23 ديسمبر، 2024 8:54 م

الخاتمية لغة:

قال ابن فارس : ” الختم له أصل واحد وهو بلوغ آخر الشيء ، يقال : ختمت العمل وختم القارئ السورة ، والختم وهو الطبع على الشيء فذلك من هذا الباب أيضا ، لأن الطبع على الشيء لا يكون إلا بعد بلوغ آخره “
الخاتم في اللغة هو الشيء الذي تُنهى به الأمور ، وكذلك جاء بمعنى الشيء الذي تختم به الأوراق وما شابهها ، ومنه الخاتم الذي يلبس في الاصبع لان يختم به.

والخاتمية مقام رفيع خاص برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، كما ورد في قوله تعالى ” مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ” (الأحزاب الآية 40).
ومن الواضح إن المقصود هو كون الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) هو آخر الانبياء ، ورغم وضوح المسألة ظاهراً الا انه ينبغي الحديث حولها من جوانب عدة منها :

1-لماذا ختمت النبوة برسول الله (صلى الله عليه وآله) دون غيره؟
2-ولماذا ختمت النبوة في هذا التوقيت بالذات؟
3-وهل إن الامور كانت مهيئة لختم النبوة وما الذي تم تهيئته لذلك؟
4-وهل إن ختم النبوة عقوبة للامة ام استحقاق لها؟
5-وماذا بعد ختم النبوة؟
وسنحاول الحديث باختصار يناسب المقام.

1- لماذا ختمت النبوة برسول الله (صلى الله عليه وآله) دون غيره؟

قبل ان نجيب على هذا السؤال نقول إن النبوة لا بد أن تختم لأنها رعاية ومنة إلهية في مستوى معين، وهذه الرعاية وهذه المنة لا بد لها أن تنتهي عند وصول المجتمع إلى مستوى معين يكون معه مهيئاً للمرحلة التالية.
فختمها أمر طبيعي، ولكن لماذا خُتمت برسول الله (صلى الله عليه وآله) دون غيره؟
فمن ناحية شخصه صلوات الله وسلامه عليه فذلك لأنه أكمل البشر على الاطلاق ، والخاتمية ليست مجرد نهاية ، وانما هي اتمام لمرحلة استغرقت عمر البشرية من خلق آدم عليه السلام إلى بعثة النبي (صلى الله عليه وآله) ، فالقيام بأعباء هذه المهمة العظيمة ليست مهيئة لكل أحد.
فالجواب ببساطة لخصوصية شخصه صلوات الله وسلامه عليه.
أما ما هي هذه الخصوصية؟ وما هي تفاصيلها؟ فالأمر يتطلب مجلدات للإجابة يختصرها قوله تعالى ” وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ “(القلم الآية 4).
جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ” حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وآله ، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا وأعز الأرومات مغرساً. من الشجرة التي صدع منها أنبياءه وانتخب منها أمناءه. عترته خير العتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر. نبتت في حرم وبسقت في كرم، لها فروع طوال وثمرة لا تنال،  فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوؤه،  وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه،  سيرته القصد وسنته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل “.

2-لماذا ختمت النبوة في هذا التوقيت بالذات؟

بعد أن بعث الله سبحانه وتعالى 124 الف نبي إلى البشرية كانت مهمتهم التبشير والانذار (مبشرين ومنذرين)، فمن جانب إن الحجة قد تمت على أهل الارض بهذا العدد الكبير من الأنبياء، ومن جانب آخر إن هناك فئة من الناس مستعدة لتحمل الرسالة الخاتمة ومن جانب ثالث كان هناك مستوى من الضلال لا تصلح له الا النبوة الخاتمة.
والله تعالى هو العالم بصلاحية التوقيت لذا نكتفي بذكر خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام ) حول الموضوع حيث يقول (عليه السلام) في خطبة عظيمة من خطبه وكلها عظيمة ” فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته. ويذكروهم منسي نعمته. ويحتجوا عليهم بالتبليغ. ويثيروا لهم دفائن العقول ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع ، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم . ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل ، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة. رسل لا تقصر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم، من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله. على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء. إلى أن بعث الله سبحانه محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله لإنجاز عدته، وتمام نبوته، مأخوذاً على النبيين ميثاقه، مشهورةً سماته، كريماً ميلاده. وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة. وأهواء منتشرة، وطوائف متشتتة، بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير إلى غيره. فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثم اختار سبحانه لمحمد صلى الله عليه وآله لقاءه، ورضي له ما عنده وأكرمه عن دار الدنيا ورغب به عن مقارنة البلوى. فقبضه إليه كريماً صلى الله عليه وآله، وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملاً، بغير طريق واضح، ولا علم قائم” .

