تحتل القدس مكانة مرموقة عند كل أصحاب الديانات السماوية، فهي عند المسلمين: أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام، وهي عند النصارى: مهد المسيح عليه السلام ومكان تكريزه(=دعوته) بالانجيل وآلامه، وهي عند اليهود المكان الذي عاش فيه ملكهم داود عليه السلام، وبني فيه هيكلهم، وإليها سيعود المسيح حتى يقودهم إلى سيادة العالم وفق تقاليدهم. وهي في نفس الوقت ذات طبيعة تجعل كل من يريد ملكا ومالاً يطمع فيها.
وقد أوردت آثار الأمم القديمة المكتشفة هذا الاسم بصور مختلفة، فالأواني المكتشفة من عهد الفرعون ( سنوسرت الثالث- 1878 – 1843ق.م) تسميها (روشاليموم) أو (أوشاميم)، ورسائل تل العمارنة وهي المكتوبة بالخط المسماري على ألواح قديمة، وترجع في تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد؛ أي إلى عصر الفرعون (أخناتون-1372 – 1354 ق.م). تنطقها (يوروساليم)، وأما مخطوطات الملك الاشوري سنحاريب فقد أوردت اسم القدس (يوروسليمو).
وقد سبق اسم (يبوس) إلى الوجود كل الأسماء التي حملتها المدينة، حيث نسبها البناة الأوائل إلى أنفسهم. ومن الأسماء القديمة أيضا (القدس)، وقد ورد لدى المؤرخ والرحالة اليوناني الشهير هيرودوت – 484 ـ 425 ق.م) هكذا : (قديتس).)
وللقدس أسماء عديدة فهي : صهيون ، ومدينة داود ، وأريئيل، وموريا، وإيلياء وتنطق إيليا، ونادرا إليا، أو بيت المقدس، ولكل اسم من الاسماء قصة وحكاية فلكثرة الغزاة على المدينة كثرت أسماؤها وتعددت فكل غاز كان يسميها باسم والجامع أو العامل المشترك بينهما هذه الأسماء أنها كلها مقدسة كل اسم كان مقدسا عند من أطلقوها وذلك دليل على مكانتها.
وفيما تتناول أغلب القصص عن المدينة الصراع بين أصحاب ديانات مختلفة فإنهم جميعا يوحدهم تقديس وتبجيل هذه الأرض المقدسة. وفي قلب المدينة الذي يضم أزقة ضيقة توجد أربعة أحياء: المسلم والمسيحي واليهودي والأرمني وهي تضم بعضا من أقدس الأماكن في العالم.
والحي الإسلامي هو أكبر الأحياء الأربعة ويضم: قبة الصخرة والمسجد الأقصى في منطقة يعرفها المسلمون باسم الحرم القدسي الشريف. ويعد المسجد الأقصى هو ثالث اكثر الأماكن قدسية في الإسلام بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويديره الوقف الاسلامي. وفي الإسلام أسرى الله بالنبي محمد من مكة المكرمة حيث المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في القدس، ثم عرج به من موقع قبة الصخرة إلى السماوات العلى في الحادثة المعروفة ب(الاسراء والمعراج).
ويزور المسلمون هذا الموقع المقدس طوال العام، وخلال شهر رمضان يصلي مئات الآلاف من المسلمين في المسجد الأقصى.
وفي داخل الحي المسيحي توجد كنيسة القيامة التي تتمتع بأهمية خاصة لدى المسيحيين في كل أنحاء العالم، فهي تقع في المكان الذي شهد موت السيد المسيح وصلبه وبعثه وفقاً للتقاليد المسيحية ، وقبره في الكنيسة وهي أيضا الموقع التي بعث منه. ويدير هذه الكنيسة ممثلون عن مختلف الكنائس فهناك: بطريركية اليونان الأرثوذكس، والفرنسيسكان من كنيسة الروم الكاثوليك، والبطريركية الأرمنية، فضلا عن االكنيسة القبطية التي تشمل المصريين، بالاضافة الى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية.
