18 ديسمبر، 2024 11:08 م

مستقبل وظائف البشر والاقتصاد المعرفي

مستقبل وظائف البشر والاقتصاد المعرفي

ثمة جدل واسع يدار حالياً عن مستقبل الوظائف البشرية مصاحباً لازدهار الاقتصاد المعرفي، وتطور التكنولوجيا، وأجهزة الذكاء الاصطناعي، ولعل القول: إن الموظف في ظل هذا الاقتصاد قد يفقد وظيفته في الواقع التقليدي هو محتمل ووارد، لكن ما يجب الانتباه له أن الوظائف البديلة قد بدأت تمارس عملها وتحاول إيجاد حيز لها في عالم الإنسان، وفرها اقتصاد المعرفة في عوالم التكنولوجيا بشكل عام؛ ولقد تبلورت فكرة الوظائف غير الاعتيادية عندما نقلت بطريقة المحاكاة نماذج من عقول البشر المتميزين في العالم في بعض المجالات العلمية والرياضية كلعبة الشطرنج مثلاً التي استطاع المبرمجون أن ينقلوا بعض الأنماط التفكيرية لبعض اللاعبين وطريقتهم في التفكير كالروسي بطل العالم في اللعبة كاسباروف وغيره من اللاعبين المتميزين، بحيث يستطيع اللاعب أن يلعب معهم عبر جهاز الكمبيوتر بلا أدنى شك في أنه أمام أعظم اللاعبين في العالم وفي حضرتهم، وكذلك أيضاً في لعبة كرة القدم وغيرها من الألعاب التي يتم برمجة تطبيقات الحاسوب عليها.

الفكرة ذاتها بعد التطوير أصبحت تهدد باستبعاد البشر من وظائفهم، فالآلات التي يتم برمجتها في عالم الذكاء الاصطناعي تؤدي وظيفة الإنسان على أكمل وجه، بل وتؤديها بلا أدنى مضاعفات أو تكاليف، ولهذا فقبولها وارد وإقبال أهل المال والأعمال عليها شديد ومتلهف، فآلة واحدة يمكنها أن تقوم مقام خمسة موظفين، بل ومقام جيش من الموظفين.

إن المصانع الكبيرة في ظل هذا التطور قد تخلق أزمة بطالة كبيرة ومثلها المؤسسات الأخرى في كل المجالات والقطاعات وعند الحديث بإيجابية وتفاؤل سنجد بعض الوظائف البديلة لكنها قليلة مقارنة بما تخلقه أجهزة الذكاء الاصطناعي من بطالة ومنها وظائف إعلامية كوظيفة المواطن الصحافي؛ وهناك مهنة اليوتيوبر أو البلوجر التي وفرها تطبيق اليوتيوب، وفي الاقتصاد الرقمي نجد أن سعي الكثير من المتخصصين والهواة في سبيل الحصول على البيتكوين وبقية أنواع العملات الرقمية بالانخراط بالعمل في عمليات التعدين يمثل وظيفة وفرها اقتصاد المعرفة.

ولأن أهم سمة من سمات اقتصاد المعرفة هي إلغاء المركزية والابتعاد عنها كثيراً في كل المجالات، بما فيها التكنولوجيا، تماماً مثلما فعل الاقتصاد الرقمي، فالوظائف التي يوفرها اقتصاد المعرفة تشبه في لامركزياتها تلك اللامركزيات التي نلمسها في عالم الاقتصاد الرقمي، ويستطيع أي شخص أن يجد حظه فيها، وكسب الأموال من خلالها، دون الالتزام بدوام في مكان ما، أو في وقت محدد مثلاً.

أيضاً ثمة توجه جاد في القطاعات الخاصة نحو الاستثمار في مجالي البحوث والتنمية تصدياً، لما تخلفه موجة التكنولوجيا من آثار سلبية في قطاع الوظائف بكل أنواعها، وهو ما يعزز فكرة تحقيق المجتمع المعرفي بالمقابل، ويسعى إلى تنميته.

وتبقى الزراعة المصدر الاقتصادي الأقرب إلى مزاج الحضارات البشرية، وأصولها الفطرية، والذي يمكن التكهن بتطوره كثيراً، وهو ما سيقال عن اللجوء إليه حينها تقدماً بآثار رجعية، أو هو ما أسست له الاشتراكية، ونادت به في أهم المنعطفات الاقتصادية في تاريخ البشرية، حيث تم ربط الثورة الاشتراكية بالثورة الزراعية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا قد يتحقق بالفعل، لكن باستخدام منظومة التكنولوجيا لتطوير العمل الزراعي، ومؤكد ستشمل طفرة التكنولوجيا المجال الزراعي، أو هي كذلك الآن، ويتم الاستغناء عن وظيفة البشر فيها من خلال توفير آلات أكثر شمولية في عملها، لا تحتاج سوى شخص واحد يدير عمل الآلات في الحقول، ويشرف عليه فقط.

إن التطوير المتزايد للروبوتات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي يهدد الكثير من الوظائف التي تتطلب مهارات تقنية، ولذلك فالتكنولوجيا تدعو إلى تعلم الأفراد للتقنيات التي تصنعها، وأهمها أجهزة الكمبيوتر، فهي من خلال هذا العلم تسمح بالقيام بالعديد من الوظائف المعرفية، التي تتطلب تعليماً كبيراً؛ ما قد ينتج بدوره- في حالة التخلف عنه- بطالة كبيرة في جميع مستويات المهارة، وركود أو انخفاض الأجور لمعظم العمال، وزيادة تركيز الدخل والثروة لأصحاب رؤوس الأموال بشكل أكبر من أي وقت مضى في عالم الاقتصاد؛ وهذا بدوره يؤدي إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي، وانخفاض النمو الاقتصادي باعتباره الجزء الأكبر للإيرادات التقديرية، التي تكفي لإفقار السكان عن شراء المنتجات والخدمات التي ينتجها الاقتصاد المعرفي.

بطبيعة الحال فإن هذه التكنولوجيات المتفوقة والموارد والجغرافيا والتاريخ- في الأساس، وإذا ما تم استخدامها بمسؤولية وشفافية- تؤدي إلى اقتصادات قوية؛ وفيها يتدفق الفائض الاقتصادي الطبيعي إلى التوسع في استخدام التكنولوجيا، لأن التكنولوجيا جزء لا يتجزأ من المجتمع الإنساني، ولا سيما في الجوانب الاقتصادية، ومصادر التمويل (الجديدة).

رغم كل ذلك يجب ألا ننسى تأثير القيم في المجتمع على تنفيذ التكنولوجيا ومنتجاتها، فهي لن تسمح بضياع أبناء المجتمع من أجل اللحاق بركب التطور التكنولوجي العالمي، وحتى وإن فعلت فسيكون في حساباتها أن الأولوية هي للإنسانية وليست للتكنولوجيا، وهذا قد يبدو مختلفاً من مجتمع إلى آخر أي بحسب القيم السائدة فيه، وللحديث بقية..