23 نوفمبر، 2024 4:26 ص
Search
Close this search box.

قراءة في رواية الطريق إلى تل المطران

قراءة في رواية الطريق إلى تل المطران

للروائي علي بدر
( فضاء غيبوبة الحكي تؤول إلى فنتازيا السارد الواقعي )
ــ السارد الشخصية بين مرجعية المقامة وفضاء الرواية
مدخل : ركز النقاد على أهمية وجود شخصيتين متخيلتين في فن المقامات ، وهما السارد و البطل ، و عدهما النقاد السمة الرئيسة للمقامة ، وقد تواترت هذه السمة في كتابة المقامة ، وكما هو معروف فالسارد عند مقامات الحريري و مقامات السيوطي . و تتفق جميع هذه الأعمال إلى كون السارد فيها شخصا ذكيا و خبيرا . من هنا نقول إجمالا أن النصوص الروائية هي أيضا تحاكي مواقع السارد في فنون المقامات ، دخولا منها إلى عوالم العلاقة المتشكلة بين السارد و بطله ، كعلاقة شهود و شاهد و مستمع بمتكلم ، كما يرى كليطو : ( شخصيات المقامات يمكن إرجاعها إلى صنفين : المتكلم / المستمع : و بين المتكلم و المستمع توجد ثمة علاقة تقارب و تطابق كحال علاقة الأستاذ بالتلميذ . ) و عند قراءتنا لرواية علي بدر ( الطريق إلى تل المطران ) تكشف لنا هذه الرواية عن مستوى ما ، من استفادة الروائي من قابليات الاقتباسات الابدالية و الإحالية ، المباشرة و الغير مباشرة من عدد من المصادر التراثية والوثائقية ،و بخاصة فيما يتعلق بمرجعيات اجناسية الاساليب الفنية ، كفنون السينما و المسرح و اللوحة السريالية و فن السيرة الذي وجد حضورا نفاذا في روايات بدر ، وذلك في شكلها الذي راح يجسد سيرة حياته الشخصانية في نصوصه الروائية ، و الأمر يبدو مشابها ما عليه حال حيواة شخوصه الروائية التي تنبع من أصول واقعية يومية معاشة ، كان لها كل التأثير في أفكارالروائي في كتابة نسيج حكايات نصوصه السردية . أن القارىء لرواية ( الطريق إلى تل المطران ) تحديدا ، لربما سوف يندهش كثيرا و كثيرا ، و بذلك بسبب آلية الكتابة في موضوعة هذا النص ، لاسيما و أن الروائي بدر قد جعل من شخصية السارد في الرواية يقوم بعدة أدوار تبئيرية ، منها كون الشخصية الساردة في النص تقوم بمراحل ، الضعف و القوة ثم الضعف ، الأمر الآخر يظهر لنا في بداية الرواية ، حيث السارد الشخصية ، و كأنه حالة مهشمة في مدلول وضعها المادي و المعنوي : (كنت إنذاك عاطلا تماما عن العمل . . فبعد تسريحي من الجيش عقب أنتهاء الحرب . . توسطت لي ليليان لدى أحد أقاربها وهو التاجر المسيحي المعروف نجيب مرقص لإيجاد مهنة لي . . فأشار علي بالعمل في صالة كبيرة للروليت . / الرواية ) من خلال هذا العرض الأولي بسيرة الشخصية في الرواية ، نلاحظ علاقة السارد الشخصية ذاتها مع مهيمنات حضورها الشخصي البائس في مجتمع الرواية . ولكن من الممكن لنا أن نحدد حالات السارد الشخصية في النص ، و على النحو المباشر من كونه كسارد عارضا حاله كمتكلم ، عاكسا حياة المؤلف فيما لا يلبث ، نجده في أماكن أخرى من الرواية يلعب دور ذلك السارد العاكس لحياة النص الداخلية ، كفضاء راح يوافق و يناسب طبيعة النص الفنتازية واقعا . لعل القارىء لمدخل دراستنا الأولي ، حيث قمنا بربط علاقة الرواية و ساردها إجمالا بفن وظيفة السارد في فضاء المقامة ، وذلك يعود بسبب من أن رواية علي بدر التي هي الآن موضع دراستنا ، ما هي إلا خطوة سردية تقارب وحالات النصوص المقامية الأولى خصوصا في جزئها الثاني من قرية تل المطران ، حيث يحاول من خلالها السارد الشخصية البحث عن ذلك المكان الذي تتوفر فيه الحالة الاستقرارية و بضمنها العمل و المأكل و المشرب و المرأة ، وذلك أمتدادا للخلفيات التأويلية التي كانت تختص بها تصنيفات حياة الشخوص و مصائرهم في الرواية . أننا لا نقول هنا أن التقارب كبير بين أدوات الرواية و فن المقامة ، ولكن أود الاشارة هنا إلى أن ثمة حالات توظيفية مشتركة بين حكاية المقامة و موضوعة السارد شخصا في الرواية . الجانب الأهم و الأكثف في رواية ( الطريق إلى تل المطران ) ، هو تلك العلاقة الفضائية الداخلية بين السارد الشخصية و بين مؤثثات المكانية في مدينة تل المطران ، إذ يلعب فيها ــ أي الرواية ــ الوصف السردي دورا بارزا دون باقي روايات علي بدر الأخرى . أقول مجددا أن رواية ( الطريق إلى تل المطران) للتنويه فقط ، تهتم بذلك الطابع الوصفي المتراتب تصاعدا في سمات الزمن و المكان و الشخوص و حالات الأشياء ، مما جعلها رواية تتمثل إلى حسية مشاكلة الأمكنة الداخلية و الأجساد و الأضواء و النور و العتمة و حالات النفس المسكوت عنها ، و غيرها من الحالات ، و قد تم كل ذلك ضمن طرق كتابية متنوعة و متشاكلة و حذقة ، لكنها في نفس الوقت راحت تغلف موضوعة النص بحالة من حالات الحجب و الفجائية أخيرا في نهاية الرواية ، حيث نجد تداخل الواقعي و المتخيل ، وهي طريقة أعتمدها بدر في الرواية ، تقوم على عاملية غيبوبة فضاء الحكي وصولا إلى تأسيس واقعية السارد الفنتازية ، و التي أخذت تقتصر على بعد عجائبية المشاهد السردية بالفضاء الروائي المستور إطاريا و تبئيريا .

