واحدة من اهم تداعيات مرحلة ما بعد داعش هو انتهاء سياسة التوافق في رسم المشهد السياسي العراقي مع بقاء مبدأ الشراكة وربما ظهور مبدأ الأغلبية السياسية في الانتخابات البرلمانية القادمة في 15 أيار/مايو 2018. أن طبيعة السير فوق الرمال المتحركة التي اتصف بها المشهد السياسي في العراق طوال الفترة المنصرمة تجعل من الصعب جدا تحديد ملامح الخارطة السياسية القادمة، الأمر الذي قد يؤدي الى ظهور عنصر المفاجأة واتفاقيات اللحظة الأخيرة لتحديد الجهات التي يمكن ان تقود البلد في المرحلة القادمة لا سيما تحت ظل غياب الاستقلالية الكاملة في صياغة القرار الوطني. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا ما هي طبيعة الأغلبية السياسية التي قد تظهر بعد هذه التداعيات؟ على اعتبار أن مبدأ الأغلبية السياسية هو تطور نوعي كبير لم يشهده العراق من قبل والذي يعتمد أساسا على استقلالية القرار الوطني في رسم الاحداث. لكن الصراع الأميركي – الإيراني لازال يلقي بظلاله بقوة في المنطقة لا سيما بعد ظهور لاعب جديد مندفع بقوة متمثلا بالأمير الشاب محمد بن سلمان المتوقع تنصيبه ملكا على السعودية خلفا لأبيه وانخراطه في مشروع أميركي-إسرائيلي-سعودي يبدو مضطربا بعض الشيء ولازالت معالمه غير واضحة للعيان بعد. بالمقابل فان ظهور تحالف جديد بين روسيا وتركيا وإيران في قمة سوتشي والاتفاق على انهاء الازمة السورية سياسيا ربما سيعرقل أية خطوات جديدة من شانها إعادة بوصلة الاحداث مرة أخرى لكي تغذي الصراعات المذهبية والتجزئة وتقويض أنظمة الحكم والحروب الاهلية والدمار. إذن نحن على اعتاب مرحلة جديدة في الشرق الأوسط تحتم علينا أن نعرف أين موقع العراق في خضم هذه المعادلة الإقليمية والدولية الملتهبة؟ وكيف ستتأثر خارطة المشهد السياسي في المرحلة القادمة؟ وكيف نتوقع ان تجتمع كتلة ذات أغلبية برلمانية تتفق على منهج سياسي محدد وليس بالاصطفافات العرقية والدينية والطائفية. التوقعات الممكنة للانتخابات البرلمانية القادمة هو احتمال نشوء كتلتين كبيرتين هما: الأولى تضم كلا من حزب الدعوة نوري المالكي والمجلس الأعلى وقيادات الحشد الشعبي وسليم الجبوري وبعض قيادات اتحاد القوى السنيّة والاتحاد الوطني الكردستاني، وهذه الكتلة مدعومة من قبل إيران. الكتلة الثانية تضم كلا من حيدر العبادي والتيار الصدري وتيار الحكمة وهذه الكتلة محتمل أن تدعمها أميركا والسعودية والسيد السيستاني، ولكن ينقصها وجود قوى كردية وسنية مؤثرة، لذا يمكن ان تستقطب اليها بضغط أميركي بعض الشخصيات المعتدلة في الحزب الديمقراطي الكردستاني وكتلة التغيير الكردية إضافة الى القوى السنية المتمثلة بخميس الخنجر وسعد البزاز وكبار ضباط النظام السابق والشخصيات السنية العلمانية الموجودة في أمريكا. وسيكون التيار المدني العلماني الليبرالي هو بيضة القبان هذه المرة وبدعم كبير من قبل أميركا والسعودية. وبالرغم من عدم وجود استراتيجية واضحة للتيار المدني العلماني الليبرالي، باستثناء الرغبة الجامحة لإقصاء الأحزاب الدينية، لكن لا ينبغي ان يستهان بموقعه على الخارطة السياسية لأنه يمتلك قوة جماهيرية كامنة بسبب الخيبة الكبيرة التي نشأت بعد تجربة حكم الأحزاب الدينية في العراق خلال الفترة الماضية. لذلك من المتوقع جدا ان تسعى الكتلة الثانية (العبادي والصدر) الى ضم التيار المدني العلماني الليبرالي اليها للحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان وتشكيل الحكومة.
ولكن في ذات الوقت من المتوقع جدا أن تبقى سيطرة الأحزاب الدينية والمحاصصة الطائفية مهيمنة على مفاصل الحكم في المرحلة القادمة ولن تنتهي الا بعودة الدكتاتورية لحكم العراق وهذا أمر مرفوض. ومن خلال استقراء تاريخ التجربة السياسية الحالية يمكن أن نلاحظ وجود عملية شد وجذب مستمرة فيما بين القوى السياسية النافذة ستنتقل هذه المرة الى جبهة المواجهة بين الاحزاب الإسلامية والتيار المدني العلماني الليبرالي، ولكن لا يستطيع أي من الطرفين وضع الحلول الناجعة لمشاكل المرحلة الحالية والقادمة. وبالرغم من هيمنة الأحزاب الدينية على المشهد السياسي العراقي حاليا ولاحقا الا انها تفتقر الى المقبولية العربية والدولية نوعا ما، بالمقابل فان التيار المدني العلماني الليبرالي بالرغم من تمتعه بغطاء جماهيري واسع ودعم دولي كبير من قبل أمريكا والدول الغربية والعرب الا انه لازال يفتقر الى الرؤية السياسية الواضحة وخطوات العمل الاستراتيجي والقيادة المركزية الموحدة التي تؤهله الى الانخراط في صناعة القرار السياسي بشكل مؤثر في العراق. وإذا بقي الحال كما هو عليه الآن في السنوات القادمة فمن المحتمل جدا وصول العملية السياسية الى حالة العقم والشلل التام والمزيد من التراجع العام في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وازدياد بؤر التوتر في المنطقة وفشل مشاريع الاستثمار والتطوير التي تسعى اليها كل الدول.
والحل الوحيد الذي يتم اللجوء اليه في نهاية المطاف لتجاوز هذه المرحلة والقائم على أساس الحتمية التاريخية هو تطبيق تجربة الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر عندما أطاح بالرئيس السابق محمد مرسي في يوليو 2013 بانقلاب عسكري ابيض. وهنا يتطلب الحال وجود قائد عراقي عسكري محنك على غرار السيسي يقود انقلابا عسكريا مدعوما من قبل أميركا والسعودية والغرب وإقامة حكومة انقاذ وطني لتعديل مسار العملية الديمقراطية في العراق ليكون آخر الحلول التي تنقذ العراق من محنته الحالية. ولا نعرف حقيقة خبايا الأمور هل هذا القائد بالمواصفات المطلوبة متوفر الآن أم جاري البحث عنه على الأمد القريب، الله أعلم.