23 ديسمبر، 2024 6:04 م

من أسباب الرطانة التي تكاد تكون موضع اتفاق عند معظم المهتمين بشؤون الكتابة… هو عدم وضوح الفكرة التي يتم تداولها، لدى الكاتب.

الرطانة لغة، الكلام بالأعجمية، والرطانة أيضا، هي الكلام غير المفهوم، وكل كلام غير مفهوم، هو رطانة، أما ما جاء بها في ما أكتبه اليوم، فقد كنت في حوار مع صديق أكاديمي لامع ومجتهد، فقال لي: أطَّلِع بين الحين والحين على كتابات في هذه الصحيفة أو تلك، فلا أفهمها، وأعيد قراءتها فأفشل في فك طلاسمها. وقال “لقد قرأت الجاحظ وأنا دون العشرين، ففهمت بعض ما كان يقول، وفي تلك السن، قرأت طه حسين والعقاد وأحمد أمين، فتعلمت من تلك القراءات ما لم أعلم، وفي العام الجامعي الأول، استطعت أن أتواصل مع مقولات الفلاسفة الإغريق، ومازلت أحفظ أشياء من تلك المقولات”.

وأكمل حديثه قائلا “ثم مضت بي رحلة العمر، في قراءتين، ذاتية وأكاديمية، وخلالهما قرأت كبار الكتاب والأدباء والمفكرين، من قدامى ومعاصرين، وعرب وأجانب، وحاضرت في جامعات وشاركت في مؤتمرات وحاورت في منتديات، فكنت أقول ما يفهم وأفهم ما يقال، فلماذا تنغلق عليَّ كتابات أصحابك الحداثيين؟”، فقلت له “قل بعضهم ولا تقل كلهم”.

قال “وليكن”.

وإذ كنت، أحدث صديقي الروائي أحمد المديني، عما دار بيني وبين صاحبي الأكاديمي، ونحن، المديني وأنا، على تواصل يومي، عبر المتاح من وسائل الاتصال، وهو تواصل لا يخلو من حصة للنميمة فيه. قال المديني: منذ سنوات، ونحن نتحدث عن هذه الظاهرة، فقل لصاحبك: إنني أقرأ ما كتبه ويكتبه كبار المفكرين الفرنسيين، بلغتهم، فأفهمهم وأترجم حتى المعقد من نصوصهم، فلا أعاني من عدم الفهم في القراءة والترجمة، بما فيها نصوص كتّاب تتسم أساليبهم بشيء من الغموض ومثله من التعقيد. إنها الرطانة، وليس سواها، وراء عدم الفهم الذي يعانيه صاحبك الأكاديمي، في نصوص يطَّلع عليها.

وهذا الحوار، ذكَّرني بما قاله معلمي العظيم الجاحظ “والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والحضري والبدوي، والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير”، وما يصح على الشعر، يصح على جميع أجناس الكتابة، فليس المعنى هو المكون الأساس في كل أجناس الكتابة وفضاءات الفكر، وإنما كيف يُعبَّر عن المعنى، بشرطين أساسيين هما، أدوات هذه الكتابة ونضج هذه الأدوات، والوعي بالمعنى، ومن دونهما تكون المعاني سطحية، لا تثير الدهشة ولا تستدعي أسئلة ولا توسِّعُ أفقا ولا تحرك مخيلة.

وإذا لم نتجاوز عامل التنطع عند كثيرين، ممن يفتتنون بالرطانة ويعدونها مزية إيجابية من مزايا كتاباتهم ومما يلفت إليهم الأنظار، فإن من أسباب الرطانة التي تكاد تكون موضع اتفاق عند معظم المهتمين بشؤون الكتابة، حيث الانغلاق وعدم الوضوح وغياب القدرة على التواصل، هو عدم وضوح الفكرة التي يتم تداولها، لدى الكاتب، لذا يأتي تناوله لهذه الفكرة غير الواضحة عنده، غير واضح أيضا، فيضيع التلقي بين عدم وضوحين، عدم وضوح الفكرة وعدم وضوح تناولها، والسبب الثاني، ضعف أدوات الكاتب على صعيد الكتابة، فقد تكون الفكرة واضحة عنده بهذا القدر أو ذاك، غير أن ما يتوفر عليه من أدوات الكتابة، معجما وبُنى، ومعهما الوعي بهذه الأدوات، لا يؤهله إلى كتابة قادرة على الإفصاح وقادرة على التواصل، فتضيع الفكرة وتنغلق على المتلقي، فلا يكون النص الذي يكتب إلا عجمة ورطانة.

نقلا عن العرب