وموقع كنيسة القيامة من مقاصد الحج الرئيسية للملايين من المسيحيين في أنحاء العالم الذين يزورون قبر السيد المسيح، ويسعون لطلب العزاء والفداء من خلال الصلاة في الموقع. وعندهم ما يسمى بدرب الآلام وهو مقدس عند كل الطوائف المسيحية لاعتقادهم أن السيد المسيح قد سار فيه حاملا صليبه عندما اقتاده الجنود الرومان لصلبه تنفيذًا لأوامر الوالي الروماني بيلاطس.
وفي الحي اليهودي يوجد الحائط الغربي(=حائط البراق) أو حائط المبكى الذي يعتقد اليهود أنه البقية الباقية من سور أورشليم القديم، وأنه الحائط الخارجي لهيكل(= معبد) الملك سليمان الذي أكمل بناءه حوالي العام936ق.م، والذي دمره الملك البابلي الكلداني نبوخذنصر عام 586-587ق.م تدميرا كاملاً، وبعد قرار بناءه على يد كورش الاخميني عام537ق.م والذي أكتمل عام 515ق.م كما يشير العهد القديم، وقد رجمه الوالي الروماني على فلسطين هيرودوس عام 18ق.م، ودمر جانبًا منه القائد الروماني تيتوس عام 70م، وأتى على ما تبقى منه الامبراطورالروماني البيزنطي هادريانوس عام 135م، وغير اسم اورشليم الى (إيليا كابيتالونيا) تيمناً باسمه. ويقوم اليهود بزيارت حائط المبكى(= حائط البراق) وتقبيله وقراءة بعض النصوص التوراتية والتلمودية إلى جواره، وكذلك البكاء على مجدهم الضائع.
ويعتقد اليهود أنه يوجد داخل هيكل سليمان قدس الأقداس، وهو أكثر المواقع قداسة لدى اليهود. كما يعتقد اليهود أنه بقدس الأقداس حجر الأساس الذي خلق منه العالم، فضلا عن أنه الموقع الذي كان سيضحي فيه النبي إبراهيم بابنه إسحق، ويعتقد الكثير من اليهود أن قبة الصخرة هي موقع قدس الأقداس، وأنها مبنية على هيكل النبي سليمان.
واليوم فإن حائط المبكى هو أقرب الأماكن التي يصلي عندها اليهود قربا لقدس الأقداس، ويديره حاخام الحائط الغربي أو حائط المبكى الذي يزوره الملايين كل عام إلى جانب ملايين اليهود الذين يأتون من مختلف أصقاع العالم للصلاة.
ومن جانب آخر فإن لم يكن لليهود بالقدس سوى بعض الكُنس (مفردها كنيس) وهي حديثة البناء نسبيًا، وكذلك بعض القبور. ويرجع تاريخ بناء أول كُنَيس إلى القرن الثامن عشر الميلادي، وجميعها يقع في الحي اليهودي بالقدس القديمة، وهو الحي المعروف بحارة اليهود، ومنها، قدس الأقداس، طبرت إسرائيل، توماتوراة، بيت إيل، مدراش، طابية، مزغاب لاوخ).)
ولليهود مقبرة خاصة بهم فيها أربعة قبور مميزة وهي : قبر النبي زكريا، وقبر يعقوب، وقبر أبشالوم، وقبر يهوشافاط.
ينقسم اليهود في مشاعرهم تجاه القدس إلى قسمين: الأول منهما يرى أنها مدينة عادية، بل ويمكن الاستغناء عنها بأخرى ومن هؤلاء زعيم الحركة الصهيونية نفسه( تيودور هرتزل)، حيث من الثابت أنه قبل اقتراح السياسي البريطاني الكبير (تشمبرلين) في إعطاء اليهود وطنا قوميا في أوغنده بوسط إفريقيا، لولا أن غلاة الصهيونية ثاروا عليه، بل واعتدوا على مساعده (ماكس نوارداو) بالرصاص، واتهموا هرتزل نفسه بالخيانة، لولا أنه تراجع تماما عن موقفه فتراجعوا هم أيضا. الفريق الآخر هم الغلاة منهم وهم يرفعون دائمًا أصواتهم ويترنمون بنص من المزامير (مزمور: 137/605) والذي يقول :
إن نسيتك يا أورشليم فلتشل يميني
وليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك
إن لم أرفع أورشليم على قمة ابتهاجي.