ـــ فضاءات الرواية .
تتعدد الفضاءات في رواية ( الطريق إلى تل المطران)لنجدها تتراوح بين فضاءات مرجعية واقعية و فضاءات متخيلة ، فيما نجد هذه الأخيرة تحيل بالنص نحو انزياحية الحلم و الفنتازيا و الكوابيس و الغرائبية و العجائبية وصولا إلى جنائن الجسد الأيروسية السائدة اتفاقا مسبقا في عوالم مشاهد و مشخصات و دلالات رواية علي بدر إجمالا .

1ــ فضاءات واقعية مفتوحة :
و يعتبر الفضاء الواقعي أثيرا لدى عوالم روايات بدر . بيد أن ما يميز هذه الفضاءات الواقعية ، هو تعدد مواضعها الداخلية و الخارجية ، و المغلقة والمفتوحة في تكامل متبادل . فيما يؤدي بعضها الى البعض الآخر ، و هذا ما يمنحها جماليتها و فرادتها و مختزلاتها التوظيفية ، رغم حجم التناقض الظاهري أحيانا لهذه المستويات ، من حيث الزمن و الشكل ــ أي من حيث التحقيق النصي وأشكال الاعتماد النصي الذي نراه أحيانا ، يتقاسم في أحواله بين اللغة الشعرية المزاحة و اللغة الواقعية الحيادية . إلا أننا لا نملك في الحقيقة حجة عزلها عن بعضها البعض ، وذلك لأن ما جاء في فصول و مشاهد هذه الرواية كان أغلبه مرجحا نحو كفة الصور و الرؤى السريالية و الواقعية الوصفية المتشيئة و على نحو من الاسرافية المفرطة . و تأسيسا على ما سبق نقول أن الخصوصية الواقعية الفضائية المتشكلة في مسار مشاهد الرواية ، راحت تجتهد في تحديد طريقة خاصة أخذت تخضع لرؤية الشخوص و تحركاتهم على مستوى من تأطيرية الأحداث و الشخوص ذاتها : مثال رقم 1 : ( في مساء تشريني بارد .. و بعد أن وضعت الحرب أوزارها .. كانت ليليان سركيس صديقتي الكلدانية التي لها مظهر منجم .. و المشبعة بنوع خاص من القدرية .. هي التي أرشدتني إلى كتاب السير كارما الصادر في العام 1924 في لندن / وهو كتاب غزير المادة .. يبحث في علم قراءة البخت في الكف و معرفة خطوطها الخفية و السرية . / الرواية ) من خلال وقائع هذا المثال نشخص مديات الفضاء الواقعي المفتوح بصفة خاصة ، و ذلك من خلال تبنينه بمجموعة التفاصيل الأولية من زمن الرواية التمهيدي . فراح الروائي منه يقدم شكل العلاقة للشخصية الساردة إلى جوار الشخصية ليليان بطريقة سردية فضائية مفتوحة المكان و الزمان .

فضاءات واقعية مغلقة :
أن الفضاءات المغلقة في رواية ( الطريق إلى تل المطران ) تتمثل بطبيعتها من جراء المحققات الوصفية التي أخذت تتعامل مع الأمكنة المحصورة ، ما بين السارد الشخصية و مؤثثات علاقات الجسد الأنثوي المغلق ، حيث نجدها لا تنفك في مشاهد و أقسام تبئيرات الرواية الخاصة من حيز اهتمامات الروائي بالجسد كعادته ومدى ارتباطه النفسي و العاطفي و الغريزي المبالغ به من خلال احتفائيات الأماكن التي يشغلها من فضاءات الواقعية المغلقة ، و الأمر يتضح بموجب هذه الأمثلة الآتية : مثل رقم 1 : ( في الواقع لم تكن ليليان جميلة أنما كانت جذابة .. التنورة القصيرة التي تكشف عن ساقيها البيضاوين .. البلوزة الصوفية الضيقة الصدر و التي تكشف عن أعلى نهديها الصغيرين المحصورين بنعومة . / مثال رقم 2 : فدعوتها للمبيت الليلة معي في شقتي .. إلا أنها اعتذرت . / الرواية ) و يمكن القول إلا أن هناك أحداثا غزيرة في الرواية تكشف لنا مواضع دقيقة من فضاءات الواقعية المغلقة الجسدانية لدى علي بدر .. و لكننا لا نود كشفها الآن دون المرور على سياقاتها التبئيرية الخاصة فيها .

