18 نوفمبر، 2024 12:43 ص
Search
Close this search box.

المحسوسُ والمنظورُ في / الأمكنة ُ مقابرُ الوقت /

المحسوسُ والمنظورُ في / الأمكنة ُ مقابرُ الوقت /

قد لا اغالي في القول : إنّ / سليم العبدلي / رسّامٌ أكثرَ من كونه شاعراً . والرسمُ بالكلمة ليس كالرسم باللون . كلاهما يشتركُ في اقتناص كائنات المخيلة وما ينحصرُ في مديات الرؤية . لكنْ ، لكلّ منهما أدواتٌ تعبيريّة ، مرئية ولامرئية تُعزّزُ العملَ الإبداعي . سأتركُ الرسم باللون وانشغلُ برسم الكلمة لدى هذا الشاعر وهو يهدلُ وينبس ويُغنّي . ولا يعتمدُ النواح أوالصراخ ، بلْ يرسمُ بعمق دلاليّ ما تقول حسّاسيتُه المنظورة والمستورة . ففي الفصل الأول: رسمَ المدائن وجعاً وولهاً وحزناً ومسرّة : / بغداد ُ : كانت تتعطّلُ غرقاً ، إنْ أمطرتْ سماؤها يوماً ، بغدادُ يا امَّ دجلة ووطنَ الأغراب ، ياذكرى  / ص 17 وما بعدها / والذكرى تتنوع، تجيءُ سكاكين وأنساماً وحياة ً ، في الصيف والشتاء ، وخزينَ مشاعر في قاع الذاكرة . …. والكويت : / دخلتُ بيوتاً لم يدخلها غريبٌ من قبل ، كان الصبا ورقة َ عبور ، في الرحيل لم تذرفْ دمعة ً اغسلُ بها أسى الوداع ، ص 20 / .. وكوبنهاجن مثواه الآن : هل تبنّتني هي الأخرى ومنحتني الأمان ؟ تكون ….. بيتي وغرفتي وسرير أحلامي …. اخذتْ هي ما فاض منّي ، وأخذتُ أنا منها ما استطاب لي .ص 21 /  …. وامستردام : / الشوارعُ تعجُّ بالوجوه … وكرنفالها قائمٌ كلّ يوم .. / وما كانت مكاناً له حين سمع مَنْ يقولُ له : / أنْ لا أمضي خادعاً نفسي ، بأني أعملُ معهم ، بل عندهم .. ص 22 / فقد جرحته هذه النبرة الإستعلائية وغادرهم / … ونيويورك المدينة ُ التي : / تسرحُ ليلاً ونهاراً في شوارع لا متناهية .أحياءٌ مسكونة ٌ تخلو من رائحة البشر. ص 23 / … والقاهرة التي : تكونُ ملاذاً لكلّ صخب العالم …حتى الفقرُ في الهواء يتعذّرُ على سكانها …نهاية ُ اليوم فيها لذّة ُ تجلّ ٍ . ص 24/ ….  واسطنبول : / مَنْ قال : إنّها مدينة ؟ … فانسابَ …. البحرُ ، بين فخذيها .. بكبرياء تزهو دونَ نظير. ص 25 / ولشبونة : ماذا أفعلُ بأذرع فُتحتْ مُرحّبة ، وبعيون لا تعرف الّا الإبتسام ص 26 /….  تُرى أيّ رسّام بمُكنته أن يستنطق المدينة ويحتضنها ويُخلدها مثلَ العبدلي ؟ لقد غمّس قلمه في دم رُوعه فرسم المدائن التي عبرتْه مُرغماً او بمحض رغبته . بعضُها أمهات حانية وملاذاتٌ آمنة ، ومُعظمُها محطات عبور الى أخرى . ولئن كان رسمُه إياها بالقلم فقد فاضَ فيه الفرحُ والأسى بألوان المشاعر : كابية باهتة عاتمة ذابلة وناحلة ، زهرية وارجوانية وسوسنية ، لكنّها لم تتخلّ عن هاجس الأمّ .