والحقبة الذي بدأ فيه البناء الأول للقدس يقع ضمن (العصر البرونزي)، وليس من المعروف هل أقيمت المدينة حينئذ بناء على قرار اتخذته جماعة اليبوسيين (وهم في الاصل قبائل حورية)، واختار اليبوسيون لمدينتهم مكانًا حصينًا يرتفع عما حوله من الأرض، وشيدوا لها حصنا لحمايتها، واختاروا لها أيضًا موقعا حيويا؛ ليتيسر لهم الانتفاع بمميزات تجارية وخيرات طبيعية تتيحها مدينة تقبع في هذا المكان، فبنيت القدس (يبوس) – مع مدن كنعانية أخرى – على طريق المياه بين الشمال والجنوب، وأُقيمت على مرتفع الضهور (وهو التل الجنوبي الشرقي في القدس القديمة القائمة الآن داخل السور) قرب عين ماء جيحون (نبع العذراء)، وحُفر تحت الجبل نفق تُنقَل من خلاله مياه النبع إلى الحصن.
وقد أطلق هؤلاء الكنعانيون على مدينتهم الصغيرة اسم (يبوس)؛ ليكون أقدم اسم لها في التاريخ، وأُضيفت إليها أسماء أخرى في أزمنة مختلفة.
وقد أُسند إلى ملك يبوسي يدعى (ملكي صادق) أنه وسّع القدس وزاد في مبانيها في القرن العشرين قبل الميلاد تقريبا، وأقام على التل الجنوبي المعروف بـ (جبل صهيون) قلعة للدفاع عن مدينته، التي صار اسمها حينئذ أوروسالم بدلا من يبوس، وتذكر مصادر العهد القديم أن نبي الله ابراهيم قد اشترى قطعة من هذا الملك اليبوسي (ملكي صادق). وقد يظن البعض أن (أورشاليم) اسم عبري، أو اسم اختاره العبريون لمدينة القدس، لكن الحقيقة المؤكدة على خلاف هذا تماما، فـ أورشاليم اسم كنعاني من لغة كنعانية، واختاره لها الكنعانيون، ودخل عليه بعض التحريف على لسان العبرانيين، فهو في الأصل (أورسالم)، أي مدينة سالم، أو مدينة إله السلام، ولكن تحول السين إلى شين على لسان العبريين.
وظلت يبوس بأيدي اليبوسيين والكنعانيين حتى احتلها النبي داود عليه السلام عام 1009ق.م فأطلق عليها اسم (مدينة داود)، واتخذها عاصمة له، ثم آلت من بعده لابنه الملك سليمان، وازدهرت في عهده ازدهارًا معماريًا كبيرًا، وفي هذه الحقبة سادت الديانة اليهودية في المدينة.
ومن جانب آخرلا يوجد دليل اثري قاطع يحدد مكان الهيكل تحديدا دقيقا، ويرى الباحث الغربي جان باتيست أومبير:”أن هيكل سليمان يعتبر لغزا،لأنه لم يبق منه حجر واحد يُرَ وان وصف الهيكل كان رمزيا…”.
بينما يذكرالمؤرخ الامريكي اللبناني الاصل (فيليب حتي): ” أن سليمان بناه في الأصل ليكون معبدا ملكيا ملحقا بالقصر، واستغرق بناؤه سبع سنوات وأصبح فيما بعد مركزا عاما لعبادة العبرانيين،و بنى الهيكل بناءون ومعماريون من مدينة صور واستخدموا أرز لبنان وأن الجناح الملكي في قصر سليمان كان يسمى بيت غابة لبنان، وأن زخرفة الهيكل مستوحاة من النماذج الكنعانية وطقوس الهيكل وذبائحه تشبه الأساليب المتبعة عند الكنعانيين”، ومفردة هيكل مستعارة من المفردات الكنعانية بصيغة هيكال، ويبدو انها كلمة سومرية تعني المعبد.