ــ فضاءات حكاية الرواية ورحلة سرياليتها الموقعية.
تمهيد : لعل من أكثر السمات العجائبية اقترانا برواية (الطريق إلى تل المطران ) هو نهوض شخوصها و أمكنتها و أزمنتها و ساردها ، على تكثيف اللحظات التبئيرية و إدخالها في مساحة صورة زمنية / حلمية تتعالى عن الحدث الخطي أو اللاخطي في الوقت نفسه ، فيما تمنحنا أحداثها مجمل تلك الارتكازية الوظائفية التي راحت تمنح مواقف شخوص الرواية أبعادا سريالية مفارقة في مسرح ابدالاتها المتخيلة و اللامتخيلة . كانت أحداث الرواية تعبر عن ذلك الأرتداد المتواتر في ذاكرة السارد الشخصية ، حيث وقوعه اللازمني و اللاقياسي و اللامبرر، تحت سقف واسع من المؤثرات الفنتازية الواقعية ، و الخارجة في الوقت نفسه عن حدود أفق رمزية المكان و الإمكان و الوهم و شرود الذهن الحاضن لأسمى شرنقات إختلافية تلك المدينة المسترسلة بأطيافها خارج حدود محصلة مفارقاتها الشخوصية و التبئيرية . أي أنها مسيرة الطريق إلى تل المطران ؟ .. أي تلك التشكيلات اللونية العجائبية من المواقف و الشخوص و الرؤى التي كانت تستند جميعها إلى تقنية غياب الاحساس بواقعية التجوال و العشق و القتل و التخطيط لهدم الزمن و الناس و حلم الشخصية التي غادرت مدينتها طلبا للحياة و اللذة و الهروب من واقعها المفلس . و لمزيد من الإيضاح تخبرنا أحداث حكاية الرواية ، أن ساردها الشخصية كان حينذاك بلا عمل ، بعد أن أمضى زمن خدمته العسكرية قهرا ، فيما كان لديه صديقة كلدانية تدعى ليليان و التي كان يتضح على سماتها المظهرية : ( مظهر منجم .. و المشبعة بنوع خاص من القدرية . / الرواية ) كانت ليليان حينذاك قد أساءها كثيرا حال صديقها السارد الشخصية لأنه بلا وظيفة ، فكانت تسعى جاهدة من هنا و هناك علها تحظى بوظيفة ما لصديقها العاطل : ( و حين عجزت ليليان عن إيجاد عمل لائق بي .. أخذت تتوسط لي عند تجار الكتب المتخصص بالموسوعات العلمية و الطبية . / الرواية ) و يخبرنا السارد أنه كان قد تعرف على عوالم تتعلق بالأبراج و تحضير الجان و معرفة حركات صفات الكواكب . كانت ليليان في عادتها مولعة بسير و معارف قوميتها الكلدانية ، لذا فإن هذا الأمر بدوره ، لم يفسد طبيعة ود العلاقة بين الطرفين إطلاقا : ( و لم يكن يضيرها أن تكون صديقة لي و حين كانت تقول لي أنها تتحمل أنتقادات قاسية بسبب العلاقة التي تجمعنا .. فإني من جانبي كنت أعد هذا الكلام من قبيل التسليات العابثة . / الرواية ) في الواقع كانت تحضر هذه الصورة و مثيلاتها في السياق الروائي ، لأثبات جدل المكونات و الأعراف و التقاليد في مجال السرد ، و سعيها الدائب إلى طرح مثال شاكلة هذه الانتقادات المجتمعية الرابضة في أفق المستور الشرقي ، إلا أننا و بعد مرور تلك الحوارات المتحفظة بين ليليان و التي كانت تطلقها بوجه الشخصية تغنجا و بما لا يكشف ما وراء الكواليس من حقيقة علاقة الطرفين . نتوقف قليلا أمام فعل مغادرة الشخصية مبنى الكافتريا متجها و هو يتأبط كتاب السيركارما نحو المكتبة البريطانية .

ـــ صافيناز بوصلة المدينة الغرائبية .
نحن إذن في هذا الفصل أمام تمثال ساحرة خرافية قاتلة و شخصية قامت على خلق احساس الدهشة و الإثارة الرغبوية السريعة لدى الشخصية الساردة ، و يبلغ التصوير التبئيري ذروته الكلية ، عندما يصف السارد كامل استجابته الحسية و الغريزية و التقويمية أمام مرأى طيف الشخصية صافيناز في أول دخولها إلى المكتبة البريطانية : ( و ما أن كنت منغمسا كليا في هذا المشهد حتى شعرت بشيء غريب هيمن على المكان بأسره .. فاستدرت كانت هناك امرأة في الأربعين أنسلت من شمال العارضة الخشبية مخترقة مقصورة الاستعارة / و حين ألتفتت نحوي أسرني وجهها .. كانت تقاطيع وجهها صارمة حادة تبلغ حدتها عند مقدمة أنفها .. و كانت نظراتها تكاد أن تكون لحدتها صوتا يرن . / الرواية ) و هذا النوع من الرؤية إلى الشخصية صافيناز من جهة السارد الشخصية ، هو ما دفع المؤلف بالسارد في واقع الأمر إلى أن يبدو أكثر امتثالا حاضرا على تأطير المشهد و وصفه بألوان و خطوط و ظلال سحرية ، حيث راح من خلاله يدمج القارىء في فضاءات جاذبية و سحرية مفاتن تلك المرأة ، كما راح هذا الأمر يضاعف من ومساحة الرغبة في تلك المرأة ، و ذلك عن طريق الحديث معها انبهارا : ( بل لا تسمح لك ــ أن تنسى حضورها أو قوة تأثيراتها / لقد شعرت بوجودها مسز نادر أولا .. فوقفت لتحييها و هي مضطربة و كانت تجيبها بإنكليزية متقنة بصوت له جلجلة معدنية / تركت مكاني و اقتربت من المسز نادر و وضعت كتابي السميك المخلع الغلاف قبالتها على الطاولة / ثم نظرت نظرات متفحصة إلى هذه المرأة / فاستدارت المسز نادر نصف دورة و قدمتني لها تقديما بسيطا . / الرواية ) هكذا بات عنف السارد الشخصية مجسدا في وظيفة الانسحار المندمغة بوظيفة المراقبة و التصوير ، في مقابل وظيفة الفعل التي راحت تنهض بها ذاتيته الشخصية المسحورة أمام كيان تلك السيدة الجميلة على حد قول أخبار الرواية .

ــ السارد يؤطر خطاب التحريك .
و إذا ما تفحصنا منطق الاشتغال الحكائي للوحدات الروائية السردية ، ألفيناها خاضعة لـ(التحريك = التحفيز ) الذي يمارسه شخص حيال أخر بغية تحقيق فعل ما ، و يتجسد في القسم الخاص باللقاء السارد الشخصية بتلك المرأة ، حيث تتم محفزات تحريضها له بالسفر إلى مدينة الخيال تل المطران ، ذلك بعد علمها بأنه يبحث له عن وظيفة ما . و بهذا الأمر نعاين كيفية خضوع محفزات الحكي لنظام سببي ينهض على قابلية تسلسل الأفعال التبئيرية : ( لقد كان سؤالها مباشرا و مدويا مثل سقوط جدار ــ و الآن ما هو عملك ــ محوله نظراتها صوبي تماما / و لم يعد بوسعي سوى التحدث بهمس و صوت مبحوح .. لقد كنت معها كمن يحاول صعود جبل .. و علي التسلق بسرعة فائقة / فضحكت بصوت خفيض ثم حولت نظراتها المصوبة نحوي جانبا .. و قالت بصوت يخفي تحت نعومته سرا ما . / الرواية ) نعم هو السر و الأسرار ؟ التي كانت تتمثلها لوازم حكاية قرية تل المطران ، ولكن ما رحلة هذا السر ؟ و هذه المرأة ما هو موقعها من هذه الدوامة الفنتازية ؟ أقول لنفسي هل هي كانت وجودا قبل هذا السر ؟ أم أنها مشاكلة له أو قبله أو هي لربما كل غيبوبة ميثاق الحكي تماما ؟ .

