خصلات شعر ابنه الذهبية الناعمة ..أغمض عينيه ليعيش اللحظة..لحظة الحياة..وينسى مشهد الأفق الذي غطته أطلال البنايات المهدمة..بدا أنها إحدى لحظات الحياة النادرة في المدينة المحتضرة..مدينة الموتى..