منذ اول معزوفة غادر فيها بلده، وضع نصير شمه المعزوفة في خانة السياسة “هيروشيما” في اليابان. من “ملجأ العامرية” وحتى “بابا عمرو”، مرورا بمحمد الدرة وغزة وحتى الزلزال في احدى مدن المغرب وغيرها ، فما مبتغى شمه من هذه العناوين السياسية في حين ان الموسيقى اكثر الفنون تجريديةً، ليس فيها احالة واضحة الى شيء ما، مثل الفنون التشكيلية مثلا؟
اظن ان الاجابة تكمن في احد تصريحاته “لا يمكن للفنان أن يبقى في مكان قصي عن مآسي الناس”. لكن هدف شمه كما هو واضح هو ان يسحب الجمهور الى الموسيقى، “يخدم” الاخيرة وهو “يستخدم” ادوات من خارجها احيانا. ينحو شمه عادة الى ان يسبق كل معزوفة بمقدمة كلامية يوضح فيها مناسبتها، ويشفعها بتعليقات تجتذب ليس اذن المتلقي وانما عينه وعقله، وهو الامر ربما الذي عد اشكاليا في شخصية نصير شمه، فهو وعلى عكس مجايليه ونظرائه يقدم اراء سياسية في امسياته وهو الاكثر حضورا في مناظرات تلفزيونية ولقاءات صحفية.
استمال منير بشير الاذن الغربية الى العود العربي، وقرب عالم الغرب الى موسيقى الشرق، في حين استمال نصير شمه الاذن العربية الى الموسيقى الرفيعة، وجعلها في متناول الاستذواق الشعبي، يفكر شمه كثيرا في جمهوره وينصرف اليه كي لا ينصرف الاخير عن الموسيقى. يعلم شمه ان الاستعراض جزء اساس من طريقة سحب الجمهور الى ساحة العزف الذي لا يقترن بالغناء، وهو امر ليس بالمتيسر في ثقافة تسيطر فيها الكلمة (الشعر) واللحن المرافق له (العناء)، ومن هنا يدخل الى السياسة وتدخل الاخيرة في موسيقاه.
هو مغامر وقال في مهرجان جرش في عام 1988″أنا بطبعي جريء فمكن أن أغامر بأشياء لم أكن افعلها في البروفات فتراني افعلها على المسرح وأمام الجمهور, فجلست وقلت لنفسي سأنسى كل شيء سواءً أعجبهم ام لم يعجبهم – ساقدم الذي تعلمته والذي أنا مؤمن به “. بعد سنوات طوال خاطب الشباب العازفين “لو عندك حلم دافع عنه، وصر عليه، وأسعى لتحقيقه”.
عزف نصير في الامسيات وامام الجمهور، عزفه امام عينيك واذنيك قد يبدو اشد اثرا من الاستماع اليه في ظل غياب صورته، اي عبر السيدي او الكاسيت سابقا، فهو وكما ذكر سابقا يرتجل ويغامر باشياء”لم يفعلها في البروفات”. وهو هنا انه يشبه الى حد ما الشاعر المنبري المؤثر، الذي يخلب لب الناس بصوته وطريقة تماهيه مع متطلبات جمهوره، قد يرى البعض ان المنبري يضيف الى منجزه بطريقة تقديمه له. وليس في ذلك مثلبة مادام يحقق الغرض: اجتذاب الجمهور الى ساحة الفن الرفيع.
اظن ان ذلك ما نجح فيه اكثر من غيره، فقد ظل اقرانه ضمن دائرة جمهور النخبة الضيق، مثل الموسيقارين خالد محمد علي وسالم عبد الكريم، فيما ذهب مجايله سامي نسيم الى عزف الفرقة وليس العازف المنفرد عبر فرقته (فرقة منير بشير)، لكن شمه، اضافة الى رفعة موسيقاه، فانه جعلها متاحة للاستذواق الجماهيري بحكم نجوميته.
لا يتردد شمه في تلوين مائدته التي يقدمها لجمهوره، وعادة ما تنطوي على جزء من الاغاني العربية المعروفة، وها هنا هو يعود الى الغناء الذي سلف ان ذكرنا انه يشكل الاسم الاخر للموسيقى في اذهان الناس، لكنه هنا مترجم موسيقي بلا صوت.