ــ دال المدينة و السقوط في دليلها المراوي .
كما قال جيرارجينات : ( كل استحضار لاحق لحدث سابق هو النقطة الزمنية التي وصل أليها السرد ) إلا أننا و أمام واقعة رحيل الشخصية إلى تل المطران ، لا نجد فيها ثمة استرجاعا ما ، سوى وصول الراوي الشخصية نحو ذلك النوع من البدايات اللازمنية التي من شأنها بلوغ ناصية زمن الأحداث و الحكاية في فصول مموهة من درجات تكسير الزمن الروائي و تهشيمه ، لأجل خلق حالة فجائية من لعبة دال الترتيب اللازمني في خطاب النص . تخبرنا الرواية عن قول الشخصية صافيناز وصولا إلى الشخصية الساردة و ذلك بقولها الآتي : ( لي صديق يرعى بيعة الكلدان الكاثوليك في مدينة تل المطران .. الأب عيسى اليسوعي . هل تعرفه ؟ كان صديقا للأب لويس شيغو صاحب مجلة المشرق .. كان قد طلب مني أن أهيئ له معلما أو كما يقولونها هم بالسريانية ـــ رابي ـــ لتعليم أطفال تل المطران اللغة العربية .. فماذا تقول ؟ . / الرواية ) .

1ــ المنظور السردي و فضاء استرسال الحكي :
يختزل مفهوم المنظور السردي هنا العلاقة بين مرسل الحكي ـــ السارد ـــ و متلقيه ـــ المسرود له ــ حول ما يسرد في مواقف الرواية . إذن بات من يقدم موقع لعبة الحضور و التقديم هنا هي الشخصية صافيناز ، هذه الخالقة لأسطورة تلك المدينة ــ تل المطران ــ وما يربكنا بالتالي في أمرها هو عدم ظهور وجودها الحقيقي في ذاكرة و تعاملات سكان تلك المدينة ، اللهم إلا ما خلا ذاكرة الشخصية رابي نفسه وما يحفظه عنها من صورة الامرأة الجميلة و البوصلة التي قادته حلما إلى تلك المدينة . رابي هذا السارد الشخصية الذي أخذ بزمام مهام الإنابة عن الروائي في تشكيل صياغة رؤيته نحو ذلك العالم الفنتازي ــ و قد يستقل عنه أحيانا ليتحول إلى شخصية متميز بديناميتها الخاصة ، لكن الروائي هو من يتخيل وهو بالتالي صاحب الصورة التكوينية للسارد الشخصية و شخوص الرواية ،و يذهب ميشيل بوتور إلى أن السارد في روايته لا يعتبر ضميرا متكلما محضا و ليس هو الروائي بذاته ، فالسارد هو نفسه شخصية وهمية .. إلا أن الأمر يبدو مختلفا عندما تجسد كشخصية ساردة ، فأن أمرها يكون حينذاك لزاما علينا عدها حضورا ضمائريا و سرديا يأخذ بزمام حالات الرواية الفعلية ــ كحال الشخصية رابي عندما تحول حاله السارد في بعض من أماكن الرواية إلى شخصية غير ساردة و كأن الروائي هو من راح يتولى عنه عملية السارد في وظيفة تنقلاته في البيعة و حواراته مع القاشا و علاقاته الحميمية مع شمران و وردة و يوسف خورشيد ومع إيلين زوما و تيمور و فريدة و جولي و صاحبة الفندق .

2ــ الرواية و زمن ترابط الأحداث :
أن القارىء المتابع لحقيقة أول رحيل الشخصية الساردة رابي إلى مدينة تل المطران ، لربما يجد ذاته أمام عدة تساؤلات أو هي افتراضات مطروحة : إن عملية عرض الأحداث في الرواية جاءتنا ضمن طريقين ، أولا : السرد في الرواية و تحديدا بعد رحيل الشخصية إلى تلك المدينة ، كان خاضعا لمبررات من السببية ( =العمل ) فأتي الوقائع هناك مسلسلة ما خلا بعض من المظاهر الغرائبية التي كانت تصدر من الناس هناك بشكل مرعب ، ثانيا : لاحظنا بأن السارد الشخصية ، راح يتخلى عن الاعتبارات الزمنية ، حيث أخذت الأحداث في تتابع توصيفي دون أدنى منطق قياسي من شأنه ربط حياة الشخصية الأولى في بغداد و الثانية التي هي في مدينة تل المطران . بيد أننا وجدنا هذه الحياة الأخيرة غير آبه بتلك القرائن الزمنية و المنطقية ، قدر اهتمام ساردها بكيفية عرض شريط الأحداث و تقديمها للقارىء تبعا للنظام التبئيري الذي فرضته الجغرافيا الحلمية المرعبة لذلك الزمن الافتراضي . و تبعا لهذا الأمر صرنا نواجه في حياة الشخصية عبر فضاء قرية تل المطران جملة هذه الأزمنة المتعددة : ( زمن المغامرة : زمن الخوف : زمن الحب : زمن الاعتقاد : زمن المواجهة : زمن البحث : زمن الوقفة الواصفة : زمن الجريمة : زمن الرجوع : زمن اليقظة) . فالنص في رواية ( الطريق إلى تل المطران ) يشكل في جوهره المتخيل بؤرة فضائية زمنية متعددة المحاور و الاتجاهات . و ان كان للروائي فيها حركته المتقنة على مستويات زمنية فاصلة تقع ما بين ( الغيبوبة + الواقع) ثم المراوحة المحورية للروائي بين استخدامه لأصوات و ضمائر ، شخوصية و احوالية مختلفة ، فهذه السهولة بدورها راحت تخفي تعقيدا حقيقيا في ملحقات الخطاب الروائي . كانت مواطن الأحداث في فضاء الرواية تتابع بصورة بانورامية مثيرة ، و صولا منها إلى سؤال الشخصية صافيناز : ( هل هي بعيدة تل المطران هذه ؟ سألتها بعد أن لملمت نفسي التي تخلخلت بقوتها الروحية التي تحيل الشمس إلى قرص من الطين / قالت : ستكون ظروفك أكثر تحررا حين أمنحك توصية. . و سرعان ما استدارت بخفة و خطت خطوات قصيرة واثقة نحو منضدة صغيرة / و أخرجت من حقيبتها ورقة وردية بخطوط دقيقة و قلما محززا بزعفران / و أخذت تحرر رسالة بالسريانية بخط ناعم أنيق ثم وضعتها في مظروف أبيض اللون .. كانت المسز نادر قد ناولته إيها من الدرج الذي قربها .. وكتبت على المظروف العنوان التالي : شمال غرب الموصل / مدينة تل المطران / محطة ترام ــ موصل أستنبول القديمة / الأب عيسى اليسوعي . / الرواية ) ولا يخفى عن القارىء بأن الشخصية صافيناز كانت تقرأ خطوط الكف ، مما جعل الأمر يكشف عن خبايا هذه المرأة الجميلة ، و علاقتها التنجيمية بأسرار تلك المدينة ، و على حين غرة بادرته بالقول اللاحق : ( أن يدك بخطوطها المتشابكة أغرتني بقراءتها / فأكتسحتني بظل نظراتها الثقيلة المندفعة .. و حشرتني في الزاوية التي حددتها عينها بالضبط / و أخذت بعينيها السريعتي الحركة تواصل اطلاق التحذيرات : الناتج دوما ضدك .. أحذر الحب .. أحذر المرأة التي تأتي متأخرة و تخفي تحت عباءتها سكينا صغيرة . / الرواية ) هذا الأختزال في قراءة صافيناز إلى كف الشخصية وهي بمؤشراتها الخطوطية تشير نحو المصائر و الظروف المستقبلية التي سوف يحياها الشخصية في تل المطران ، جاءت و كأنها ذلك النشيد القدري المؤسف الذي غدا يضع حياة الشخصية الساردة في الزوايا المظلمة و الضيقة .

