23 نوفمبر، 2024 6:34 ص
Search
Close this search box.

لعنة الذهب الأسود

لعنة الذهب الأسود

في منتصف ليلة ألخامس والعشرين من شباط عام 1991 وبينما كانت رحى حرب ألخليج ألثانية تدور في وطني أصابني ألأرق، كان صوت ألرعد في ألخارج يدوي كدوي أنفجارات ألقنابل ألّتي كانت تنفجر فوق رؤوسنا منذ شهر ونيّف في سمفونية عنيفة وعارمة، وفي تلك أللحظات لَمْ أستطعْ أنْ أمنع نفسي مِنْ أستعادة أحداث حياتي أمام ناظري، هذه ألأحداث التراجيدية ألّتي أستمرّت أثنين وأربعين عاما.
وممّا زاد في أضطراب تفكيري وأحاسيسي ظروف هذا ألصراع ألدامي مِنْ أجل ألذهب ألأسود ألّذي أحرق ألأخضر وأليابس في منطقة الخليج ألعربي.
لقد أحسستُ برغبة عارمة لكتابة هذه القصّة ألّتي تحكي قصّة إنسان منسي في غياهب الحياة، هذا ألإنسان ألّذي ينتظر نهايته ألمحتومة وألّتي نسميها الموت…….أللغز المُحيِّر ألّذي لَمْ يستطعْ أحد مِنْ فكِّ طلاسمه.
في هذه أللحظات ألمُتَّسمة بألتأمُّل بدأتُ أتساءل لِمَ أشعر بهذه ألرغبة ألجنونية لكتابة هذه ألقصّة؟ هل هي محاولة للخلود؟ ولكنَّ كلكامش حاول قبلي أنْ يُخلِّدَ نَفسَهُ فلَمْ يُفلِح، وباءت محاولات ألكثيرين مِنْ بعده بألفشل أيضا. إنَّنا كبطل ألأسطورة أليونانية سيزيف ألّذي أستطاعَ أنْ يخدع إله الموت ثانتوس وكبّله، مما أغضبَ كبير الآلهة زيوس، فعاقبه بأنْ يَحمِل صخرة مِنْ أسفل ألجبل إلى أعلاه، فإذا وصلَ القِمَّة تدحرجت ألصخرة إلى ألوادي، فيعود إلى إصعادها إلى القِمَّة، ويظلُّ هكذا حتّى ألأبد، لذا أصبحت هذه ألأسطورة رمزاً للعذاب ألأبدي. إنَّ أشد ما يؤلِم في ألحياة أنَّ ألإنسان يسقط شهيداً عندما يشيخ، فهو كألثمرة ألّتي تحين أوان قطافها عندما تنضج، وألأشد إيلاما مِنْ هذا أنْ تسقط ألثمرة قبل ألنضوج.
بألرغم مِنْ هذه ألأفكار ألّتي راودتني بدأتُ بكتابة هذه ألصفحات، فلعلني أكتشفُ فيها نفسي وأملأ ألفراغ ألّذي أُحسُّ به نتيجة لتعطّلي عن ألعمل بسبب ظروف هذه ألحرب ألمُدمِّرة. كان سبب تعطّلي عن ألعمل أستدعائي لخدمة ألأحتياط للمرة ألثالثة بعد أنْ أكملت ألخدمة ألألزامية عام 1977 كضابط مجنّد في مديرية ألأشغال ألعسكرية، وعند نشوب ألحرب تمَّ إخلاء وحدتنا ألعسكرية إلى قضاء ألعزيزية لتقليل ألخسائر في صفوفنا لأنَّ وحدتنا كانت تُعتبر مِن وحدات ألمقر ألعام وليست لها خبرة قتالية ثُمَّ نُقِلتُ إلى منطقة إخلاء ثانية بالقرب مِن قضاء بلدروز. لقد بدأت بكتابة هذه ألقصّة في معسكر ألإخلاء ألثاني، وسأبدأ هذه ألقصّة كما بدأَتْ قصّة كلّ إنسان عاش ويعيش وسيعيش في غياهب هذا ألكون ألعجيب مِنْ لحظة إطلاق ألصرخة ألأولى….. مِنْ لحظة ألميلاد……
ولِدّتُ في منتصف شهر حزيران مِنْ عام 1949 في مدينة كركوك، هذه ألمدينة ألتاريخية ألّتي تقع في ألشمال ألشرقي مِن ألعراق. تنتصب في مركز مدينتي وعلى ضفاف نهر خاصة صو قلعتها ألتاريخية ألّتي تمتد تاريخها إلى ألفترة ألآشورية، ويُقال أنَّ ألملك ألآشوري ناصربال بنى هذه ألقلعة ألعتيدة بملأ ألمناطق ألمستوية ألمحصورة بين ثلاث تلال بألتراب وأنّه أسْتخدَم ألأسرى مِن بني إسرائيل لهذا ألغرض، ويوجد في ألقلعة مقامات ثلاثة أنبياء من بني إسرائيل، هم دانيال وعزير وحُنين، هذه ألمقامات تغفو بهدوء تحت سقف جامع قديم يُدعى بجامع ألنّبي دانيال، ويحيط به مساكن قديمة لقسم مِن أهالي ألمدينة.
ساكني كركوك يُسمّون ألجهة ألشرقية مِن ألمدينة بقلعتها بالصوب ألكبير وهو في الأصل مدينة كركوك ألقديمة، أمّا ألجهة ألغربية مِن ألمدينة فتُسمّى بألقورية. المجرى ألجاف لنهر خاصة صو يُقسِّم ألمدينة إلى شطرين ويمتلأ ألمجرى بسيول ألأمطار ألّتي تهطل في ألشتاء على ألتلال وألجبال ألمحيطة بالمدينة مِن ألجهة ألشمالية وألشمالية ألشرقية.
يرتبط شطرا مدينة ألذهب ألأسود بجسرين مبنيين مِن ألخرسانة ألمسلّحة ويقعان على جانبي ألقلعة ألتاريخية، بألقرب مِن ألجسر ألجنوبي ألّذي سُميَّ بعد مجزرة كركوك ألرهيبة بجسر ألشهداء هنالك آثار جسر حجري قديم بناه ألعثمانيون وكانت تُسمّى بطاش كوبري أي ألجسر ألحجري.
بعد إعادة فتح بغداد مِنْ قِبل ألسلطان ألعثماني مراد ألرابع، سيطر ألعثمانيون على مُعظم أنحاء ألعراق ومِن ضمنها مدينة كركوك، وخلال ألحكم ألعثماني للعراق كانت ألمدينة تابعة إداريا إلى ولاية ألموصل، ولايزال مبنى مقر ألجيش ألعثماني قائما ويسميّه أهل ألمدينة بألقشلة وتعني ألمقر ألشتوي ويسمّيه ألبعض أيضا بناية ألسراي، يتميّز هذا ألمبنى بأعمدته ألحجرية ألدائرية ألضخمة وألّتي تسند أقواسا نصف دائرية عند مدخل ألرئيسي للمبنى، أمّا ألجدران ألخارجية على جانبي ألمدخل فهي مُسندة بجدران ضخمة عمودية على الجدار ألخارجي وسطح هذه ألجدران ألساندة مائلة بزاوية تتجه مِن ألأعلى إلى ألأسفل وقد ساعدت هذه ألجدران على صمود ألمبنى ألمكوّن مِن طابقين أمام عاديات ألزمن.
ألقاطنون في مدينة كركوك خليط مِن عدّة قوميات وأديان ومذاهب، ففيها يعيش ألتركمان وألعرب طوألأكراد ألمسلمون بسنّتهم وشيعتهم وألآثوريون وألارمن ومسيحيوا ألقلعة والسريان وألكلدان بإخوّة وصفاء منذ قرون بأستثناء بعض ألأحداث ألّتي عكّرت صفو ألمدينة، وكانت هذه ألمدينة تضم أيضا أقليّة مِن أليهود ألّذين هاجروا إلى فلسطين بعد تشكيل دولة إسرائيل عام 1948، كان أليهود يقطنون في ألشطر ألشرقي ألقديم مِن ألمدينة في محلّة خاصّة بهم كانت تُسمّى بمحلّة أليهود، ولعلّهم كانوا مِن أحفاد أولئك ألأسرى ألّذين جلبهم ألملك ألآشوري لبناء قلعته.
ولِدّتُ في هذه ألمدينة ألموغلة في أعماق ألتاريخ وألّتي شهدتْ مُعظم أحداث حياتي وذكرياتي في محلّة جقور ألّتي تقع في ألصوب ألكبير وتعني ألعميق أو ألحفرة وربّما سُميت بهذه ألتسمية لكون مساكنها مبنية على أرض منخفضة أو لكونها منخفضة نسبة إلى ألقلعة ألشامخة ألمجاورة لها.
أختار والدي لي بعد ولادتي أسم يالجن وهو أسم تركماني، وكانت ولادتي في شهر حزيران ألّذي تبدأ فيه درجات ألحرارة في ألعراق بألأرتفاع وخلال أيام أمتحانات ألوزارية ألعامّة للمرحلة ألأعدادية لشقيقي ألأكبر أورخان، ولعلَّ ولادتي خلال فترة ألأمتحانات لها علاقة بأحداث حياتي ألمقبلة وألّتي كانت للدراسة وألأمتحانات وألنجاح وألرسوب فيها أبلغ ألأثر في مجرى حياتي، إنَّ ألإنسان خلال رحلته ألقصيرة في ألحياة يخضع شاء أمْ أبى لإمتحانات لا أول لها ولا آخر، ففي ألمدرسة وألجامعة امتحانات، وفي ألحياة أليومية أمتحانات لا حصر لها وألله يمتحننا ويبتلينا كلّ يوم لفصل ألخبيث مِن ألطيّب.
كان والدي محمّد فاتح رجلا مكافحا ينحدر مِن عائلة تركمانية، وكان جدّي ملّا صالح يُعلِّم ألقرآن للصبيان وقد أستشهد في معركة جناق قلعة ألّتي جرت بين ألجيش ألعثماني وألحلفاء ألغربيين في آسيا ألصغرى وعلى ضفاف مضيق ألبسفور.
بعد وفاة جدّي تزوّج والدي من فتاة تركمانية مِن عشيرة صاري كهية ألّذين كانوا يسكنون في ألقورية في محلّة تُسمّى بصاري كهية، وقسم منهم كان يسكن في قرية بلاوة ألتابعة لهم وكانوا يمارسون زراعة ألقمح وألخضراوات. هذه ألقرية أزالها مِن ألوجود صدّام حسين أثناء حكمه بسبب سياسة ألتعريب ألّتي كان يمارسها ولكونها مجاورة لحقول باباكركر ألغنية بألنفط. عشيرة صاري كهية أنجبت بعض ألقادة ألعسكريين ألّذين خدموا في ألجيش ألعثماني ومِن ثمَّ في ألجيش ألعراقي بعد تأسيس ألدولة ألعراقية وأذكر منهم ألقائد مصطفى راغب باشا ألّذي شارك في معارك فلسطين ألّتي جرت بين ألدول ألعربية وأليهود خلال فترة تأسيس دولة أسرائيل.
كانت هذه ألزيجات بين شاب مِن ألصوب ألكبير وفتاة مِن ألقورية أو ألعكس نادرا ما تحصل في مدينة كركوك، وقد تمَّ أختيار ألعروسة مِن قبل جدتي ملّا حليمة وألّتي كانت تعلّم ألبنات ألقرآن في ألكتّاب.
نتيجة لظروف ألحربين ألعالميتين ألأولى وألثانية، عانت عائلتي كبقية ألعوائل ألعراقية مِن شظف ألعيش، حيث كانت ألمواد ألغذائية شحيحة وأتذكّر أنَّ والدي حدثنّا عن تلك ألفترة في إحدى ألمرّات قائلا ” أثناء ألحرب ألعالمية ألاولى ذهبت إلى قرية مجاورة للمدينة سيرا على ألأقدام وأشتريت بالمال ألقليل ألّذي كنت أملكه كيسا مِن ألقمح ورجعت حاملا ألكيس على كتفي “.
أمّا فرص ألعمل فكانت محدودة في تلك ألفترة وقد أشتغل والدي في شبابه في مهنة ألسراجة في دكّان صغير في ألسوق ألكبير ألمجاور للقلعة، وكان في تلك ألفترة يرتاد ألتكيّة ألكبيرة المسماة بتكيّة ألشيخ جميل، وكان يتناوب على مشيخة هذه ألتكيّة أفراد مِن ألعائلة ألطالبانية وأشهرهم ألشاعر ألمعروف ألشيخ عبدألرحمن ألطالباني والد شاعر ألهجاء ألمعروف ألشيخ رضا ألطالباني. أفراد هذه ألعائلة كانوا يكتبون ألشعر بأللغة ألتركية وألكردية وألفارسية وأحيانا بأللغة ألعربية.
كان معظم ألدراويش يجتمعون في هذه ألتكيّة لذكر ألله وألصلاة وممارسة بعض ألطقوس ألخاصة بطريقتهم ألصوفية ألمعروفة بألكزنزانية، كجَرحِ أجسادهم بالسيف أو ألشيش بعد وصولهم إلى حالة ألغيبوبة نتيجة ألذكر ألمتواصل وبمصاحبة إيقاع ألدفوف وألنقّارات، وأعتقد أنَّ هذه ألممارسات نوع مِن أنواع ألتنويم ألمغناطيسي ألّذي يُمكّن ألجسم مِن تحمّل ألألم ولا علاقة لها بالدين ألإسلامي بدليل أنّها تُمارس مِن قبل فئات أخرى غير إسلامية كفقراء ألهندوس والبوذيين، ولكنّها كانت تُعتبر معجزة مِن ألمعجزات ألدينية، وكان ألدروايش يدعّون بأنَّهم يمارسون هذه ألطقوس والمعجزات أمام ألجمهور لتقوية إيمان ألنّاس وأقناع ألمشركين وأهل ألكتاب بصدق ألدعوة ألإسلامية.
ألطريف في ألأمر أنّه في حالة فشل بعض ألدروايش في تحقيق ألمعجزة وأصابتهم بجروح خطيرة فأنّهم يعزون سبب ذلك إلى وجود شخص جُنُب بين ألجمهور. كان والدي كبقية ألدراويش مسترسل ألشعر وزاهدا في ألحياة، حيث كان لا ينام إلّا على حصيرة مصنوعة مِن خوص ألنخيل. مِن الحكايات ألطريفة ألّتي كان والدي يرويها عن تلك ألفترة مِن حياته أذكر ألحكاية ألتالية: قال والدي ضاحكا ” كنّا نمارس ألذكر في فناء ألتكيّة في موسم ألصيف ونصدم رؤوسنا في ألحائط في بعض ألأحيان، وفي حالة معرفتنا بمراقبة ألفتيات لنا مِن ألسطوح ألمجاورة، كنّا نصدم ألحائط بشدة أكثر “.
روى لي أحد مِن معارفي وهو يكبرني في ألعمر، وقد عاصر تلك ألفترة حكاية ذو مغزى نقلا عن صديقه، قال ” كان صديقي يعمل سائقا لباص ذو سقف خشبي وكان يقوم بنقل ألعمّال مِن وإلى شركة نفط ألشمال لقاء أجرة، وكان في ألشركة مدير أنكليزي يدعى تشرشل. في أحدى ألأيام نقلَ ألسائق مجموعة مِن ألدراويش مع شيخهم مِن تكية ألشيخ جميل إلى قرية تقع على ألطريق ألخارجي ألّذي يربط كركوك بمدينة ألسليمانية، بعد أستقرار ألمجموعة في مسجد ألقرية وصلت سيّارة إلى ألقرية وترجّل منها شخص ذو سحنة بيضاء وبعيون زرقاء وكان لابسا ألزي ألكردي وعلى رأسه عمامة، قال ألسائق: سألت أحد ألساكنين في ألقرية: مَنْ هذا؟ فأجابني هذا ألشيخ ألكبير للطريقة. كان وقع ألأجابة عليَّ كألصاعقة، لأنَّ ألشيخ ألكبير لَمْ يكن سوى مستر تشرشل “.
بعد هذه ألمرحلة مِن حياة والدي ونتيجة لمطالعاته وتأثره بألثورة ألثقافية ألعلمانية ألكمالية في تركيا حدثَ تحوّل جذري في أفكاره ونظرته إلى ألدين وطقوسها، فترك ألدروشة وقصَّ شعره ألطويل وغيّرَ زيّه إلى زيّ أوربي ولبس قبّعة متأثرا بألأنقلابات ألّتي قادها مصطفى كمال أتاتورك بعد تأسيس ألجمهورية ألتركية على حطام ألأمبراطورية ألعثمانية. في أحدى ألمرّات سألت والدي عن سبب تركه للدروشة فقال ” في إحدى ألأيام وعندما كنت راجعا من ألتكيّة في ألليل وكان ألوقت متأخرا شاهدتُ قسم مِن زملائي ألدروايش ألمسلحين بألبنادق وهم يقطعون طريق أحد ألمارّة ويسلبونه، هذه ألحادثة تركت في نفسي جرحا عميقا ولَمْ أستطع ألتخلّص مِن تأثيرها، وقد تركت ألدروشة بعد هذه ألواقعة بعدّة أيام “. أعتقد أنَّ ألسبب ألآخر لتركه ألدروشة وألّذي لَمْ يذكره والدي هو استشهاد جدّي في معركة جناق قلعة، فهذه ألحادثة جعلت شعوره ألقومي يطفو فوق سطح لاشعوره، وبما أنَّ مُعظم مرتادي ألتكيّة وشيخهم كانوا مِن ألأكراد، فلمْ يستطعْ والدي ألتوفيق بين شعوره ألقومي ألجارف وكونه درويشا تحت أمرة كردي، وقد يكون سمِع بحكاية ألشيخ تشرشل وهذه ألحكاية تدلُّ على سيطرة ألأنكليز ألّذين كان والدي يمقتهم على ألطريقة ألكزنزانية في كركوك ويوجهونها لتحقيق مآربهم في كركوك ألغني بالذهب ألأسود.
رافقتْ هذه ألتغيُّرات ألدراماتيكية تركه لمهنة ألسراجة وأختار مهنة ألكُتبي ألّتي كانت مهنة قلّما يمتهنها أحد في تلك ألأيام وأسس أول مكتبة لبيع القرطاسية وألجرائد وألمجلّات وألكتب في مدينة كركوك، وخصص ركنا منها للمطالعة، وكان ألمولعون بألقرأة وألثقافة يرتادونها بأنتظام وسمّاها في ألبداية ( أوميد قرآت خانه سي ) وبعد فترة مِن خروجه مِن ألسجن غيّرَ ألتسمية إلى ( مكتبة ألأمل ) وهي ترجمة للتسمية ألتركية ألسابقة.
بدأ محمّد فاتح كفاحا مريرا مِنْ أجل لقمة ألعيش وألقيام بأود أسرته ألمتكونة مِن تسعة أفراد، كانت ألمكتبة ألمصدر ألوحيد لرزق ألعائلة، لقد كان أختياره لهذه ألمهنة نابعا مِن حُبّه للثقافة بألرّغم مِن أنّه لَمْ يتلّقى ألعلم في ألمدارس حيث تعلّم ألقرآة وألكتابة بأللغة ألعربية في كُتّاب والده. كانت هذه ألكتاتيب منتشرة في أرجاء ألعراق خلال تلك ألحقبة وكانت تشكّل ألمصدر ألوحيد ألشائع لتعلّم ألقرآة وألكتابة، وكانت كلّ محلّة تحوي كُتّابا وتسمّى بأللغة ألتركمانية (ملّا) وهذه ألتسمية تعني مُعلِّم ألقرآن او رجل ألدين ألّذي كان يُدرِّس في هذه ألكتاتيب. كان لكلّ ملّا مساعد يختاره مِن بين ألصبيان وعادة يكون أكبرهم سنّا وكانوا يسمّون ألمساعد بألخليفة، ومِن مهام ألخليفة ألمحافظة على ألنظام ومساعدة ألملّا أثناء تطبيق ألعقوبة على ألصبيان ألمشاكسين بضرب باطن أرجلهم بألعصا بعد ربطها إلى (ألفلقة).
تأثر والدي بثقافة عصره وتعلّمَ ألقرآة وألكتابة بألتركية وبمجهوده ألخاص، وكان يُستعمَل فيها ألحروف ألعربية حينذاك، وبعد تغيير ألحروف ألعربية إلى ألحروف أللاتينية في أللغة ألتركية نتيجة ألثورة ألثقافية ألكمالية، تعلّمَ والدي ألقرآة وألكتابة بألحروف ألجديدة أيضا وبدأ بحملة لتعليمها لِمَن يروم ذلك مِن أهالي ألمدينة، وكان يُجيد بعض أللغات ألآخرى وعلى درجات متفاوتة مِن ألجودة كأللغة ألكردية وألفارسية وألأنكليزية، وكان مولعا بمطالعة ألكتب وبألأخص ألكتب ألأدبية منها، وقد أصدر في عام 1950 أوّل كتاب بألحروف ألتركية ألحديثة يجمع ألشعر ألشعبي ألتركماني ألمسمّى بألخوريات، وقد جمع في هذا ألكتاب ثلاثمائة مِن ألخوريات ألمتداول بين ألتركمان نقلا مِن أفواه ألنّاس وألمطربين ونسقّها حسب ألحروف ألأبجدية في كتابه ألمعنوّن ( كركوك خورياتلاري وماعنيلري ) وتعني ( خوريات وأغاني كركوك ).
وألخوريات شعر على شكل رباعيات ذات أوزان هجائية سباعية وقافية موحّدة وأحيانا يكون ألبيت ألأوّل ذو ثلاث أو أربع أوزان هجائية امّا البيت الثالث من الخوريات فلا يُلتزَم فيه بالقافية.
يُغنّى الخوريات باستخدام المقامات ألموسيقية الشرقية، ولكلّ مقام طريقة في ألأداء ويُطلق عليها أسم (أصول) كأنْ يُقال (مُخالِف أصولي) أو (حسيني أصولي) أو (كَرَمْ هواسي) كما يٌطلق على ألخوريات أسم ألقوريات أحيانا، وهي لون من ألوان فلكلور ألغناء ألتركماني ألأصيل في ألعراق وتتألف من مايزيد على ألعشرين مقاما تحمل خصوصياتها من حيث ألتركيبة ألشعرية ألمبنية على (ألجِناس)، وألجِناس هي أستعمال كلمة ذات معنيين في ألشعر. كانت تلك المقامات تؤدّى في ألمقاهي في تلك ألحقبة، وتؤدّى أيضا ليلا في التكايا وأثناء المناقب النبويّة الشريفة بألدفوف وألنقّارات وكذلك اثناء الاحتفال بالختان والاعراس، وتؤدّى المقامات والخوريات ألآن مع الآلات ألموسيقية مثل ألعود وألقانون وألكمان وألسنطور وعلى شكل محاورة غنائية، وكانت تثير حماس ألجمهور ألّذي يحضرون للإستماع إلى إلمؤدّين للخوريات وتنتهي المحاورة الغنائية باستسلام احد المؤدّين بعد نفاذ خزين ذاكرته من الخوريات او تحوّله الى خوريات ذات موضوع مختلف.
إنّ ألمقامات ألموسيقية ألشرقية هي تُراث مشترك بين ألشعوب ألقاطنين في ألشرق ألأوسط، فألأتراك وألعرب وألفرس وألأكراد وشعوب أخرى شرقية يستعملون نفس ألمقامات في ألغناء مع بعض ألأختلافات في ألتفاصيل ومِن هذه ألمقامات، مقام ألبيات وألحجاز وألرست وجاركاه وبنجكاه ونهاوند ويتفرّع مِن كلّ مقام مقامات فرعية عديدة.
نتيجة لحُب والدي للثقافة فقد أرسل أبناءه وبناته إلى ألمدارس ألّتي بدأت بألأنتشار تدريجيا وحلّت محل ألكتاتيب وبألرغم مِن معارضة بعض ألأقارب على إرسال بنتيه إلى ألمدرسة فقد أصرَّ على ذلك وأقنع ألمعارضين بضرورة تعليم ألبنات أيضا في ألمدارس، وكانت هذه ألمعارضة ناجمة عن ألتقاليد ألبالية الموروثة مِن نظام ألحريم.
في ألعام ألّذي ولِدّتُ فيه كانت مدينة ألذهب ألأسود كبقية ألمدن وألأقضية وألنواحي وألقرى ألعراقية ترزح تحت نير ألأستعمار ألبريطاني، فبعد أنْ وضعت ألحرب ألعالمية ألأولى أوزارها، أصبح ألعراق مِن حصّة بريطانيا بعد توقيع أتفاقية سايكس بيكو وألّتي بموجبها تمَّ تقسيم ممتلكات ألأمبراطورية ألعثمانية بين ألحلفاء ألمنتصرين.
بألرغم مِن أكتشاف ألذهب ألأسود في منطقة باباكركر إلّا أنَّ أهالي مدينة كركوك كباقي أفراد ألشعب ألعراقي لَمْ يستفيدوا مِن هذه ألثروة ألفتيّة، فبعد ألبدء بأستخراج ألنفط وتشكيل شركة نفط ألعراق، أستخدم ألبريطانيون موظفين أنكليز في ألشركة مع عدد مِن ألموظفين وألعمّال ألمحليين وكانت حصّة ألأسد مِن هذه ألثروة تذهب إلى خزائن ألمُستعمِر ألبريطاني.
بدأ حقد ألبريطانيين على ألشعب ألعراقي بجميع أطيافه واضحا مِن خلال تعاملهم مع أهالي ألمدينة، هذا ألحقد ألّذي تغلغل في نفوسهم منذ ألحروب ألصليبية، ولكّن ألتركمان نالوا منهم معاملة خاصة كألتهميش وحبك ألمؤامرات ضدّهم حيث كانوا يعتبرون ألتركمان مِن رعايا ألأمبراطورية ألعثمانية ألّتي أنتصروا عليها وتقاسموا إرثها فيما بينهم.
بدأ ألبريطانيون بزرع بذور ألشقاق بين ألمسلمين وألمسيحيين ألّذين كانوا يعيشون في ألمدينة بوئام وصفاء وذلك لإحكام سيطرتهم على ألمدينة وعلى ألذهب ألأسود ألمخزون في باطن أرضها. في تلك ألفترة ونتيجة لمعارضة ألتركمان للسياسة ألبريطانية ورفضهم ألأستفتاء على تنصيب ألملك فيصل ألأول ملكا على العراق ألّذي كانوا يعتبرونه وعائلته مِن ألّذين غدروا بألمسلمين وتعاونوا مع ألبريطانيين لمحاربة ألدولة ألعثمانية ألّتي كانت تمثّل ألخلافة ألأسلامية في تلك ألفترة، ولوأد ألروح ألقومية ألمتنامية بين صفوف ألتركمان، قام ألجنود ألمرتزقة ألتابعين للبريطانيين ألّذي ضمَّ بعض ألآثوريين ألعراقيين وألهنود والّذين كانوا يُسمّون بألليفي بأعمال نهب لدكاكين ألتركمان وقتلوا عددا مِن ألمواطنين وقد جرت هذه ألأحداث في ألرابع مِن شهر أيّار مِن عام 1924.
( بداية ألمجزرة كانت في ألموصل فبسبب السلوك الخشن لقوات الليفي وقعت مشادة بين عدد من أفراد هذه القوات والسكان الموصليين في سوق العتمة في 15 آب 1923 ، وأدّى ذلك إلى وقوع عدد مِن القتلى وألجرحى في صفوف ألأهالي بعد أنْ أطلق جنود ألليفي ألنار عليهم ، وكادت الأمور تفلت مِن يد ألحكومة بعد أنْ تهيّأ ألأهالي للثأر من جنود ألليفي مما دفع ألحكومة إلى ألاتصال بالمندوب السامي البريطاني طالبة منه ألمساعدة في إحتواء ألأزمة ، وتم ألإتفاق بين ألحكومة وألمندوب ألسامي على سحب قوات ألليفي مِن ألموصل إلى كركوك، وأضطر ألملك فيصل إلى السفر إلى ألموصل لتهدئة أهالي ألموصل بنفسه خوفاً مِن تطور ألأوضاع إلى ما لا يحمد عُقباه، غير أنَّ قوات ألليفي لَمْ يتوقفوا عن تصرفاتهم ألرعناء تلك ، بل قاموا بمجزرة جديدة أُخرى أشدّ وطأة، في كركوك بتاريخ 4 أيّار 1924 .
ففي ذلك أليوم تخاصمَ عدد من أفراد قوات ألليفي مع أحد الأهالي في أحد أسواق كركوك ، وأدّى ألخصام إلى جرح أحد أفراد ألليفي ، فما كان منهم إلاّ أنْ ذهبوا إلى ثكنتهم ، وجلبوا معهم عدداً كبيراً من أفراد قوات ألليفي ، مع كامل أسلحتهم وصاروا يطلقون النار على كلّ مَنْ واجههم في ألطريق . وعندما تصدّى لهم أثنان مِن رجال ألشرطة لمنعهم مِن إطلاق ألنار ، أطلق أفراد قوات ألليفي ألنار عليهما وقتلوهما في ألحال ، فلمّا رأى ألأهالي مدى إستهتار قوات ألليفي أندفعوا حاملين سلاحهم للدفاع عن أنفسهم فوقعت مصادمات عنيفة بين الطرفين ، ووقع عدد كبير مِن ألقتلى وألجرحى جاوز عددهم 200 شخص .
ولمّا عِلمَتْ ألقبائل ألمحيطة بكركوك بما قامَ به جنود ألليفي زحفت جموع كبيرة بأسلحتها لأخذ ألثأر منهم . غير أنَّ ألمندوب ألسامي سارعَ إلى إخراج قوات ألليفي مِن كركوك قبل وصولهم ، وتمكَّن مِن ترحيلهم إلى قضاء جمجمال ألواقع بين ألسليمانية وكركوك ، وأصدرَ بياناً إلى الأهالي يدعوهم إلى إلتزام جانب ألهدوء واعداً إيّاهم بإجراء محاكمة للمعتدين ، ودفع تعويضات لأهالي ألمقتولين وتعويض المصابين .