ولأنّ العبدلي لن يُبدّلَ هاجسَه الوطني أينما حلّ وارتحل فقد استقدم المدينة وفق منظوره الإنساني الذي يلازمُه حيناً بقوة واندفاع ، وحيناً يتراخى ويتهدّلُ .
ثمّ كرّس الفصلَ الثاني : / في البلاد المنسيّة يكونُ الوطنُ وطناً / لتغيّرالأهلِ والسكنِ والمكانِ والعملِ : / في أيام غربتي تعلمتُ أن ابتلعَ آمالي …كان يُناديني بكلّ الأسماء الّا اسمي …. الأصدقاء … ينتشرون رائحة ً تعمّ جميعَ انحاء احلامي … المسافة ُ بيني وبين ذكرياتي البريئة هي لُعبة ُ الحنين … المنفى وطنٌ لا يزهو بالمنفيين … في ليلة عيد الميلاد يُشعلً ذلك المنفى كلّ ذكرياته لكي يجدَ له صحبة ً …الأمكنة ُجدائلُ… تلك الجدائلُ لا تتعبُ ولا تملُّ، في اختلافها يكمنُ الكمالُ . ص31 – 41 / …. فمَنْ قال : الأمكنة ُ جدائلُ غيرَ العبدلي حين قارن بين مكان وسواه ، هنا كان الحنانُ ، والرعاية ُ والألفة والحبّ والمعشر والصحبُ والحبيبُ ، الأمنَ الذي سوّره وتحصّنُ به ، والمستقبلَ يسرحُ بين اكنافه . وبرغم انّ الوطن في حياة المهاجر يأتي ويروح ، الّا أنّه ثابتٌ راسخٌ فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة .إذاً، الفصلُ الثاني بانوراما تتمظهرُ فيها مشاهدُ العمر واجهة ً راسخة ً تحكي وجعَ المُهاجر في محطات العمر .
ويلج ُبنا سليم العبدلي / في الفصل الثالث / بؤرةَ الوقت التي تضيقُ بقدْر خرم الأبرة فنخترمها شئنا أم ابينا ، ضاغرين أو مُختارين وتنتظرنا النتائجُ إمراراً وإحلاءً ، او تتسعُ فتغدو افقاً فسيحاً نضيعُ فيه . وفي كلتا الحالين تُديرُ رحى الوقت مصائرنا : / أيّها الوقتُ ، حتى وأنتَ تقضمُ … تتركُ فينا ما أنتَ به غيرُ دار ٍ…../ يا ماضيّ العزيز ، لماذا تُحاصرني بكلّ هذه الذكريات  ؟ …./ من أين سآتي بالدفء بعد أن اجتاحَ البردُ أرجائي ؟ . .. / هنا تفضحُ نسماتُ الشاطيء غيابَ اللمسة … / كلّ صباح ، وعند محطة الفجر اُشيّعُ أحلامي …../  في هذا الشتاء الا يتعبُ الإنتظارُ من الإنتظار ؟ ص 43 – 57  / …. وكأنّي بالعبدلي أجالَ بنا في أحشاء الوقت وأرانا تجاعيده وتضاريسه ونحنُ نتقلبُ بين أضراسه . ليس الوقتُ خاتما نلمسه فيمنحنا أمناً وسداداً ، بله ، احياناً ، جمرٌ وزقّوم ٌ وغشٌّ وندم وعُسر وشدّة . فلا تفلتُ كينونة ٌمن هوله وعنائه ، ومن نسماته الضئيلة أحياناً.
