إن التغيرات الكونية الكبرى جعلت الأمن القومي للدول، ومنذ الحرب العالمية الثانية، بل وحتى قبلها، لا يقف عند حدودها، إنما يمتد حيث مصالحها الاستراتيجية، وحيث تكمن التهديدات المحتملة. وبذلك فهو يختلف تماماً عن مفهوم السلامة الوطنية، الذي يتعلق بالأوضاع الداخلية.
فهذه إسرائيل، تعتبر العالم الإسلامي، وخاصة ما يقع بين الهند والعراق، أي باكستان وأفغانستان وإيران، عمقاً ستراتيجياً محتملاً في الصراع العربي – الإسرائيلي. لذلك فهي في أي تقدير ستراتيجي للأخطار المستقبلية، تضع هذه المنطقة في الدائرة الثالثة من اهتماماتها. وفي مرحلة معينة، وتحديداً بعد دعم إيران لحزب الله وحركتي حماس والجهاد، وضعتها في دائرة اهتماماتها الأولى.
وهذه مصر، تعتبر خط أمنها القومي يمتد شمالاً من الحدود التركية – السورية، وينتهي جنوباً بمنابع النيل. وهناك رأي ظهر في منتصف الخمسينات، يرى بأن الأمن القومي المصري يبدأ شمالاً من منطقة القوقاز. وقد استند هذا الرأي على وجود الاتحاد السوفييتي السابق في القوقاز، واعتبر بالتالي أن أي تمدد له هناك، ينطوي على تهديد للامن القومي المصري.
إن الأحداث التي دارت في العراق وحوله – منذ الحرب العالمية الثانية – أوضحت بجلاء بأن الأمن القومي للعراق، يمتد مسافات طويلة، أبعد من حدود العراق الدولية.
ويمكن ان نمثل أمن العراق القومي بخطين مستقيمين يتقاطعان في بغداد على شكل علامة (X) تقريباً.
فالخط المستقيم الأول، وهو الذي كان ولا يزال أكثر أهمية من الخط الآخر، يمتد من طهران شرقاً حتى القاهرة غرباً. وقد أثبتت الأحداث، أن أي اختلال بهذا الخط ينعكس بقوة على أمن العراق.
فعندما أدار نوري السعيد ظهره للبلاد العربية، وتحديداً للقاهرة ودمشق، وأسرف في التوجه شرقاً، حيث أقام حلف بغداد مع إيران وباكستان وتركيا، أدى هذا إلى اضطراب الأحوال في العراق، ولم ينفع معها إقامة (الاتحاد الهاشمي) مع الأردن. وانتهت الأمور باندلاع ثورة 14 تموز، وسقوط النظام الملكي.
وفي الستينات والنصف الأول من السبعينات، عندما اضطربت العلاقات مع إيران الشاه، جرت شلالات الدم في شمال العراق، ولم تتوقف إلا بعد توقيع اتفاقية 6 آذار 1975 بين العراق وإيران.
وفي أواخر السبعينات، وعندما اضطربت العلاقات مع إيران الثورة، فإن حرباً دامية اندلعت لثماني سنوات بين العراق وإيران، وهي ربما السبب في كل ما أصاب العراق من حروب وكوارث.
أما الخط الآخر، فهو يمتد من تركيا (حيث منابع دجلة والفرات)، وحيث خط أنابيب النفط العراقي، وخط التجارة البري مع أوربا ومع تركيا نفسها. وينتهي هذا الخط بمضيق هرمز، حيث الممر البحري للنفط العراقي، وحيث جاء الغزو الاستعماري البريطاني للعراق الحديث مرتين في القرن الماضي (الاحتلال البريطاني عام 1914، والاحتلال البريطاني الثاني عام 1941)، وحيث جاءت أيضاً القوات الأمريكية في حرب الكويت عام 1991، ناهيك بالحرب الأخيرة (2003).
والحقيقة أن الأهمية السياسية للخط الثاني، لم تظهر إلا بعد عام 1977، أي بعد ظهور ما سماه الدكتور صادق جلال العظم بـ (الحقبة السعودية). والتي ظهرت عقب انكفاء الدور المصري بعد اتفاقية فصل القوات في سيناء عام 1975، ثم زيارة السادات للقدس عام 1977. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فإن أهمية هذا الخط ازدادت أيضاً مع ازدياد الدور التركي في الشرق الأوسط، منذ الحرب العراقية – الإيرانية، وتصاعد المد الإسلامي فيها وفي عموم العالم الإسلامي. فقد اصبحت اليوم قوة اساسية في احداث المنطقة وفي تشكيل مستقبلها ٠
ناهيك بالعامل الكردي، والذي أصبح بمرور الوقت الهاجس الأمني الأول لتركيا، إذ اندلع تمرد كردي كبير في جنوب شرق تركيا، وقد اتخذ من سوريا، ثم من العراق قاعدة له.
ثمة عامل آخر، ربما كان أكثر خطورة وأهمية من كل العوامل الأخرى المتعلقة بالعلاقة مع تركيا، حتى وإن كان العراق لم يلتفت – لا في عهوده الماضية ولا بعد ٢٠٠٣ – لخطورته وأهميته، وأقصد مشكلة المياه، التي نشأت منذ تنفيذ تركيا لمشروع جنوب شرق الأناضول، الهادف إلى إنشاء أكثر من 20 سداً على نهري دجلة والفرات، من دون التشاور مع العراق وسوريا، خلافاً للقانون الدولي المتعلق بحقوق الدول المشاطئة على الأنهار الدولية.