إلاّ أنَّ ألمندوب ألسامي بدلاً مِن أنْ يُنفِّذ وعده بمحاكمة ألمعتدين، أقال مُتصرِّف أللواء ، وعيَّن رئيس ألبلدية بدلاً عنه ، وقام بحملة إعتقالات واسعة في صفوف ألأهالي ، وأرسلَ فوجاً من ألجنود ألبريطانيين إلى كركوك بالطائرات، للحيلولة دون قيام ألأهالي بأيّ أعمال أنتقامية .
أمّا إجراءات ألحكومة ، فلم تتعدَّ تخصيص 30 ألف روبية للأهالي ألمنكوبين في تلك ألأحداث، وألطلب مِن ألمندوب ألسامي نقل قوات محلية للشرطة تقوم مقام قوات ألليفي لحماية ألأمن وألنظام في المدينة، وجعل إدارة كركوك كإدارة بقية ألألوية .
وتحت ألضغط ألشعبي ألغاضب وألمتواصل ، وألمُطالِب بمحاكمة ألمجرمين مِن قوات ألليفي، أضطرَّ ألمندوب ألسامي إلى تشكيل محكمة، برئاسة ألبريطاني بريجادر وعضوية ألحاكمين عمر نظمي وعبد الكريم ألكركوكلي بالإضافة إلى ضابط بريطاني، وألمارشمعون رئيس ألطائفة ألآشورية.
أجرَتْ ألمحكمة محاكمات صوريّة لبعض ألمجرمين ، ولم تُتّخذ أيّ إجراءات فعّالة بحقهم ، حتى أنَّ ألميجر أدمونس قال عن تلك ألمحاكمات مايلي:
“إنَّ ألحكومة ألعراقية، وألرأي ألعام ألعراقي ظلّوا يعتقدون بأنَّ ألسلطات ألبريطانية تحمي ألمجرمين”).
قاومَ ألعراقيون مع إخوتِهم ألتركمان ألأحتلال ألبريطاني لبلدهم بكلِّ ما أوتوا مِن قوّة، ولمْ تكن ألحكومات ألذليلة ألّتي شكلّها ألمُستعمِر أقل قسوة وظلما مِن ألبريطانيين أنفسهم، فقد عانت عائلتي ألأمرّين مِن هذه ألحكومات، فبألأضافة إلى شظف ألعيش، أُعتُقِل والدي محمّد فاتح بتهمة ظالمة، فبسبب إعتزازه بقوميته ومعاداته للإحتلال ألبريطاني ونشاطاته ألسياسية فقد تمَّ تقديمه للمحاكمة ألعرفية وحُكم عليه بالسجن مع ألأشغال ألشّاقة لمدّة أربع سنوات، قضى مِنها في ألسجن سنتان وأُفرِجَ عنه بعد صدور قرار ألعفو عن ألسجناء ألسياسيين بعد أعتلاء ألملك غازي عرش ألعراق.
بعد ألمجزرة ألّتي نفذتها قوات ألمرتزقة ألتابعة للبريطانيين المسماة بقوات ألليفي في ألرابع مِن شهر أيّار مِن عام 1924 قام ألعمّال في شركة نفط ألعراق في كركوك بإضراب للمطالبة بحقوقهم ألمهضومة في 12 تمّوز مِن عام 1946. يذكر ألباحث وألكاتب ألتركماني أرشد ألهرمزي في مؤلّفِه صفحات مِنْ ألتاريخ ألتركماني حول هذه ألمجزرة ما يلي:
” لقد تحددت مطالب عمال شركة نفط العراق أثناء إضرابهم العمالي في المطالب التالية:
1- المطالبة بأن تنشيء شركة نفط العراق مساكن صحية للعمّال أو أن تمنحهم بدلات للسكن المريح.
2- المطالبة بالتأمين الاجتماعي ضد البطالة والعجز والشيخوخة.
3- تحديد الأجر الأدنى للعمال بمبلغ 250 فلسا عراقيا لليوم مع مخصصات تبلغ 170 فلسا لغلاء المعيشة، بحيث يكون مجموع الأجر اليومي 420 فلسا عراقيا.
4- المطالبة بتوفير المواصلات إلى مقر العمل ومنه.
5- المطالبة بمعاملة العمّال أسوة بعمّال الشركة في حيفا من حيث منحهم بدلات مخاطر الحرب وبواقع أجر ما يماثل 72 يوما في العام.
6- توقف الشركة عن الفصل التعسفي للعمّال ومعارضتها للعمل النقابي.
وقد بلغ مجموع عدد العمال المضربين خمسة آلاف شخص مما يدل على عدم صواب الحجة التي تناقلتها السفارة البريطانية والحكومة العراقية آنذاك من تأثير خارجي على عمال كركوك. بل إنَّ الاعتصام الّذي حدث يوم الثاني عشر من تموز(يوليو) لم يكن إلاّ للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين من العمّال الّذين زُجَّ بالكثير منهم في السجون اثر التقدم بمطالبهم المشروعة. وفي برقية سرية برقم 6350 بتاريخ 16 تموز(يوليو)1946 من السير ستونهيوير بيرد، السفير البريطاني في بغداد وهو اليوم الذي أنهى فيه العمّال إضرابهم بعد الاستجابة لبعض من مطالبهم إلى الحكومة البريطانية قدَّم السفير تقريرا موجزا يفيد بأن مظاهرات عمّالية قد جرت في يوم الثاني عشر من الشهر المذكور خلافا لأوامر متصرف كركوك الخاصة بالامتناع عن التظاهر وأنَّ تبادلا لإطلاق النار قد جرى بين المتظاهرين وقوّات الشرطة نجم عنه وفاة خمسة عمال وإصابة أربعة عشر عاملا بجروح مختلفة بالإضافة إلى إصابة ستّة من أفراد الشرطة المحلية.”.
إنَّ ألمُستعمر ألبريطاني لَمْ يحتل ألعراق إلّا لمصِّ ثروات هذا ألبلد ألعريق بحضاراته، فألذهب ألأسود أسال لعاب هؤلاء ألمصّاصين لدماء ألشعوب وأستكثروا على كادحي ألبلد مِن ألعمّال ألمطالبة بأبسط حقوقهم، وإنَّ تنفيذهم لهذه ألمجزرة بحق ألعمّال ألكادحين وألّتي سُميّت بمجزرة كاورباغي نسبة إلى منطقة كاورباغي في كركوك لدليل على عنجيتهم وإستهتارهم بأبسط حقوق ألإنسان.
أزدادت معاناة عائلتي خلال فترة سجن والدي وبدأت رحلتهم ألطويلة مع ألفقر، وقد أتّفق محمّد فاتح وهو في ألسجن مع صديق له على أنْ يُدير هذا ألصديق مكتبته لقاء جزء مِن ألأرباح، وكان هذا ألصديق يُسلِّم قسم مِن واردات ألمكتبة إلى والدتي لتتمكّن مِن إعالة أطفالها ألثلاثة وهم شقيقي ألأكبر أورخان وشقيقتاي آيتان وآيسل ألّتي كانت أثناء ألإعتقال طفلة رضيعة.
بعد أطلاق سراح والدي وبألرغم مِن ألظروف ألقاسية ألّتي مرّت بها ألعائلة أستمرَّ شقيقي أورخان وبقية أشقائي وشقيقاتي بألدراسة، فبعد أنْ أكمل أورخان ألمرحلة ألأعدادية بعد ولادتي بشهور، قرر والدي إرساله إلى تركيا لدراسة ألطب في جامعة أسطنبول، أمّا شقيقتي ألكبرى فكان حظّها عاثرا في ألحياة، فقد أحترق جسمها ووجهها في حادث إنفجار ألطبّاخ ألنفطي ألّذي يعتمد على ضغط ألهواء في إيقاده، وأضطرّها هذا ألحادث ألأليم على ترك ألدراسة، وتفرّغت بعد وفاة والدتي ألّتي أُصيبت بمرض ألسرطان للقيام بألأعباء ألمنزلية وأنجاز ألمستلزمات ألمنزلية مِن طبخ وكنس وتنظيف وقامت بإشْغال ألفراغ ألّذي تركه وفاة والدتي وكانت كألأُم ألحنون لأشقّائها وشقيقتها ألصغرى بألرغم مِنْ أنَّ عمرها لَمْ يتجاوز حينذاك أثنا عشر عاما.
عندما توفيّت والدتي كنت طفلا في ألرابعة مِن ألعُمر ولا أذكر ملامحها جيدا ولَمْ يبقَ لي مِن ذكريات تلك ألأيام إلّا طيفها وخيالات قليلة لفّها ضباب ألنسيان وتراكم ألأحداث.
كانت فرحة والدي لاتقاس عندما أستلم رسالة أورخان يُبشّره فيها بحصوله على ألشهادة ألجامعية، وأحسَّ في تلك أللحظة أنَّ معاناته وتضحياته لَمْ تذهب سدى، فها هو أبنه ألبكر قد أصبح طبيبا وسيرجع إلى مدينته مُسلّحا بألعلم وألثقافة وسيخدم أبناء بلدته بمهنته. لقد رفع تخرّج أورخان عبئا ثقيلا عن كاهل محمّد فاتح وأعانه على أتّخاذ قرار آخر فأرسل بنته ألصغرى بعد إكمالها ألمرحلة ألأعدادية لدراسة ألصيدلة في نفس ألجامعة.
في صبيحة تمّوز مِن عام 1958 أستمعَتْ ألعائلة إلى صوت ألمذياع وهو يذيع نشيد ألله أكبر وتلا بعد ذلك ألمذيع ألبيان رقم واحد مبشّرا بقيام ألثورة على ألحكم ألملكي، فأستبشروا كما أستبشر ألعراقيون خيرا بهذا ألحدث ألجليل، كيف لا، وقد ولّى عهد ألأستعمار وتحرر ألعراقيون مِن نير ألأستعباد.
ولكنّ ألفرحة لَمْ تستمر طويلا، فبعد ألخلافات ألّتي دبّت بين ألضبّاط ألأحرار أقصى ألزعيم عبدألكريم قاسم قسما منهم مِن ألسلطة كعبدألسلام عارف ومؤيديه ألّذين كانوا يطالبون بالوحدة مع ألجمهورية ألعربية ألمتحدّة، وهو الاسم الرسمي لما سُمّي بالوحدة المصرية – السورية (1958-1961) والّتي كانت بداية لتوحيد الدول العربية والّتي كانت إحدى أحلام الرئيس جمال عبد الناصر.
في تلك ألفترة كان ألعالَم مُنقسِما إلى قطبين وألحرب ألباردة بينهما كانت على أشدّها فألقطب ألأوّل كان يضم ألولايات المتحدّة ألأمريكية وحلفائها ألغربيين في حلف ألناتو وألّذين كانوا يُمثلّون ألعالم ألرأسمالي، أمّا ألقطب ألثاني فكان يضم بين جناحيه ألأتحاد ألسوفيتي وحلفائه مِن ألدول ألإشتراكية في حلف وارشو.
وصلّت رياح ألمد ألأحمر إلى عدد مِن ألدول ألعربية وكان ألشعب ألعراقي مِن أكثر ألشعوب تأثرا بألأفكار ألماركسية فأنتشرت ألشيوعية بين ألعمّال وألمثقفين، وشكّل ألحزب ألشيوعي ميليشيا بأسم ألمقاومة ألشعبية وبسطوا سيطرتهم على بعض مراكز ألقوّة في ألجيش وبألأخص ألفرقة ألثانية ألّتي كان مقرها في مدينة كركوك حيث عُيِّن ألشيوعي داوود ألجنابي قائدا لها بعد إقصاء ألقائد ناظم ألطبقجلي لإتهامه بألمشاركة في ثورة عبدألوهاب ألشوّاف ألّتي تلتها مجزرة ألموصل ألرهيبة، ومما زاد ألطين بلّة إنضمام بعض ألأكراد إلى ألحزب ألشيوعي وشكلّوا تحالفا ثنائيا ضد ألقوميين مِن ألعرب وألتركمان.
أحداث جسيمة جرت بعد أصدارَ ألزعيم عبدألكريم قاسم عفوا عن ألملّا مصطفى ألبرزاني، زعيم ألحزب ألديوقراطي ألكردستاني ألّذي كان منفيا ولاجئا في روسيا، وفي يوم إيابه أختار الهبوط عمدا في مطار كركوك، فخرج أعضاء حزبه مع ألشيوعيين لإستقباله وقاموا بمظاهرات أستفزازية ضد ألتركمان وخربّوا قسما مِن متاجر ألمواطنين وعند مرورهم مِن شارع أطلس تمادوا في إستفزازاتهم ممّا أدّى إلى وقوع صِدام بألسلاح ألأبيض بين ألمتظاهرين وعدد مِن شباب ألتركمان ألّذين كانوا يجلسون في مقهى ( أصلان يواسي ) أيْ مقهى عرين ألأسد، وأدّى هذا ألصِدام إلى جرح عدد مِن أفراد ألمجموعتين ألمتقاتلتين.
بدأ ألمواطنون ألعراقيون وبألأخص ألقوميون ألعرب في مدينة ألموصل وألتركمان في مدينة الذهب ألأسود بمقاومة ألمد ألشيوعي بمختلف ألوسائل ألسلمية ورفضوا ألإنسياق وراء هذا ألتيّار ألجارف لذلك بدأت معاناتهم. مِن أسباب مقاومة ألشيوعية مِن قبل ألمواطنين رفض ألشيوعيين ألعقائد ألدينية وتشريعاتها، ومِنْ ألشعارات ألطريفة ألّتي كان ألشيوعيون يرددونها ” ماكو مهر ماكو مهر، ذبّينا ألقاضي بألنهر “، وكان هدف هذا ألشعار إشاعة ألإباحية ألجنسية ورفض ألزواج حسب ألشريعة ألإسلامية أو ألمسيحية وهدم ألنظام ألأسري.
بعد مجزرة ألموصل نفّذ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني مع حلفاءه مِن ألشيوعيين وبتخطيط مُسبَق مجزرة رهيبة في مدينة كركوك وذلك في مساء ألخامس عشر مِن تمّوز مِن عام 1959 وأثناء إحتفال جماهير ألشعب ألعراقي ومنهم أهالي كركوك بألذكرى ألأولى لثورة ألرابع عشر مِن تمّوز حيث تعاونت ميليشيات ألمقاومة ألشعبية ألتابعة للحزب ألشيوعي ألعراقي مع قوّات ألبيشمركة ألتابعة للحزب ألديموقراطي ألكردستاني وزحفوا إلى كركوك مِن ألقصبات وألقرى ألكردية ألواقعة في شمال ألعراق وبأوامر مِن ملّا مصطفى ألبرزاني، وكان جلال ألطالباني في تلك ألفترة قياديا في ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني ويتحمّل جزءا مِن مسؤولية هذه ألمجزرة ألرهيبة إضافة إلى قائد ألفرقة ألثانية ألشيوعي داوود ألجنابي ألّذي نال جزاءه ألعادل بإعدامه بعد قيام ثورة ألثامن مِن شباط عام 1963.
لقد راح ضحية مجزرة كركوك أكثر مِن خمسين مِن ألشهداء ألأبرياء مِن ألرجال وألنساء وألأطفال وبعد مرور ألأيام ألثلاث للمجزرة بلياليها أرسل ألزعيم عبدألكريم قاسم أللواء ألمتجحفل في مدينة بعقوبة بقيادة عبدألرحمن عارف إلى كركوك وسيطروا على ألوضع ألأمني في ألمدينة وذلك بعد أنْ أبلغه ألزعيم عبدالله عبدالرحمن بتفاصيل ألأمر في مقر ألزعيم عبدالكريم قاسم في وزارة ألدفاع حيث أنَّ ألأكراد والشيوعيين كانوا يُبرقون إليه برقيات مُلفقّة يدّعون فيها بأنَّ ألتركمان قاموا بمؤامرة ضد ألجمهورية وأعتصموا في قلعة كركوك ويطلقون ألنّار على ألقوات ألحكومية .
هذه ألمجزرة أتصّفت بأقسى أنواع ألوحشية مِن نهب لممتلكات ومتاجر ألتركمان وقتل وسحل في ألشوارع وتعليق للجثث على أعمدة ألكهرباء وألأشجار، وألأدهى مِن ذلك قيامهم ببيع لحم ألشهيد في مزاد علني. إنّها وصمة عار في جبين مقترفيها ونقطة سوداء في تاريخ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني وألحزب ألشيوعي ألعراقي.
مِن أهم أسباب تخطيط وتنفيذ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني لهذه ألمجزرة ألأليمة أطماعهم في مدينة كركوك ألّتي تطفوا فوق بحيرة مِن ألذهب ألأسود، هذا ألسائل ألدموي ألّذي أصبح لعنة على ألتركمان وألشعب ألعراقي ألصابر. لقد كان هدفهم ألأوّل ترهيب ألسكّان ألأصليين مِن ألتركمان ليهاجروا إلى مناطق أُخرى مِن ألعراق أو إلى خارجه.
لقد تركَتْ هذه ألأحداث في نفسي وأنا صبيٌّ في ألعاشرة مِن ألعمر أبلغ ألأثر وأثخنَتْ جسم مدينتي بجراح لا تندمل، وأدّت إلى وقوع أحداث دامية أُخرى، فألعنف يولّد ألعنف، فبعد محاكمات صوريّة وأحكام طفيفة لقسم مِن منفذي ألمجزرة، خرج هؤلاء مِن ألسجون بعد فترة وجيزة وبدأوا يسرحون ويمرحون في كركوك مرّة أُخرى.
بدأ ألتركمان في كركوك وألموصل يعدّون ألعدّة للقضاء على هذه ألزمرة ألباغية، فتشكلّت خلايا سريّة للمقاومة وبدأ ألمجرمون يتساقطون واحدا تلو ألآخر ولَمْ يسلَم مِن هذا ألإنتقام ألمشروع إلّا مَنْ ولّى ألأدبار وترك ألمدينة إلى غير رجعة. لا يوجد أنسان واعي يُقِر أسلوب ألعنف لحل ألنزاعات بين ألبشر، ولكن ألإحساس بألظلم وعدم تطبيق ألعدالة بألأقتصاص مِن ألمجرمين يدفع ألإنسان إلى ألإنتقام ومحاولة تطبيق ألعدالة بقدراته ألذاتية، وهذا ما فعله فتية مِن ألتركمان آمنوا بحقوق قومهم في ألعيش ألكريم في وطنهم ألعراق، فانبروا للدفاع عن أنفسهم وضحّوا في سبيل ذلك بتضحيات جسام سيسجّلها ألتاريخ بأحرف مِن ذهب، فقسم منهم أُعتِقِلَ وأمضى في ألسجن ريعان شبابه وقسم آخر ألتجأ إلى بلدان أخرى بعد صدور أوامر بالقبض عليهم، كما تمَّ إعدام ألبعض منهم في عهد صدّام حسين.
كنت أثناء هذه ألأحداث ألجِسام طالبا في ألمرحلة ألرابعة مِن ألدراسة ألإبتدائية، وكانت عائلتي قد أنتقلت مِن مسكننا ألقديم في محلّة صاري كهية ألى مسكن حديث نسبيا في محلّة إمام عبّاس، وقد حاول قسم مِن ألزمرة ألمجرمة أثناء ألمجزرة إقتحام ألدار بغية قتل شقيقي أورخان ولكنّه كان لحسن ألحظ في ألعاصمة بغداد للمشاركة في ألإحتفال ألسنوي ألأوّل لثورة ألرابع عشر مِن تمّوز ضمن وفد ألمواطنين ألتركمان ولكنَّ ألغوغاء وألفوضويون نهبوا مكتبة والدي مع معظم متاجر أهالي ألمدينة مِن ألتركمان ممّا أثَّر سلبا على ألحالة ألمادية للعائلة وزاد مِن معاناتنا.
بعد مجزرة كركوك غيَّرَ ألزعيم عبدألكريم قاسم مِنْ سياسته وبدأ بسحب ألبساط مِن تحت أقدام ألشيوعيين وألحزب ألديموقراطي ألكردستاني بزعامة ملّا مصطفى ألبارزاني لأنّه أكتشفَ (بعد خراب ألبصرة) كما يُقال في ألمثل ألعراقي بانَّ ألحزب ألشيوعي يحاول ألأستحواذ على ألسلطة في العراق، ومِن ألشعارات ألمسجوعة ألّتي كان ألشيوعيون يرددونها في مسيراتهم قبل ألمجزرة وهم يحملون ألمنجل وألمطرقة وألحبال ألّتي كانوا يلوّحون بها أتذكّر ألشعار: ( عاش ألزعيمي، عبدألكريمي، حزب ألشيوعي بألحكم، مطلب عظيمي) و ( ماكو مؤامرة تصير وألحبال موجودة ) كناية إلى أنّهم سيسحلون ألمعارضين لهم بألحبال في ألشوارع، كما أدرك ألزعيم بعد أحداث كركوك أنَّ ملّا مصطفى ألبارزاني يهدف إلى ألإنفصال عن ألعراق وتشكيل دولة كردستان بعد ألأستحواذ على مدينة ألذهب ألأسود ألغني بألنفط.
وقبل أنْ أُنهي ألحديث عن ألاحداث ألمتعلقة بمجزرة كركوك أود أنْ أٌشير ألى ألمعلومات ألخاطئة ألّتي وردتْ في كتاب ألسيّد حامد ألحمداني (ثورة تمّوز نهوضها وأنتكاساتها وأغتيالها)، يقول ألمؤلِّف في فصل (أحداث كركوك في ألذكرى ألأولى لثورة 14 تمّوز) وفي قسم (ألتركيب ألسكاني لمدينة كركوك ودوره في ألأحداث) مايلي: ” لقد وقعت أحداث عديدة في كركوك ، وكانت مؤشراً على عمق الهوة بين التركمان والأكراد ، بتحريض من عملاء شركات النفط ، حيث قام التركمان باغتيال عدد من الأكراد، أذكر من بينهم سيد ولي و محمد الشربتجي… إلى آخره مِنْ ألتلفيقات. ” ثمَّ ينتقل بعد هذه ألمقدّمة إلى سرد أحداث تلك ألأيام ألمشؤومة بوجهة نظر متحيّزة.
إنَّ ألكاتب يحاول أنْ يوحي في كتابه بأنَّ أغتيال سيّد ولي ومحمّد ألشربتجي حدث قبل وقوع ألمجزرة ويحاول توجيه أصابع ألأتهام إلى ألمواطنين ألتركمان وألأيحاء بأنّهم ألسبب في حدوث ألمجزرة، وللحقيقة وألتاريخ وكشاهد عيان على تلك ألأحداث ألمؤلِمة أُبيّن بأنَّ عملية أغتيال ألمذكورين حدثت بعد ألمجزرة بفترة وبعد إنتهاء ألمحاكمات لمرتكبي ألمجزرة وأطلاق سراح قسم منهم، فعملية ألأغتيال كانت كَرَدِّ فعل وعملية إنتقامية لأرتكاب هؤلاء لجرائم قتل وسحل للتركمان ألمُسالمين وليس العكس كما يحاول ألباحث أنْ يوحي به.
إنَّ ألحقائق لا يُمكن تزييفها بهذه ألسهولة في عصر ألتدوين وألثورة ألمعلوماتية وثورة ألأتصالات وعصرألشبكة ألعنكبوتية، ثمَّ أنَّ مُعظم أهالي كركوك مِن ألعرب وألتركمان وألقوميات ألأخرى ألمُحايدة وألّذين عاصروا تلك ألأحداث لازالوا على قيد ألحياة ويستطيع ألكاتب ألوصول إلى ألحقائق بإستجوابهم، وكان عليه ألإطلاع على وثائق وزارة ألداخلية حول تواريخ ألإغتيالات ألّتي حدثت بعد مجزرة كركوك، فالتاريخ لا يُمكن تلفيقه بهذه ألسهولة في عصر يتمكن ألمؤرِخ فيه ألوصول إلى ألوثائق إنْ أراد ذلك، ثمَّ أنَّ ألكاتب يتّهم ألتركمان بألعمالة لشركات ألنفط ألأجنبية، لذا أتساءل: متى كان ألتركمان عملاء للبريطانيين ألّذين يمقتونهم عبر ألتاريخ؟
لقد حارب ألبريطانيون ألمُستعمِرون ألأتراكَ ومنهم ألتركمان عبر ألتاريخ وليست معارك جناق قلعة وأحتلالهم معظم أرجاء تركيا وحرب ألأستقلال ألّتي قادها مصطفى كمال لتحرير ألأراضي ألتركية مِن إحتلال ألبريطانيين وحلفائهم ألأمبرياليين وكذلك مؤامراتهم في مباحثات لوزان بخاف على أحد مِن ألمؤرخين ألموضوعيين. ولا ننسى في هذا ألصدد ثورة ألعشرين ضد ألأستعمار ألبريطاني وألّتي شارك فيها عشائر ألتركمان في تلعفر وبقية أنحاء ألعراق، إنَّ رفض ألتركمان ألإستفتاء على تنصيب ألملك فيصل ألأوّل ألّذي عيّنه ألمستعمر ألبريطاني ملكا على ألعراق دليل آخر على مُناوئة ألتركمان للأستعمار ألبريطاني وعملائهم ألشركات ألنفطية.
إنَّ ثورة 14 مِنْ تمّوز ثورة مجيدة ضد ألأستعمار ولكنَّ ألشيوعيين وأعضاء الحزب ألديموقراطي ألكردستاني حاولوا ألأستحواذ عليه وتغيير مساره ألوطني وأُذكِّر ألسيد حامد ألحمداني بدلالة رمزية واحدة على تأييد ألتركمان لثورة 14 تمّوز ألمجيدة، ففي إحتفالات ألذكرى ألأولى للثورة نصَبَ ألمواطنون ألتركمان في كركوك خمسة وخمسين قوسا مُزينّا في شوارع كركوك وقد تمَّ تحطيم معظمها مِن قبل مرتكبي مجزرة كركوك مِن ألشيوعيين وألبيشمركة، كما شارك ألمواطنون ألتركمان بوفد كبير في مسيرات وإحتفالات ألّتي أُقيمت في بغداد في ألذكرى ألأولى للثورة وكان شقيقي وشقيقتي ضمن هذا ألوفد.
بعد هذه ألأحداث بدأ عصيان ألأكراد بقيادة ألبارزاني في شمال ألعراق، فدخل ألجيش ألعراقي في معمعة صراع دامي مع ألأكراد راح ضحيتها ألمئات مِن ألمواطنين ألعراقيين ولَمْ يتوقف هذا ألنزف ألدموي خلال ألأعوام ألتالية حيث أستمرَّ ألأقتتال لما يقارب ألثلاثين عاما وبفترات متقطعة وتوقف ألنزف في نهاية أحداث ألأنتفاضة الشعبانية ألّتي أعقبت حرب ألخليج ألثانية وذلك باعلان ألتحالف ألغربي وبقرار مِن ألأمم ألمتحدة جعل قسم مِن ألمحافظات ألشمالية منطقة آمنة وتمّت حمايتها مِن قِبل قوّات ألمطرقة ألتابعة لحلف ألناتو.
بألرغم مِن راتب شقيقي أورخان ألّذي بدأ بممارسة مهنته كطبيب في مديرية صحّة ألمعارف فإنَّ ألحالة ألمادية للأسرة لَمْ تتحسن كثيرا لأنَّ راتبه ألبالغ ستّون دينارا كان يُصرَف معظمه لشراء ألأثاث للبيت ألّجديد ألّذي أستأجره في شارع ألأطباء وخصص غرفتان منه كعيادة له أضافة إلى مصاريف ألجامعية لشقيقتي ألّتي كانت تدرس في جامعة أسطنبول ومصاريف ألسيارة ألقديمة ألّتي أشتراها شقيقي أورخان، أمّا مكتبة والدي فقد مرَّ بمرحلة عصيبة بعد نهب محتوياتها أثناء مجزرة كركوك بالرغم مِن ألتعويض ألقليل ألّذي دفعته حكومة ألزعيم عبدألكريم قاسم بعد تلك ألأحداث للمتضررين.
في تلك ألفترة كنتُ في ألصف ألخامس مِن ألمرحلة ألأبتدائية في مدرسة ألخالدية ألأبتدائية للبنين.
أكملتُ المرحلة ألأبتدائية بتفوّق في مدرسة أخرى في محلّة كاورباغي ألّتي شهدتْ أحداث كاورباغي في تمّوز عام 1946 ثمَّ أنتقلت ألى ألمرحلة ألمتوسطة في متوسطة ألشرقية. كانت أعداد ألمدارس للمرحلتين ألمتوسطة وألثانوية قليلة جدا في تلك ألحقبة، كانت في القورية مدرستان للمتوسطة، ألشرقية وألغربية وفي ألصوب ألكبير مدرسة واحدة هي متوسطة ألمصلّى ومتوسطة واحدة للبنات، أمّا بالنسبة للمدارس ألثانوية للبنين فكانت أثنتان، ثانوية كركوك في ألقورية وثانوية ألمصلّى في ألصوب ألكبير، وكانت في ألمدينة مدرسة ثانوية واحدة للبنات فقط هي ثانوية كركوك للبنات.
بألرغم مِن ألأحداث ألجسيمة ألّتي مر بها ألعراق، أنصرفتُ إلى تحصيل ألعِلم بكلِّ همَّة ونشاط وربّما توارثتُ هذه ألخصلة مِن والدي محمّد فاتح ألّذي كان شغوفا بألثقافة وألمطالعة وقد حدّثني في إحدى ألمرّات عن فترة سجنه فقال ” كنتُ أطلب مِن والدتك تسريب ألكتب إليَّ خفية مع ألطعام أثناء ألمواجهات ألأسبوعية للسجناء مع عوائلهم “.
تفاقم ألصراع بين رئيس ألوزراء عبد الكريم قاسم وألتيار القومي العربي ألمسنود مِن قِبل ألزعيم جمال عبدألناصر بعد اعدام مجموعة من الضباط في 20 تشرين ألأوّل مِن عام 1959 بأوامر مِن عبدالكريم قاسم. في أجتماع للقيادة القطرية لحزب البعث العربي قررت ألقيادة إغتيال ألزعيم عبدالكريم قاسم، وتمّ تشكيل فرقة لتنفيذ هذه ألمهمّة من صدّام حسين المجيد وعبدالوهاب الغريري وعبدألكريم ألشيخلي وحاتم ألعزّاوي وأحمد طه ألعزوز وسمير ألنجم. أنتظرتْ ألمجموعة في عيادة ألدكتور حازم ألبكري في منطقة رأس ألقرية مِن شارع ألرشيد في ألعاصمة بغداد سبعة أيام ثم بدأوا بألتنفيذ فأمطروا برشاشاتهم سيارة عبدألكريم قاسم عند مروره بوابل مِن ألرصاص فأُصيب عبدألكريم قاسم ومُرافقَه بألجراح وقُتِلَ سائقه، وأٌصيب من ألمجموعة ألمهاجمة سمير ألنجم وصدّام حسين بألجراح وقُتِلَ عبدألوهاب ألغريري ولاذت ألمجموعة ألناجية مع جرحاهم بألفرار، ثُمَّ هرب صدّام حسين إلى تكريت ومِنها إلى سورية عبر ألحدود ثمَّ أستقر به ألمقام في مصر تحت حماية جمال عبدالناصر وقد كان جمال عبدألناصر في تلك ألفترة يدعم ألقوميين وألبعثيين ألعراقيين.