اظن ان شمه يدرك ان الاذن حاسة تنتمي الى الماضي. بمعنى انه ليس من اليسير عليها تلقي شي جديد كل الجدة، وعادة ما تتآلف مع ما سبق لها سماعه اكثر من تفاعلها مع شي لم تسمع به قط، فيما تكون حاسة النظر اكثر تقبلا للجديد، وكأنها بلا تاريخ. السمع حاسة قومية بكل معنى الكلمة على عكس الحواس الاخرى القابلة للعولمة والمستعدة للتقبل المباشر لكل شي جديد. قد يتعذر على الانسان استذواق موسيقى افريقية وهو عربي مثلا، وقد لا يجد في لغة اخرى (اللغة صلتها بالاذن) سوى ضوضاء ملفوظة، لكنه قد يستذوق اي وجبة صينية (حاسة الذوق) و لا ترفض العين (حاسة النظر) جمال اي انثى بغض النظر عن لونها ولغتها وقوميتها. الحواس الاخرى معولمة سلفا، لكن الاذن تظل حصنا قوميا يصعب اختراقه.
ادرك شمه ان التاريخ الموسيقي لا ذاكرة له في الاذن العربية الميالة اصلا الى الغناء وليس الموسيقى، بمعنى ان قوالب التاليف الموسيقي الكلاسيكي الشرقي (السماعي والبشرف واللونكا وغيرها) لم تولّد لدى المتلقي ذاكرة تاريخية للاستماع (الاذن)، ولذا مال شمه الى شكل جديد هو المعزوفة او المقطوعة، مستلهما التراث العراقي الذي اسس له الشريف محي الدين حيدر والاخوان جميل بشير ومنير بشير وسلمان شكر وغانم حداد وغيرهم. اي شكل المقطوعة والمعزوفة الذي يتيح امكانية اكبر في ابراز الجانب التقني وعدم الالتزام بالقيود الصارمة للقوالب الكلاسيكية (ولكن لديه سماعيات خاصة لا يحبذ عادة عزفها لجمهور غير متخصص)، ولكنه جعلها بعناوين سياسية كي يستميل الاذن.
لا يعيش شمه وسط طريق مفروش بالورود، فالحرب على الموسيقى قائمة. ففي الداخل ايام الثمانينيات كان للظهور ثمنه الذي يستجر كلفا باهضة، اي عليك ان تواجه الة جهنمية، وتخلق مصداتك التي تستيدم عدم اندراجك وتحفظ ماء موسيقاك، وايضا تبقي شعرة معاوية كي لا تنقطع رقبتك وينقطع وترك. وفي الغربة يظل الفنان العراقي ايضا غريبا بمعنى انه في حالة انذار وكانه تحت الاختبار الدائم, انه مطالب اكثر من ابن البلد بمبرر الحضور ويحق لابسط طارئ على الفن او مدع ان يطالبه بشهادة سلوك. فاذا كان الموهوب في بلده عرضة لكل مغرض وفاشل، فما بالك حين يكون اعزل من الوطن وسط عالم تكتنفه متناقضات تبدأ من ضروروة تسويغ حضورك (او بالاصح منافستك لانظارك)، فضلا عن ان معاداة الغريب هي المخرج من الشعور بالاغتراب والفشل لابن البلد في موطنه.
السياسة هي كلام نصير غريبا ووتره وطنه المرتجى. سيظل نصير اشكاليا، عازف مبهر كأي شاعر منبري، موسيقي لا يحتاج شيئا سوى تقديم معزوفته، ولكنه يقدمها على مائدة سياسية، كي يستجر جمهورا يرتجي ريشته.
يعزف نصير على السياسة ولا يعزف عنها.. وكم ناله من العزف عليها من تقولات وتاويلات. فبعضهم يمتعض من تصريحات شمه، في حين ان للرجل تاريخا في مناهضة الاستبداد ومناصرة قيم العدالة والحرية. وهو اولا واخيرا فنان قبل ان يكون سياسيا. فنان فذ وضع بصمته بقوة على تاريخ الموسيقى العربية، وحفر اسمه عميقا في صخرها الصلد بمجهود ومثابرة واجتهاد قل نظيره.