3ــ بؤرة السرد المركز :
تمثل حياة الشخصية في مدينة تل المطران بمثابة ذلك التبئير المركز الذي يحدد تقنيته و أسلوبه الروائي في الرواية ، فيما يعتبر تحديد البؤرة من أهم أنجازات الرواية ، بخاصة فيما يتعلق بالقسم الآخر من حياة الشخصية في تلك المدينة ، حيث تنقسم حياته إلى بؤرة داخلية و هي الجزء الذي راح يقدمه الشخصية عبر منظورها الخاص و بؤرة خارجية راح يقوم بها السارد الشخصية ، من خارج الشخصيات و عادة ما يكون أمرها مرهونا في مجمل علاقته بمنظومتي المكان و الزمان و الوصف . و أما أن تصبح مشاهد الرواية عبارة عن بانوراميات متعددة في نقاط زاوية نظر السارد نفسه الراصدة لعوالم علاقات الشخوص و التذكر و الاستحضار ، للأبعاد النفسية الداخلية و الخارجية التابعة لمؤثرات المنظور السيكلوجي الخاصة بلحظة زمن تصور السارد المتجاوز بالفاصل الزمني بين لحظة تذكر و لحظة عرض مشاهد الأحداثي سردا . كانت لطقوس قراءة صافيناز لخطوط كف الشخصية المشاركة الأثر الفاعل في خياله الشخصي ، و بخاصة إذا كان الأمر مرتبطا حول مصير حياته في تلك المدينة الملغزة . فهي المدينة الموغلة بأسرار و غرائبية و عدمية شخصية ذلك القس المدعو بالقاشا : هذا القس العراب شعرا و وصفا ، الذي كانت له في الوقت نفسه كل زمام السيطرة و السطوة على سكان تلك المطران و شمران تلك الفتاة الجميلة صديقة الشخصية المشاركة الذي كان كل همها هو إخراج ذلك الكنز المدفون تحت قصر جدها .