في ألثامن مِن شباط مِن عام 1963 حدث أنقلاب عسكري على حكومة ألزعيم عبدألكريم قاسم ، بدأ ألإنقلاب باغتيال العميد الطيّار جلال ألأوقاتي قائد القوة الجوية أمام منزله على يد الإنقلابيين، ومن بعدها تمَّ ألهجوم ألجوّي على مبنى وزارة ألدفاع وقاعدة ألرشيد ألجوية بقيادة منذر الونداوي. بعد هذه المعركة تمَّ إعتقال كلّ مِن ألزعيم عبدالكريم قاسم وفاضل عباس ألمهداوي وطه الشيخ أحمد وألضابط كنعان خليل وأُقتيدوا إلى مبنى دار ألإذاعة في ألصالحية وتمَّ إعدامهم هناك وبحضور عبد السلام عارف ألّذي كانَ مُشترِكا في ألإنقلاب، وكذلك تمَّ قَتلُ وصفي طاهر، وعبد ألكريم ألجدّة داخل وزارة الدفاع.
بعد ألإنقلاب تمَّ إعدام داوود ألجنابي قائد ألفرقة ألثانية بتهمة ألمشاركة في مجزرة كركوك، وبعد فترة مِن ألزمن أعدَمَ ألأنقلابيون مجموعة مِن ألمجرمين ألّذين أشتركوا فعليا في أرتكاب جرائم ألقتل في تلك ألأحداث وألّذين كانوا مسجونين في سجن نُكَرة سلمان، وتمَّ عرض جثثهم في ثلاث مِن ألساحات ألعامّة في مدينة ألذهب ألأسود وهي ساحة ألعمّال وساحة أحمد آغا في ألقورية وساحة محلّة ألمصلّى في ألصوب ألكبير. هذه ألعقوبات ألعادلة أرجعت قليلا مِن ألبسمة ألى شفاه أبناء وبنات شهداء ألمجزرة وأصبحوا عِبرة لِمن يَظلِم أخيه ألإنسان حين يكون مُقتدرا. بعد ألإنقلاب شكّلَ ألبعثيون ميليشيا بأسم ألحرس ألقومي كانت مِن مهامها ألرئيسية تصفية ألمعارضين لحزب ألبعث وكان ألشيوعيون ألهدف ألأول في هذه ألتصفيات.
بعد مرور عام على هذه ألأحداث ألدرامية وعندما كنت في ألصف ألثالث مِن ألمرحلة ألمتوسطة مِن ألدراسة، أُصيبت عائلتي بنكبة لَمْ تكنْ في ألحسبان حيث أُصيب شقيقي ألأكبر أورخان بمرض غامض ولَمْ يتمكّن هو أو زملائه مِن ألأطبّاء مِن تشخيص ألمرض، لذلك أرسلوا ألتحاليل وألتقارير ألطبية إلى طبيب أختصاصي في لندن.
بعد فترة أستلم أورخان رسالة مِن ألطبيب ألأختصاصي وعلِمَ بإصابته بمرض سرطان ألمُخ، فأنهارت معنوياته وأظلّمت ألدنيا أمام ناظريه. بدأت معاناتنا وصراعنا المرير مع هذا المرض ألعُضال وأنعكست آثارها على ألحياة أليومية لأفراد ألأسرة، فأختفت ألبسمة مِن ألوجوه، لقد بلغ تأثري مبلغا لَم أشعر به مِن قبل لطبيعتي ألحسّاسة وذكرياتي ألأليمة مع هذا ألمرض ألّذي خَطفَ منّي ألصدر ألحنون ألّذي كنتُ آوي إليه وأنا صبي في ألرابعة مِن ألعمر.
إنَّ مرحلة ألطفولة مرحلة حرجة في حياة ألإنسان وتترك آثارا بليغة في بنائه ألنفسي وسلوكه في ألمستقبل، فبعد فقدي للوالدة ألحنونة أُشاهد شقيقي يذبل أمام ناظري يوما بعد يوم وهو في أوج شبابه. في محاولة لإنقاذه قررت ألعائلة إرساله إلى لندن للعلاج ولكن ألعقبة ألوحيدة كانت مصاريف ألسفر وألعلاج، وقد تمَّ حل ألإشكال ببيع ألسيارة ألقديمة ألّتي كان يملكها أورخان كما شارك زملائه ألأطباء في تحمّل قسم مِن ألمصاريف.
بعد إكمال علاجه في لندن رجع شقيقي إلى ألوطن بصحّة جيدة وبدأ يمارس مهنته كطبيب ورجعت ألبسمة إلى شفاهنا وشفاه زوجته وإبنه ألوحيد ألّذي كان طفلا في ألرابعة مِن ألعمر، لكنّ ألمرض عاوده مرة أُخرى وبدأ ينخر في جسمه، وبدأت ألألام ألمُبرِحة تعاوده بين فينة وأخرى مع فترات مِن ألغيبوبة.
كان أورخان يذبل يوما بعد يوم، وفي محاولة لإنقاذه قررت ألعائلة إرساله إلى أسطنبول للعلاج مرة أخرى ورافقه في رحلته زوجته وإبنه ألبكر. لَمْ تمضِ فترة طويلة على سفرة ألعلاج وإذا بألنبأ ألفاجع يطرق أسماعنا. لقد هزّني ذلك ألنبأ ألأليم كما يهزّ ألبركان ألجبل ألساكن، وبدأتُ أُفكّر في هذا ألوقت ألمُبكِّر مِن ألعُمر بلُغز ألحياة وألموت، وبدأتُ أتساءل، لِمَ يتعذّب ألإنسان في هذه ألحياة؟ ومِن أين جاء؟ وإلى أين يرحل؟ ولِمَ؟
لَمْ أجد أجوبة شافية على تساؤلاتي في عقلي، فأتجهت ألى ألكتب أبحث وأٌنقّبُ فيها لعلّي أجِدُ بُغيتي. لقد وجدّتُ في ألإيمان بألله علاجا شافيا لآلامي وحيرتي وأجوبة على معظم تساؤلاتي، فبدأت أصلّي وأصوم وألتزمْتُ بجميع أركان ألدين ألإسلامي وتشريعاته، وأصبحتُ أؤدّي ألصلاة في أوقاتها في مسجد ألمحلّة ألّتي أنتقلنا إليها بعد وفاة شقيقي، كان ألمسكن ألجديد في محلّة صاري كهية وهي محلّة ذات بيوت قديمة متلاصقة مبنية مِن ألحجر وألجص، ويقع في نفس ألزقاق ألّذي كنّا نسكنه قبل تخرّج أورخان مِن ألجامعة.
كان ألدار ألّذي أستأجرّه والدي بإيجار شهري قدره ثمانية دنانير مكوّنا مِن طابق واحد فيه أربع غرف ذات سقوف مبنية مِن ألحجر وألجص وعلى شكل قباب، كان هذا ألأسلوب في ألتسقيف شائع ألإستعمال في ألبيوت ألتراثية لمدينة كركوك قبل إستعمال ألمقاطع ألحديدية وألخرسانة في ألتسقيف. كانت جدران ألمسكن رطبة وغرفها مضاءة بشبابيك تطل على فناء وسطي يؤدّي إلى غرفة عالية عن مستوى ألفناء في تحتها سرداب رطب ومظلم وذو فتحات للتهوية عمودية تنتهي في سطح ألدار ألمفروش بألطين ألمخلوط بألتبن. هذا ألأسلوب مِن ألتهوية يُسمّى في ألعراق بالبادكَير.
شَهِدَ هذا ألدار مرحلة أُخرى مِن ألمعاناة ألقاسية للاُسرة وصراعها مع ألفقر وأهم مرحلة مِن مراحل تكويني ألنفسي وألفكري. بألرغم مِن مُلِمّات ألحياة وشظف ألعيش تفوقتُ في دراستي وكان ترتيبي في ألإمتحانات ألوزارية للمرحلة ألنهائية للدراسة ألمتوسطة ألأوّل على مدرستي وألثاني على جميع مدارس ألمرحلة ألمتوسطة في مدينة كركوك، وقد كرّمني متصرّف أللواء نايف حمّودي بهديّة قيّمة كانت عبارة عن قلم حبر ماركة باركر ولكنّي ضحيّت بألهدية مضطرّا وسلّمتها إلى والدي فباعها بخمسة دنانير ليتمكّن مِن دفع بدل ايجار ألمسكن ألشهري.
بألإضافة إلى إنشغالي بألدراسة ومطالعة ألكتب وأداء ألواجبات ألدينية، كانت لي أهتمامات وهوايات أخرى كلعب كرة ألقدم وألسباحة والموسيقى وجمع ألطوابع وألمراسلة مع أصدقاء مِن أقطار عربية أُخرى كانت عنوانيهم تُنشر في مجلّات مصريةّ كمجلّة سمير ومجلّة ميكي ومجلّة سندباد ومجلّة أٌخرى كانت تصدر في لبنان بأسم بساط ألريح.
شكّلت هذه ألمجلات ألمصوّرة بداية لمطالعاتي، ثمَّ بدأت بقراءة ألروايات ألبوليسية كروايات أللص ألظريف أرسين لوبين وروايات شارلوك هولمز للكاتب آرثر كونان دويل وروايات ألكاتبة أجاثا كريستي والكاتب ألأمريكي أدجار والاس، ثمَّ أطّلعت في تلك ألفترة على معظم ألروايات ألعالمية وروايات ألكاتب نجيب محفوظ. لَمْ يكن ألتلفزيون قد دخل إلى كركوك في تلك ألفترة لذلك كانت ألإذاعة وألكتب والسينما ألمنافذ ألّتي كنّا نطل منها ونتعرّف بواسطتها على ما يدور حولنا في هذا ألعالم.
كان ألساكنون في زقاقنا معظمهم مِن ألعوائل ألتركمانية وقسم مِنهم مِن ألأقرباء، بألإضافة إلى ذلك كان في ألزقاق ثلاث عوائل عربية وأذكر منهم عائلة مجيد سعدون ألّذي كان يكبرني في ألعمر بعدّة سنوات وكان مثقّفا يمتلك مكتبة عامرة بألكتب في منزلهم، وكنّا نستعير مِنه ألكتب للمطالعة، وبعد عدّة سنوات أصبح مجيد سعدون مدرّسا للغة ألعربية في إحدى مدارس كركوك. ألعائلة ألعربية ألثانية في ألزقاق كان منزلهم في نهاية ألزقاق ذو ألنهاية ألمسدودة، وكنّا نُسمّيهم ببيت ألضابط لأنَّ والدهم كان ضابطا في ألجيش. رَبُّ ألعائلة ألثالثة كان كشّافا في ألبلدية وكنّا نُسميهم ببيت أحمد بلدية، وكانوا مِن ألمذهب ألشيعي وفي كلّ شهر مُحرّم كانوا يُقيمون ألعزاء للامام حسين بن علي بن ابي طالب مع تمثيل لزواج ألأمام قاسم في فناء منزلهم وكانت ألنسوة يحضرن بألمئات للمشاركة في هذه ألطقوس ألدينية وكان ألأطفال يتفرجون على ألمراسيم مِن ألسطوح ألمجاورة، وفي العاشر مِن شهر مُحرّم كان يتمّ توزيع أكلة ألهريسة على جميع ألجيران في ألزقاق.
كان زقاقنا إحدى مراكز ألمقاومة ألسرية ألّتي تشكلّت بعد مجزرة كركوك عام 1959، وكان ألشباب ينطلقون منها للأقتصاص مِن ألمجرمين ألّذين عاثوا ألفساد في ألمدينة وقتلوا وسحلوا عشرات ألأبرياء في شوارعها.
كان شقيقي يلماز ألّذي يكبرني في ألعمر بسنتين يمتلك موهبة موسيقية فريدة فبعد أنْ تعلّم ألعزف على آلة موسيقية مشابهة للكَيتار صنعها بنفسه، تعلّمَ ألعزف على آلة ألعود وعلّمني ألعزف عليها، ثمَّ تعلّم ألعزف على آلة ألكمان أيضا. كنتُ وشقيقي وبعض ألأصدقاء نقضي أوقات ألفراغ بعزف ألمقطوعات ألموسيقية في مسكننا ونشارك أحيانا في إحياء حفلات ألعرس وألمناسبات ألسعيدة للأقارب وألأصدقاء.
بعد إكمالي للمرحلة ألمتوسطة أنتقلت إلى مرحلة ألإعدادية وهي ألمرحلة الّتي ستقرر ألكليّة ألّتي سأستطيع ألأنتساب إليها. في تلك ألفترة أكمل شقيقي يلماز دراسته ألأعدادية بعلامات جيدة أهّلته للدخول إلى ألقسم ألمدني مِن كلية ألهندسة في جامعة ألموصل وحزم أمتعته وسافر إلى ألموصل لإكمال دراسته هناك.
في تلك الأثناء تخرجت شقيقتي ايسل من كلية ألصيدلة وتعينت في إحدى مستشفيات مدينة بعقوبة وكان شقيقي اردال قد ترك الدراسة في نهاية المرحلة الاعدادية وعمل في شركة المقاولون العرب المصرية التي كانت تنفّذ مشروع ري كركوك وذلك لعدم تمكّنمه من اجتياز الامتحانات الوزارية وليتمكّن من مساعدة والدي على تحمّل اعباء العيش.
بدأت الحالة المادية للعائلة بالتحسّن بعد تخرّج شقيقتي وتعيينها في المستشفى فأجّرنا دارا في حي تسعين الجديدة الذي عكس الرفاه النسبي للعائلة.
اضافة الى انغماسي في الدراسة وممارستي لهواياتي بدأت بالتفكير في الجنس الاخر، فمرحلة المراهقة مرحلة حرجة في حياة الانسان، ونظرا لتديّني فلم اكن اشاطر اقراني واخواني في مغامراتهم العاطفية.
كانت هناك فتيات عديدات اللواتي حزن على اعجابي في المراحل المختلفة من صباي وشبابي وكان لانتقالنا المستمر من دار الى اخر دورا كبيرا في اختياري لفتاة احلامي، فلكلّ محلّة فتاة احلام المتمثلة في بنت الجيران واتذكر انّ اول حب داعب اوتار قلبي الصغير عندما كنت في الحادية عشر من العمر وكانت الحبيبة صبية تسكن قبالة دارنا. جميع هؤلاء لم يكنّ يعرفن بشعوري نحوهن ولم اجرؤ على مفاتحتهنّ لطبيعتي الخجولة وظلّت في نفسي رغبة كامنة لتمثيل دور البطل في قصة حب حقيقية اسوة باقراني ومحاكاة لقصص الحب التي كنت اقرأُها في الروايات واشاهدها في الافلام السينمائية.
انّ هذا الكبت المستمر لاحاسيسي وعواطفي تجاه الجنس اللطيف كان له ابلغ الاثر في تفجير طاقاتي الشعرية في المراحل اللاحقة من شبابي اضافة الى قصة الحب الّتي نسجت خيوطها في المرحلة الاخيرة من دراستي في الاعدادية، هذه القصّة الّتي لم تبدا ولم تنتهي كالقصص السابقة.
كنت في فترة الطفولة والصبا ارافق اسرتي في الزيارات الّتي كانوا يتبادلونها مع الاقرباء وكان من بينهم احدى قريباتنا من جهة والدي، كانت هذه العائلة مكونّة من بنت خالة والدي وزوجها وولداها وبناتها الثمانية. كانت البنت السابعة اسماء تماثلني في العمر وكنّت اقضي خلال هذه الزيارات سويعات حلوة في اللعب البريء معها ولكن هذه الزيارات قلّت خلال الفترات التالية ورسّبت في عقلي الباطن ذكريات جميلة ثمّ لفّها ضباب النسيان فاصبحت كالشرنقة الملفوفة بخيوط الحرير تنتظر قدوم فصل الربيع لتنشق وتنطلق منها فراشة الحب نحو الضياء والامل.
بدات في السنة الاخيرة من دراستي الاعدادية احس بحنين وشوق نحو رفيقة صباي وبدات اتسقّط اخبارها واتذكر انّي لمحتها في احدى المرّات في الحافلة من بُعد، هذه اللمحة اليتيمة الّتي اثارت كوامن ذكرياتي. في تلك الفترة طرق الى سمعي انّ ابن خالتها معجب بها وهناك اتفاق عائلي على تزويجها له واعتقدت بانّ هنالك حب متبادل بينهما. انّ هذا الخبر وانشغالي بالدراسة ساعدا على طي صفحة من صفحات قصة هذا الحب الى حين.
في هذه المرحلة زاد افق تفكيري واطّلعت على نظريات جديدة تبحث في اصل الانسان كنظرية النشوء والتطوّر لتشارلس داروين في كتاب درس الاحياء وبالرغم من وجود فصل كامل حول هذه النظرية في كتاب درس الحيوان فانّ تعليمات وزارة التربية كانت تمنع تدريسها وكانت مستبعدة من المنهج المقرر.
بدات اكثر من مطالعاتي للكتب الادبية والفكرية واقضي ساعات طويلة في المكتبة العامة الوحيدة في مدينة كركوك كما كنت استعير منها الكتب لمطالعتها في البيت، ولكن بالرغم من اطلاعي على هذه الافكار الجديدة ونقاشاتي مع زملائي حول اصل الكون والانسان فانّ ايماني بالله ورسوله محمّد لم يتزعزع واتجهت الى مطالعة كتب المفكرين الاسلاميين امثال سيّد قطب ومحمّد قطب ككتاب العدالة الاجتماعية الاسلام وشبهات حول الاسلام لعلّي اجد في هذه الكتب تفسيرا للتناقضات الموجودة بين النظريات العلمية الحديثة والنظرة الدينية حول نشوء الكون واصل الانسان والحيوان والنبات.
بعد اجتيازي الامتحان الوزاري للمرحلة الاعدادية بتفوّق الّذي كان مثار اعتزاز والدي واهلي حيث كنت الاوّل في الترتيب لجميع المدارس الاعدادية في مدينة الذهب الاسود.
بدات افكّر في الكلية التي ساختارها، وكان مجموع درجاتي يؤهلني للانتساب الى اية كلية ارغب في الدراسة فيها.
في تلك الفترة من سنة 1966 وهي الفترة الّتي انتشرت فيها وباء الهيضة في العراق، كان امامي عدة خيارات، الخيار الاوّل كان التقديم لبعثة على نفقة وزارة النفط للدراسة في المملكة المتحدة للحصول على شهادة البكلوريوس في هندسة النفط، كماعرض عليّ والدي قبول زمالة دراسية لدراسة الطب في جامعة حاجت تبّة في انقرة بوساطة احد معارفه في الملحقية الثقافية في السفارة التركية، ولكنّي رفضت جميع هذه العروض المغرية وقررت دراسة الهندسة المعمارية في كلية الهندسة في جامعة بغداد.
كانت لدراسة شقيقي يلماز في كلية الهنسة تاثيرا كبيرا في اتّخاذي لهذا القرار فقد احببت مهنة الهندسة بعد اطلاعي على مناهجه الدراسية ووجدت في الهندسة المعمارية مجالا لاشباع ميولي الفنية ورغبتي الكامنة للخلق والابداع.
انّ الهندسة المعمارية فن منطقي يتناسب مع حاجة الانسان ويستنبط من هذه الحاجة لتهيئة محيط يتكيّف لمتطلباته ويوفّر للانسان الجو الملائم لانجاز طاقاته المختلفة على اتم وجه وباحسن صورة، ويلم المهندس المعماري بجميع الفروع العلمية بدرجة تمكّنه من تنسيق اعمال ذوي الاختصاص فيها للوصول الى الهدف معبرا عنها بلغته كفنان بالمخططات التصميمية والتصويرية.
لم اكن اعرف هذه المعلومات التفصيلية عن الهندسة المعمارية حينذاك ومع ذلك قدّمت وثائقي الى مركز القبول في جامعة بغداد مسجّلا فيها اختيارا واحدا هو القسم المعماري في كلية الهندسة بالرغم من انّ التعليمات كانت تنص على ادراج عدّة اختيارات ولكن المجموع الّذي حصلت عليه في الامتحان منحني الثقة الكافية لادراج هذا الاختيار الوحيد.
انّ مسيرة الحياة هي كرحلة القطار تتوقف في محطات متعددة فيتوجب على المسافر اختيار الطريق الّذي سيسلكه في تلك المحطات، انّ هذه الاختيارات هي الّتي تحدد مسار حياة الانسان في هذه الحياة المليئة بالالام والافراح والزاخرة بالاحاسيس المتناقضة من حب وكره وامل ويأس.
بدأ ألعام ألدراسي في أوائل الخريف من عام 1966 فحزمت امتعتي للسفر الى العاصمة بغداد الّتي زرتها زيارتين قصيرتين سابقا. إنّ هذه الرحلة نحو المجهول كانت مشوبة بقلق فهذه اوّل مرّة اترك فيها بيتي ومدينتي وعائلتي لاخوض غمار الحياة وحيدا.
توفيرألسكن كانت أوّل مشكلة جابهتني في بغداد، فبعد معرفتي بأنّ أجراءات القبول في ألأقسام الداخلية للطلبة ستستغرق عدة شهور قررت مع زميلي سليم السكن في فندق نجاة في ساحة الميدان. كان فندق نجاة فندقا متواضعا ومناسبا لدخلنا المحدود ويتميّز بقربه من كلية الهندسة والطب.
كان سليم مقبولا في كلية الطب ولكنّه بعد فترة وجيزة من الدوام في الكليّة فاتحني برغبته في الانتقال الى كليّة الهندسة لانّه اصيب برد فعل من دروس الطب وخاصّة درس التشريح حيث لم يعجبه منظر الطلبة وهم يقطّعون الجثث بمشارطهم، وتحققت رغبته الجديدة فانتقل الى القسم المدني من كلية الهندسة.
كنّا نقضي النهار في الكليّة وفي المساء نعود الى غرفتنا في الفندق بعد تناول وجبة الطعام في المطعم القريب من الفندق لمراجعة الدروس وتحضير الواجبات لليوم التالي.
لم يكن جو الفندق ملائما للدراسة فضيق الغرفة وضوضاء النزلاء ظلّت تعيقنا عن الدراسة وخاصّة بالنسبة لي حيث لم تكن الغرفة تتسع للوحة الرسم الهندسي والّتي اشتريتها بخمس دنانير من احد طلّاب الصف الثاني، امّا بالنسبة للدروس النظرية فكنت ادرسها في مكتبة الكليّة او في المكتبة المركزيّة للجامعة.
بعد قضاء عدّة شهور في الفندق انتقلنا مع سليم وزميلنا عصمت الى القسم الداخلي لنادي الاخاء التركماني وكان هذا القسم الداخلي افضل من الفندق نسبيا واشتركت مع سليم وعصمت في الغرفة المخصصة لنا.
كان هذا النادي الاجتماعي والثقافي الّذي تأسس في بداية الستينات يهتم بشؤون التركمان القاطنين في بغداد ومعظمهم من العائلات التي هاجرت من مدينة كركوك بعد احداث مجزرة كركوك عام 1959. كان النادي ينظّم حفلات فنيّة ويقوم بفعاليات ثقافية واجتماعية اضافة الى تنظيم سفرات وحفلات تعارف للطلاب التركمان الدارسين في جامعة بغداد اضافة الى اصدار مجلّة ثقافية وادبية باللغتين العربية والتركمانية باسم مجلّة الاخاء.
بعد امتحانات نصف السنة قُبِلت مع سليم في القسم الداخلي لجامعة بغداد واهّلني مجموع درجاتي في الامتحانات للاعدادية العامة للحصول على منحة شهرية قدرها سبع دنانير ونصف الدينار لتغطية مصاريفي الدراسية الجامعية.
كان القسم الداخلي للجامعة في ضواحي بغداد وابنيته كانت تشكّل جزءا من مدينة الرشاد والّتي انشئت من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لتحوي ملجأ للايتام ومساكن للعجزة والمسنين وقد تمّ إستإجارها من قبل جامعة بغداد وحوّلت الى اقسام داخلية للطلبة الدارسين في المراحل الثلاث الاولى من كليات الجامعة.
بالقرب من الاقسام الداخلية كان يربض مستشفى الشماعية للامراض النفسية والعقلية وهو المستشفى الوحيد المتخصص في هذا المجال في العراق.
كان القسم الداخلي المخصص لنا عبارة عن مبنى مكوّن من طابق واحد يطل غرفه المتلاصقة على ممر طويل وتمّ تخصيص غرفة لكلّ طالبين فأشتركت مع زميلى سليم في احدى هذه الغرف، ونظرا لبعد القسم الداخلي من الكليّات فقد خصصت الجامعة حافلات خاصّة لنقل الطلّاب من والى الجامعة ولم يكن بأستطاعتنا المكوث في مدينة بغداد الّا لفترات محددة مرتبطة بمواعيد حركة الحافلات.
كانت الدراسة في السنة الاولى في القسم المعماري من اصعب السنين بالنسبة لي، فاضافة الى ظروف السكن الغير الملائم وعدم تعودي على البعد عن العائلة وعن مدينتي فانّ الدروس كانت باللغة الانكليزية، اضافة الى ذلك فانّ القسم الّذي اخترته كان من اصعب الاقسام الهندسية، فعلاوة على الدروس المشتركة مع الاقسام الاخرى كالفيزياء والرياضيات كان للقسم المعماري دروس اضافية كالتصميم المعماري والرسم المعماري والرسم اليدوي.
كان يومنا مثقلا بالواجبات البيتية للدروس المعمارية بحيث كنت اسهر حتّى الفجر في معظم الايام لاتمكن من اكمال واجباتي ولم يكن لي معارف في الصفوف المتقدمة من القسم المعماري لتوجيهي ومساعدتي كبقية معظم زملائي من سكنة بغداد.
بالرغم من الجهود الّتي بذلتها في الدراسة لم تكن العلامات الّتي حصلت عليها في الدروس المعمارية مشجّعة مما سببت لي قلقا والما نظرا لتعودي على التفوق في الدراسة وان اكون الاول دائما بين اقراني.
انّ عقدة التفوق سلاح ذو حدّين تجرح المتسلح بها احيانا جروحا بليغة لا تندمل بيسر، ففي نهاية السنة الدراسية استلمت النتيجة فكنت مكملا في درس الرسم اليدوي وكانت هذه النتيجة مؤلمة ومخيّبة لامالي وعزوت السبب الى خطأي في اختيار هذا القسم، ونظرا لتفوقي في الدروس النظرية كالفيزياء والرياضيات حاولت بعد اجتيازي لامتحان الدور الثاني ونجاحي الى المرحلة الثانية التحوّل الى قسم الميكانيك ولكنّ تعليمات كليّة الهندسة كانت لا تسمح بالانتقال الى المرحلة الثانية في حالة التغيير من القسم المعماري الى الاقسام الاخرى وذلك لاختلاف في المناهج بين قسمنا والاقسام الاخرى وهذا يعني فقداني لسنة كاملة وحرماني من منحة الجامعة والسكن في الاقسام الداخلية وهذا الامر لم يكن بمقدوري تحمّله للظروف المادية الّتي كانت عائلتي تعاني منها في تلك الفترة، لذا عدّلت عن قراري وعزمت على اكمال الدراسة في القسم المعماري.
بعد انقضاء السنة الدراسية الاولى ابتُ الى مدينة كركوك وقضيت العطلة الصيفية فيها ثم سافرت برفقة سليم الى بغداد بعد انتهاء العطلة لاكمال دراستي في الجامعة.
في الخامس من حزيران من عام 1967 اندلعت الحرب العربية الاسرائيلية والتي سُميّت بنكسة حزيران، لقد ترك هذا الحرب اثارا عميقة في نفسية المواطن العراقي والعربي، وكان طعم الهزيمة مرّا كالعلقم وانعكست اثار الهزيمة على الوضع السياسي للقطر برمّته وتوضّحت هذه الآثار في الحياة الجامعية، فالعام الثاني من دراستي صاحبه اضرابات طلّابية وصراعات بين الاحزاب المختلفة.
خلال هذه الاحداث الّتي هزّت كيان المجتمع العراقي والعربي كنت في المرحلة الثانية من دراستي الجامعية وكنت قد انتقلت من غرفتي الى قاعة منام كبيرة ضمّت عشرين طالبا جامعيا من كليات مختلفة ولم تكن هذه القاعة ملائما لدراستي المعمارية، لانّ الطالب الدارس في القسم المعماري عليه السهر حتّى انبلاج خيوط الفجر عند تهيئته التصاميم المعمارية وهذا الامر كان يتعارض مع كون القاعة مخصصة للنوم فقط، فالانارة الّتي كنت احتاجها لتحضير المخططات كانت تزعج زملائي في القاعة الذين يرومون النوم.
في تلك الفترة كان عبدالسلام عارف رئيسا للجمهورية خلفا لشقيقه عبدالسلام عارف الّذي قضى نحبه في حادث سقوط الطائرة العمودية الّتي كانت تقلّه في جنوب العراق. عبدالسلام عارف استحوذ على الحكم في العراق عدة سنوات بعد ابعاد البعثيين الّذين اشتركوا معه في القضاء على حكم الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1963 وسُمي هذا الانقلاب في حينه بثورة 14 رمضان لحدوثه في شهر رمضان.
بعد ذلك حدثت تغييرات سياسية في القطر وذلك بعد حدوث انقلاب آخر في السابع عشر من تمّوز من عام 1968 واستلام حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة بصورة كاملة في الثلاثين من تمّوز من الشهر نفسه وذلك بعد تصفية القادة العسكريين من انصار رئيس الجمهورية عبدالرحمن عارف الّذين اشتركوا مع البعثيين في التخطيط للانقلاب وتنفيذه.