3-هل إن الامور كانت مهيئة لختم النبوة وما الذي تم تهيئته لذلك؟

لاشك إن الامور كانت مهيئة فالله سبحانه وتعالى حكيم عليم. وقد أشار بعض المفسرين إلى المغزى من ختم الآية التي تذكر ختم النبوة بقوله تعالى “وكان الله بكل شيء عليماً” إلى أن المراد القول بأن الله سبحانه وتعالى يعلم متى وكيف تختم الرسالة؟ لأنه العالم بالأمور فختم النبوة جاء على يد الشخص الاصلح (الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)) ، وفي التوقيت الأنسب ، وكانت كل الامور مهيئة لنجاح هذه المرحلة ومنها:

أ-تبليغ الشريعة الكاملة (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:3)
وهذا يقودنا إلى الحديث عن كون الشريعة الاسلامية هي خاتمة الشرائع (حلال محمد حلال أبداً إلى يوم القيامة ، وحرام محمد حرام أبداً الى يوم القيامة ، لا يكون غيره و لا يجيء غيره).
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال: ” إن الله ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً”
ونحن نستفيد من خاتمية نبوته(صلوات الله وسلامه عليه) أمرين :
1-إن الإسلام ناسخ لجميع الشرائع السابقة، فلا مكان لتلك الشرائع بعد مجيء الشريعة الإسلامية.
2- إنه لا وجود لشريعة سماوية جديدة في المستقبل.

عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : ” إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله ، وجعل لكل شيء حداً ، وجعل عليه دليلاً يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً ” .
وعن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه قال: ” ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة “.
وقال الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) عندما سُئل عن وجود كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه قال مجيباً: ” بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه “

ب-تهيئة البديل وجاهزيته (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ) (المائدة:67).

ج-تربية مجموعة من الافراد وتهيئة الظروف للتمهيد للمرحلة التالية من التربية.

نشير هنا إلى أمر وهو إنه لم يأتي نبي إلا وبشر بالنبي الذي بعده، فكيف يُعقل تصور انتهاء حياة آخر الانبياء دون أن يوجه الأمة إلى البديل الذي سيقود مرحلة التربية التالية (الامامة وفقاً للمعتقد الشيعي)، الذي سيقود الأمة في مرحلة الهداية  بعد انتهاء مرحلة الانذار (إنما انت منذر ولكل قوم هاد)، الذي سيقود الأمة في مرحلة التأويل بعد مرحلة التنزيل (أنا اقاتل على التنزيل وعلي يقاتل على التأويل)، في حين إننا نتحدث هنا عن مرحلة مفصلية تتطلب التبشير بالبديل أكثر مما يتطلبه الانتقال من نبوة الى نبوة .

4-هل إن ختم النبوة عقوبة للأمة أم استحقاق إيجابي (مكافئة) لها؟

يجب أن نعرف إن ختم النبوة يعني انتهاء مرحلة الانذار والتبشير ، كما في قوله تعالى : “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ”(البقرة من الآية 213) .

وقوله تعالى: “رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا”(النساء: 165).  

وقوله تعالى : “وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ “(الانعام: 48) .

وقوله تعالى: “وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا”(الكهف: 56). 

فختم النبوة هو استحقاق وضرورة من جانب وعقوبة من جانب آخر ، وليس في الأمر ازدواجية ، فهو استحقاق وضرورة لأن البشرية وصلت في تلك الفترة إلى مرحلة استحقت معها العبور إلى المرحلة التالية ، وصول البشرية لا يعني وصول كل الافراد بل يعني وجود مستوى معين من الفهم والإيمان وكذلك وجود صفوة جاهزة لقيادة المرحلة التالية . وعقوبة من جانب آخر لأن هناك مستوى من البشر لا يعيش المرحلة فكما إن هناك أناس يسبقون زمانهم علماً أو تكاملاً أو كلاهما كذلك هناك أناس يتأخرون على زمانهم علماً أو تكاملاً أو كلاهما، فتكون الخاتمية لهم عقوبة لأنهم لم يستفيدوا من المرحلة السابقة (النبوة) رغم توفر كل وسائل الهداية.

5-وماذا بعد ختم النبوة؟

الانسان خليفة الله في ارضه ويُراد له أن يسير في خطى التكامل نحو الأسمى والأرقى، فهل إن ختم النبوة إيذان بإيقاف هذا التكامل أم إنه مقدمة لمستوى تكامل مختلف؟
وهل انقطعت صلة الانسان بالسماء-كما يعبر البعض- أم إنه جاءت مرحلة صلة من نوع آخر؟
الإجابة على هذه الاسئلة تتطلب الكثير من التفصيل ولكننا نختصر الإجابة:
ورد في بعض المرويات إن الله سبحانه تعالى غلق باب الوحي وفتح باب الإلهام، فختم النبوة ليس إيقاف عجلة التكامل بل هو تعجيل بها، وهو مقدمة لمستوى تكامل مختلف واختبارات من نوع آخر.
ولو تتبعنا خط الارتباط بالسماء-إن صح التعبير- وفقاً للرؤية الشيعية، من نبوة بمراحل مختلفة إلى ختم تلك النبوة ثم الإمامة بمراحلها المختلفة، ثم غيبة صغرى وكبرى ومن ثم ظهور، أقول لتتبعنا كل ذلك وفهمنا خصوصيات كل مرحلة ولو بشيء من الإجمال لاتضحت لنا فكرة الارتباط بالسماء وعلاقة ذلك بالاختبار والتكامل.

هذا ما أردنا أن نتحدث عنه باختصار شديد ونرجو أن نكون قد وفقنا في ذلك والحمد لله رب العالمين

1- محاضرة ألقيت في مدينة الرفاعي في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم 12/2/2012 في ندوة مشتركة مع الشيخ حسن الإبراهيمي مسئول مكتب التنسيق الحوزوي في ذي قار.