ـــ كتاب الساعات و كونية القاشا التدميرية .
لا ينفصل الموت في قرية تل المطران عن كونه حدا لوجود ما ، إلا ليعانق أطلاقه و رمزيته ، كما لا ينتهي من إيهامه بالنهاية إلا ليولد حالات تمثيلاته و صوره اللانهائية . من هنا قد يكون الموت خاتمة ما ، بيد أنه حياة أخرى في محيط آخر من زمن وقوعه في فضاءات جغرافيا و أزمنة و تضاريس دخول السارد المشارك إلى قرية تل المطران : ( لقد شعرت بروحي تتدلى بسكون عميق دون اختلاجة .. و مشاعري مزدوجة .. الرعب بجمالة العاصف .. و فيض سعادة روحية كانت تغمرني بمسرات شبيهة بتلك التي تحصل عليها من المركبات المرعبة و الخطرة في مدن الملاهي / استيقظت من نومي مرتبكا و حاولت الاتصال بليليان مرة أخرى / ليليانة كنت اتصلت بك قبل قليل و قالت لي صديقتك بأنك ذهبت إلى الكنيسة / فجاءني صوتها مرتبكا غائما عبر سماعة الهاتف : أوه .. ما بك .. لقد أيقظتني من نومي .. أما تنتظر حتى الصباح لتكلمني فأنا نعسانة .. ثم أغلقت سماعة الهاتف / شعرت كأني عبرت الطريق الشاق للنهر السحري الذي لا يتجاوز عرضه قيد أنمله . . كان وجهي في المرأة أصفر مريضا مثل قيء متجمد . / الرواية ) . كانت مدينة تل المطران على حد قول السارد ، قريبة في معمارها من تلك المدن ، التي قام الأحتلال الانكليزي في تشييدها ، ويخبرنا الشخصية المشارك في الرواية عن حصول ثمة أحداثا غريبة لحظة دخوله إلى السوق الذي كان يتوسط المدينة : ( كنت أسير على الرصيف المزدحم بالبائعين و البائعات / كانت هناك عربة تحجز الشارع .. و لكي اجتازها كان علي أن أقفز فوق بضائع البائعين الملقاة على الأرض / في الواقع كانت الشابة السريانية قد فاجئتني بذعرها .. فاضطربت و بدأت أتقدم نحوها لتهدئها ..إلا أنها ارتدت أمامي إلى الخلف / فانتقلت الفوضى إلى السوق بأجمعه .. و كلما أتقدم نحو شخص لأوضح له الموقف كان يصرخ و يهرب أمامي مذعورا . / الرواية ) و بعد مشاهد هروب الناس من وجود و هيئة السارد الشخصية ، تبين أن هناك ثمة حكاية قديمة تنبأ بحدوث الخطر و الموت لحظة دخول هذا الشخص و ظهوره في المدينة ، فيما قرر أخيرا بالذهاب إلى البيعة التي كانت : ( واجهتها الحجرية من استدارة في الطريق .. و بعد أن تجاوزت الحديقة الصغيرة في آخر الشارع رأيت الكنيسة بأقواسها الحجرية . / الرواية ) و عند وصول الشخصية إلى مبنى الكنيسة ، كان هناك : ( الراهب يقف وراء الراهبة مباشرة .. يرمقني بنظرات ثابتة واثقة / و خلفه إلى جهة اليسار قليلا وقفت فتاة لا حد لجمالها / الرواية) كان ذلك في الواقع هو القاشا و الجميلة شميران و قد أخبرته الراهبة بمرض الأب عيسى اليسوعي بعد أن أعطت الراهبة الرسالة إلى القاشا ، بعد أن قامت هي بدورها بقراءتها أولا ، فيما راح القاشا يقرأها بصوت تصفه به الرواية : ( أخذ يقرأ الرسالة بصوت عال وهو يمسح صلعته براحة يده / والجميع يتطلع نحوي بفضول و ذعر / نظر القسم نحوي بعد أن أخرج ساعته من جيبه و قطب حاجبيه الكثين الأصفرين على عقاربها ثم أعادها إلى مكانها .. و قال وهو يخلع نظارته : الأب عيسى اليسوعي مريض جدا .. إنه في الواقع يحتضر .. ستبيت الليلة عندي .. و من ثم نتفق حول مسألة الرابي في بيعتنا . / الرواية ) . في الواقع كانت شميران هي من تكفل بمرافقة الشخصية إلى منزل القاشا . تعرفنا الرواية أيضا بشخصية تلك السيدة التي كانت تعمل ساهرة على خدمة القاشا و تدعى جولي : ( جولي .. الرابي / استدار نحوي مبتسما و قال : ــ جولي أوقفت حياتها لخدمتي ؟ / الرواية ) . هكذا تعرفنا الأحداث على شخوص عديدة و حكايات مختلفة ، كحال حكاية إيلين زوما و قصة خيانتها ليوسف خورشيد متخذتا من شقيقه زيا زوجا لها ، فيما تقابلها حكاية عشق تيمور للعاهرة فريدة و زواجه بها بعد أن شعر بمدى تمسكه بها عاطفيا رغم علمه الأكيد بأن جسدها كان ملاذا لكل رجال تل المطران . أما حكاية خورشيد و حبه الأنتقامي لإيلين فقد آل مصيره بالنهاية إلى إشاعة أخبار الفسق و المجون حول إيلين ، و ذلك بعد أن كان زيا راقدا في السجن ، فيما كان خورشيد يراود شقيقه بالزيارات المتباعدة إلى السجن ، محاولا إقناع شقيقه بأن إيلين كانت تستغل وجوده في السجن ، بل هي أيضا من دفعه إلى تسليم نفسه إلى المخفر قصدا منها الفراغ منه حتى يتسنى لها إدخال ما تبتغيه من الرجال ، و ما كان الأمر إلا بإيلين مضرجة بدمائها قتلا على يد زيا بعد خروجه من السجن : ( أنا أحب زيا من كل قلبي ؟ ابتسمت و كأنها تحلم فسألتها : و أخوه ؟ .. نظرت نحوي و هزت رأسها .. لا رابي كنت عرفت يوسف قبل زيا صحيح .. لكني لم أحبه .. لم أعده بشيء .. كانت معرفتي به لأسبوع فقط .. قاطعتها : و الخرزة إيلين ؟ أعطيته الخرزة هدية صحيح .. أنا ما أنكر .. ما كنت أعرف .. غلطت رابي من أعطيته الخرزة ؟ بعد أسبوع رأيت زيا .. فشعرت بأن هذا هو الشخص الذي يريده قلبي / كنت مطمئنة رابي من أن زيا ما يصدق الشائعات .. إلى أن وصلتني رسالة منو يردد فيها كل ما ينشر في تل المطران / و قال أنو عرف بالمؤامرة أللي دبرتها ضدو .. و أنا أللي أدخلته السجن حتى يخلو لي الجو و أستقبل العشاق في بيتي ./ الرواية ). و تبقى أمام مجموع كل تلك الحكايات ، حكاية شميران و حكاية القاشا ، هذا الشاعر المدمر بأخيلته الكابوسية ، فكلن يحمل من الرؤى ما يستحق متابعتها رغم عنفوانها و سرياليتها ولا وجودها من الحقيقة الوجودية تماما ، فهذا القاشا كان عرابا و ممهدا لخروج ذلك النبي الأكذوبة ، فيما كانت له أي القاشا ، ثمة مفاهيم تقتضي منه بسحق العالم بأسره ، عالم الفقراء و الجياع و العامة من الناس على حد قول لسان الرواية : ( لقد كان كتاب القاشا يأخذني معه لأنه مكتوب بلغة ساحرة .. ولكن الأفكار التي كان يتضمنها كانت مضحكة نوعا ما و مثيرة للسخرية في أحيان كثيرة / من المثير أنه كان يلبس كل شيء لبوسا مسرحيا / ذلك أن الناس تلعب أدوارا في مسرحية يخرجها الله / كان يرى إن البشرية تحيا في عالم من دمى مربوطة بخيوط غير مرئية في السماء / و هكذا يرى القاشا أننا بحاجة للمثل الأعلى في البطولة بعد أن ننظر إلى الموت على أنه ذروة اكتمال الحياة/ كان يرى إن البشرية قد خلقت وهي تشعر هذا الشعور الكاسح بالموت .. و الطابع الزائل للأشياء فشحذوا خيالاتهم باختراع عوالم لا يتمتع فيها الموت بسيادة : عوالم الشعر / و يختتم كتابه برؤيته النهائية للدين .. فهو يرى إن الدين سيتحول إلى السريالية بفعل داخلي لا خارجي / فالسريالية هي التطور النهائي لفكرة الدين .. لأن الدين كله سيذهب و ينتهي و تبقى منه فكرة الشعرية / نحن الذين يمكننا أن نبتكر ديانة جديدة .. و نبيا جديدا .. ولا يمكن أن يكون هذا النبي إلا من أسيا . / الرواية ) . أما الشخصية شميران فكانت هي الأخرى تمارس لعبة التوافق مع أفكار القاشا ضمنا ، إلا أنها من جهة أخرى كانت تود إشراك السارد الشخصية معها في مؤامرة قتل القاشا ، و ذلك طلبا لها للسمو و السيطرة و النفوذ بدلا من وجود القاشا ، المهيمن بأفكاره و شعبيته على كل صغيرة و كبيرة في تل المطران . شميران من أقرب النساء إلى شخصية السارد ، لاسيما و أنه قضى معها أجمل اللحظات الخاصة بالنشوة الجنسية : ( و قادتني وهي عارية إلى السرير .. كانت قد استلقت بصمت بعد إن شدت شعرها إلى الوراء .. فأخذت أقبلها من عنقها الأبيض المحزز حتى صدرها .. كانت تتنهد و تشق و تصعد للأعلى تحت جسدي وتهبط من اللذة / كنت غفوت جنب شميران قليلا .. فتحت عيني كانت تنام عارية إلى جانبي و قد مدت يدها و وضعتها على عنقي / بينما كنت أرى إلى جانبها قطرات دم عذريتها على الشرشف الأبيض / وحين تقدمت من الخوان وجدت صورة صغيرة و قديمة / كانت الصورة تشبهني إلى حد بعيد / فنظرت إلى شميران و كانت تتململ على السرير سألتها : شميران لمن هذه الصورة ؟ فقفزت من السرير بعد أن لفت الشرشف الأبيض على جسدها و أخذت الصورة من يدي و قالت : ماذا تفعل بها .. إنها لوالدي . / الرواية ) تخبرنا حكاية الرواية أيضا عن عشق والدة شميران مع ذلك المعلم القديم الذي كان قد أغتصبها ثم تركها و هرب : ( لمن هذه الصورة شميران ؟ / هذا المكان الذي نحن فيه نجلس هو مكان أمي / هو المكان ذاته الذي فقدت به أمي عذريتها مع المعلم الذي جاء إلى تل المطران قبل عشرين عاما . / الرواية ) .