بعد استقرار الوضع واستلام حزب البعث لمقاليد الحكم اصبح الزعيم احمد حسن البكر رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء، اما صدّام حسين فقد اصبح مسؤولا عن الجهاز الامني للحزب.
تميّز الحكم الجديد بسلبيات عديدة وبعض الايجابيات، فبالنسبة للتركمان فقد تمّ منحهم حقوقا ثقافية وبقرار من مجلس قيادة الثورة وتمّ تشكيل اتّحاد لادباء التركمان ومديرية للثقافة التركمانية وكذلك أُقرّ التدريس في المرحلة الابتدائية باللغة التركمانية للمدن والاقضية والنواحي والقرى الّتي اكثريتها من التركمان، ولكنّ بعض هذه الحقوق تمّ الغاءها بعد استلام صدّام حسين للسلطة بعد ازاحته للمهيب احمد حسن البكر من منصب رئيس الجمهورية وقيادة مجلس قيادة الثورة في عام 1979. بعد الغاء الدراسة باللغة التركمانية قام المعلمون والمدرسون والطلبة التركمان باضراب عن الدراسة وتمّ اعتقال بعض المعلمّين واستشهد احدهم في المعتقل نتيجة التعذيب، على اثر تلك الاحداث اعتصم الطلاب التركمان الدارسون في جامعة بغداد باعتصام امام مبنى الاتحاد الوطني لطلبة العراق وقدّموا مطالبهم المكتوبة الى رئيس الاتحاد كريم المللا ومنها اطلاق سراح المعتقلين واعادة الدراسة باللغة التركمانية في المدارس.
على صعيد آخر تمّ في عهد المهيب احمد حسن البكر تأميم النفط في الواحد من حزيران من عام 1972 وكذلك مُنح الحكم الذاتي للاكراد وبدأت حملة للقضاء على الاميّة.
بعد تأميم النفط وفشل الحصار الاقتصادي على العراق والّتي كانت كرد فعل على التأميم ازدهر الاقتصاد العراقي في تلك الفترة.
لم يكن العام الدراسي الثاني مختلفا عن العام الاول، فالمعوقات استمرت ولم استطع التكيّف مع الجو الجامعي والتفوق في دروسي وكانت النتيجة اعادتي للامتحانات في الدور الثاني لدرسين مما حزّ في نفسي وحرّمني من التمتع بالأجازة الصيفية الّتي قضيتها في اعداد المخططات والتحضير لامتحانات الدور الثاني الّتي اجتزتها بنجاح متواضع.
في المرحلة الثالثة من دراستي الجامعية استطعت التكيّف مع الظروف وسكنت في غرفة مستقلّة مع زميل من كليّة الاداب وفي نفس القسم الداخلي، وبدأت علاماتي في الدروس وخاصّة درس التصميم المعماري بالتحسّن مما شجّعني على بذل المزيد من الجهد بحيث اجتزت هذه المرحلة بصورة جيّدة.
في المرحلة الرابعة من دراستي المؤلفة من خمس مراحل انتقلت للسكن في دار الطلبة في ساحة الباب المعظم وكانت كلية الهندسة مجاورة للقسم الداخلي.
كان مبنى دار الطلبة مكوّنا من عدّة طوابق وقد تمّ تخصيص غرفة في الطابق الاول تسع لستّة طلاب وشاركني فيها خمسة زملاء من كليّات متنوّعة.
الزميل الاول كان يدرس في القسم المعماري وهو من مدينة الحلّة، الزميلان الثاني والثالث كانا يدرسان في القسم المدني من كليّة الهندسة، امّا الزميلان الآخران فكانا من كليّة العلوم.
كانت هذه التشكيلة التّي شاركتني في الغرفة في الغرفة رقم واحد من محافظات مختلفة وذو اتجاهات سياسية متنوعة ومن قوميات مختلفة، فأنا تركماني من مدينة كركوك ولم اكن منتميا الى حزب سياسي مع تميّز هذه الفترة من حياتي بتطرّفي في التديّن واكثاري من مطالعة الكتب الدينية وقضائي لمعظم اوقاتي في الصلاة وارتياد المساجد والقيام بدور المؤذن او الامام لمسجد القسم الداخلي.
هذا التطرّف في التمسّك بتعاليم الدين الاسلامي واكثاري من مطالعة الكتب الدينية والتطورات الّتي صاحبت هذه الحالة أثّرت على دراستي الجامعيّة الّتي كانت تحتاج الى ذهن صافي وتفرّغ تام.
نتيجة لعقيدتي الدينية عانيت من صراع داخل في لاشعوري بين رغبتي في مواكبة متطلّبات الحياة العصريّة ونواهي الدين الاسلامي الّتي كانت تتعارض مع هذه المتطلبات، هذا الصراع الدامي في دهاليز عقلي اتعبني واورثني شرودا في الذهن.
زميلاي في الغرفة عبّاس ومحمود كانا منتميين الى حزب البعث العربي الاشتراكي وعضوين فعّالين في كادر الاتحاد الوطني لطلبة العراق التابع لحزب البعث واصبح عبّاس في نهاية الثمانينات وزيرا للاسكان والتعمير وهي نفس الوزارة التي عملت فيها بعد تخرّجي من الجامعة وقد التقيت به خلال زيارته لموقع عملي في المركز القومي للاستشارت الهندسية والمعمارية واستدعاني الى غرفة المدير العام للمركز فأسترجعنا بعضا من ذكريات القسم الداخلي.
امّا بالنسبة الى الزملاء الآخرين فقد كان جمال احد اعضاء جماعة الاخوان المسلمون الّذين كانوا يعملون على شكل خلايا سريّة في تلك الفترة خشيّة من بطش الحكّام البعثيين، وكان جمال قادما للدراسة من مدينة الموصل ولم يكن للزميلين الآخرين انتماءات الى ايّ حزب او تنظيم سياسي.
بعد العطلة الربيعية حاولت جماعة الاخوان المسلمون اجراء اوّل اتصّال لهم معي لغرض ضمّي الى صفوفهم وذلك بعد ان تمّ مراقبتي في الكليّة والقسم الداخلي.
كنت في تلك الفترة من شبابي اؤمن ايمانا عميقا بأنّ التمسّك بشعائر الدين الاسلامي من صلاة وصوم وغيرها من الطقوس الدينية ليس كافيا لارضاء الله فالاسلام دين ودولة ولا يكمل ايمان المسلم ما لم يسع الى تطبيق جميع تعاليم الاسلام في الحياة والحكم ويدعو بهذه الدعوة وكانت هذه الافكار مترسّخة في عقلي نتيجة لمطالعتي لكتب سيّد قطب وشقيقه محمّد قطب.
تمّ الاتّصال الاول معي من قبل احد طلّاب المرحلة الرابعة من القسم المدني في كلية الهندسة وقد رحّبت بالمبادرة وتمّ الاتفاق معه على عقد اوّل اجتماع في مسكنه بعد ثلاث ايّام عقب صلاة الجمعة. تعرّفت اثناء الاجتماع على اخواني في الخليّة والّتي كانت مكوّنة من اربعة اشخاص وكنّا جميعا من طلّاب كليّة الهندسة عدا امير الخليّة فقد كان مهندسا حديث التخرّج.
كانت معلوماتي حول الاحزاب السياسية والتنظيمات الدينية شحيحة فكنت اتوّقع ملأ استمارات للانتساب او اعطاءهم صور فوتوغرافية في الاجتماع الاوّل او الّذي يليه ولكن شيئا من هذا لم يحدث واقتصرت الاجتماعات الاسبوعية على تلاوة القرآن وترديد بعض السوّر القرآنية الّتي كنّا نُكلف بحفظها خلال الاسبوع وبعض المناقشات السطحية حول الاوضاع السياسية.
استمرت اتصالاتي بهذا التنظيم واقتصرت على الاجتماعات الاسبوعية حتّى نهاية السنة الدراسية للمرحلة الرابعة وقد اثّر هذا التطوّر الجديد على دراستي الجامعية تأثيرا كبيرا،لأنّي بدأت اعتبر النجاح في الدراسة هدفا تافها بالقياس للاهداف العظيمة الّتي بدأت تترسخ في لاشعوري وأعني بهذا هدف المشاركة في انشاء دولة تحكم بالشريعة الاسلامية من الفه الى يائه.
استلمت نتيجة السنة الدراسية فكانت محبطة وتوجب عليّ اعادة الامتحان وتهيئة مشاريع لثلاث دروس اساسية هي التصميم المعماري وتخطيط المدن والتصميم الداخلي للابنية.
حزمت امتعتي وقفلت راجعا الى كركوك برفقة خيبتي واحزاني ولم تفارقني الكآبة والشعور بالاحباط خلال العطلة الصيفية الّتي قضيتها في اعداد المخططات والمشاريع الّتي كُلّفتُ باعدادها من قبل اساتذتي والتحضير لامتحانات الدور الثاني.
شعوري بالقلق والمرارة الّذي استحوذ على تفكيري اعاقتني عن المثابرة والاندفاع لتجاوز هذه المحنة القاسية، كنت اتهرّب من الدراسة بمختلف الوسائل كممارسة بعض الالعاب الرياضية كلعبة التنس والسباحة وكنت أُكثِرُ من لقاء الاصدقاء.
تمّ خلال هذه الفترة اعادة اتصالي بجماعة الاخوان المسلمون في مدينة كركوك وبدات الاجتماعات الاسبوعية وسارت على نفس الوتيرة المملّة السابقة وبدأ حماسي يفتر تدريجيا ربّما نتيجة للظروف النفسية الّتي كنت امر بها في تلك الايام او لتناقض افكار الاخوان المسلمون مع الشعور القومي المترسّب في لاشعوري منذ الطفولة نتيجة لتربيتي في كنف والد ذو نزعة قومية.
في هذه الفترة العصيبة من حياتي تفجّرت طاقاتي الشعرية فكتبت عدة قصائد باللغة التركية وكان للقلق الّذي لازمني كظلّي تأثيرا كبيرا في ذلك التطوّر.
انّ القلق يهدم الجدار الحاجز بين الوعي واللاوعي والاخير هو مصدر النبضات والدفقات الشعرية، انّ شيطان الشعر يربض وراء هذا الجدار منتظرا الفرصة السانحة لاثبات ذاته والوثوب الى الساحة. وقد نشرت بعض هذه القصائد في مجلّة الاخاء الادبية.
في نهاية العطلة الصيفية سافرت الى بغداد وقدّمت المشاريع التصميمية الّتي اعدتها الى اساتذة القسم المعماري واديت الامتحانات ثمّ قفلت راجعا الى مدينة الذهب الاسود.
بدأت مرحلة الانتظار للنتيجة ولم تطل فعلمت بفشلي في اجتياز الامتحانات وتعذر عليّ الانتقال الى المرحلة الخامسة والاخيرة من دراستي المعمارية وكان يتوجب عليّ اعادة السنة الدراسية وحضور محاضرات درسي التصميم المعماري وتخطيط المدن خلال العام الدراسي القادم اما بقية الدروس الّتي نجحت فيها فقد أُعفيتُ من اعادتها حسب نظام جامعة بغداد.
وقع عليّ خبر رسوبي وقع الصاعقة وزلزل الارض تحت اقدامي، فهذا اوّل فشل اجابهه في حياتي واوّل حجر اتعثر به. انّ تجربة الفشل يمر بها كثير من النّاس ولا تترك اثارا مدمّرة في حياتهم ويستطيع معظمهم تجاوز ازمته والتغلّب على النكسات والتكيّف مع الوضع المستجَد ولكن الحالة معي كانت مختلفة تماما فقد كنت متعودا على التفوّق وكنت الاوّل دائما خلال دراستي في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية من دراستي، لهذا لم يتقبّل عقلي الامر بسهولة وخيّم عليّ سحابة من الحزن والكآبة وبدأت مشارط القلق تمزّقني اربا وامسى الارق رفيقي وتبعثر تفكيري كما يتبعثر حبّات العقد بعد انقطاع الخيط.
بعد اسبوع من استلامي لنتيجة الامتحان كان عليّ ان احمل حقائبي للسفر الى بغداد مرّة اخرى لأكمل رحلة الدراسة او رحلة العذاب، وبدأت اتساءل لم كلّ هذه الامتحانات في الحياة؟ الامتحان في كلّ مكان وزمان خلال هذه الحياة القصيرة حتّى الله يمتحننا في الحياة الدنيا واذا نجحنا فسيجازينا بالجنّة وان فشلنا فلنا جهنّم وبئس القرار.
اوّل معضلة جابهتني كانت تدبير السكن لانّه لم يكن يحقّ لي البقاء في القسم الداخلي بعد رسوبي وتمّ قطع المنحة الدراسية الّتي كنت استلمها من الجامعة فأحسست بأنّي سأضيف عبئا ماليا على كاهل ابي الّذي كان يرزح تحت ثقل مصاريف العائلة بعد تعطّل شقيقي اردال عن العمل بعد مغادرة شركة المقاولون العرب الّتي كان يعمل فيها القطر نتيجة خسائرها في مشروع ري كركوك ولم يكن شقيقي الآخر يلماز قد توظّف بعد تخرّجه من جامعة الموصل قسم الهندسة المدنية بعدُ لانّ القطر كان يمر بحالة ركود اقتصادي في تلك الفترة نتيجة للحصار الّذي فرضته مجموعة شركات النفط على بيع النفط بعد قرار الحكومة العراقية تأميم نفط العراق.
شركة نفط العراق الشهيرة بتسمية (IPC) هي التسمية التي اطلقت على شركة النفط التركية بعد سقوط الدولة العثمانية. إذ قامت الشركة باستخراج النفط لأول مرة في حقل بابا كركر في عام 1927. وحصلت الشركة على موافقات متعددة لاستخراج النفط في المملكة العربية السعودية والكويت ودبي وكانت الشركة تمتلك حقوق استخراج النفط في تلك الحقول حتى عام 1961.
في عام 1961 قام رئيس الوزراء العراقي الزعيم عبد الكريم قاسم بتشريع القانون رقم 80 الذي بموجبه حدد عمل الشركات الاجنبية بالحقول التي كانت تعمل بها دون السماح لها باكتشاف حقول جديدة حتى عام 1964 حيث أسس الرئيس عبد السلام عارف منشأة عراقية وطنية سميت (شركة النفط الوطنية) وكان الهدف منها البحث عن حقول جديدة واستثمارها وطنيا وفي عام 1972 تم تاميم مجموعة شركات نفط العراق المحدودة (IPC) من قبل الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر.
قام مجلس قيادة الثورة بتأميم شركة نفط العراق باصدار القانون رقم 69 في 1 حزيران 1972 الذي تلاه عبر الاذاعة والتلفزيون رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية احمد حسن البكر والذي تم بموجبه نقل جميع الاموال والحقوق والموجودات التي آلت الى الدولة عن ذلك الى شركة حكومية جديدة باسم الشركة العراقية للعمليات النفطية لتدار من قبل موظفي وعمال شركة نفط العراق المؤممة.
لقد كان رد مجموعة شركات النفط سريعا حيث اعتبرت تأميم منشآت شركة نفط العراق خرقا لشروط اتفاقية امتيازها وللقانون الدولي واحتفظت بحقها لاتخاذ كافة الاجراءات القانونية ضد الحكومة وكل من يقوم بشراء نفطها المؤمم.
بعد سكني لبضعة ايام في شقّة ابن خالتي في الكرادة الشرقية استأجرت بمشاركة عدد من الاصدقاء شقّة في الوزيرية بالقرب من جسر الصرّافية.
بعد انقضاء شهرين من السنة الدراسية عدت الى كركوك لقضاء عطلة عيد الفطر مع العائلة، هذا العيد الّذي لم يمر كبقية الاعياد، ففي صبيحة اليوم الثاني منه زارتنا قريبتنا احلام لوحدها لتبادل التهاني بهذه المناسبة السعيدة. كانت هذه الزيارة مفاجأة بالنسبة لي لانّ الزيارات المتبادلة بين عائلتي وعائلتها كانت نادرة ففسّرت تلك الزيارة تفسيرا خاطئا كما اكتشفت ذلك بعدئذ ولكنّي احسست في ذلك الصباح الندي بعاطفة جيّاشة نحو احلام وأعترتني رعشة دافئة عندما صافحتني.
ظللت بعد هذه الزيارة فترة طويلة استرجع تفاصيلها وأنسج حولها في خيالي قصّة حب خالدة.
بدأت بعد صبيحة هذا العيد اقتات على هذه القصّة الوهمية الجميلة عامان نظّمت خلالها اجمل قصائدي.
بعد انقضاء اجازة العيد قفلت عائدا الى بغداد محمّلا بحبي ووهمي لأبدأ الدوام في الكليّة مرّة أخرى.
صار دوامي يبدأ في العاشرة صباحا ولأيام معينة من الاسبوع وكنت احضر الدرسان اللذان رسبت فيهما وهما التصميم المعماري وتخطيط المدن.
كنت احضر هذان الدرسان بفكر شارد وذهن مشتت وبلا ايّة رغبة وكنت اتهرّب من بعض المحاضرات وأتخلّف عن تقديم قسم من المشاريع، امّا المشاريع او التصاميم الّتي كنت انجزها فلم اكن ابذل جهدا في اعدادها، وظلّ الارق اللعين رفيقي الدائم في تلك الليالي العصيبة، وبدأ شبح الفصل من الكليّة يطاردني ويسرق النوم من اجفاني، فالرسوب في هذا العام حتميّ اذا ظللت على هذا المنوال، فالنتائج الشهرية والفصلية كانت متردّية وتنذر بحلول كارثة لا قِبلَ لي بتحمل اثارها المدمّرة، فزاد قلقي وغمرتني موجة من الكآبة وانزلقت نحو حافة الانهيار.
في محاولة عقيمة لرفع معنوياتي المنهارة ولكي اتخلّص من احساسي بأنّي اصبحت عالة على والدي وعائلتي، عملت ولفترات متقطّعة في بعض المكاتب الهندسية لاساتذتي ولكنّ حالتي النفسية استمرت في التدهور لذلك قررت تأجيل دراستي لتلك السنة الدراسية وفعلا حصلت على موافقة رئاسة صحّة الجامعة على التأجيل.
بعد صدور الموافقة على تأجيل دراستي لتلك السنة الدراسية أبتُ الى مدينة الذهب الاسود وقضيت فيها الشهور القليلة المتبقيّة من العام الدراسي وشهور العطلة الصيفية.
كان قلبي مايزال متعلّقا باحلام وطلبت من عائلتي ان يخطبوها لي فأنصاعوا صاغرين لرغبتي الجنونية، ولكنّ اهلها أبدوا رغبتهم في تأجيل الخطبة حتّى اكمالنا الدراسة الجامعية وكانت احلام تدرس في كليّة العلوم في جامعة الموصل.
بعد فترة ندمتُ على تسرّعي وأنّبت نفسي لانّي لم اتحقق من شعورها نحوي قبل الاقدام على هذه الخطوة المصيرية فكانت هذه صحوة ومحاولة لرؤية الحقائق بوضوح من خلال ضباب الاوهام الّذي كان يحيط بعقلي حاجبا شعاع الحقيقة عن ناظري.
بعد هذه الظروف الّتي عشت في دوّامتها والّتي كانت تتقاذفني كامواج البحر الهائج يمينا وشمالا قطعت اتصالي بتنظيم الاخوان المسلمون وانكمشت على نفسي داخل قوقعتي وبدأت الشكوك تراودني حول وجود الخالق وارساله للانبياء وتمزّق نسيج عقلي كما يتمزق نسيج العنكبوت في ليلة عاصفة.
في شهر ايلول من خريف عام 1971 عدتُ الى مقاعد الدراسة ولكنّ تفاعلي مع الدراسة لم يصبح في هذا العام افضل من سابقه، فعقلي كان مشتتا ودوامة من التعاسة كانت تلّفني وبات الارق اللعين لا يفارقني كظلّي طاردا الكرى من جفوني فكنتُ اظلّ مسهدا في عتمة الليل حتى انبلاج خيوط الفجر وعيناي تحملقان في سقف الغرفة، وكنت اكتب معظم قصائدي في هذه الساعات العصيبة من اليوم حيث السكون السرمدي يلّف الكون وأنا ممد على الفراش احاور شيطان الشعر في لاشعوري وافكّر في حبّي ومستقبلي.
في محاولة لمعرفة شعور حبيبتي انتفضت وكتبت لها رسالة ضمنتها مشاعري تجاهها وطلبت منها الرد.
بعد انتظار لم يطل جاءني الرد على تساؤلي فايقنت بانّها لا تحسُّ نحوي بأيّة عاطفة حب وتعتبرني كأخ لها وتمنت لي في ختام رسالتها التوفيق والارتباط بفتاة تبادلني شعوري بالحب ورجتني ان امزّق خطابها، وفعلا مزّقت الخطاب فتمزّق معه اوهامي وامالي وقصّة حبّي الّتي وأدتها في اعماقي وبدأت رحلة النسيان.
بعد الصدمة الثانية هذه ازدادت شكوكي حول المسألة الدينية ربّما لانّ العقل الباطن عند تلّقيه صدمة عنيفة يتخلّص من العقائد او الافكار الّتي ترّسخت في لاوعيه نتيجة الايحاء والتكرار كما يتخلّص الحديد المصهور من الخبث.
بدأت أُكثِر من مطالعاتي للكتب الفلسفية والفكرية الّتي تلائم اتجاه تفكيري الجديد الى ان وصلت الى قناعة بعدم وجود خالق لهذا الكون وأنّ الله لم يخلق آدم من تراب وأنّ الانسان تطوّر من خليّة نباتية بدائية الى حيوان ثمّ الى انسان يمشي على قائمتين عبر مرحلة تطوّر استغرقت مليارات من السنين، ومما رسّخ اعتقادي هذا اطّلاعي على مؤلف العالم تشارلس داروين في اصل الانواع والمؤلفات الفكرية للعالم النفساني سيجموند فرويد وبالاخص مؤلَّفه موسى والتوحيد الّذي يدرس ويحلل فيه فرويد شخصيّة موسى ونشوء اوّل ديانة توحيدية في تاريخ الانسانية من وجهتي النظر التاريخية والتحليلية النفسية ويحاول ان يثبت بان موسى لم يكن يهوديا بل مصريا وأنّه نقل الديانة التوحيدية للفرعون المصري الثائر أخناتون الى الشعب اليهودي.
انعكس تأثير هذا التحوّل الفكري على سلوكي فانتقلت الى حياة مختلفة عن سابقتها تاركا وراء ظهرانيَّ بعض نواهي الدين ولكنّي ظللت محتفظا بمعظم افكاري المثالية وخاصة الاخلاق الحميدة كالصدق والايثار والجوانب الايجابية الاخرى الّتي جاء بها محمّد في دينه الجديد.
في محاولة لنسيان فشلي في الدراسة والحب بدأت بمعاقرة الخمر. في هذه الفترة العصيبة من حياتي سكنت في فندق بغداد الدولي في الحيدرخانة وكان فندقا متواضعا بالرغم انّ اسمه لايوحي بذلك. في هذا الفندق تعرّفت على ماجد وهو احد النزلاء المقيمين في الفندق. كان ماجد شابّا في الرابعة والعشرين من العمر ومن مواليد مدينة الحلّة وكان في تلك الفترة عاطلا عن العمل ولا يملك شروى نقير وذلك بعد تركه لوظيفته في احدى شركات التأمين الحكومية لعدم اقتناعه بتلك الوظيفة فقد كان شابّا مثقفا ذو طموحات ادبية ويرغب في ممارسة الصحافة ككاتب للمقالات ولكنّ ارائه واتجاه تفكيره كانت متناقضة مع معتقدات الحزب الحاكم واعني به حزب البعث العربي الاشتراكي.
كان ماجد يعيش في بغداد حياة بوهيمية، ينتقل بين الحانات ويمارس الجنس مع المومسات كلّما اتاح له وضعه المادي ذلك.
بدأت ارتاد الحانات الوضيعة في شارع ابو نؤاس والباب الشرقي برفقة رفيقي ماجد كلّما توّفر لدينا بعض النقود ومرّت علينا ايام عصيبة لم نكن نملك فيها مالا لدفع ثمن طعام الغداء او العشاء.
أثّرَت الظروف النفسية الّتي كنت امرُّ بها نتيجة للتحولات الفكرية الّتي زلزلت كياني على دراستي في الجامعة، لقد كنت كمن خرج من قرية انفجر بقربها بركان ثائر وخلّف وراءه اثارا مدمرة من حرائق ودخان وموت لذا كانت نتيجة دراستي في الجامعة الفشل مرّة اخرى ففُصِلت من كلية الهندسة نهائيا وايقنت بانّ جميع الجهود الّتي بذلتها خلال سنين دراستي الطويلة اصبحت هباء منثورا وذهبت ادراج الرياح، فازداد قنوطي ويأسي واصبحت الحياة لا تطاق وبدأت فكرة الانتحار تراودني بين حين وآخر لانّي كنت اراها طوق النجاة الوحيد للتخلّص من عذاباتي.
كنت استيقظ فزعا من النوم من جراء الكوابيس الّتي كنت احلم بها اثناء النوم فكرهت النوم بالرغم انّ النوم هو الملاذ الآمن الوحيد الّذي يلجأ اليه المصابون بالقلق الشديد، واستمر الحال على هذا المنوال الى ان وصلتُ الى حافّة الانهيار التام.
لا اذكر تفاصيل هذه الفترة العصيبة من حياتي جيّدا لأنّ عقلي لفّه ضباب كثيف من النسيان، ولكنّي اتذكّر انّي مررت بفترات من الكآبة الشديدة كنت انفرد فيها في احدى الغرف لساعات وربّما لايام طويلة، وحدث ان أُغمي عليّ عدة مرّات بعد حالات شديدة من الهيستيريا، وكنت في بعض المرّات اتفوّه بكلمات لامنطقية او اتصرّف بتصرّفات غريبة، ففي فجر احدى ايام الصيف تسلّقت سور حديقة بيتنا لكون باب السياج الخارجي موصدا وابتعدت عن البيت وظللت سائرا في شوارع مدينة الذهب الاسود حتّى وصلت الى الضواحي الشمالية للمدينة وبعد ان جلست في الخلاء على شاهد قبر قفلت راجعا الى الدار حاملا معي بعض الزهور والاشواك البريّة.
وفي احدى الليالي اسريت في ازقّة وشوارع بغداد لساعات طويلة محملقا في مصابيح الانارة لاعمدة الشوارع بحيث انّ دورية لشرطة النجدة شكّت في امري، وبعد ان تمّ توقيفي في مركز الشرطة لفترة قصيرة اعادوني الى الفندق الّذي كنت اسكن فيه بسيارة النجدة بعد ان تيقنوا من هويتي الجامعية ولاحظوا حالتي النفسية المتدهورة فعندما قال لي معاون المركز:
– سأوقّفك في النظارة حتّى الصباح لكي نتحقق من امرك.
اجبته بثقة:
– حتّى لو اوقفتني فانّي استطيع الخروج من النظارة طائرا.
الحديث عن الطيران ذو شجون، فقد كنت في تلك الفترة العصيبة من حياتي احلم كثيرا اثناء النوم بأنّي اطير في الجو محرّكا يداي كاجنحة طائر، قد يكون سبب ذلك مرور الانسان في رحلّة تطوّره من خلية بدائية بمرحلة الطيور حسب نظرية التطور لتشارلس داروين واشتياقه الى تلك المرحلة من تطوّره، وقد يكون الطيران في حلمي رمزا للهروب من ازمتي او رمزا لخروج الروح الّفه لاشعوري لانّني جبنت من تنفيذ رغبتي في الانتحار عندما كان عقلي الواعي مسيطرا على زمام الامور في اليقظة.
الكاتب المصري الدكتور مصطفى محمود تناول في مؤلفه ( الاحلام ) بالتفصيل آلية تكوّن الاحلام، كما انَّ العديد من علماء النفس كيونغ وبرجسون وسيجموند فرويد لهم باع طويل في موضوع تفسير الاحلام بالرغم من انَّ فرويد يغلب عليه عامل الجنس في تفسيراته للاحلام وهذه هي احدى مثالب نظريته.
خلاصة القول انّ الحلم يتكوّن في العقل الباطن ( اللاشعور ) للانسان النائم باستخدام ارشيف المعلومات والذكريات الموجودة في دماغ الحالم وذلك بتأليف سيناريو مُبهَم وباستعمال رموز بدل الاحداث والشخصيّات الحقيقية.
انّ المؤثرات في تكوين الاحلام عديدة، فمثلا حدوث حادثة او اجراء حديث او مشاهدة فلم قبل النوم بفترة وجيزة او قبل عدّة ايام وكذلك رغبات الانسان المكبوتة كالرغبات الاقتصادية والجنسية والبيولوجية الاخرى وحالته النفسية، فمثلا لو تشاجر احدهم مع مديره في العمل فقد يرى في الحلم مديره على شكل مخلوق بجسم انسان ورأس حمار هذا اذا كان يعتقد في قرارة نفسه انّ مديره غبيٌّ وانّه ظلمه في تلك الحادثة، يضاف الى ذلك تاثيرات البيئة المحيطة بالنائم كسماع الاصوات والضوء الساقط على عين النائم والروائح التي يتنشقها مع الهواء. مثال آخر على تأثير الاصوات الّتي نسمعها اثناء النوم يرويه العالم النفساني سيجموند فرويد، يقول فرويد: في ليلة آويت الى الفراش بعد نهار مرهق قضيته في القاء المحاضرات على طلبتي في الجامعة ثم نمت فحلمت باني القي محاضرة في القاعة على طلبتي، بعد فترة قصيرة سمعت همهمة وبعد ذلك تعالت اصوات الاستنكار من الطلبة وكانت تردد (آوت OUT… آوت OUT … آوت OUT ) اي اخرج الى الخارج باللغة الانكليزية، ثم استيقظت من النوم فزعا وسمعت صوتا صادرا من خارج غرفة النوم، صوت كلب ينبح تحت نافذتي بمقاطع مقاربة لصيحات الطلاب في الحلم. نفهم من هذا الحلم ان فرويد وبتاثير نباح الكلب استرجع من ارشيف ذاكرته وهو استاذ محاضر في الجامعة مع الطلبة بعض ذكرياته وصاغها في الحلم بعد ترميزها وبتاثير نباح الكلب قرب نافذة غرفة النوم.