امّا الفصلُ الرابع فعن المساحة وقياساتها وأقباسها . وعن التفصيلات اليومية التي تتفجّر فينا أو حولنا ، فتحتوينا ونتذفأ بها . هي الحياةُ كائنة بيننا ومكنونة تجري بنا ماكنتُها في مماشي العمر ، مصادفة ً أو قصداً . لكنّها قدرُنا نجرعه مرّاً وحلواً . لوحاتُ هذا الفصل قصصٌ قصيرة ٌ جداً اشبهُ بومضات تحكي وتُخبر ، تُنير وتُديربنا :/ تسألينني ، واُردّدُ : اُحبُّكِ ، لأنّني فقط اُحبّك / …. اذاً ، هي قصة ٌ لكنْ من كلمات معدودات ٍ، بيدَ انّها تنطوي على تشيّئاتٍ شتى يُمكنُ تأويلها وتسويقها . …/ الخطوة ُ التي أقلتك نحوي تركتْ، بالتأكيد ، قلباً مُداساً / وفي وسع القاريء أن يقيس أمدَ الزمن والمسافة بين ذي الكلمات ويتخّيلَ ما بينها من أحداث ومرتيات صورية وشعورية ليصنع منها قصة وفق مقاييسها الإعتبارية والنقدية . ودونكم مثيلاتِها التي تقرعُ الواعية وتمنحكم ايحاءاتها الجدلية : / رحلتِ، حزمتِ كلّ شيء ، ونسيتِ أنْ تحزمي فرحتي لرؤيتك ثانية / …./ لا نلتقي الحبّ الا في الأحلام ، وفي الصحو نلتقي الحبيبَ /…. / هل لكِ أن تعودي ، وتُلملمي بقاياكِ منّي ؟ ص 61 – 73 / .
تبقى لوحة ٌ أخيرة عن كلاوس ، شاعر دانماركي متوفى ، احبّ العرب وثقافتهم ، فكرّسَ له حزنه : / هناك ، في أقاصي غرفتي ، كان الجميعُ يتأفّفُ / …./ لبستُ عدمَ الجدوى ، وتشبثتُ بألم الفرأق / … / يا أيّها الألمُ … ابقَ هنا ، لكي نُكملَ الحكايةَ معاً  ص 75 – 78/ … هذه القصيدة تستقريءُ وتتقرّى معدنَ الإنسان ، عمقَ صداقاته . والمساحة التي يقطعها الصديقان حتى أوان الفراق . وهي البعدُ والأمدُ الأبد والكينونة ذات البعدين يتنفّسُ تحت سقفها كائنان . لكن حين يتهافتُ احدُهما ، على الثاني الباقي أن يظلً سامقَ القامة . حسبُه انه يمتلك خزينَ ذكريات تنبضُ الى جواره .
ديوانُ / الأمكنة ُ مقابرُ الوقت / متنٌ شعري ينطوي على وعيّ بذاكرة الزمن والمعيشة كما لو كان معراجاً يصعدُ بنا الى ممالك سحريّة يتحصّن فيها الشاعرُ ، لكنه سيترك بعض الشرفات مفتوحة ً تتنفّسُها ذاكرةُ الناس ، وتتوغلُ في دُناهم وحيواتهم ليتعايشوا معاً . فأيّ معنى للجمال محبوساً بين جدران مُغلقة .
…………….
سليم العبدلي حطّم سورَعُزلته وأبان َعالمَه المخبوءَ تحت حدوسه واحساساته . اجملُ الشعر يتجوّلُ بين الأناسي ، ويصافحُ أحزان الآخرين . وحسبُ هذا الديوان/ برغم حجمه الصغير / أنّه يحملنا عبر رحلة العمر من صقع لصقع ومن منفى الى منفى ، ويُرينا ألعنادَ والمثابرة والجلَد والإلتحام من الشدائد من دون تراخٍ أو مُهادنة . هو ديوانٌ شعري يمتلك اسباباً ابداعية لينضمّ الى قافلة الشعر الذي يبقى في الذاكرة .

• من اصدارات : دار الأدهم للنشر والتوزيع / 2012 / القاهرة

أحدث المقالات