ــ السارد الشخصية بين القاتل و المقتول .
هكذا كانت تفاصيل السيناريو الذي قامت بإعداده شميران ، حيث يتلخص في عثورها على الكنز أولا ثم بعد ذلك تباشر في عملية قتلها لجدها الذي كان رافضا لوجود مع هذا المعلم السارد ، و وصولا بها إلى عملية التخطيط و التكنيك إلى الوقوع بالشخصية القاشا قتلا ، و يتجسد السيناريو على النحو الأتي : ( أسمع رابي علينا أن نتخلص منه / بمساعدتك .. المسألة بسيطة .. سيعلن القاشا ظهور النبي الليلة / سيقتل القاشا عيسى اليسوعي و سيقول للناس بأن النبي موجود في أحدى حجرات الكنيسة و بعد ذلك يخرج للناس بين أونة و أخرى ليكون وسيطا بين الناس و بين النبي .. و سيفرض على الناس كل ما يريده بأسم النبي . / الرواية) . و لقد شكل هذا المثير الحبكوي و التبئيري أقصى درجات ذروته الدرامية في ظل اقتناص الظلال الصورية للشخوص الروائية ، ولما كان التخطيط السردي مستندا إلى تقنية المستور المخفي بأبعاده الوقائعية ، فقد بات تكوين المعادلات التبئيرية الرئيسة في محفز الأحداث متماديا في موجات الحلم الشخوصي الذي كان مجسدا بالشخصية الساردة و حدها. ولا شك إن الروائي حين كان يعيد تخطيط محطات السارد الشخصية الحياتية الأخيرة في فضاء غيبوبة الحكي ، فإنما ليذكي الاحساس لدى المتلقي بمأساوية مسار شخصية السارد وهي تواصل إحياء فصولها الغروبية و بأسترسال راح ينظر خاتمة الأحداث بقصية النفاذ إلى نقطة الاحاطة بأسرار هذه الأمكنة و إيحاءاتها المراوية داخل تركيبات معقدة من معادلة أحوال الشخصية الساردة ، فيما ظل الشخصية الساردة في الوقت نفسه هو ذلك الخيط الرفيع الذي يحاول الروائي انتشاله بشاعرية شفيفة تكمن بين حدود التكوين و الثبات الملتبس و شرنقات شخوصها الروائية اللاممكنة في تلك المدينة الطافحة بالخطوط السريالية و الامتدادات التخييلية للأمكنة و المواقف التوصيفية .