انّ افضل من يفسّر الحلم هو الحالم نفسه، لانه المؤلّف وكاتب السيناريو والمخرج والممثل في انٍ واحد.
لتوضيح الية تكوّن الاحلام وتفسيرها ساذكر مثالا لحلم فسّرته لصديق.
كنت اعمل في احدى الدوائر الهندسية في بغداد وكان لي صديق في نفس القسم الذي كنت اشتغل فيه، هذا الصديق كان يحب زميلة لنا ولكن الحبّ كان من طرف واحد، وعندما كاشف صاحبي زميلتنا بحبه ردّته بلطف وتمنّت له السعادة.
جاءني صديقي صباح احدى الايام وروى لي حلمه وهو يبتسم وعلامات الانشراح بادية في اساريره، قال صديقي بانه حَلُمَ الليلة الماضية بانه كان في المصعد مع زميلتنا وفجاة توقّف المصعد لانقطاع التيّار الكهربائي، مضت فترة طويلة ونحن محبوسان في المصعد، ولكنّي لم اشعر بالقلق او الخوف او الملل بل بالعكس كنت اشعر بالسعادة اثناء الحدث.
نتيجة لمطالعاتي حول موضوع الاحلام استطعت من تفسير حلم زميلي العاشق، وقد اصابه العجب عندما استمع الى التفسير وبدت على وجهه امارات التاييد.
انّ رؤية صديقي لهذا الحلم كانت نتيجة للرغبة الكامنة في نفسه من الزواج بزميلتنا التي كان يعشقها، فالمصعد المغلق عليهما يرمز الى عش الزوجية ( القفص الذهبي ) وانّ شعوره بالسعادة اثناء الحدث ناجم عن احساسه بانَّ عش الزوجية ضمَّت كليهما بين جدرانه، ونظرا لشعوره باستحالة تحقق امانيه في الواقع فانَّ رغباته المكبوتة انطلقت من اسارها في هذا الحلم الممتع.

انّ القلق حالة من التوتر تنتابنا حينما ننقسم في داخلنا ونشهد رغباتنا وهي تقتتل وتتصارع، انّها اللحظة الاليمة الّتي تتجلّى فيها عداوتنا لانفسنا، وهي عداوة مُفزِعة لانّ لا شيء فيها يُمكن لمسه بالاصبع او رؤيته رؤية العين. انّ اللحظات تصبح عبثا والحياة تصبح كابوسا والقلب يصيح جثّة يفوح منها الملل والسأم والضجر والصيحة الوحيدة الّتي تبقى لنا هي الخلاص…. والخلاص من نفوسنا.
في اثناء ازمتي النفسية هذه كانت عائلتي تراقبني بقلوب واجفة تُمزّقها الاسى والالم، ولكنّهم لم يتروكوني اجابه مصيري القاتم لوحدي، كانوا يعاملونني بعطف بالغ ويحاولون مداواة جراحي الغائرة في اعماقي والّتي كانت تنزف الما وشقاء.
كان والدي، هذا الشيخ الصابر يتألّم بصمت لالمي وكنت الحظ احيانا الدموع في مقلتيه وهي تنزلق بين الاخاديد الّتي حفرتها معاول الزمن على وجهه. في محاولة لانقاذي اصطحبوني الى بغداد لعرضي على طبيب نفساني شهير، بعد الاستفسار عن حالتي كتب لي الطبيب وصفة تتضمن بعض الحبوب المهدّئة وبعض الحبوب الاخرى الّتي ستساعد في شفائي من المرض الّذي كنت اعاني منه واقاسي من اهواله.
نتيجة لتأثير العلاج ومرور الايام الّتي تُنسي الالام والاحزان وتكاتف عائلتي بدأت صحّتي بالتحسن التدريجي ودخلت في دور النقاهة، ولكنّ حالات الكآبة والقلق والارق لم تفارقني لفترة ليست بالقصيرة.
كان قرار عائلتي بارسالي الى خارج العراق للراحة والاستجمام قرارا حكيما، وربّما كان بنصيحة من الطبيب المعالِج. بعد ان قضيت شهرا من صيف عام 1972 في تركيا في السياحة وزيارة عائلة شقيقي اورخان في اسطنبول عدتُ الى الوطن وقد تحسنت صحّتي تحسّنا ملحوظا وبدأتُ بالعودة الى حياتي الطبيعية بخطى وئيدة.
بعد ان علمت بوجود مجال للعودة الى مقاعد الدراسة في كليّتي وذلك بعد قضاء سنة في العمل في احدى المكاتب الهندسية الاستشارية لاكتساب الخبرة الهندسية فيها، قررت الاستفادة من هذه التعليمات الّتي نزلت كالغيث الّذي يحيي الارض البوار، فقدّمت نفسي الى مكتب الاستشاري العراقي الذي كان يُديره المهندس المعماري الاستشاري رفعت الجادرجي وهو احد روّاد الهندسة المعمارية في العراق ومن الرعيل الاوّل الذين ارسوا اسس المهنة في العراق، هذا الرعيل الذي ضمّ نخبة من ابرز المعماريين كان بينهم اوّل رئيس قسم للهندسة المعمارية في كلية الهندسة، الدكتور محمّد مكيّة والمهندس المعماري الاستشاري هشام منير والمهندس المعماري قحطان عبدالله عوني مصمم مجمّع مباني الجامعة المستنصرية والمهندس المعماري قحطان المدفعي.
معظم هؤلاء الفطاحلة كانوا ضمن الفريق التدريسي لقسم الهندسة المعمارية في تلك السنين وكانت لهم مكاتب هندسية استشارية يمارسون فيها الاعمال التصميمية.
جميع هؤلاء الاساتذة كان لهم طرازهم الخاص في التصميم المعماري وكوّنوا بأبداعاتهم التصميمية مدرسة عراقية متميّزة، اسلوب المهندس رفعت جادرجي تميّز باستعمال العناصر التراثية كالاقواس النصف الدائرية الّتي أُسستعملت لاوّل مرة في العمارة السومرية والفناءات الداخلية للابنية والّتي هي متلائمة مع مناخ العراق، فلسفة المهندس رفعت جادرجي في التصميم وكما استوعبته من احدى محاضراته التي القاها على طلّاب القسم المعماري كانت تنحو الى استعمال العناصر التراثية في العمارة الحديثة بعد اذابتها في بوتقة العناصر الاخرى للمبنى، وبعبارة اخرى فانّ اسلوبه لم يكن يعتمد على استنساخ العناصر التراثية وحشرها في التصميم.
تمّ تعييني في مكتب الاستشاري العراقي بعد مقابلة قصيرة مع رئيس قسم التصاميم التنفيذية المهندس المعماري أتيلّا المدرّس وبراتب مقداره ثلاثون دينارا وبدوام كامل لمده ثمان ساعات يوميا، وكان موقع المكتب في شارع النضال، امّا بناية المكتب المصمم من قبل المهندس المعماري رفعت الجادرجي فقد كان متكونّا من طابقين، تطلّ غرفه وقاعاته على فناء وسطي وكان هناك جسر خشبي معلّق يربط قسم التصاميم الاوّلية بقسم التصاميم التفصيلية، كانت الشبابيك الّتي تطل على الفناء الوسطي واسعة ومعمولة من الخشب المطلي بعازل شفاف، امّا الفناء الوسطي فكان مزروعا باشجار ونباتات متنوعة مما اضفى على محيط المكتب شعورا دافئا ومريحا.
في القسم الّذي عملت فيه اضافة الى المهندس اتيلّا كان يعمل زميلان، فارس حازم نامق ومحمّد تقي وهما من طلّاب القسم المعماري، اضافة الى ذلك عمل معنا في المجموعة ثلاثة من كوادر الرسم المعماري،الفريد ومرقص وابو زيد.
العمل الاساسي في القسم كان اعداد التصاميم والمخططات التنفيذية للتصاميم الاولية التي كانت تُعَد في قسم التصاميم الاولية الّذي كان يُشرف عليه الاستاذ رفعت الجادرجي ويعمل فيه خيرة المهندسين المعماريين كمعاذ الآلوسي ومهندسة معمارية ايرانية الّتي كانت زوجة المهندس صفاء الكليدار ومن المهندسين الشباب اتذكّر المهندس سامان اسعد ومعتز كمّونة وشقيقه التوأم مازن كمّونة.
كان المكتب يوميا في حركة دائبة فبلاضافة الى اعداد تصاميم المسابقات المعمارية والمشاريع الحكومية، كنّا نقوم باعداد التصاميم للدول العربية الخليجية كمجمّع الرياضي للنادي العربي في الكويت وابنية مختلفة في الامارات العربية وقطر.
سرّبت هذه الكوّة الّتي انفتحت امامي شعاعا من الضوء الى اعماقي المظلمة فأنغمست في العمل بجد ووجدتُ فيه كياني الضائع وبدأتُ أُحبُّ مهنتي وأكتشف خفاياها واسرارها وازدادت خبرتي من خلال ممارسة العمل الهندسي المعماري والاطلّاع على التصاميم الّتي كنت اشارك في اعداد مخططاتها التفصيلية.
لأوّل مرّة في هذا المكتب اطّلعت على اسلوب عالمي جديد في اعداد التصاميم التفصيلية المسمى (نظام- S.F.B ). المخططات الّتي كنّا نقوم باعدادها كنّا نرسمها بأقلام حبر خاصّة على ورق شفاف خاص ( TRACING PAPER )، ففي السبعينات لم تكن الحاسبة الالكترونية الشخصية قد دخلت العراق، واول حاسبة شاهدتها كانت في كلية الهندسة وكان ذو حجم كبير داخل غرفة مكيّفة ولم يكن بامكاننا استعمال هذه الحاسبة البدائية لاغراض الرسم الهندسي والمعماري.
كان الراتب الّذي اتقاضاه رغم تواضعه يكفي لدفع ايجار الشقّة الّتي استأجرتها في الصالحية بمشاركة صديق كان يعمل مذيعا في القسم التركماني من اذاعة بغداد، امّا المتبقي من الراتب فكنت اخصصه للمصاريف الاخرى كالطعام والشراب الّذي اصبح عادة يوميّة وعلاجا شافيا لما تبقّى في نفسي من ألم وقلق، كما بدأت امارس هوايتي القديمة في العزف على العود وهكذا انغمست في العمل والشراب والموسيقى، هذا الثلاثي الذي اعانني على استرجاع عافيتي والاقبال على الحياة مرّة اخرى بقلب يملأه الامل والتفاؤل من المستقبل.
في التاسع من آذار من عام 1973 ومع اطلالة الربيع اشتركت في سفرة مع الطلّاب التركمان الدارسين في جامعة بغداد الى سدّة الهندية، وبينما كنت اداعب اوتار آلة العود في الحافلة الّتي كانت تُقلّنا سمعت صوتا ناعما يناديني من المقعد الخلفي وفوجئت بوجودها فلم تكن غير أسماء، رفيقة صباي واحسست في تلك اللحظة بأنّ قلبي يرتجف في مكمنه محاولا شق شرنقته لينطلق فراشة الحب من جديد نحو النور والحب والحياة.
بعد وصولنا الى موقع السفرة اغتنمتُ اوّل فرصة سانحة لأنفرد بأسماء وبدأ حديث العتاب والمكاشفة وانتهى بارتباط قلبين تعاهدا على الحب والوفاء مدى الحياة.
كانت اسماء قد اكملت دراستها الاعدادية وقدّمت وثائقها الى معهد اعداد المعلمين والمعلمات في اربيل، وكانت تقضي معظم ايّامها في مدينة الذهب الاسود بانتظار نتائج القبول في المعهد.
بدأتُ أُكثِر من زياراتي الى كركوك للقائها وكانت هذه اللقاءات من احلى لحظات العمر، وازداد ارتباطنا بمرور الايام وبدأ حبنا ينمو ويترعرع وكنت اشتاق اليها عقب فراقنا.
اصبح الشعر سلواي في ايام البعاد فافرغت فيه مشاعري وصارت القصائد تعكس الواقع الجديد فأنغمست في خضم الحياة بفؤاد يملؤه التفاؤل والامل والحب.
في ألخريف ألّذي تلا ذلك ألربيع ألخالد رجعت إلى مقاعد ألدراسة في ألجامعة بنفسية جديدة فألحب كما يُقال يصنع ألمعجزات، وبدأت دراستي بهمّة ومثابرة وعزيمة يفل ألحديد وأندفاع المقاتل ألموعود بإحدى ألحسنيين إمّا ألشهادة (ليس ألمقصود شهادة ألبكلوريوس طبعا) أو ألجنّة، فبدأت أحضر ألدروس بإنتظام وأعدّ تصاميم ألمشاريع برغبة لم أعهدهها في نفسي في ألسنوات ألأخيرة…. سنوات ألمحنة.
تكللت جهودي بألنجاح وبدأتُ أقطف ثمار ألنبتة ألّتي زرعها ألحب في عقلي وصارت علاماتي في جميع ألدروس ممتازة وأصبحتُ في طليعة ألمتفوقين.
في مساء إحدى ألأيام كنت أتجاذب ألحديث في إحدى بارات أبي نؤاس في بغداد مع صديقي بهجت ألّذي كان في تلك ألسنة طالبا في قسم ألمسرح في أكاديمية ألفنون ألجميلة، وبعد أنْ أسكرتنا ألخمور ألّتي تفتح عقال ألألسنة تشاركنا في أحاديثنا ذكرياتنا وتجاربنا في ألحب، سرد بهجت قصّة حبّه ألأول مع بنت ألجيران في مدينة كركوك عندما كان في سن ألمراهقة، وعرفت منه انه لَمْ يلتقِ بحبيبته تلك منذ عشر سنوات وذلك بعد أنْ أنتقلت مع عائلتها إلى مدينة أربيل ولكنّها كانت لاتزال تحتل موقعها في إحدى أركان قلبه وفهمت من حديثه بأنّه يحسُّ بحنين جارف لرؤيتها حتّى تلك أللحظة.
في تلك ألجلسة ألشاعرية على ضفاف نهر دجلة قررنا ألبحث عن ألحبيبة ألمفقودة. كانت سلوى في مدينة أربيل معلمّة ولكنّ صديقي بهجت لَمْ يكن يعرف عنوان سكنها أو محل عملها ولكنّه قال بان أحد أصدقائه في أربيل قد يستطيع مساعدتنا في ألعثور على ألحبيبة ألمفقودة.
في ألصباح الباكر سافرنا إلى أربيل وكنت من ناحيتي آملُ رؤية حبيبتي هنالك لأنّها كانت قد قُبِلَت في معهد إعداد ألمعلمات في أربيل بالاضافة إلى رغبتي في مساعدة صديقي بهجت للعثور على حبّه ألضائع.
بعد وصولنا إلى أربيل وألّذي يبعد بحوالي 350 كيلومترا عن بغداد توصّلنا إلى معرفة عنوان مسكن سلوى بواسطة صديق بهجت ألذي رافقنا في زيارتنا إلى مسكن ألحبيبة، ولكننا لَمْ نجدها في ألدار وأخبرتنا والدتها بعد ألترحاب وكرم ألضيافة ألّذي هي مِنْ شيم أهل ألعراق بأنَّ سلوى معلِّمة في إحدى مدارس قضاء مخمور.
علمت أيضا من صديق بهجت بأنَّ الدوام في معهد ألمعلمات لَمْ يبدأ بَعدُ لذلك لَمْ أتمكّن مِنْ لقاء حبيبتي اسماء فقفلنا مع بهجت راجعين إلى بغداد بخفي حنين.
تمخضت عن هذه المغامرة ألمفاجئة تطوّرات مذهلة في ألأيام التالية، فبدأت ألجسور تمتد بي بهجت وحبيبته وأنتهت بالنهاية ألسعيدة كما يحدث في ألأفلام ألمصرية فتزوّج ألعاشقان بعد تخرّج بهجت من اكاديمية الفنون الجميلة- قسم المسرح.
بعد إيابنا إلى بغداد علمتُ بأنَّ أبن خالي جهاد قد حضر من كركوك وأخبرني صاحب ألفندق الّذي كان يسكن فيه بهجت بأنَّ أهلي أرسلوه لكي يخبرني بضرورة سفري إلى كركوك لأمر هام.
بدأت ألأفكار وألهواجس تراودني وأحسست بأنَّ مصيبة قد حلّت وندمتُ لأنني لَمْ أعرج على أهلى خلال مروري من كركوك في طريقنا إلى اربيل أو عودتنا منه. كانت ظنوني في محلّها فبعد أنْ دخلت زقاقنا في كركوك بعد سفرة كئيبة لاحظت تجمهر النّاس امام دارنا وحركة ألنساء ألمتشحات بالسواد فايقنت بأنَّ أحد أفراد عائلتي قد فارق الحياة ولَمْ يكن غير والدي ألّذي مات على أثر نوبة قلبية مفاجئة وتمَّ دفنه بجانب قبر والدتي في مقبرة ألقورية.
كان وقع النبأ عليَّ أليما ولفّني ألحزن لفراق هذا ألأب ألحنون ألمضحّي وألذّي ترك برحيله جرحا ثالثا غائرا في أعماقي.
بعد أنتهاء فترة ألحداد أبتُ إلى بغداد مهموما لأكمّل دراستي ألجامعية.
قبل وفاة والدي كان شقيقي يلماز قد تزوج من زميلة له كانت تدرس في جامعة الموصل، اما شقيقتي آيسل فقد تزوجت بعد يلماز بفترة وجيزة وانتقلت مع زوجها للسكن في بغداد، في هذه الاثناء استأجرت شقة في الباب الشرقي بمشاركة صديقي المذيع وصديق آخر كان موظفا في إحدى السفارات الاجنبية.
كنت اقضي اوقاتي في العمل في المكتب وكذلك في اعداد التصاميم المعمارية التي كنا نكلف بها في القسم المعماري اضافة الى ذلك كنا نجتمع مع الاصحاب في النادي كل يوم خميس حول مائدة الشراب.
اكملت السنة الدراسية الرابعة ونجحت في نهايتها نجاحا باهرا وكانت علاماتي ممتازة في جميع الدروس، ان هذا التفوق اعاد الثقة الى نفسي واعطاني زخما اضافيا لإكمال السنة الخامسة والاخيرة من دراستي الجامعية.
حينما بدأت الاجازة الصيفية لم اعد الى كركوك وفضلت الاستمرار في العمل في المكتب على العودة ولكني اغتنمت عدة فرص خلال هذه الاجازات للسفر الى كركوك للقاء بحبيبتي اسماء التي نجحت هي الاخرى وانتقلت الى المرحلة الثانية والاخيرة في دراستها في معهد اعداد المعلمات.
في احدى هذه الزيارات فاتحت اهلي برغبتي في خطبة اسماء وتحققت رغبتي وتمت الخطوبة وبارك اهلي واهلها حبنا الذي بقي طي الكتمان لاكثر من عام واقتصرت الخطوبة على الاهل وسعد بها الجميع.
في خريف عام 1974 بدأت السنة الدراسية للمرحلة الخامسة والاخيرة من دراستي فكنت في خلالها كالعام السابق متفوقا في الدراسة.
في الأشهر الاخيرة من هذه السنة انتقلت بناء على رغبة شقيقتي للسكن معها وانشغلت في هذه الاشهر في إعداد اطروحة التخرج التي كانت تصميم مجمع مدرسة اصلاحية في بغداد.
كانت لقاءاتي بخطيبتي خلال فترة الدراسة قليلة واقتصرت على الاعياد والعطلة الربيعية وسافرت مرة الى اربيل للقائها وقضيت معها عدة ايام كانت من احلى ايام العمر، اما في ايام البعاد فقد كان الشعر سلواي وخطاباتي اليها كانت لا تخلو من قصيدة ابث فيها اشواقي ولوعتي من الفراق وحنيني الى اللقاء.
ان سفينة الحياة كما هي زاخرة بالمسرات فهي مليئة ايضا بالآلام وان الاقدار تلعب دورا اساسيا في رحلتنا العبثية هذه، ففرحة اللقاء والميلاد تعقبها لوعة الفراق والموت…. هذا الحدث المفزع الذي يخطف منا احبائنا واعزائنا في لحظات، وهكذا خطفت يد المنون ابن شقيقتي البكر يشار ولم يتجاوز عمره الربيع الرابع في حادثة اليمة في دار الحضانة الملحقة بالمستشفى التي كانت تعمل فيه والدته. كانت هذه الورقة الرابعة التي سقطت من شجرة العائلة بعد والدتي وشقيقي اورخان ووالدي.
ان هذه الواقعة المفزعة تركت في نفس شقيقتي وزوجها جراحا غائرة وآثارا مدمرة ظلا يعانيان منها لفترات طويلة.
لقد احزنني الاغتيال المرعب لهذا الطفل فالبرعم تم قطفه قبل ان يزهر ويثمر وراودني التساؤل الخالد حول لغز الحياة ولغز الموت والحكمة من تعاقب الوجود والفناء.
عندما كنت مؤمنا بالاديان كانت الاجابة جاهزة فهي إرادة الخالق والاطفال مكانهم في جنة الخلد عند مليك مقتدر، ولكني اتسأل الآن: ماالحكمة من خلق هذا الطفل ثم ارسال عزرائيل لقبض روحه قبل ان يكمل استخلافه في الارض كما تدّعي الاديان؟
حكاية الوجود والفناء هذه عبث في عبث، فالطبيعة عشوائية في تصرفاتها فهي تقطف البرعم قبل ان يزهر وتقطف الزهرة قبل ان يثمر وترسل الرياح والعواصف فتتساقط الثمرات قبل اوان نضجها احيانا.
عندم كنت مؤمنا بالدين الإسلامي كنت اعتقد بان الكون مسيّر من قبل الخالق حسب نظام دقيق، ولكني اكتشفت بعد ذلك ان العشوائية هي التي تحكم الكون… مليارات من الكواكب والنجوم موجودة بدون هدف والارض تتزلزل تحت اقدامنا بين فينة واخرى والبراكين تنفجر فتحرق الاخضر اليابس والعواصف والفيضانات تقتلع كل ما يصادفها، وفي الطرف الآخر صحاري جرداء يعاني من يسكنها من القحط والجوع.
ان من يدعي بان من خلق الكون والارض والانسان عليم حكيم ورؤوف رحيم في جهل مطبق ومخدّر فإذا كان هناك خالق للكون والإنسان فهو خالق فاشل لا يرى ابعد من ارنبة انفه.
في تلك الفترة من عام 1975 وعندما كان حزب البعث العربي الاشتراكي مشددا قبضته على العراق حدثت في مدينة الذهب الاسود اضرابات قام بها الطلبة والمعلمون التركمان بسبب الغاء الدراسة باللغة التركمانية في عدد كبير من المدارس التركمانية، وتمّ اعتقال عدد من الطلاب والمعلمين كما استشهد احد المعلمين نتيجة التعذيب في المعتقل.
نتيجة لهذه الاحداث قام الطلاب التركمان الدارسون في جامعة بغداد بإعتصام سلمي امام مقر الاتحاد الوطني لطلبة العراق الذي كان تابعا لحزب البعث للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين وإرجاع الدراسة باللغة التركمانية الى المارس التي الغيت منها.
خلال الإعتصام قدّمنا مطالبنا الى رئيس الإتحاد وتم بعد ذلك تفريق هذا التجمع بالقوة والغيت بعد فترة الدراسة باللغة التركمانية من جميع المدارس المشمولة بها.
لم اجد مبررا منطقيا لهذه الإجراءات المتعسفة التي اتخذتها قيادة حزب البعث الحاكم ولكن التوجهات والمماراسات التي تعاقبت على مر الايام كشفت توجههم العنصري وتمييزهم بين العرب والقوميات من الاقليات الاخرى كالاكراد والتركمان والاثوريين، فالحكم الذاتي للاكراد تحول الى هيئات شكلية وتجرد من اهدافه والمحافظات والمناطق الكردية والتركمانية ظلت تعاني من التخلف والإهمال والتفرقة.
بعد إلغاء الدراسة باللغة التركمانية بدات حكومة حزب البعث بسياسة تعريب مدينة الذهب الاسود- كركوك – وذلك بتشجيع العرب للهجرة من المحافظات الاخرى الى المدينة وذلك بمنحهم امتيازات مالية وتخصيص الاراضي السكنية لهم. وعلى النقيض من ذلك تم إجبار السكان الاصليون للمدينة على إخلاء بعض المناطق السكنية والزراعية واستولت الدولة على الدور السكنية العائدة للتركمان لقاء تعويض مالي واسكنت فيها العرب المهاجرين من المحافظات الاخرى التي اغلبية سكانها من العرب.
ان هذه الممارسات ولّدت شعورا بالنقمة في المدينة وخاصة بين التركمان والاكراد فبدأوا يتسألون عن مبرراتها.
ان بعض بلدان العالم تعاني من مشكلة الاقليات القومية والدينية والمذهبية، وإن افضل وسيلة للتعايش السلمي بين الاقليات والاغلبية هي الاعتراف بحقوقهم في العيش الكريم وفسح المجال امامهم للمشاركة الديمقراطية في البرلمان والحكومة والقضاء فالعلمانية والالتزام ببنود اعلان حقوق الانسان هي صمام الامان والوسيلة للتعايش بين القوميات والاديان والمذاهب المختلفة.
ان التمييز القومي لم يؤدي الى ذوبان اية قومية في عالمنا او القضاء عليها لان الشعور القومي لدى الانسان شعور جارف حاليا ومترسب في لاشعوره ولا يمكن اقتلاعه بالقوة.
إن عقل الانسان في تطور مستمر فالتطور هي سنة الحياة فالاحياء تتطور والمذاهب والاديان تتطور، فبعد ان كانت النزعة الفردية غالبة على الانسان البدائي تطورت الى نزعة عائلية ثم الى نزعة قبلية ثم الى نزعة عشائرية ثم الى نزعة قومية، والعقل الانساني ووعيه مستمر في التطور ونأمل ان يأتي عصر الانسانية بعد ان يبلغ تطور العقل البشري والحضارة الانسانية مبلغا يمكنه من نبذ التفرقة القومية والدينية والمذهبية.
لقد ساهم المفكرون والفلاسفة وبعض الانبياء على مر العصور والاحقاب في دفع عجلة هذا التطور الى الامام ولكن بعض من هؤلاء وخاصة الانبياء منهم زادوا الطين بلة فالدين اليهودي يدعّي بان اليهود هم شعب الله المختار والدين الإسلامي رغم قوله لافرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى ينبذ المخالف لمعتقده ( كنتم خير امة اخرجت للناس ) كما يأمر بأخذ الجزية من اهل الكتاب وهم صاغرون اما المسيحية فهي امتداد للدين اليهودي من الناحية التشريعية فالكتاب المقدس (العهد الجديد) يضم بين دفتيه الاناجيل الاربعة والعهد القديم اي التوراة وخلاصة القول ان جميع الاديان سبب للتفرقة اكثر مما هي سبب لتوحيد الجنس البشري.
بعد هذه الاحداث المؤسفة قدمت اطروحة التخرج الى رئاسة القسم المعماري وعدت الى مدينة الذهب الاسود وكنت قد استقلت من عملي في مكتب الاستشاري العراقي لاتفرغ للدراسة خلال فترة إعداد اطروحة التخرج.
بعد ان قضيت عدة ايام في مدينتي قفلت راجعا الى بغداد لإستلام نتائج الامتحانات والاطروحة، فكانت سعادتي غامرة بالنجاح الباهر الذي حققته وتكللت جهود السنوات الطويلة الي قضيتها على مقاعد الدراسة بتخرجي من الجامعة وحصولي على شهادة البكلوريوس علوم في الهندسة المعمارية.
في هذه الاثناء تخرجت خطيبتي اسماء من المعهد فاصبحت الفرحة فرحتان.
بعد تخرجي من الجامعة عملت في مكتب أحد المهندسين المعماريين في كركوك وكان ذلك خلال أشهر الصيف وكنت التقي رفيقة صباي وخطيبتي كلما سنحت الفرصة لذلك، واتفقنا في إحدى اللقاءات على عقد قراننا وفاتحت أهلي برغبتي فتم إرتباطنا الابدي في أوائل شهر ايلول من عام 1975.
بعد فترة وجيزة التحقت بالخدمة العسكرية الإلزامية في مدرسة الهندسة العسكرية في بغداد بعد أن تأخرت عدة أيام من الالتحاق بسبب رقودها في إحدى مستشفيات بغداد لمرض الم بها، وقد عانت من هذا المرض لفترة طويلة واصابها الهزال والضعف من أثره، وكان فراقي لخطيبتي مؤلما.
كانت الحياة العسكرية مختلفة وقاسية جدا وتوجب علينا المبيت في المعسكر لاسابيع قبل السماح لنا بالتمتع بإجازة قصيرة أستطعت خلالها من الإطمئنان على صحة حبيبتي وكنت قد تركتها مرغما تحت رعاية شقيقتي آيسل في المستشفى التي كانت تعمل فيها في بغداد.
بالرغم من رتابة الحياة العسكرية إلا أنها كانت لا تخلوا من متعة ومواقف طريفة مع العريف أو المداعبات بين الزملاء المهندسين، هذه المداعبات كانت في بعض الأحيان تنقلب إلى عقوبة تطال الجميع لا يفرق العريف في تطبيقها بين المذنب والبريء لعدم إستطاعته من تحديد المذنب بسبب تكاتف الزملاء مع بعضهم.
في شهر نيسان من عام 1976 تخرجت من كلية الإحتياط ومنحت رتبة ملازم مجند مهندس في الجيش وتم تنسيبي للعمل في معاونية أشغال القوة الجوية وتم تكليفي مع عدد من الزملاء الضباط المهندسين بإعداد تصاميم قاعدة القيارة الجوية، والقيارة هي إحدى أقضية محافظة نينوى في شمال العراق، وكان فريق العمل يضم عدد من الضباط المهندسين المصريين المختصين في إعداد مثل هذه القواعد وكان فريق العمل بأمرة عميد مهندس مصري وترأس فريقنا المعماري عقيد مهندس معماري مصري أيضا.

