24 ديسمبر، 2024 4:27 م

في كل يوم لنـا قيامة … قراءة في رواية “العودة الى البيت” للروائي العراقي وديع  شامخ

في كل يوم لنـا قيامة … قراءة في رواية “العودة الى البيت” للروائي العراقي وديع  شامخ

يعود بنا الشاعر والروائي وديع شامخ في روايته الصادرة عن دار ضفاف الموسومة “العودة الى البيت” ليذكرنا ان لكل منا قيامته التي اختارها بمحض ارادته وكذلك اسقاطاته وهفواته، بطولاته وختياراته وفي النتيجة يلملم التراكمات، ويؤرشفها ليعود بنا الى الرحم الاول، مدينته الاثيرة – البصرة- ليسترجع، عبر تحولات مهمة وخطيرة في التاريخ، الكثير من الاسماء والوجوه التي تجذرت والتصقت بذاكرة المدينة شناشيلها، وجاداتها المتربة، وانهارها.

 رواية شامخ “العودة الى البيت” هي عودة الى الرحم الاول عبر استرجاع لذاكرة تحتضر، لدى الكاتب تلك التراكمات من التفاصيل الدقيقة التي انطمرت في شغاف الروح، فهو يبث في المدينة الموشكة على الغرق روحها القديمة، يضيؤها من خلال استباق موتها، وهي الرابضة هناك في روحه ومنفاه بكل مضانها،، رواية شامخ ترصد التحولات المخيفة والمختفية التي لم تقتصر على البنى الطوبغرافية، بل عبرت كل التشوهات التي مرت على وجوه ناسها، من البسطاء والمثقفين، والمناضلين، وكل الذين يحلمون بصناعة وخلق مشهد جديد  لمدينة تغرق، وتنحدر الى الحضيض. ان ذاكرة الكاتب في الراوية  -المونتير- تسترجع من طواهم غبار الزمن والنسيان، وتسترجع في الوقت ذاته حيوات عدة من الذين تركوا بصمة لا تمحى على جدران بيوتات مدينته وطرقاتها والاسواق والانهار، نهاراتها القائظة، واناسها بكل مستوياتهم المعرفية وطموحاتهم المحبطة، التي اجهضتها سطوة وعسف الديكتاتوريات المتعاقبة.

استخدم الكاتب تكنيكاً اقرب الى الريبورتاج الصحفي، وهذا التكنيك قد استخدمه العديد من الكتاب العرب والاجانب، وهي تذكرنا برواية “قسطنطين جورجيو” في روايته”الساعة الخامسة والعشرون”، الكاتب يؤرشف لتاريخ من التحولات بكل هولها واسقاطاتها. وتعد وثيقة صادقة بكل تفاصيلها، لمدينة تنحدر وشخوص عاشوا على ارض الواقع، وهي تعد سيرة ذاتية للكاتب، سيرة تضمنت اسماء عدة من المناضلين والمثقفين والفنانين الذين وضعوا اللبنات الاولى من اجل ترسيخ المفاهيم الانسانية الحقة، في جيله على الاقل ،وفي المراحل التي مر بها الكاتب. الرواية تشتغل على المسكوت عنه، المقموع من اعتى الانظمة شمولية. وبعد ذلك ماآلت إليه المدينة من خلال وعيه وقراءته الفاحصة التي لم يستطع الابتعاد عنها لانها تسكن وجدانه.. رواية -العودة الى البيت-  تستقطب كل التحولات التي مرت على مدينة، مدينة بقدر ما تنفتح على وطن تبقى اسيرة من تابوات واقصاءات، قديمة وحديثة وهي تشير باصابع مرتعشة الى مواطن عدة من الخلل الذي اوصل – ليس مدينته فحسب الى الخراب – بل الوطن باسره هذا المسح للذوات وللشخوص التي غيبتها طوامير الانظمة التعسفية، والتي تبدأ من الاستاذ.. ناظم” مدرس مادة الكيمياء وهو يصف الحياة بانها كيمياء، كذلك مدرس الفيزياء، “زيا إيليا” المشكك في المخلص او المنقد، وبين هذا وذاك، كانت روح الروائي – الكاتب السيري تتأرجح بينهما، وتتوق إلى ان يتعلم المسرح والتمثيل “كنت ارقص (الهيوه)، وكان حلمي ان اقف امام يوسف العاني، وخليل شوقي وزينب وناهدة الرماح، وزكية خليفة الزيدي وسامي عبد الحميد في عمل مسرحي كبير. (ص/ 7-8) هذا الحلم كان يريد به ان يطرح شخصية مهمة هي شخصية (جوهر سعيد) الذي ولد عام 1875 في محلة جسر العبيد في البصرة القديمة والذي توفي عام 1924، خيارات البطل تنتهي وهو يذرف دموعه مع اخيه لفساد حلميهما، لانهما لم ينتسبا الى أرواحهما ولم يحققا ما كانا يصبوان إليه، نتيجة لتعسف السلطة. ثمة شخوص حية ترتقي وتصعد في المتن الروائي، وتؤرشف لمرحلة من الاسى والحيف، وتعري في الوقت ذاته الاقصاءات، فما بين السخرية والمرارة،  تنبثق مواقف شخوص الرواية، وتحديها للزيف، ومقاومتها للتعذيب. توزع المتن الحكائي للرواية على عنوانات عدة، كل عنوان له بطل حقيقي على ارض الواقع، له لكنته الخاصة، له مرارته وسخريته، وهذا يحسب للعمل الروائي، كما تتداخل  احداث التاريخ الماضي مع احداث الواقع الآني، ويظل المونتير –الراوي- شاهداً على احداث اقل ما يقال عنها انها كارثية، نتيجة لمصادرة ذات الفرد ، فهو يسخر مرة وهو الشاهد الوحيد على الاحداث- ويرفض مرة بمرارة “دائماً تتفق العامة على القتل والنهب والسلب، قال المونتير” (ص/29) هذه المشاهدة او المشهد الذي طالما تكرر في بلدان العالم الثالث، يطفح في متن الرواية بشكل صارخ وعارٍ، (قال المونتير ضاحكاً: كنا في جيش من المغول مثل ما يقول السائق حقاً،  ونحن نخرج من حلقة تبادل الاقنعة في فلة الحبيبة الشامية الرائعة في احدى ضواحي عمان الراقية!!.هل الحياة علامة فارقة في الطريق الى الموت؟هل نحن مطرودون من الحياة هذان السؤالان واسئلة كثيرة اخرى في متن الرواية تطرح علامات استفهام كثيرة حول ماهية الوجود، حتى ان الراوي، يتعدى حدود عالم الفنطازيا، بل يتعدى ذلك، ويكاد يقترب الى لا معقولية ما يحدث بالرغم من أن هذه الاحداث وقعت حقاً على ارض الواقع، الرواية باختصار شديد تؤرشف –بلغة متهكمة –لتاريخ من الضيم والاسى والصراعات صراع الفرد مع خياراته، وصراعه مع المهيمنات الاجتماعية والانظمة القمعية، وهي تعد -الرواية- وثيقة صادقة لواقع فاسد يطمس كل خيارات وطموحات الناس المشروعة، وهي رواية جديرة بان تقرأ بدقة، وبالرغم من اعتمادها الواقع المحض غير أن اللغة التي استخدمها الكاتب والتكنيك المستخدم الذي اعتمد مرة الفلاش باك، ومن ثم العودة الى المونتير الشاهد الوحيد، حول فساد الارواح والامكنة.