ـــ تعليق القراءة ـــ
و تشتمل الأحداث الروائية الأخيرة القادمة من وحدات شخوص تل المطران ، بواقعة مقتل القاشا و موت عيسى اليسوعي ، إلا أننا نود التدقيق في سردية عوامل و دوافع هذه الحوادث ، لاسيما و أن الشخصية رابي كان ممن يتمسك بعوالم فئات النخبة و النخب : ( و أن نيوتن هو الذي سيحكم هذه الساعة الدقاقة و العظيمة / أعرف إن هناك عائقا واحدا هو القاشا / لكن يمكنني إزاحته .. حتى لو كان بهذا العدد الضخم من المرتزقة الذين تلهبهم و تحركهم فكرة النبي ./ الرواية ) . لاحقا تتبين لنا خيوط اللعبة التي دبرتها شميران إلى الإيقاع بالقاشا و ذلك من أجل كما قلنا سلفا ، الأستحواذ على مركزية القاشا و الحلول مكانه ، طلبا منها للمزيد من الثروة و القاعدة الشعبية ، و قد تم الأمر على ما يبدو على أكمل و جه ، و ذلك بتحريك الشخصية الساردة رابي ، بذريعة إقناعه بأن القاشا : ( أسمع رابي إن القاشا سيقتلنا بعد أن يعلن ظهور النبي / و أول شيء سيقوم به هو اتهامنا بأننا خاطئان .. و سيسلمنا لحملة الأعلام و السكاكين و الأمواس / تلك اللحظة ارتعدت : و ماذا لو أعلن الآن ظهور النبي .. و ما أن نصل إليه فإنه سيقتلنا ؟ / لا تخف لن يعلن ظهور النبي .. إلا بعد أن نصل إليه / و قالت لا تخف معنا الكثير من الحراس .. و معنا كنز من الذهب .. سنشتري به الكثيرين / الرواية ) . يخبرنا السارد بأن لشميران ثمة مخطوطة تشير إلى هندسة توزعات الطرق و الأمكنة في تل المطران ، و ذلك لأجل وضع الخطوط التدبيرية اللازمة لدخول المكان الذي كان فيه يسكن القاشا : ( لقد وافقتها في الظاهر .. أما داخلي فقد قررت أن أسيطر عليها و أحجم سلطتها .. سأغفل كل شيء في المرة الأولى و أسير معها .. و سأختار بوعي ما يمكنني اختار لأتحكم بكل شي هذا الحذف هو الذي يولد لدى شميران الإيحاء بأني تابع لها . و تبعا لهذه المشاهد نسأل .. هل استطاع السارد الشخصية ممارسة لعبته على أتم وجه كان ؟ أم كان مكر شمران هو الأدهى من لعبته التي راحت تتوالى و تتلاشى و تزول مع اقتراب وصولهم إلى حجرة القاشا وجها لوجه ؟ : ( تقدمت شميران نحوه / قررنا أنا و الرابي أن نتبعك في كل خططك .. و سنضع تحت تصرفك ما نملك .. هذا الكنز تحت يديك .. كانت شميران تتحدث وهو يصغي لها بانتباه / فنظر في عيني طويلا ثم استدار نحو شميران وهو يحمل ريشة الطاووس التي كان يكتب بها / قالت له : قاشا متى تعلن ظهور النبي ؟ :ــ اليوم سأعلنه ولكن أتقسمون على طاعتي .. نعم نعم . . قلنا له / الرواية ) و تعميقا لهذه الاتفاقية ، أخذت شميران تطلب من القاشا بعد زمن اعلانه عن تواجدية ذلك النبي بأن يقل للناس ، بأن شميران تود إلقاء كلمة .. و أنا أقسم بأني من أتباعك .. هل هذا كاف . / الرواية ) و بعيدا عن أي تأويل اسقاطي منا ، نعاين خروج القاشا للناس ، لتذهب دلالات صوته الجهوري نحو تراكم محتملات العلامات الانفتاحية الموحية بالإشعاع الباذخ الناتجة من هيئة القاشا الشخصية و المقامية : ( كان صوت القاشا يأتينا حادا عذبا مرتجفا و متموجا / لقد جعل أهل الشقالب و المهرجين ينبطحون على الأرض / شعرا عظيما لم أسمع مثله .. و كان له تأثير السحر الأسود على الناس / ألتفتت شميران نحوي قالت تهيأ .. فتحسست السكين في جيب معطفي حادة باردة .. قالت : أسمع ــ بإمكانه أن يقضي علينا الآن .. هل تعرف نبوءة الكردية إلى نهايتها ؟ / الرواية ) في الواقع إن السارد الشخصية لا يعلم شيئا من أمر لنهاية تلك النبوءة ، بيد أنه لم يكن يتصور في الوقت نفسه أن لتلك النبوءة ثمة نهاية يعلمها : ( أهدأ .. أهدأ تقول النبوءة : أما يقتلك القاشا أو أن تقتله .. لكن حتى لو سلمك الآن للحشود فأن لن أتركه يفعل ذلك / و تمسكت بمقبض السكين بقوة لحظات و قال القاشا : ــ أن خنتا شميران تريد تتحدث أليكم / فرتاحت شميران : ــ أسمع أول ما يدخل القاشا ؟ / و دون أن تكمل .. دخل القاشا و ما أن شهرت السكين .. دفعته شميران من أكتافه بقوة فدخلت السكين في بطنه . / الرواية ) لقد أثار مشهد قتل السارد بالسكين للقاشا مكامن روعه ، فيما راح يصف لنا طقوس اندلاق شلالات الدم من بطن القاشا : ( أحمر قانيا مثل صبغة البويا / الرواية ) فيما راح يخبرنا السارد عن توجه شميران إلى الحشود خارج الحجرة : ( لقد كنت صامتا و قد بدأت شميران بالحديث / الرواية ) و على حين غرة أخذ السارد يعلمنا واصفا شعرية نغمات صوت شميران ثم تحوله إلى طبقات موحشة : ( أصبح مرعبا .. و قاسيا .. بشعا .. ثم صرخت بصوت عال جمدني : ــ لقد صدقت نبوءة الكردية .. فصرخت الحشود بقوة .. حين قالت أن النخرايا .. هذا النخرايا الأسود هو الذي سيقتل النبي / الرواية ) هكذا تنكشف خدعة و مكر شميران بالسارد الشخصية ، كما تنتهي حقيقة توليد هذا المخلوق الوهمي المسمى بـ ( تل المطران ) فقد يكون لهذا الجزء من الرواية علامة من علامات فضاء غيبوبة المحكي و فنتازيا السارد الواقعي ، أو هذا الأثر المتولد بالأنتاج المراوي النفسي بالمتخيل الواقعي وهو ما يشكل ذلك الفضاء الغرائبي في فصول كتابة روائية تتعلق بالشخصية المشاركة في أفعال و أصوات و علاقات مكونات مدينة أو قرية هي من صنيع زمن محكي تلك الفاصلة الفنتازية التي كان يحيا أحداثها الغيبوبية ، و ذلك عبر محصلات استنتاجاتنا للواقعة الختامية في الرواية ، و التي تلوح لنا بأن الشخصية بعد عودته إلى صديقته ليليان قالت له بعد أن كان قد حدثها حول تفاصيل رحلته إلى تل المطران : ( تحدثت لها عن كل شيء .. دون أن تدخل في التفاصيل وهي تنظر نحوي بشكل مفزع .. و حين انتبهت أخرجت علبة السجائر من حقيبتها / و نفذت الدخان في وجهي قالت : هل لي أن اضحك ؟ :ــ لماذا ؟ : ــ لأنك لم تغادر إلى أي مكان / الرواية ) . لذا فأن السارد الشخصية لعلي بدر في روايته ( الطريق إلى تل المطران ) صار يروي متذكرا ما كان قد رأى ، و يروي مفكرا في هذا الذي رأى ، ليروي فيعيد تركيب ذلك الفضاء من زمن دلالات غيبوبة المحكي لرواية فنتازيا السارد الواقعي عن أحداث تلك المدينة الغارقة في خيالاته السابحة في مرايا أحلامه اللامرئية .

أحدث المقالات

أحدث المقالات