في هذه الأثناء تم تعيين أسماء في إحدى مدارس قضاء حديثة التابعة لمحافظة الأنبار الواقعة في غرب البلاد وكان قرار تعيينها في هذه المحافظة البعيدة عن مدينة كركوك له علاقة بسياسة تعريب مدينة كركوك التي انتهجتها حكومة حزب البعث العربي الإشتراكي، حيث كان يتم تعيين الخريجين التركمان والأكراد الساكنين في كركوك في المحافظات التي غالبيتها من العرب، وكان يتم تشجيع العرب الساكنين في المحافظات التي غالبيتها من العرب للهجرة إلى مدينة الذهب الاسود وذلك بمنحهم بعض الإمتيازات المالية لبناء مساكن لعوائلهم على قطع من الأراضي الممنوحة لهم مجانا والسبب الأساسي لسياسة التعريب وتغيير البنية الديموغرافية لسكان مدينة كركوك هي وجود بحيرة من النفط تحت هذه المدينة.
بعد هذا التعيين لاسماء في قضاء حديثة اصبح لقائي بها عسيرا فكنت أستغل الاجازات للسفر إلى محل عملها وقطع مئات الكيلومترات لهذا الغرض، ولكن بالرغم من إختلاف موقعي عملنا أتفقنا على الزواج في شهر حزيران من نفس العام ومع بداية العطلة الصيفية للمدارس.
قبل موعد الزفاف بعدة أيام سافرت إلى مدينة الذهب الاسود بعد حصولي على إجازة قصيرة من وحدتي العسكرية ولكني فوجئت بأن خطيبتي راقدة في المستشفى وذلك بعد أن أجريت لها عملية جراحية لإستئصال الزائدة الدودية وهكذا أضطررنا لتاجيل الزفاف إلى نهاية تموز، وتم الزفاف بعد أن تماثلت اسماء للشفاء.
لم نستطع توفير مسكن يجمعنا بعد الزواج فبعد أن قضينا شهور العطلة الصيفية كضيوف في شقة شقيقتي في بغداد سافرت زوجتي إلى قضاء حديثة لمباشرة عملها في التدريس، ولكن فراقنا لم يدم طويلا فقد استطعت الحصول على موافقة وزارتها على نقلها إلى إحدى مدارس بغداد إستنادا على قانون القاعدة الزوجية، وهكذا اصبحنا ضيوفا في مسكن شقيقتي وزوجها مرة أخرى.
بعد فترة وبعد بحث دؤوب أستطعت إستئجار دار صغير مكون من غرفتين وكان الدار في جهة الرصافة من بغداد في حي الأعظمية وعلى مسافة قريبة من جامع الإمام الأعظم أو جامع أبو حنيفة النعمان ( أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ 80-150هـ ) وهو أحد المساجد والمدارس التاريخية في مدينة بغداد، ولقد بني المسجد عام 375 هـ/1065م بجوار قبر أبو حنيفة النعمان، ويقابلها منطقة الكاظمية في جهة الكرخ الذي يحوي جامع ومرقد موسى بن جعفر الكاظم (128هـ-183هـ) وهو أحد أعلام المسلمين، والإمام السابع عند الشيعة، وهنالك جسر مشيد على نهر دجلة وبالقرب من جامع الإمام أبو حنيفة يربط الرصافة بالكرخ، جزئي العاصمة بغداد.
سكنا في هذا الدار على مضض لأنها كانت في حالة يرثى لها لقدمها.
بدأنا بناء عش الزوجية وكنا لا نملك من الأثاث شيئا عدا اثاث غرفتي النوم والجلوس وكنت قد أشتريتهما من محل لتصنيع وبيع الأثاث على ان ادفع ثمنهما بالأقساط.
كانت زوجتي تطبخ الطعام على طباخ نفطي صغير نسميه في العراق ب (الجولة) باللهجة العامية وفي مطبخ لا يحوي غيره، ولكننا بدأنا بشراء إحتياجاتنا تدريجيا من المبالغ التي كنا نوفرها من راتبينا، وهكذا اكملنا تأثيث البيت قطعة بعد قطعة وكنا نجد سعادة ومتعة في ذلك لأنّ كل قطعة اثاث اصبحت لها ذكرى وكنا نشعر بأنّها من ثمرات جهودنا.

بعد إنقضاء عام على إستقرار عائلتي في بغداد أنهيت خدمتي العسكرية الإلزامية والتي استغرقت اثنان وعشرون شهرا وتسرحت من الجيش.
كنت ارغب بممارسة مهنتي كمهندس معماري في القطاع الخاص او التعيين في إحدى الدوائر الهندسية في مدينة الذهب الأسود، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن احيانا، فقد صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بتعيين جميع الضباط المهندسين المتسرحين من الجيش في دوائر الدولة وذلك لسد إحتياجات هذه الدوائر من الكادر الهندسي وحسب تنسيب وزارة التخطيط وبصورة إجبارية وقضت التعليمات الصادرة بهذا الخصوص بتعقب ومعاقبة المتخلفين عن تطبيق القرار.
تم تعييني بموجب القرار في وزارة الإسكان والتعمير التي نسبتني إلى العمل في إحدى دوائرها التصميمية ، وكان المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية من نصيبي.
بعد تمردي على قرار التعيين لفترة وجيزة تيقنت بأنّه لا مناص لي من الإذعان للأمر الواقع لأنّ بعض الزملاء المهندسين الذين تمردوا على قرارات التعيين ولم يلتحقوا بدوائرهم قد تم إعتقالهم من قبل السلطات الأمنية وتم الإفراج عنهم بشرط الإلتحاق بالوظيفة بعد أخذ الضمانات اللازمة.
في صبيحة إحدى ايام شهر تموز من عام 1977 توجهت إلى مقر عملي الجديد وقد خامرني إحساس بأنّي مقبل على منعطف جديد في حياتي العملية، كان شعوري مزيجا من القلق الذي ينتابني عند الإقدام على المجهول والفخر لأنّي صرت موظفا مهما في جهاز الدولة، وكنت أتساءل وأنا في الطريق عن طبيعة عملي هناك وكيفية التعامل مع الرؤساء والمرؤوسين، فالوظيفة الحكومية كما كنت أتصورها غابة علي إختراقها وخوض الصراع الدائر فيها حيث البقاء للأقوى والأصلح والأذكى.
لكن الصورة التي كانت في مخيلتي للحياة الوظيفية تبدلت بعد فترة من مزاولتي للعمل في دائرتي الجديدة، حيث كان الزملاء المهندسون متعاونين وكان الكادر العامل في مقر عملي من النخبة الممتازة إضافة إلى أنّ جو العمل كان مماثلا لجو العمل في المكاتب الهندسية الإستشارية التي عملت فيها اثناء الدراسة.
كان رئيس قسم العمارة والتخطيط في المركز الأستاذ هنري زفوبودا احد اساتذتي المتميزين في القسم المعماري من كلية الهندسة، وهو مهندس معماري عراقي وأحد أحفاد عـائـلـة زفـوبـودا الـبـغـداديـة الّـتي بـدأت بـوصـول الـتّـاجـر الـمـجـري أنـطـون زفـوبـودا Antone Svodoba إلى بـغـداد في بـدايـة الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر، وإقـامـتـه فـيـهـا مـتـاجـراً بـالـكـريـسـتـال الـمـسـتـورد مـن بـوهـيـمـيـا وبـبـضـائـع أخـرى مـن أوربـا. وقـد تـزوّج أنـطـون في 1825 بـبـغـداديـة مـسـيـحـيـة مـن عـائـلـة أرمـنـيـة، وأنـجـب مـنـهـا أحـد عـشـر ولـداً وبـنـتـاً. رحب الأستاذ هنري بي ترحيبا حارا ووجهني خلال فترة عملي في قسمه إلى اسلوب العمل الهندسي الإستشاري بصورته المثالية وكان قدوة لي ولجميع المهندسين المعماريين العاملين في المركز.
كان قرار تأسيس هذا المركز الأستشاري الهندسي الحكومي يهدف إلى خلق مكتب حكومي رائد في تقديم الخدمات الهندسية وإلى خلق كوادر وطنية تستطيع ان تقود في المستقبل العملية الإستشارية في القطر.
لقد رسخت السنوات اللاحقة من ممارسة الحياة الوظيفية في هذا المركز من قناعتي بأنّي بدأت بممارسة مهنتي في المكان الملائم بالرغم من دخله المحدود.
إنّ الهيكل الإداري والفني للمركزالمتضمن لأقسام متكاملة للعمل الهندسي من جميع الإختصاصات كالتصاميم المعمارية والإنشائية والكهربائية والميكانيكية مكنتني من إستيعاب والدخول في خضم العمل الإستشاري الهندسي بصورته المثالية ووضعتني على الدرجات الاولى من سلم الصعود والإبداع في حقل إختصاصي.
بعد تكليفي من قبل رئيس القسم بإكمال التصاميم النموذجية لدوائر الإحصاء في المحافظات العراقية وتصميم خاص لدائرة إحصاء محافظة نينوى والإشراف على تنفيذ هذه المشاريع، بالإضافة لتصميم دائرة إحصاء للعاصمة بغداد ، انجزت المهمة الموكلة لي بكفاءة وتم توجيه كتاب شكر لي من قبل مجلس الإدارة مع صرف مكافأة تقديرا لكفاءتي وجهودي في إنجاز تلك المشاريع.
بعد هذه المرحلة دخل المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية في مرحلة جديدة نتيجة للإزدهار الإقتصادي التي تلا إنتصار تأميم النفط والبدء بالخطة الإنفجارية للتنمية القومية، حيث ازداد عدد المشاريع الحكومية التي تم تكليفنا بإعداد الدراسات والتصاميم التفصيلية لها زيادة مفاجئة وكبيرة ونتيجة لذلك ازداد عدد الكادر الهندسي في المركز زيادة ملحوظة فبعد ان كان عدد المهندسين المعماريين عند تعييني ستة مهندسين قفز العدد ليصبح خمس وعشرون مهندسا معماريا.
من المشاريع التي تم إعداد تصاميمها والإشراف على تنفيذها، تصاميم ابنية الوزارات كوزارات النقل والمواصلات والصحة والشباب، وكذلك تم التعاقد مع الشركات الأجنبية لتنفيذ هذه المشاريع وتقديم الخدمات الاستشارية لها.
من ضمن المشاريع التي تم تدقيق تصاميمها وتقديم الخدمات الاستشارية لها مشروع جامعة الرشيد ومشروع ساحة إحتفالات الكبرى في بغداد.
في تلك الفترة تم تكليفي من قبل رئيس القسم المعماري بتصميم مبنى الأقسام الداخلية لطلبة جامعة البصرة وبعد إنجازها تم تكليفي بإعداد تصاميم بناية اتحاد مجالس البحث العلمي العربية التابعة لجامعة الدول العربية في جانب الكرخ في منطقة علاوي الحلة، وقد تم تنفيذ المشروع من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية بمشاركة شركة فودو اليابانية.

وهكذا مرت الأيام متسارعة في خضم إنشغالي بالعمل وبناء بيت الزوجية، لكن سحابة من القلق بدأت تخيم على حياتنا السعيدة، فبعد مرور ستة أشهر على زواجنا لم تظهر أية بوادر للحمل على زوجتي، وبدأنا نطرق ابواب الأطباء ولكنهم جميعا بينوا لنا عدم وجود أي عائق جوهري للحمل والمسألة عبارة عن إلتهاب تمت معالجته.
كانت فرحتنا غامرة عندما ظهرت بوادر الحمل على أسماء، وفي مساء ذلك اليوم قررنا الإحتفال بهذا الحدث السعيد في حدائق جمعية المهندسين العراقية وهناك أحتسيت نخب القادم الجديد بدون تذمر أسماء لأنها كانت لا تحبذ معاقرتي للخمر ولكن وقع الخبر السعيد أنساها تحفظها على رفيقي القديم، فسكرت تلك الليلة مرتين.
إن الرغبة والشوق في أن يكون للإنسان خلف من صلبه غريزة متأصلة في جيناتنا ونعتقد بأنها إحدى الوسائل للخلود، وعند قدوم الوليد يحس الوالدان بأنه إستمرارية لهما في الحياة بالرغم من أن هذا الوهم الجميل لا يمنع فناء الإنسان ولكنه يخفف من وطأة الخشية من الموت.
عندما نموت، يمكننا أنْ نخلف وراءنا شيئين هما الجينات والميمات، والميمات هي كيانات متضاعفة أو مستنسخة ناقلة للثقافة. لقد بُنينا كآلات جينية وأُوجدنا لننقل جيناتنا. لكن هذا الجانب منا سيصبح منسيا بعد ثلاثة أجيال. فأبني أو حتى أبن حفيدي قد يشبهني، ربما في بعض ملامح الوجه أو في موهبته الموسيقية أو لون شعره. لكن مع مرور كل جيل تتناقص مساهمة جيناتي إلى النصف.
ولن يمر وقت طويل قبل أنْ تصبح النسبة زهيدة جدا. فقد تكون جيناتنا خالدة، لكن مجموعة الجينات التي تشكّل كل واحد منا محكومة بالتلاشي. فلا يُفترض بنا أنْ نبحث عن الخلود في التوالد.
لكن إنْ أنا ساهمت في ثقافة العالم، كأن طورت فكرة جيدة أو ألفت لحنا موسيقيا، أو أبتكرت شمعة إشعال، أو كتبت قصيدة، فقد يبقى إنجازي على حاله حتى بعد مرور وقت طويل على ذوبان جيناتي في الجمعية المشتركة.ربما لا يشتمل عالمنا اليوم على جينة حية أو أثنتين من جينات سقراط، ولكن من يكترث؟ فالمركبات الميمية الخاصة بسقراط وليوناردو دافنشي وكوبرنيكوس وماركوني لا تزال تنتشر.
غيَرَ هذا الحدث السعيد مجرى حياتنا، فالمشاكل التي تحدث بين الزوجين المنحدرين من بيئتين ونفسيتين مختلفتين بدأت تقل وتعمق أحاسيسنا بوحدة المصير والإرتباط الأبدي، والوليد قبل قدومه أزال الملل والرتابة التي كانت تزحف على الحياة الزوجية.
في ظهيرة اليوم الموعود جاء المولود المنتظروسميناه أرجان، وعمت السعادة في أرجاء المسكن وأنشغلنا بالعناية بالقادم الجديد والإهتمام بمستلزمات معيشته.
حياة الإنسان مليئة بالمتناقضات فالميلاد يعقبه الموت والموت يعقب الميلاد كتعاقب الليل والنهار وعجلة الزمن تدور والإنسان مكتف عليها يدور مع دورانها نحو المجهول.
الإنسان لا يستطيع أن يمنع نفسه من طرح الأسئلة الوجودية كما تساءل مؤلفو أسفار اليوبانشاد الهنود عن السر في هذا العالم الذي عزّ على الإنسان فهمه:
“فمن أين جئنا، وأين نقيم، والى أين نحن ذاهبون؟ أيا مَن يعرف “براهمان” نبّئنا مَن ذا أمرَ بنا فإذا نحن هاهنا أحياء.. أهو الزمان أم الطبيعة أم الضرورة أم المصادفة أم عناصر الجو، ذلك الّذي كان سبباً في وجودنا، أم السبب هو من يُسمّى “بوروشا”- الروح الأعلى؟.
وأوّل درس سيعلّمه حكماء اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل، إذ كيف يستطيع هذا المخ الضعيف الّذي تتعبه عملية حسابية صغيرة أنْ يطمع في أنْ يُدرِك يوماً هذا العالم الفسيح المعقّد، اليس مخ الإنسان إلاّ ذرة عابرة من ذراته؟ وليس معنى ذلك أنّ العقل لا خير فيه، بل إنّ له مكانة متواضعة، وهو يؤدّي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات، أمّا إذا ما حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللانهائية، أو الحقيقة في ذاتها، فما أعجزه من أداة.
لكن العقل يمكن ان يتوصل إلى حقيقة الأديان بعد دراسة متمعنة ومقارنة لمحتويات الكتب المسماة بالمقدسة، فبعد دراساتي للأديان الإبراهيمية ( اليهودية والمسيحية والإسلام) وبعد الإطلاع على معتقدات وأساطير الحضارات الرافدينية والفرعونية والأساطير والديانات في الهند، توصلت إلى نتيجة مفادها بأن جميع الأديان مؤلفات بشرية والأنبياء حاولوا الإجابة على الأسئلة الوجودية حسب ثقافتهم ومعظمهم توهموا بأن وحيا نزل عليهم من السماء أو كلمهم الإله مباشرة.
شاركني زملائي في محل عملي فرحتي بقدوم الوليد وعبروا عن مشاركتهم بالهدايا وكانت مبادرة رئيس القسم الأستاذ هنري زفوبودا بتقديمه خلخالا من الفضة كهدية للوليد من اغرب الاحداث في ألقسم المعماري، حيث عُرف عنه إبتعاده عن مثل هذه المجاملات الإجتماعية أو هكذا كان ألإنطباع ألسائد عنه عند معظم المنتسبين.
كان الأستاذ هنري من الشخصيات الفريدة ألتي عرفتها، وبالرغم من دخوله العقد الخامس من عمره فقد ظل مضربا عن الزواج، وكان مهندسا معماريا بارعا وناقدا من الطراز الأول وتميز نقده للتصاميم المقدمة من قبلنا في كلية الهندسة عندما كان أستاذا في القسم المعماري بسخرية لاذعة محببة إضافة إلى كونه مهيب الجانب وعادلا أثناء تقييم المشاريع ومحترما من قبل جميع الطلبة والطالبات لأنّه لم يكن يحابي الطالبات مثل بعض أساتذة القسم.
خصلة واحدة من خصال الأستاذ هنري لم تعجبني اثناء ممارسة عمله في رئاسة القسم المعماري في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية، هي إستحواذه على وضع الفكرة التصميمية لمعظم المشاريع التي كنا نكلف بتصميمها، ومن هذه النقطة بدأ الخلاف يدب بينه وبين المهندسين المعماريين الشباب المتحمسين للعطاء لأن المهندس المعماري فنان ينشد الخلق والإبداع ويعتبره وسيلة من وسائل خلود الذكر ويشعر بالغبن من حرمانه هذا الحق.
أحس المدير العام للمركز بمعاناة المهندسين المعماريين وحاول الحد من إحتكار الأستاذ هنري وكحل للإشكال قرر إجراء مسابقات معمارية لبعض المشاريع المعمارية بين المهندسين المعماريين.
في صيف من عام 1978 سافرت مع زوجتي إلى تركيا للسياحة وزيارة زوجة شقيقي أورخان وولده وبنته ألذين أستقروا في أسطنبول بعد وفاة شقيقي.
في شهر شباط من عام 1979 رزقنا بوليد ثاني سميناه يلدرم، وفي نفس السنة تلقيت دعوة لخدمة الإحتياط في الجيش لفترة تدريبية أمدها خمسة وأربعون يوما، قضيتها في في كتيبة هندسة الميدان العاشرة التي كانت مقرها في معسكر الرشيد في بغداد.
بالرغم من كون صنفي أثناء الخدمة العسكرية الإلزامية هو صنف الأشغال العسكرية والتي قضيتها في معاونية أشغال القوة الجوية في مطار مثنى العسكري ببغداد، فإن قيادة الجيش قررت تغيير صنفي مع زملائي المهندسين إلى صنف هندسة الميدان.
تلقينا أثناء فترة الإحتياط دروسا وتدريبات عملية المتعلقة بهذا الصنف كخصائص الألغام وكيفية زراعتها ورفعها وكذلك إنشاء الجسور وكيفية تفجيرها وأنشاء التحصينات الميدانية.
كانت بوادر أحداث جسام تبدو في الافق في تلك الفترة، ففي البلد المجاور أيران عصفت ثورة إسلامية بالشاه رضا بهلوي وبحكمه بقيادة آية ألله الخميني وتم إعلان ألجمهورية الإسلامية في ذلك البلد، هذا الحدث أعطى الأمل لبقية التنظيمات الإسلامية لتحقيق أهدافهم في إرجاع الحكم الإسلامي في بلادهم وتحقيق حلم الخلافة.
إيران بقيادة الخميني رفع شعار تصدير الثورة الإسلامية إلى البلدان ألتي اكثريتها من المسلمين وبالاخص إلى العراق الذي يتالف من غالبية شيعية، وبتأثير نظام الخميني تأسس في العراق حزب سري تحت تسمية حزب الدعوة وبدأوا بمعارضة حكم حزب البعث الإشتراكي.
في تلك الأثناء حصلت في بلدنا تغييرات في قيادة الحزب الحاكم، حيث أستلم نائب مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الجمهورية صدام حسين السلطة من رئيس الجمهورية ألمهيب أحمد حسن البكر بعد عزله وأعلن رئيس الجمهرية إستقالته في حديث متلفز مبينا بأن الداعي لتقديم إستقالته هو المرض ولكن الجميع كانوا يعلمون بأنه أرغم على الإنسحاب من قبل نائبه صدام حسين.
رافقت عملية التغيير هذه تصفية لبعض العناصر البارزة في القيادة والحزب بعد إتهامهم بمحاولة قلب الحكومة وإغتيال النائب صدام حسين بالتعاون مع نظام حكم حزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا بقيادة الرئيس حافظ اسد.
فبعد اسبوعين تقريبا من اجبار احمد حسن البكر على التنحي من مناصبه واستيلاء صدام حسين على الحكم كرئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ، وفي ظل الحاجة الماسة لتعزيز سلطاته الجديدة والقضاء على أصوات المعارضة وازاحة خصومه ، أعلن صدام عن اكتشاف محاولة انقلابية يدبرها بعض قادة حزب البعث في العراق كان من بينهم خمسة من القيادة القطرية لحزب البعث في العراق بدعم من سوريا وألقي القبض على المدبرين وتم محاكمتهم وانتهت المحاكمة بإعدام 17 من قادة وكوادر الحزب واستمرت الحملة التي أطلق عليها وقتها حملة التطهير فشملت قرابة 450 من قادة الجيش والحزب .
ففي آب 1979 أعلن صدام حسين من قاعة الخلد ببغداد عن اكتشاف مؤامرة دبرها حافظ الأسد للإطاحة بنظامه في بغداد . فتم اعدام العديد من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث ومجلس قيادة الثورة ، وحكم بالسجن على مجموعة كبيرة من الوزراء والقادة السياسيين والعسكريين. مثلوا أمام محكمة الثورة التي رأسها حينذاك نعيم حداد، ومن أعضائها سعدون غيدان وتايه عبدالكريم وحسن العامري وسعدون شاكر وحكمت العزاوي . بعد ذلك تم تنفيذ مشهد أشد وقعا في قسوته عندما أمر الرئيس بان يقوم رفاق وربما كانوا أصحاب واصدقاء الامس باعدام رفاق لهم، حيث أمر الرئيس صدام بان يقوم بتنفيذ الاعدامات اعضاء من الحزب يمثلون كل محافظة من محافظات العراق، كي يكون تحذيرا للاخرين من عدم المس بكرسي القائد الاوحد.
ذكرني هذاالاسلوب في إختيار فرقة الإعدام بما ورد في التراث الإسلامي حول محاولة قريش قتل النبي محمد حينما أختاروا شابا من كل قبيلة لتنفيذ الإغتيال حتى يتفرق دم النبي بين القبائل.
من الذين اعدموا وهم أعضاء القيادة القطرية: عبدالخالق ابراهيم خليل السامرائي ومحمد فاضل وعبدالوهاب كريم وكريم الشيخلي وصلاح صالح وفليح حسن الجاسم ومحمد عايش حمد ومحيي عبدالحسين مشهدي الشمري وعدنان حسين عباس الحمداني ومحمد محجوب مهدي الدوري وغانم عبدالجليل سعودي ومرتضى سعيد عبدالباقي الحديثي (قتل في السجن) وكردي سعيد عبدالباقي الحديثي(قتل في السجن)، والفريق الركن وليد
محمود سيرت عضو قيادة المكتب العسكري للحزب وهوأحد قادة فيالق الجيش العراقي.
في صبيحة احد ايام شهر تموز من عام 1979 تلقيت في محل عملي مكالمة هاتفية من اختي آيسل التي كانت تعمل في إحدى مستوصفات بغداد، أنبأتني بأنّ شقيقي الأصغر ياووز راقد في المستشفى في مدينة كركوك وفي حالة خطرة نتيجة لمرض مفاجيء ألمَّ به.
بعد الإستئذان من المدير العام للدائرة سافرت مع اختي وزوجها وبرفقة زوجتي إلى كركوك، لإفاجأ بنفس المنظر الذي رأيته عند وفاة والدي، فالبيت مكتظ بالمعارف والأصدقاء والنساء متشحات بالسواد وأصوات البكاء والنحيب كانت تطرق اسماعي عند إقترابنا من البيت.
ايقنت انّ القدر لا يتركنا نتنفس الصعداء فهاهي الماساة الإنسانية تتكرر مرة أخرى، كان وفاة شقيقي الشاب بجلطة في الدماغ أشبه بالإغتيال، فالموت هذا القاتل الطليق يسرح ويمرح كما يشاء ولا يفرّق بين ضحاياه من الأطفال والشباب والشيوخ.
هذه الحادثة الأليمة دفعتني للتساؤل حول لغز الموت.
في كتابه الجينة الأنانية يتطرق عالم ألأحياء ريتشارد داوكينز لموضوع الموت، فيقول:
” ما أود تأكيده هو أنّه من المفضل النظر إلى الوحدة الأساسية للإنتقائية الطبيعية ليس بإعتبارها الفصيلة أو المجموعة أو حتى الفرد، وإنّما الوحدة الصغيرة من المادة الجينية التي تستحق أنْ نسميها الجينة.
إنّ الحجر الأساس في حجتي، كان الإفتراض أنّ الجينات خالدة في حين أنّ الأجساد والوحدات الأخرى الأعلى مستوى تبقى مؤقتة.
والجديرذكره أنّ هذه الفرضية ترتكز على حقيقتين إحداهما تتعلق بالتوالد الجنسي والعبور التبادلي، وترتبط الثانية بفناء الفرد.
وهاتان حقيقتان لا يمكن دحضهما. لكن هذا لا يمنعنا من التساؤل عن اسباب كونهما حقيقتين. لمَ نمارس نحن وغيرنا من آلات البقاء التوالد الجنسي؟ ولمَ تمارس صبغياتنا العبور التبادلي؟ ولمَ لا نعيش إلى ألأبد؟
الواقع أنّ السؤال عن السبب الذي يجعلنا نموت عندما يتقدّم بنا العمر يشكّل سؤالا معقدا.
بالإضافة إلى الأسباب الخاصة، جرى إقتراح عدد من الأسباب العامة، فعلى سبيل المثال، تقول إحدى النظريات إنّ الهرم هو تراكم أخطاء مضرة في النسخ وأشكال أخرى من العطب الجيني تطرأ خلال حياة الفرد.
لقد سبق أنْ تساءلنا عن المزايا العامة لأي جينة “جيدة ” وقررنا أنّ ” الأنانية ” تشكّل إحدى هذه المزايا. لكن ميزة أخرى ستمتلكها الجينات الناجحة تتمثل بالنزعة إلى تأجيل موت آلات البقاء أقله إلى ما بعد التوالد. ولاشك في أنّ عددا من أبناء عمّك وأعمام والديك وأخوالهما قد مات في مرحلة الطفولة، إلا أنّ هذا لم يحدث لأي من أسلافك. فالأسلاف بكل بساطة لا يموتون في الصغر.
لابد من الأشارة إلى أنّ الجينة التي تتسبب بموت صاحبها تُعرف بأسم ” الجينة الفتاكة “. أما الجينة شبه الفتاكة، فلها تأثير موهن بعض الشيء بحيث أنّها تجعل الموت الناجم عن أسباب أخرى مرجحا أكثر. وإذ تمارس كل جينة أقصى تأثير ممكن على الأجساد في إحدى مراحل الحياة، لا تشكّل الجينات الفتاكة وشبه الفتاكة إستثناء لهذه القاعدة.
الواقع أنّ الجينات بمعظمها تمارس تأثيراتها خلال الحياة فيما تمارس جينات أخرى تأثيراتها في مرحلة الطفولة، وأخرى في مرحلة البلوغ، وأخرى في منتصف العمر، وأخرى في سن الشيخوخة، ” تذكّر أنّ دودة القز والفراشة التي تتحول إليها لاحقا، تمتلكان المجموعة نفسها من الجينات”.
ومن الجلي أنّ الجينات الفتاكة ستُستبعد من الجمعية الجينية، إنّما من الجلي أيضا أنّ الجينة الفتاكة ذات التأثير المتأخر ستكون أكثر ثباتا في الجمعية الجينية من الجينة الفتاكة ذات التأثير المبكر. فالجينة الفتاكة في جسد مسنّ قد تبقى ناجحة في الجمعية الجينية، شرط ألا تتجلّى تأثيراتها ألا بعد أنْ يتسنّى الوقت للجسد أقله للتوالد.
وبحسب هذه النظرية إذاً، يشكّل وهن الشيخوخة بكل بساطة نتاجا ثانويا لتراكم الجينات الفتّاكة وشبه الفتّاكة ذات التأثير المتأخر التي سُمح لها بالإنزلاق عبر شبكة الإنتقائية الطبيعية فقط لأنّ تأثيراتها تتجلّى في مرحلة متأخرة “.
بدأت اتسأل عن سر تساقط هذا العدد من الضحايا من عائلتي وتكررت نفس الدراما ….. الصدمة، الألم، الحزن ثم النسيان.
إنّ النسيان هو الدواء الوحيد لهذه الألام فلولا هذه الخصلة التي نتميز بها نحن البشر لأصبحت الحياة جحيما لا يُطاق.
دارت الأيام وجاء الإستدعاء الثاني لخدمة الإحتياط في الجيش في أوائل الربيع من عام 1980 عن طريق شفرة سرية قرأتها في إحدى الجرائد وكنا قد استلمنا الشفرة اثناء خدمة الإحتياط الأولى قبل عام واحد.
تواترت خلال فترة الإحتياط الأنباء من الحدود الشرقية بتأزم الوضع هناك، وكنت مع زملائي الضباط في كتيبة هندسة الميدان العاشرة نقرأ التعميمات العسكرية التي ترد من القيادة حول التحرشات والإعتداءات الإيرانية على القصبات والمدن العراقية.
بعد إنقضاء شهر على خدمتي في الجيش تم إجراء عملية جراحية لي لإستئصال اللوزتين في مستشفى الرشيد العسكري، وكنت أعاني منذ الصغر من إلتهابات حادة ومزمنة فيهما.
بعد تماثلي للشفاء وإنقضاء فترة الإجازة المرضية ألتحقت بسريتي في معسكر الرشيد وكان زملائي من الضباط الإحتياط من دورتي قد تسرحوا بعد أن قضوا فترة خمس واربعون يوما المحددة لخدمة الإحتياط.