إن العراق يواجه اليوم مشكلة مياه خطيرة، فأمنه المائي في خطر، بل أن مستقبله – بسبب مشكلة المياه – على حافة سكين. ولهذه المشكلة عدة أوجه، أهمها ثلاثة، هي:
الأول: إن الأمم المتحدة تقدر حاجة الفرد من المياه سنوياً بـ (1000 م3). وفي العراق، كانت عام 1990 حصة الفرد من المياه 2354م3 في السنة. وبلغت عام 2000 – وحسب تقديرات الأمم المتحدة – 1718م3. أما عام 2025 – وأيضاً حسب تقديرات الأمم المتحدة – فستبلغ 920م3، أي أقل من المعدل العالمي لحاجة الفرد من المياه.
الثاني: إن مستوى المياه في الأنهار الرئيسية قد انخفض إلى أكثر من 50٪، الأمر الذي ألحق أضراراً فادحة بالزراعة والبيئة.
الثالث: إن النقص في كميات المياه الواردة إلى العراق، رفع من ملوحة مياه الأنهار، وبالتالي من ملوحة التربة، خاصة بالنسبة لنهر الفرات، والذي يعاني أصلاً من مشاكل محليه، أدت إلى أن تزداد الأمور سوءاً، كزيادة مياه البزل المعادة إلى النهر، وأيضاً مروره بمناطق ملحية كمملحة السماوة، وهكذا أصبحت مياهه غير صالحة للري أو السقي.
إن حل مشكلة المياه مع تركيا أصبح أكثر إلحاحاً، لكنه يحتاج إلى حكمة عميقة وصبر شديد. وعموماً فإن عراقاً تجتمع فيه القوة (بمعناها السياسي والاقتصادي) والحكمة، بعيداً عن روح المغامرة، سيكسب بالتأكيد احترام جيرانه لحقوقه ومصالحه.
للأسف فإنه لم تكن للعراق، في أي يوم من الأيام، ستراتيجية أمن قومي، أو حتى سياسة خارجية مدروسة وقائمة على تقاليد رصينة، إنما كانت هناك سياسات آنية ومزاجية وانفعالية.
ويبدو هذا الأمر بأشد مساوئه، في مجال العلاقات العراقية – السورية، والتي ظلت في أغلب الأحيان متوترة، إن لم تكن مقطوعة. ففي العهد الملكي ارتبطت برغبة الأمير عبد الإله في الاستيلاء على سوريا، وتحويلها إلى مملكة له. والعهد الجمهوري ارتبطت بعدم الاستقرار السياسي في كلا البلدين. أما بعد عام 1968، فقد ارتبطت بالصراع الحزبي بين جناحي حزب البعث. وقد بلغت الأوضاع بين البلدين من السوء، بحيث أنهما دخلا في حرب باردة بينهما، كان يمكن أن تصل – في أية لحظة – حد الصدام المسلح.
لقد أصبحت سوريا، بعد تولي الرئيس حافظ الأسد السلطة في عام 1970، وبسبب موقعها، ودورها في الساحتين الفلسطينية واللبنانية، وانكفاء الدور المصري، وافتقاد السياسة العراقية للعقلانية، إلى لاعب أساسي في المنطقة. وبالتالي إلى إحدى الدول المؤثرة في الساحة العراقية، خاصة بعد أزمة الكويت عام 1990. باختصار يمكن القول أن سوريا – بعد عام 1970 – أصبحت هي التي تمسك بنهاية المستقيم الممتد من طهران إلى القاهرة، بدلاً من القاهرة.
واستمر هذا الحال حتى اندلاع الاضطرابات فيها عام ٢٠١١ ٠
اما اليوم، وفي غياب الدورين المصري والسوري ، فان الذي يمسك بنهاية ذلك المستقيم هو الاردن ٠ وطبعا هناك ايضا موضوع (اسرائيل ) والتي لازالت من الناحية الرسمية في حالة حرب مع العراق ٠والذي يحتاج وحده بحث مستقل ٠
إن تأثير هذا البلد أو ذاك في أمن أي بلد آخر، هو تأثير متبادل، ولذلك فان الامن القومي لاي بلد ، هو ان يصبح فاعلاً في محيطه، ويحد – في الوقت نفسه – من تأثيرات الآخرين على مصالحه. وقد قال ديغول ذات مرة: (قيمة أي بلد تكمن في إنجازاته، وقوة عملته، وتأثيره في محيطه).
ويعرّف معجم الأكاديمية الفرنسية السياسة بأنها: (معرفة كل ما له علاقة بفن حكم الدولة وتوجيه علاقاتها مع الدول الأخرى). أما المفكر الكبير محمد حسنين هيكل، فهو يرى أنه لا توجد سياسة خارجية، إنما هناك سياسة داخلية لها امتدادات خارجية، إذ ليس هناك سياسة خارجية – حسب رأيه – لا يرى فيها أهل البلد منافع لهم.
من هنا فإن الأمن القومي لأي بلد، هو الذي يوفر الشروط اللازمة لحياة سليمة وآمنة، لشعب ذلك البلد. وهذا يعني أن الأمن القومي يتحدد بضرورات الجغرافية ودروس التاريخ، أما عندما تحدده أمزجة الحكام وانفعالاتهم – كما فعل صدام – فإنه حتماً سيقود البلد إلى الهاوية.