في هذه الأثناء كانت سريتي قد أنتقلت إلى الجبهة الشرقية قرب قضاء بدرة وجصان على الحدود الإيرانية ولكن مقر الكتيبة ظلت في معسكر الرشيد ونسبني آمر الوحدة إلى سرية أخرى لأقضي فيها الأيام القليلة المتبقية من خدمة الإحتياط.
بعد إنقضاء فترة الإحتياط تسرحت من الجيش وألتحقت بمقر عملي السابق في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية.
في نهاية شهر أيلول من نفس العام اندلعت الحرب الشاملة بين العراق وإيران، وبدأت الطائرات من الطرفين المتحاربين بقصف المدن والأهداف العسكرية وتحركت القطعات العسكرية نحو الحدود الشرقية وحمى وطيس المعارك التي تحولت إلى حرب ضروس أستمرت ثمانية أعوام تخللتها معارك طاحنة راح ضحيتها الوف من الشباب بين قتيل وجريح واسير ومفقود.
إنّ هذا الحرب المأساة وقعت لتحقيق آطماع الإستعمارية للدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ولإضعاف البلدين اجارين العراق وإيران ولغرض إسستنزاف مواردهما من الذهب الأسود، فالعراق الذي أمم ثروته النفطية في الواحد من حزيران سنة 1972 أصبح هدفا لهذه الدول الإستعمارية، أماالحكام الجدد في إيران فقد رفعوا شعار تصدير الثورة الإسلامية بقيادة الخميني إلى الخارج وخاصة إلى العراق لوجود أكثرية من الطائفة الشيعية فيها وكذلك إلى بعض دول الخليج الغنية بالذهب الأسود.
وهكذا أستمرت المعارك سجالا بين الفريقين المتحاربين وأشتعلت النيران التي كانت تزود بالحطب من قبل بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية الطامعة في ثروة القرن العشرين…. الذهب الأسود.
كان موقف الدول المنضوية تحت لواء مجلس التعاون الخليجي كالمملكة العربية السعودية والكويت مساندا لحكومة العراق في هذه الحرب الضروس بالمال وذلك بسبب تخوفهم من ألأطماع الإيرانية.
بدأت القيادة العسكرية بدعوة الإحتياط للخدمة في الجيش من مختلف المواليد ودورات الضباط الإحتياط وكنت أترقب دعوتي للإلتحاق بالجبهة ولكن نظرا لكوني منسوبا إلى صنف الأشغال العسكرية وهو صنف غير قتالي فلم يتم إستدعائي لخدمة الإحتياط خلال فترة الحرب التي أستغرقت لثمانية سنين عجاف.
إنّ المعاناة والآلام التي نجمت نتيجة لهذا الوغى لا يمكن لقلم أن يصفها كلها، فالإقتصاد تدهور والآلاف من العوائل ثكلت بشبابها بين قتيل وجريح أو مفقود أو أسير.
وهكذا مرت أيام وشهور وسنين وأصبح الحرب جزءاً من حياتنا اليومية وأستمر العراقيون بممارسة حياتهم في خضم هذه الأحداث والتناقضات.
بالرغم من هذه الظروف العصيبة أستمرت دائرتي بتقديم الخدمات الإستشارية الهندسية لدوائر الدولة، كان العراقيون يقاتلون ويبنون في آن واحد، فالصواريخ أرض أرض والطائرات والمدافع والدبابت كانت تهدم والمهندسون والعمال يبنون، ومن بين النقيضين مرت قافلة الضياع نحو المستقبل حاملا كل ما تزخر به هذه الحياة من يأس ونقيضه الامل بحياة أفضل للإنان في هذا الكون العجيب.
أنقضت خمس سنوات من هذه المأساة الإنسانية بين خوف وألم وحزن ورجاء بأنّ الحرب ستتوقف ولكنها أستمرت بكل عنفوانها.
تأقلمنا مع الظروف الجديدة وبدأتُ أنغمس في العمل فشاركت بتلك الفترة في عدة مسابقات معمارية بعد فوزي بالمرتبة الأولى في أول مسابقة معمارية شاركت فيها لتصميم سياج موحد يحيط بنصب الجندي المجهول ومتنزه الزوراء وساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد، لكن المشروع بعد إقراره من قبل وزير الإسكان والتعمير وأمين العاصمة بغداد في الإجتماع الذي حضرته في الوزارة لم يتم تنفيذه للظروف الأقتصادية التي كانت تمر بها القطر بسبب الحرب.
في هذه الأثناء تم تنسيبي للأشراف ومتابعة تنفيذ مشروع ساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد التي صُممت من ونفذت من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية بالإشتراك مع شركة فود اليابانية، وقد كان عملي في هذا المشروع فرصة سانحة للإحتكاك بالخبرة العالمية في مجالي التصميم والتنفيذ.
كان المشروع يضم منصة لجلوس رئيس الجمهورية وأعضاء قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي والوزراء والضيوف بسعة مائة عشرون شخصا مع توفير أنابيب للتكييف بجانب كل مقعد ومنصة للخطابة.
على جانبي منصة ألشرف كان التصميم يحتوي على منصتين لجلوس الضيوف الآخرين بسعة أكبر.
أضافة إلى ذلك كانت منصة الشرف مرتبطة بصالة المدخل الرئيسي وغرف للإدارة وصالتان للجلوس والطعام مخصصة لضيوف الشرف مع مكتب خاص لرئيس الجمهورية صدام حسين التي كانت مزودة بشباك ذو زجاج مقاوم لطلقات البندقية.
أمام المنصات تم تصميم شارع ألإستعراض بعرض خمسين متر لمرور الكراديس والدبابات أثناءالإستعراضات العسكرية.
في الجهة المقابلة لمنصات الجلوس تم تصميم مبنى دائري داخل حوض الماء كان يستخدم لعرض أشعاعات الليزر في سماء بغداد ولكن الشباك الامامي المقابل للمنصة الرئاسية التي كانت ترسل ثمانية وعشرون إشعاعا ليزريا نحو مرايا بنفس العدد منصوبة فوق المنصة الرئاسية تم أقفاله لاسباب أمنية خاصة بأمن رئيس الجمهورية. كان سبب إختيار العدد ثمانية وعشرون لأشعة الليزر والمرايا بسبب كون عيد ميلاد صدام حسين مصادفا لتاريخ الثامن والعشرين من نيسان.
المشروع ضم أيضا ساحة كبيرة لوقوف حشود الجماهير وشاشتان لعروض الفيديو والأفلام مع مبنى للمسرح وسينما ومبنى لعرض الأعمال الفنية ومقاهي.
في احدى الزيارات المتكررة لصدام حسين لمشروع ساحة الاحتفالات الكبرى في بغداد وعندما كان المشروع قيد الانشاء طلب من المهندس المقيم ان يخبر الشركة اليابانية التي كانت تنفذ المشروع للبدء بتفكيك القوسين المشيدين في بداية ونهاية شارع الموكب والتي كانت من تصميم نحات ياباني.
كما اوعز باجراء مسابقة لتصميم قوس للنصر على ان تشيد في موقع القوسان الملغيان.
حدث ذلك في اثناء الحرب العراقية الايرانية وكنت حينذاك امثل وزارة الاسكان والتعمير في موقع المشروع كمهندس معماري مشرف على التنفيذ.
اقترح المهندس المقيم للمشروع اشتراكي في هذه المسابقة المهمة وبعث كتابا الى وزارة الاسكان والتعمير لدعوة المهندسين المعماريين العاملين في الوزارة للاشتراك في هذه المسابقة.قدمتُ مع اثنتا عشر مهندسا معماريا التصاميم المعمارية للمسابقة.
بعد فترة تم اعلامنا من قبل الوزارة بوجوب حضورنا الى القصر الجمهوري للاجتماع مع رئيس الجمهورية صدام حسين.
في الموعد المحدد اجتمعنا مع صدام حسين في احدى قاعات القصر الجمهوري.
حضر الاجتماع اربعة وعشرون مهندسا معماريا وعدد من النحاتين العراقيين اذكر منهم الفنانان اسماعيل فتاح الترك مصمم نصب الشهيد وسهيل الهنداوي وعدد من ممثلي المكاتب المعمارية من القطاع الخاص بينهم مهندسة معمارية واحدة.
اعلمنا صدام حسين عن نيته باعادة المسابقة وذلك لإنّه يرتأي ادخال رموز معينة في تصميم قوس النصر، من تلك الرموز قوس عربي اسلامي ، النخلة العراقية، العلم العراقي وسيوف عربية مخترقة خوذ الجنود الايرانيين.بعد اكمال حديثه فسح رئيس الجمهورية المجال للاسئلة.
تحدثت المهندسة المعمارية الوحيدة الحاضرة في الاجتماع قائلة:
سيدي الرئيس ان تصميم مشروع ساحة الاحتفالات الكبرى له طابع معماري خاص،فاذا جمعنا في تصميم قوس النصر كل الرموز التي طلبتها فاني اخشى من عدم تلاؤم تصميم القوس مع الطراز المعماري لأبنية المشروع المنفذ.
تعجبت من جراة المتحدثة وانتظرت بفارغ الصبر جواب الرئيس صدام حسين.
ابتسم صدام حسين وخاطب المهندسة المعمارية قائلا :
– شوفي ست (وذكرها باسمها) في هذا الاجتماع كلنا زلم (رجال باللهجة العراقية) ماعداك، وانت جميلة وانيقة،هل تبدين نشازا بين هذا الجمع من الرجال؟ ام انك تضيفين جمالا ورونقا على هذا المجلس؟ كذلك الامر بالنسبة لتصميم قوس النصر، فاذا جاء التصميم متناسقا وجميلا فسيضيف على تصميم ابنية المشروع جمال اضافيا.
كان جواب الرئيس مقنعا ويدل على ذكاء وسرعة بديهية صاحبه.
بعد شهرين تم تقديم اربعة وعشرون تصميما للمسابقة واختار الرئيس صدام حسين تصميم الفنان الراحل خالد الرحال (مصمم نصب الجندي المجهول) للتنفيذ وشكلت لجنة من الفنانين برئاسة الفنان اسماعيل الشيخلي لاختيار خمس تصاميم اخرى للفوز بالجوائز المتبقية وحاز تصميمي الذي قام الفنان نداء كاظم بانجازالاعمال النحتية له بالمرتبة الرابعة.
أستلمت على أثر إعلان النتائج في الصحف جائزة نقدية مقدارها الف دينار من وزير الثقافة والإعلام حينذاك لطيف نصيف جاسم كتكريم مقدم من رئيس الجمهورية.
كانت هذه المرتبة المشرفة في المسابقة مثار إعتزاز المدير العام لدائرتي ووزير الإسكان والتعمير، وتم تكريمي من قبلهما بمنحي قِدما في الوظيفة لأغراض الترفيع والتقاعد.
بعد انتهاء المسابقة اطلعت على التقرير الفني لمقترح الفنان خالد الرحال.
الفكرة التصميمية للقوس المصمم من قبل خالد الرحال وبمشاركة المهندس المعماري عدنان الاسود احتوت عدة رموز وهي كالاتي:
– قبضة اليد الحاملة للسيف العربي: ترمز الى قبضة صدام حسين التي تخرج من باطن الارض مفجرا اياها.احد السيفين موجه نحو الغرب اي الى اسرائيل والاخر نحو الشرق اي الى ايران والجدير بالذكر أنّ السيفين المنفذين في الموقع الحالي متجهين نحو الشمال والجنوب وليس كما كما ذكر في تقرير المسابقة.
– الشبكة التي تحوي الخوذ الحربية والخوذ المتناثرة على ارضية شارع الموكب تحت القوس ترمز الى هزيمة الجيش الايراني امام الجيش العراقي. وفكرة الشبكة التي تحوي الخوذ مقتبسة من نحت من فترة الدولة الاشورية، وفي هذه المنحوتة نلاحظ جماجم القتلى الفرس موضوعة داخل شبكة.
– الاسد الذي يحمل شبكة الخوذ باسنانه يرمز الى القوة.
– التقاء السيفين يشكلان قوسا عربيا اسلاميا.
– لم يستعمل الفنان خالد الرحال العلم العراقي في مقترحه وقد تم وضع علم في موضع التقاء السيفين وبتوجيه من الرئيس صدام حسين بعد تنفيذ المشروع.

قبل تقديم المسابقة بخمسة عشر يوما وبعد إنجازي للفكرة التصميمية قررت دائرتي إيفادي إلى صوفيا، عاصمة بلغاريا لمدة اسبوع للمشاركة في المؤتمر الحولي للهندسة المعمارية، وبالرغم من تأخر وصول موافقة وزارتي سافرت إلى صوفيا ولكني لم أستطع اللحاق بجلسات المؤتمر إلا في اليوم الأخير منه.
بعد حضوري للجلسة الختامية وزيارتي لمعرض المشاريع المعمارية الذي أُقيم بمناسبة إنعقاد المؤتمر قفلت راجعا إلى الفندق.
قضيت اسبوعا في صوفيا وكانت بلغاريا ثالث دولة أزورها بعد تركيا والكويت، والأخيرة أوفِدت إليها سابقا من قبل وزارة النفط للإشتراك في معرض المواد العازلة المستعملة في البناء لكوني عضوا في إحدى اللجان الفرعية المنبثقة من اللجنة الإستشارية للطاقة المشكلة في وزارة النفط، وفي خلال عملي في هذه اللجنة أعددنا بمشاركة عدد من المهندسين المعماريين ومهندسي الميكانيك كتاب ” دليل العزل الحراري ” الذي تم طبعه في الكويت وعلى حساب وزارة النفط العراقية.
قضيت أسبوعا في صوفيا محاولا التعرف على المعالم العمرانية والسياحية والتراثية لهذا البلد الذي كان يرزح تحت وطأة حكم الحزب الشيوعي البلغاري في حقبة حلف وارشو الذي كان يضم عددا من دول شرق اوربا وبقيادة الإتحاد السوفيتي.
خلال ذلك الأسبوع اشتركت في عدة جولات سياحية كانت معلنة في صالة مدخل الفندق. إنّ الإنطباع الذي خرجت به من حصيلة جولاتي في صوفيا أنّ هذا البلد لا يسبقنا في التطور ويعاني من تدهور في حالته الإقتصادية، فالنسيج العمراني للعاصمة صوفيا كان يعكس هذا الواقع.
بعد عودتي من صوفيا كُلِفت بتصميم مبنى إتحاد مجالس البحث العلمي العربية وهذا الإتحاد هو إحدى تشكيلات جامعة الدول ا لعربية وكان مقره في بغداد. تم إختيار موقع للمشروع في جهة الكرخ من العاصمة بغداد وفي منطقة علاوي الحلة.
بعد إنجازي لتصاميم المشروع تم تنفيذه من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية وبمشاركة شركة فودو وهما نفس الشركتان اللتان نفذتا مشروع ساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد ضمن عدة مشاريع أمر بإنشائها الرئيس صدام حسين، كقصر المؤتمرات وفندق الرشيد ونصب الجندي المجهول ونصب الشهيد كتهيئة لإنعقاد مؤتمر دول عدم الإنحياز في بغداد، ولكن إنعقاد المؤتمر أُلغي بسبب ظروف الحرب العراقية الإيرانية.
كان من ضمن مهامي بعد إنجاز التصاميم الإشراف على تنفيذ المشروع الذي استغرق تنفيذه عاما كاملا وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية ألتي سُمٍيت بمعركة القادسية الثانية.
بعد هذه المرحلة من عملي في وزارة الإسكان والتعمير، اشتركت في مسابقة لتصميم دار إستراحة لرئيس الجمهورية صدام حسين في مسقط رأسه في قرية العوجة التابعة لمدينة تكريت ضمن محافظة صلاح الدين وعاونني في تصميم هذا المشروع زميلان معماريان من المجموعة المعمارية التي كنت أرأسها في الدائرة.
قبل ظهور نتائج المسابقة التي اشترك فيها اثنان وعشرون مكتبا حكوميا وخاصا، تم إستدعائي من قبل المنظمة الحزبية في منطقة سكني في محلة راغبة خاتون للإلتحاق بإحدى قواطع الجيش الشعبي وهي ميليشيا للحزب الحاكم، حزب البعث العربي الإشتراكي، ولكن نظرا لظروف الحرب مع إيران أصدرت القيادة أوامر بتجنيد الغير الحزبيين أيضا لحاجة جبهات القتال للرجال بغض النظر من أعمارهم أو وظائفهم، فكوني غير منتمي للحزب الحاكم لم يكن يشفع لي في هذه الحالة الطارئة.
شرحت لهم في المنظمة الحزبية كوني كنت ضابطا مجندا في الجيش وبأنّي رئيس مهندسين في وزارة الإسكان والتعمير ولكن لم ألقى آذانا صاغية، فرحى الحرب الضروس المشتعلة كانت محتاجة للوقود لإدامة زخمها.
كان الإستدعاء في اوائل من شهر كانون الأول عام 1985 اي بعد إنقضاء خمس سنوات عجاف من الحرب، حيث كان القتال مستمرا على اشده مع الإيرانيين والجبهة الطويلة كانت بحاجة ماسة إلى جنود للدفاع عن الوطن، إضافة ألى تدهور الوضع الأمني في شمال العراق، فالأكراد بقيادة جلال الطالباني كانوا يشنون غارات متواصلة على المدن والقصبات الشمالية من العراق منطلقين من قواعدهم الجبلية.
بعد إنقضاء فترة التدريب البالغة خمس وأربعون يوما في معسكر النهروان، تحرك قاطعنا لإحتلال مواقعه في شمال العراق.
لقد تم توزيع القواعد الثلاثة للقاطع على الربايا المطلة على طريق بغداد- كركوك في منطقة قريبة من قضاء طوزخورماتو التركمانية. كانت بعض هذه الربايا تقع على قمم التلول والجبال المحيطة بقضاء طوزخورماتو من الجهة الشرقية وكان نصيبنا من التوزيع ربيئة تقع في بداية تفرع الطريق الذاهب إلى قضاء كفري من الطريق الرئيسي.
كان الواجب المناط بافراد ربيئتنا إضافة إلى حماية الطريق الرئيسي الإشراف على نقطة السيطرة المجاورة للربيئة وكذلك حماية ناحية سليمان بك الواقعة في الجهة الجنوبية الغربية من الربيئة.
كانت ربيئتنا منشأة في ارض سهلية تقابلها عبر الشارع في الجهة الشمالية سلسلة جبال طوزخورماتو الجرداء وعلى مبعدة كليومتران.
كانت هذه الجبال تضم قواعد الاكراد بقيادة جلال الطالباني والذين كانوا يشنون منها غارات مستمرة على الاقضية والقصبات المجاورة.
كانت الربيئة عبارة عن ساتر ترابي شبه دائري تعلو متران من الارض المحيطة بها وضم الساتر الترابي في داخلها ثلاث غرف متلاصقة مبنية من الطين المجفف في الشمس (اللبن باللهجة العراقية) ومسقفة بصفائح معدنية مضلعة. إحدى الغرف كانت مخصصة لزمرة عسكرية منسوبة للدفاع الجوي مكونة من نائب ضابط وعريف وجنديان، كان نائب الضابط من قرية آمرلي أما العريف فكان من قرية ينكيجة، سكنة الناحية والقرية والقرى المجاورة هم من عشيرة البيات التركمانية.
كان الواجب المناط بالزمرة العسكرية مراقبة حركة طيران العدو بالعين المجردة وإخبار قيادة الدفاع الجوي بواسطة جهار اللاسلكي بالمعلومات حول اعداد الطائرات المعادية المحلقة في المنطقة وانواعها وإتجاهاتها.
تم تخصيص الغرفة الثانية لآمر الربيئة وتم تخصيص الغرفة الثالثة الكبيرة كمنام لبقية افراد المجموعة المكونة من ستة عشر مقاتلا.
كانت هذه التشكيلة من المقاتلين في الربيئة من اغرب التشكيلات المقاتلة، فالاعمار متفاوتة فبجانب الشباب كان يضم شيوخ في العقد الخامس من العمر. إنّ الفترة الطويلة التي استمرت بها هذا الحرب الضروس والخسائر البشرية الجأت القيادة للإستعانة بجميع من يقدر على حمل السلاح حتى وإن لم يكونوا من منتسبي الحزب الحاكم.
تجربة ميليشيا الجيش الشعبي تميزت بسلبيات عديدة فأسلوب الإجبار للمواطنين أدى بكثير من المواطنين للتهرب من الإلتحاق والإختفاء في بيوت غير بيوتهم او الإلتجاء إلى مدن أخرى. بالنسبة للهاربين من الخدمة العسكرية في الجبهة شكلت القيادة مجموعات للإعدامات وأصدر صدام حسين قرارا بقطع الأنوف وألآذان لمن يتم القبض عليه من الهاربين من الخدمة، وكانت عمليات القطع هذه تُجرى في المستشفيات ويتم إجبار الجراحين لإجراء هذه العمليات الوحشية، حتى انّ بعض الأطباء الذين رفضوا إجراء هذه العمليات أضطروا للهروب إلى خارج العراق لتجنب العقاب.
كان التفاوت الآخر في التشكيلة العجيبة التفاوت الثقافي والمهني فبجانب المهندس المعماري والمدرس والموظف كانت مجموعتنا تضم البقال وعامل البناء والنجار والخباز وخريجي إحدى السجون وسائق لسيارة أجرة والذي تم تعيينه كآمر للربيئة.
لقد كانت فترة التسعة الشهور التي قضيتها في هذه المعايشة الإنسانية فريدة من نوعها وعلمتني اساليب كثيرة في التعامل مع اناس من نفسيات متباينة وذو خلفيات ثقافية متناقضة.
انقضت هذه الفترة من الخدمة الإجبارية بأيامها العصيبة بدون حوادث تُذكر ماعدا بعض الهجمات من قبل الاكراد على الربايا المتواجدة في قمم التلال والجبال، كما تفاجأنا في إحدى الأيام بوجود افعى بطول متر داخل غرفة نومنا وبعد مناوشات تمكنا من قتلها بإطلاقات من بندقية الكلاشنكوف التي كانت تسليح معظم افراد المجموعة وكان من ضمن اسلحتنا ايضا بندقية قنص تدربت عليها في معسكر النهروان إضافة لمدفع هاون تدرب عليها آمر الربيئة.
في الشهور الاخيرة تم زرع حقل الغام حول الربيئة من قبل الهندسة العسكرية كإجراء دفاعي وكانت بعض الألغام تنفجر نتيجة لدخول الكلاب السائبة إلى حقل الألغام.
كان الساتر الترابي مليئا بجحور حشرة سوداء لم أرها من قبل يشبه العنكبوت ولكن بذيل عقرب ذو ابرة سامة تستعملها الحشرة للدغ.
في إحدى زيارات شقيقي يلماز للربيئة ابلغني بفوزي بالمرتبة السابعة في مسابقة تصميم دار الأستراحة في قرية العوجة وهي محل ولادة صدام حسين وكنت قد اشتركت في هذه المسابقة قبل الالتحاق بالجيش الشعبي، نتيجتها استلمت حصتي من الجائزة التي بلغت اربعة آلاف دينار وكنت بحاجة ماسة لهذا المبلغ لتسديد ديون السيارة التي اشتريتها في اوائل صيف من عام 1981.
في اوائل الصيف من عام 1986 استفحل الإلتهاب والالم الذي كان يعاني منه شقيقي يلماز في معدته منذ فترة طويلة وبدأت الشكوك تراود الأطباء حول إصابته بمرض السرطان في جهازه الهضمي وتأكدت هذه الشكوك بعد إجراء عملية جراحية لإستئصال القرحة المزمنة في امعائه الدقيقة.
لقد علمت بهذا النبأ الفاجع بعد ان رقد في إحدى مستشفيات كركوك نتيجة لتدهور حالته الصحية بعد فترة من إجراء العملية الجراحية.
بدأ هذا الداء الخبيث يستشري في جسمه الذي بدأ يذبل يوما بعد آخر وكنت ازوره في المستشفى وارقد بجانبه عدة ايام كلما تمكنت من الحصول على إجازة من قاطع الجيش الشعبي.
في منتصف تموز بدأ النزيف الداخلي يزداد يوما بعد آخر ولم تفد محاولاتنا ومحاولات الأطباء لتعويضه بدماء أخرى. كانت الأيام الاخيرة ليلماز وصراعه مع المرض الفتاك من احلك الايام واشدها إيلاما لي، فبعد أن قضيت هذه الأيام معه في المستشفى قررت نقله إلى البيت بناء على نصيحة الأطباء بعد ان اقترب من حافة الموت.
لم يمهله المرض الخبيث إلا ساعات معدودات لفظ بعدها انفاسه الاخيرة في فراشه.
لقد عصف هذا الفراق الاليم وبهذه الصورة الدرامية بكياني وبالرغم من تكرار هذه النكبات وتراكمها في حياتي، فإنّ الجرح الذي تركه فراق يلماز في اعماقي كانت من اعمق الجراح واشدها إيلاما وسلمتني إلى حزن سرمدي صامت.
إنّ شجرة عائلتي تعرضت خلال السنوات السابقة إلى عواصف الردى بعنف وقسوة تخطت القياسات المألوفة وتساقطت معظم ثمارها قبل اوان النضوج وهذا هو الجانب المؤلم في هذه المأساة الإنسانية.
في اوائل الخريف من نفس العام تسرحت من الجيش الشعبي بعد ان قضيت في الخدمة تسعة شهور عدت بعدها إلى ممارسة عملي في دائرتي مهموما ومثخنا بالجراح التي لم اصب بها في معركة ولكنها جراح سهام القدر.
وكما يتعاقب الليل والنهار فالموت والميلاد يتعاقبان، ففي منتصف الربيع من عام 1987 رزقنا بطفل ثالث ذكر سميناه ساركان.
في صيف عام 1988 وضعت الحرب اوزارها بعد فترة عصيبة من حرب المدن تبادل الطرفان المتقاتلان فيها إطلاق العشرات من صواريخ سكود التي كانت تطلق من منصات ارضية وكانت تدمر عند سقوطها عشرات من الدور السكنية ومناطق تجمع السكان.
بعد وقف إطلاق النار انزاح من صدورنا كابوس ثقيل جثم عليها ثمانية اعوام مرت بطيئة ومليئة بالمآسي والآلام تاركا في نفسية المواطن العراقي اخاديد من الجراح غائرة في أعماقه.
بعد أن سكتت المدافع في الجبهة بدأنا معركة البناء، فإعمار مدينة البصرة أعقبه إعمار مدينة الفاو الذي شاركت فيه مع زملائي في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية بجهود إستثنائية حيث تم تصميم وبناء مدينة كاملة خلال اربعة اشهر وكانت اشبه بالمعجزة ولكن سلبيات هندسية كثيرة رافقت هذه العملية وذلك بسبب قصر الفترة الزمنية المحددة لإنجاز المشروع من قبل رئيس الجمهورية صدام حسين.
بعد إنتهاء إعمار الفاو، اشتركت مع زميل في الدائرة في مسابقة لتصميم دار رئاسي خاص المزمع إنشاؤه على قمم تلال إصطناعية في محافظة بابل، اشترك في هذه المسابقة جميع المكاتب للدوائر الهندسية الحكومية وبلغ عدد التصاميم المشاركة اثنا عشر تصميما، بعد إجراء التحكيم حزنا في المسابقة على المرتبة الرابعة وأستلمت حصتي من المكافأة التي بلغت الف دينار.
بعد عدة شهور من أنتهاء الحرب العراقية الايرانية، رنَّ جرس هاتفي الداخلي في المركز القومي للاستشارات الهندسية والمعمارية وكان على الخط المدير العام للمركز:
– آلو.
– صباح الخير أستاذ كامل
– صباح الخير أستاذ إسطيفان.
– تمَّ تكليفنا من قبل دائرة الشؤون الهندسية التابعة لديوان الرئاسة بتصميم ست دور في مصيف سرسنك، ويجب انجاز جميع التصاميم في ثلاث ايّام وسنبدأ التنفيذ في اليوم الرابع.
– هذا مستحيل أستاذ إسطيفان.
– لايوجد مستحيل، هذا أمر صادر مِنْ الرئيس صدّام حسين. عليكم بالمبيت في الدائرة إذا أقتضى الامر….. بعد العبارة الاخيرة أغلق المدير العام الهاتف.
بعد برهة من التفكير، أنتابني شعور بالقلق، ولكن لَمْ أضيّع مزيداً مِنْ ألوقت وتركتُ أفكاري جانبا ودعوتُ أفراد مجموعتي المعمارية إلى إجتماع عاجل.
في ألإجتماع أبلغتُ أفراد مجموعتي المكوّنة مِنْ خمسة مهندسين معماريين وثلاثة رسّامين متمرسين في الرسم المعماري بطلب المدير العام. كان الجميع متفقين على إستحالة تنفيذ ألامر بالفترة المحددة، ولكنَّنا كنّا واعين بأنَّ أمر رئيس الجمهورية لا يُمكن تأخيره لأنَّ وراء التأخير حصبة وجدري، كما يُقال في المَثَل العراقي.
وزّعتُ العمل على المهندسين المعماريين، وكلّهم كانوا من أكفأ المعماريين المتخرجين مِنْ جامعة بغداد، وبدأنا العمل فوراً.
أنجزنا التصاميم الاولية مع تثبيت الابعاد الرئيسية على المخططات والّتي تُمكِّنْ الشركات المقاولة التابعة لوزارة الاسكان والتعمير مِنْ تسقيط الاسس على ارضية الموقع، ثُمَّ زوّدنا المهندسين المدنيين والكهربائيين والميكانيكيين بنسخ من المخططات المعمارية ليتسنّى لهم البدء بأعداد التصاميم الانشائية والخدمية للمشروع.
ألمشكلة ألاساسية ألّتي جابهتنا أثناء ألعملية ألتصميمية هي عدم توفّر مخططات لمواقع ألدور، لذلك أتصلتُ بالمدير ألعام لحل هذا ألإشكال:
– أستاذ إسطيفان، هلْ يٌمكننا الحصول على مخططات المواقع ألمخصصة للدور؟
– لا أعتقد ذلك، ولكن أتَصِلْ بمعاون دائرة ألشؤون الهندسية في ديوان رئاسة الجمهورية وأبحث ألموضوع معه.
– حسنا أستاذ.
كانَ مُعاون مدير دائرة ألشؤون ألهندسية مهندسا معماريا بارعا، وقد زاملته في ألقسم المعماري من كلية ألهندسة في جامعة بغداد، ثُمَّ عملنا معا في مقر عملي الحالي لعدّة سنوات قبل نقله إلى دائرة ألشؤون ألهندسية في ديوان رئاسة الجمهورية. أتصلت به وطلبت منه مخططات ألموقع:
– صباح ألخير أبو سيف، هل يُمكنك تزويدنا بمخططات ألموقع؟
– حاليا لاتوجد مسوحات للمواقع، لقد تمَّ أختيار ألمواقع مِنْ قِبل ألسيد ألرئيس بينما كان مُحلّقا في ألجو بطائرة سمتيّة فوق ألمنطقة ولَمْ أشاهد ألمواقع لحد ألانْ. إنَّ ألدور الست ألمخصصة لكم تقع على قمتي جبلين محاذيين لجبل كَارة في مصيف سرسنك، وعليكَ ألسفر إلى هناك بأسرع وقت ممكن للكشف ألموقعي.
– شكراً أبو سيف، سأبحث ألأمر مع ألمدير ألعام.
بعد إكمال المخابرة أتصلت بالمدير ألعام وشرحتُ له ألموقِف فطلب مِنّي ألحضور إلى مكتبه لبحث ألامر بالتفصيل.
في مكتبه عينني المدير ألعام إسطيفان ألصائغ مديراً للمشروع وطلب منّي ألسفر فوراَ إلى محافظة نينوى وألاتصال هناك بفرع شركة المنصور للمقاولات وهي إحدى ألشركات ألتابعة لوزارة ألأسكان وألتعمير لترتيب زيارة لموقع ألمشروع. أعلمني ألمدير ألعام كذلك أنَّ ألاوامر صدرتْ مِنْ وزير ألاسكان وألتعمير ألى شركة ألمنصور لتنفيذ ثلاث دور، أمّا ألدور ألثلاث ألاخرى فسيتم تنفيذها مِنْ قِبَلْ شركة ألطارق للمقاولات وهي أيضاً شركة تابعة لوزارتنا، وكان امر الوزير يقضي بأنْ يكون ألتنفيذ على شكل مسابقة بين ألشركتين، وستخصص جوائز لأفضل وأسرع تنفيذ للمشروع.
بعد أنتهاء ألاجتماع أستلمت ألسيارة ألمخصصة للمشروع وأنطلقتُ بها في الصباح ألباكر مِنْ اليوم ألتالي بأتجاه محافظة نينوى.
جرتْ كلُّ هذه ألاحداث في شتاء مِنْ عام 1989، وقبل غزو ألكويت، وكان ألرئيس صدّام حسين في تلك الفترة قد تمكّنَ مِنْ بسط سيطرته ألكاملة على شمال ألعراق، معقل أكراد ألعراق.
في فرع شركة ألمنصور ألتقيت بمجموعة مِنْ ألمهندسين مِنْ شركتَيْ ألمنصور وطارق ثمَّ بدأنا ألرحلة نحو مصيف سرسنك. كان في أستقبالنا هناك الشيخ مأمون ممثل ألوزارة وهو رئيس مهندسين في ألمؤسسة ألعامة للطرق وألجسور وكان يُشرِف على تنفيذ ألطرق وأبنية ومدرج مطار بامرني. توجّهنا بصحبة المهندس مأمون نحو جبل كَارة ألّذي ينام على سفحه مصيف سرسنك بهدوء.
عند وصولنا إلى سفح ألجبل، أذهلني أرتفاع ألجبل ألشامخ ألّذي كانت قمّته مغطاة بالثلوج.
أشار ألشيخ مأمون، وهو مهندس كردي من سكان المنطقة ألشمالية من ألعراق إلى قمّتين محاذيتين لجبل كَارة وكانتا أوطأ من قمّة جبل كَارة قائلا:
– هناك قمّتين، قمّة عالية وقمّة واطئة، سنبني ثلاث دور على ألقمّة ألعالية وثلاث أخرى على ألقمّة ألواطئة.
بادرت ممثل ألوزارة قائلا:
– أستاذ مأمون، هل يوجد طريق للسيّارات يوصِل إلى القمم؟
أبتسم مأمون بأسى وقال:
– مع ألاسف لا يوجد طريق للسيارات حاليا، لقد بدأتْ آلياتنا بألعمل قبل يومين لأنجاز هذا العمل، كما بدأنا ألعمل أيضا لأنشاء ألطريق ألموصِل الى قمّة جبل كَارة ألشامخ.
حوّلتُ نظري إلى جبل كَارة ألّذي كانتْ قمّته تعانق ألسحاب، وتمتمتْ بصوتٍ خافت كمن يحدّث نفسه: سيكون هذا أنجازا هندسياً رائعا ومحفوفاً بالعقبات، ثمّ خاطبتُ ألشيخ مأمون قائلا:
– هل سنبني دورا اخرى على جبل كَارة؟
– ستُبنى عشرات من الدور على جبل كَارة، ولكنَّ تصاميمها وتنفيذها ليست مِنْ مسؤولياتنا، لأنَّ ألكوادر الهندسية لدائرة ألشؤون ألهندسية ألتابعة للقصر ألجمهوري ستقوم بالمهمّة، ولعلمِكَ، هناك دور عديدة أخرى ستنشأ بألقرب مِنْ شلالات سره رَشْ، كما سيُشيّد قصرٌ كبير على شكل باخرة في وسط مياه البحيرة ألاصطناعية الّتي ستتكون بعد حصر مياه ألشلال.
– ما ألمدّة ألمقررة لأنجاز حصتنا من المشروع؟
أبتسمَ مأمون قائلاً:
– ستُّة أشهر، وهذا يعني بأنَّ علينا ألعمل لمدّة أربع وعشرين ساعة في أليوم في هذا الطقس ألبارد.
– هذه فترة قصيرة جدا لمثل هذا الموقع المعلّق في ألسماء.
– علينا ألالتزام بموعد الانجاز ولا تنسى أنَّ هذا أمرٌ مِنْ ألسيد رئيس ألجمهورية صدّام حسين وأنت تعرِف مايعني ذلك.
بعد العبارة ألاخيرة للشيخ مأمون، تحسست رقبتي بقلق، ثمّ أردفت قائلا:
– كيف يُمكن صب الخرسانة في درجات الحرارة ألّتي ستكون تحت الصفر؟
– سنجد حلّا عند وصولنا الى تلك ألمرحلة.
– حسنا، كيف سنصل الى قمّة ألجبل؟
– سنتسلّق إلى الأعلى، واحذّرِكم من وجود الغام مدفونة، متبقية مِنْ فترة حروب ألشمال وعليكم تجنب المناطق الرخوة أثناء التسلّق.
بعد التحذير الاخير تبادلنا نظرات ذات معنى وبدأنا بالرحلة الشاقة نحو القمّة.
أستغرق الوصول إلى ألقمّة ألواطئة حوالي الساعتين من الوقت، وبعد ألقاء نظرة على الموقع المخصص تيقنت بأنّه سيكون كافيا لأنشاء أكثر مِنْ ثلاث دور عليه، ثمّ باشرنا بقياس ابعاد الموقع.
بعد أستراحة قصيرة بدأنا بتسلّق القمّة العالية المجاورة، وكان أنحدار الجبل اكثر مِنْ سابقه وعانينا مشقّة كبيرة أثناء التسلّق. عندما وضعتُ قدماي على ألقمّة العالية، هالني ما رأيتُ، كان عُرض ألقمّة لا يتجاوز سبع أمتار ولكنَّ طوله كان مناسباً، ألتفتُّ نحو المهندس مأمون قائلا بخيبة:
– هذا الموقع غير مناسب، ولا يُمكن أنشاء ألتصاميم ألمعدّة مِنْ قِبلنا للدور على هذه ألقمّة، إنَّها لا تكفي لدارٍ واحد، فكيف بثلاث دور؟
– هذه مشكلتُكَ، أنا مهندس طُرُقْ….. قالها مأمون مبتسما.
– سأبحث ألموضوع مع ألمدير ألعام عند عودتي.
بعد أنجاز ألمهمّة المُرهِقة، رجعنا إلى مقر شركة المنصور في الموصل ووجدنا رئيس شركة طارق بانتظارنا على احر من الجمر، بعد التحيّة بادرني متسائلا:
– هل أحضرتَ معك مخططات الاسس؟ أريد أنْ أبدأ ألعمل في الغد.
– أستاذ خالد، نستطيع تسليمكم مخططات الاسس غداً، ولكنّكم لنْ تستطيعوا المباشرة غداً، لأنّ ألموقع المخصص لشركتكم غير مناسب، ولا يمكن تشييد التصاميم الحالية المعدّة على تلك القمّة لانَّ عرض قمّة الجبل قليل جداً.
أُسقط في يد رئيس الشركة وقال متسائلا:
– ما العمل اذن؟
– لا نستطيع أتّخاذ ايّ إجراء بدون أخذْ رأي دائرة ألشؤون الهندسية، لأنَّ أمر السيد الرئيس يقضي بأنشاء ثلاث دور على ألقمّة العالية.
– حسناً، أتّصل بي بعد حَل ألاشكال.
بعد استراحة قصيرة قفلتُ راجعاً إلى بغداد ووصلتها حوالي منتصف الليل. في الصباح التالي شرحتُ للمدير العام تفاصيل زيارتي إلى سرسنك، فطلب منّي ألاتصال بمعاون مدير دائرة الشؤون الهندسية لتبيان الموقف له.
هاتفتُ المعاون وشرحتُ له تفاصيل زيارتي لموقع المشروع، فطلب منّي التريّث وانتظار تعليمات جديدة حول الموضوع.
في اليوم التالي اتّصل بي المعاون قائلا:
– صدر امر مِنْ السيّد الرئيس بتفجير القمّة العالية لتوسيعها، أنت تَعلمْ أنَّ الجبل يكون أعرَضْ كلّما أتجهنا نحو ألاسفلْ.
– ولكن هذه العملية صعبة وستستغرق وقتا طويلا، ثمّ لاتنسى الخطر الناتج مِنْ تدحرج الصخور الى الاسفل وقد تُسَبِّب تهديدا للساكنين في المصيف.
– لا تقلق سأبحث هذه المشكلة مع المهندس مأمون، وأُعلمِكَ بأننا سَنُنْشِأ داراً واحداً فقط على ألقمّة العالية حسب التوجيه الجديد، أمّا بقية ألدور فسيتم أنشائها على القمّة الواطئة، وحسب شرحك للموقع فإنّها تكفي لخمس دور، أليس كذلك؟
– ألموقع سيكفي ولكن بصعوبة وقد نضطر إلى قشط وتفجير بعض الصخور، وهذه عملية ممكنة.
– حسنا فلنبدأ بألعمل.
بعد مرور عدّة أيام على المخابرة مع المعاون، أكملنا ألتصاميم المعمارية ألتفصيلية للدور أضافة إلى التصاميم التفصيلية ألانشائية والميكانيكية والكهربائية وأصبحنا جاهزين لتنفيذ المشروع.
كانت المساحة الكلية للدار الواحد حوالي 500 مترا مربع، واشتمل التصميم على صالة كبيرة للمعيشة والطعام وعلى خمس غرف للنوم مع حمام مٌرفَق بكلِّ غرفة اضافة الى الخدمات الاخرى كالمطبخ والمخزن وغرفة الخدمات الميكانيكية. تمّ تصميم الدور بطابق واحد وحسب التوجيهات الصادرة مِنْ دائرة الشؤون الهندسية.
بعد أنقضاء اسبوع على البدء بتفجير القمّة العالية للجبل، اتّصل المهندس مأمون بمعاون دائرة الشؤون الهندسية واخبره بانهم لم يحصلوا على نتيجة مُرضية من عمليات التفجير، فالجبل الاصم كان يقاوم بشدّة ارادة الانسان، لذلك اقترح مأمون غض النظر عن هذا الموقع. في اليوم التالي اتّصل المعاون بي وابلغني بقرار السيّد الرئيس حول انشاء الدور الست في القمّة الواطئة وغض ألنظر عن ألقمّة ألعالية، وطلب منّي السفر الى سرسنك لمساعدة الشركتين المنفذتين في تعيين موقع كلّ دار وتسقيط مخططات الاسس على الارض.
في الصباح الباكر سافرت الى سرسنك ووجدتُ المهندسين من شركتَيْ طارق والمنصور بانتظاري في موقع المشروع، وكان خبر انجاز طريق السيّارات الصاعد الى القمّة من احسن الاخبار الّتي سمعتها في ذلك اليوم.
انجزنا عملية تخطيط الاسس لخمس دور واجّلنا تخطيط اسس الدار السادس لحين انجاز تفجير وازاحة بعض الصخور الّتي كانت تُعيق عملية التخطيط. أبْتُ الى مقر عملي في بغداد وسارت عمليات الانشاء بدون معوقات، وتمّ حل مشكلة صب الخرسانة في الطقس البارد باستعمال النار لاذابة الماء المتجمد المستعمَل في الصب واضافة مواد كيمياوية تمنع تجمّد الماء داخل الخرسانة، كما تمّ تغطية كلّ مُنشأ بخيمة كبيرة اُشعلت بداخلها النار اثناء رش الخرسانة بالماء لحين وصولها الى القوّة المطلوبة.
كنتُ ازور موقع العمل كلّ اسبوعين للاشراف واقضي ثلاث ايّام في سرسنك. في بعض الزيارات كنتُ أصطحب معي بعض افراد الفريق التصميمي من مختلف الاختصاصات.
في احدى الزيارات طلبتُ مِنْ المهندس مأمون ترتيب زيارة لي لمواقع الدور والقصور الّتي يتم انشاءها من قبل كوادر دائرة الشؤون الهندسية، وبعد اتصاله بالعقيد المهندس المسؤول عن دور جبل كَارة، اصطحبنا الاخير بسيارته وتسلّقنا الطريق الحلزوني الموصل الى قمّة الجبل.
كان منظر جبل كَارة مهيبا وكانت سفوحه مغطاة باشجار السرو والجوز والبلّوط ألّتي أُلبِسَتْ ثوبا أبيضا مِنْ ألثلج، ولاحظت أنّهم انشأوا دارا في كلّ فُسحة عريضة يمر الطريق الحلزوني منها، كما تمّ انشاء مبنى للرصد في قمّة الجبل ألمغطاة بالثلوج.
قال العقيد المهندس اثناء شرحه للمشروع:
– جابهتنا صعوبات جمّة اثناء التنفيذ، فدرجات الحرارة تبلغ هنا خمس عشر درجة تحت الصفر المئوي في هذا الموسم، اضافة الى وجود قطعان من الذئاب المفترسة والّتي هي مصدر خوف دائم للعمال، لذلك كنتُ أُطْعِمْ الذئاب يوميا بوضع قطع من اللحم في اماكن متفرقة لأُشبعها حتّى لا تهاجمنا.
بعد الجولّة المثيرة في جبل كَارة زرنا موقع الدور قرب شلالات سره رَش وشاهدت التحضيرات لانشاء القصر الكبير الّذي سيكون على شكل باخرة في وسط البحيرة الاصطناعية.
أثناء التنفيذ كان عليّ اختيار التأسيسات الصحية الّتي سننصبها في حمامات الدور وكذلك نوعيات المواقد الثابتة المصنوعة من المرمر وكانت من النوع الجاهز ومن منشأ ايطالي. بعد عملية الاختيار من الصور كنّا نزور مخزن المواد الانشائية التابعة لديوان الرئاسة في منطقة البيّاع لمطابقة النموذج مع الصوَر.
تمّ انجاز الدور الست في الموعد المحدد وقد استعملنا القرميد الاخضر المزجج المستورد لتغطية السقوف المائلة للدور، كما تمّ استخدام المفاتيح الكهربائية والحنفيات المطلاة بالذهب في بعض الدور، اضافة الى المرمر العراقي والمستورد لتغطية الارضيات.
كان الرئيس صدّام حسين يتابع عن كثب سير المشاريع وكان يقوم بزيارات مُستمرّة الى سرسنك.
في أخر زيارة لي للموقع أصطحبتُ معي مهندسان معماريان من مجموعتي، أثناء الزيارة لاحظنا أنَّ العمل قد أُنجزَ ولَمْ يبقَ غير تأثيث الدور والّتي لَمْ تكن ضمن مسؤولياتنا، وبهذا بدأنا نحلم بالمكافأة القادمة.
في طريق العودة الى بغداد ، فتحت مذياع السيّارة فكانت المفاجأة، كان المذيع يتلوا بيانا صادرا من وزارة الدفاع/ مديرية التجنيد العامة بوجوب إلتحاق عدّة دورات من الضبّاط الاحتياط والمجندين وكذلك عدّة مواليد من جنود الاحتياط للخدمة في الجيش، وذكر البيان بوجوب التحاق الضبّاط خلال خمسة عشر يوما من تاريخ قراءة البيان.
طرقَ الى أسماعنا رقم دورتي للضبّاط المجندين ورقم مواليد زميلي ورفيقي في الرحلة المهندس المعماري جبّار حمزة، أمّا الزميل الاخر المهندس فاروق فؤاد فلم يكن مشمولا بالاستدعاء. كان الجيش العراقي قد أحتلَّ الكويت قبل فترة، وكانت طبول الحرب تقرع مِنْ وراء المحيط.
ألتفتُّ نحو زميلي جبّار وألفيته ممتقع اللون مِنْ المفاجأة وبادرته مواسياً:
– لا تبتئس غمّة أخرى وستزول، ستقضي عدّة شهور في مديرية ألأشغال ألعسكرية ثمّ ستتسرح.
– مَنْ يدري؟ قد تطول هذه الحرب لعدّة سنين، هل كُنتَ تتوقع أنْ تطول ألحرب مع أيران لثماني سنوات؟
– كلّا، ولكن الحرب القادمة غير متكافئة بين الطرفين، فالعدو هذه المرّة الولايات المتحدّة الامريكية وحلفائها وسَتُحسَم المعركة في فترة قصيرة كما أعتقد.
– ألله يستُر…. قالها بقنوط.
كان هذا استدعائي الثالث لخدمة الاحتياط بعد أكمالي ألخدمة ألالزامية في عام 1977، أضافة الى ذلك فقد كنتُ أُجبرتُ على ألخدمة في ألجيش ألشعبي لمدة تسع شهور كجندي بالرغم مِنْ كوني ضابطا مجنّدا متسرحا مِنْ ألجيش، وكان السبب في ذلك عدم أنتمائي الى حزب البعث، فقضيت تلك الفترة في إحدى الربايا في شمال العراق أثناء ألحرب العراقية الايرانية.
بعد تلك الزيارة الاخيرة لموقع المشروع ألتحقتُ بوحدتي في مديرية الاشغال العسكرية وألتحق ألمهندس جبّار بوحدته أيضا، وقضيت فترة تسع شهور ونصف الشهر في الجيش، ثمّ تسرّحتُ مِنْ ألخدمة بعد وقف اطلاق النار بعدّة أشهر.
كانت فترة عصيبة مرّت بالعراق وخلّفتْ الالاف من القتلى والجرحى والاسرى وخسائر جسيمة في البنيان.
لَمْ يتنعَمْ ألرئيس صدّام حسين بقصوره ألّتي شيّدناها في مصيف سرسنك، فبعد ألهزيمة في حرب ألكويت وألإعلان عن قرار الأمم المتحدة بجعل المحافظات الشمالية منطقة محمية من قبل طائرات قوات المطرقة التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أحتلَّ قوّات ألبيشمركة ألتابعة للزعيم الكردي مسعود ألبارزاني مصيف سرسنك بقصورها.
في الثاني من شهر آب عام 1990 أحتل الجيش العراقي البلد العربي المجاور الكويت بأوامر صادرة من الرئيس صدام حسين وذلك بعد تأزم العلاقات بين البلدين بسبب محاربة الحكام الكويتيين العراق إقتصاديا.
العراق خرج من حربه مع إيران التي أستغرقت لثماني سنوات بجيش قوي ومتمرس على القتال حيث بلغ تعداد القوات البرية 350 ألفا (بما في ذلك نحو مائة ألف من جنود الاحتياط)، وكانت القوات البرية مكونة من:
– سبعة فيالق
– ثلاث فرق مدرعة
– 11 فرقة ميكانيكية
– ست فرق من قوات الحرس الجمهوري
– أربعة ألوية من الحرس الجمهوري الخاص
– خمسة ألوية من الفدائيين
– لواءين من القوات الخاصة.
ولكن العراق خرج من الحرب مع إيران بإقتصاد متدهور حيث بلغت ديون العراق بسبب الحرب ما يقدر ب 40 مليار دولار أمريكي.
بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية بدأت دولة الكويت بإنتاج الذهب الأسود بكميات تتجاوز حصتها المقررة من قبل دول منظمة أوبك، ونتيجة لذلك أنخفضت أسعار البترول في الأسواق العالمية والبترول المصدر من العراق، لذلك لم يتمكن العراق من إيفاء ديونه المستحقة للدول الدائنة له أثناء الحرب مع إيران.
بالرغم من تحذير العراق لحكام الكويت أثناء إنعقاد مؤتمر قمة رؤوساء الدول العربية من مغبة موقفهم هذا فإنهم أصروا عليه وتفاقم تأزم الوضع بعد الإجتماع الذي تم عقده بين الطرفين في جدة.
كشف موقع “ويكيليكس” ضمن وثائقه المسربة محضر جلسة تاريخية، لطالما تحدث عنها السياسيون باعتبارها لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، وهي التي تتعلق بالاجتماع الأخير بين الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، والسفيرة الأمريكية ببغداد، أبريل غلاسبي، وأوضحت الوثيقة أن صدام اتهم الكويت والإمارات “بالعجرفة” و”الأنانية” وبرفض مساعدته في ظروفه المالية الصعبة، رغم الحرب الطويلة التي خاضها مع إيران.
وتشير الوثيقة إلى أن صدام أراد من غلاسبي إيصال رسالة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الأب، مفادها أن العراق “يريد الصداقة” بين الجانبين، ولكن على واشنطن أن تدرك بأن بغداد خسرت مائة ألف قتيل في الحرب مع إيران وباتت البلاد فقيرة لدرجة أنها قد توقف دفع الرواتب لعائلات القتلى.
وتابع صدام قائلاً: “الدعم الأمريكي للكويت والإمارات زاد من غرورهما وأنانيتها.. العراق مل من الحروب ولكن الكويت تجاهلت الدبلوماسية، وإذا تعرض العراق للإذلال فإنه سيرد بصرف النظر عمّا يمكن أن يقال مستقبلاً عن الطبيعة غير المنطقية لهذا الرد وما يحمله في طياته من تدمير ذاتي.”
وبحسب غلاسبي، فقد بدأ صدام الحديث عن تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين بغداد وأمريكا، والضربات التي تعرضت لها منذ 1984، وخاصة فضيحة “إيران غايت” التي انتقلت معها أسلحة من أمريكا وإسرائيل إلى إيران، واعتبر أن الولايات المتحدة لم تكن ترغب برؤية الحرب مع إيران تنتهي.
وأكد صدام، الذي “اختار كلماته بعناية” وفق غلاسبي، أن بلاده تعاني من مصاعب مالية خانقة، مع ديون تجاوزت 40 مليار دولار، وتحدث بمرارة عن أن بلاده تواجه هذا الواقع مع أنها “أحدثت بانتصارها في الحرب ضد ايران، فارقاً تاريخياً بالنسبة للعالم العربي والغرب،” واتهم الإدارة الأمريكية بالسعي لخفض سعر النفط، في الوقت الذي يحتاج فيه العراق للمال.
وأعرب صدام عن أمله في التوصل إلى علاقات جيدة “رغم هذه الانتكاسات،” ولكنه شدد على أن بغداد لن تقبل خفض سعر النفط، معتبراً أن من يقود هذه الحملة “يشن على العراق حرباً اقتصادية لا يمكن للعراق معها أن يقبل الاعتداء على كرامته وازدهاره.”
واتهم صدام الكويت والإمارات بلعب دور “رأس الحربة” للسياسة الأمريكية، ودعا غلاسبي إلى التذكر بأن بغداد هي التي حمت أصدقاء أمريكا في المنطقة، عبر الحرب مع إيران، وشدد على أن العراق دفع ثمناً باهظاً في سبيل ذلك، سائلاً ما إذا كانت أمريكا ستتحمل، مثل الشعب العراقي، سقوط عشرة آلاف قتيل من جنودها في معركة واحدة.
ولفت صدام إلى أن المناورات العسكرية المشتركة بين الكويت والإمارات والولايات المتحدة، شجعت انتهاج “سياسة بخيلة” في الدولتين الخليجيتين، وشدد على أن ما وصفها بـ”حقوق العراق” ستعود إليه واحدة بعد الأخرى.
وقال صدام أنه مقتنع بأن واشنطن “ترغب بالسلام،” ولكن عليها “التوقف عن لي الأذرع،” ونقلت عنه غلاسبي أنه قدم لها شرحاً مطولاً عن القيم العراقية، وأكد لها أن العراقيين “يؤمنون بالحرية أو الموت، وأن العراق سيضطر إلى الرد إذا استخدمت أميركا هذه الأساليب.”
وأقر صدام أن بوسع أمريكا “إرسال طائرات وصواريخ،” ولكنه حذرها من أن دفع العراق إلى نقطة يشعر معها بالإهانة سيؤدي إلى قيام بغداد بـ”تصرفات لا تعرف المنطق.
ولم يفت صدام خلال اللقاء الحديث عن الملفات الإقليمية، فأشار إلى ما أسماها بـ”ضغوطات صهيونية” تعرض لها بوش الأب خلال الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقال إن على واشنطن “النظر إلى حقوق 200 مليون عربي، كما تنظر إلى حقوق الإسرائيليين.”
وبعد ذلك، نقلت غلاسبي ما قالته لصدام، وذكرت أن الإدارة الأمريكية طلبت منها السعي لتعميق العلاقات مع العراق، وشددت على أن واشنطن غير مسؤولة عن الانتقادات التي توجهها الصحافة الأمريكية للعراق لأنها لا تسيطر على الإعلام، ولكن هذا لا يعني أن الصحف تعكس موقف الإدارة.
وأضافت غلاسبي أنها قالت لصدام إن القلق الأمريكي حيال نواياه مبرر، وشرحت بالقول: “أليس من المنطقي أن ينتابنا القلق عندما تقول أنت ووزير خارجيتك إن تصرفات الكويت توازي الاعتداء العسكري؟ ومن ثم تتوجه وحدات من الحرس الجمهوري العراقي إلى الحدود مع الكويت؟ نحن نسأل بروح الصداقة وليس المواجهة عن نواياكم.”
وبحسب الوثيقة، قاطع صدام غلاسبي بالقول: “هذا سؤال منطقي، ولكن كيف يمكننا أن نجعل الكويت والإمارات تفهمان مدى معاناتنا، لدينا مصاعب مالية سنضطر معها قريباً إلى قطع الرواتب عن أرامل ويتامى الحرب،” وهنا تشير السفيرة الأمريكية إلى أن المترجم وأحد المدونين لمحاضر اللقاء انهارا عصبياً وأجهشا بالبكاء.
وتابع صدام بالقول إنه قام بكل ما بوسعه لإقناع دول الخليج بمساعدته، بما في ذلك الطلب من العاهل السعودي الراحل، الملك فهد بن عبدالعزيز، تنظيم قمة رباعية تضم العراق والسعودية والإمارات والكويت، وجرى التوصل إلى اتفاق نفطي مع الكويت في جدة، ثم تراجع عنه وزير النفط الكويتي، كما روى أنه حصل على تعهدات إيجابية لم تنفذ لاحقاً من قبل الرئيس الإماراتي الراحل، الشيخ زايد بن سلطان، الذي “رجاه أن يتفهم مشاكل العراق.”
ثم ذكرت غلاسبي أن صدام تلقى اتصالاً هاتفياً مستعجلاً من الرئيس المصري، حسني مبارك، الذي نقل له التوصل إلى اتفاق للقاء مع الكويتيين في الرياض يتبعه لقاء آخر ببغداد قبل 30 يوليو/تموز، وأشارت إلى أن صدام وعدها بعدم القيام بخطوات عسكرية “إذا حصل على بصيص أمل من الموقف الكويتي.”
وذيلت غلاسبي رسالتها بالإشارة إلى الخلاف حول مناطق الثروات النفطية بين العراق والكويت، وأضافت أن أمريكا “لم تتدخل بهذا الشأن العربي الخاص،” ولفتت إلى أن صدام لم يسبق له أن استدعى أي سفير للقاء مماثل للذي عقده معها، واستنتجت أن ذلك يدل على قلقه، واعتبرت أنه أدلى بالكثير من الملاحظات التي تدل على اعترافه بشرعية الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط وبدور واشنطن كقوة عظمى.
وبحسب الوثيقة، فإن الاجتماع عقد في 25 يوليو/تموز 1990، وقامت غلاسبي بإرسال تفاصيله في اليوم نفسه إلى واشنطن، وحضر اللقاء وزير الخارجية العراقي الأسبق، طارق عزيز، ومدير مكتب صدام وعدد من كتبة المحاضر والمترجمين، علماً أن الجيش العراقي عاد واجتاح الكويت في الثاني من أغسطس/آب.
تتابعت الاحداث بسرعة مذهلة فبعد الإعلان عن قيام ثورة في الكويت قام بها عدد من الضباط الشباب في الجيش الكويتي، تم الإعلان عن الوحدة بين القطرين العراق والكويت ثم تلاه الإعلان عن ضم الكويت إلى العراق وتم إعتباره المحافظة التاسعة عشر من محافظات العراق وتم الإستيلاء على جميع ممتلكات الدولة الملغاة.
في تطور آخر للأحداث طلبت المملكة العربية السعودية من القوات الأمريكية والغربية المساعدة لصد هجوم عراقي محتمل على أراضي المملكة، وهكذا بدأ تحشيد هائل للجيوش والأساطيل الأمريكية والغربية في المنطقة أضافة لقوات من دول عربية كمصر وسوريا والمغرب لإخراج الجيش العراقي من الكويت.
تتالت قرارات الامم المتحدة ضد العراق وتم فرض حصار اقتصادي على البلد فبدأت الدولة بتقنين الوقود وتطبيق نظام البطاقات التموينية لتوزيع المواد الغذائية التي بدأت تشح في الأسواق المحلية.
في هذه الأثناء أستدعت وزارة الدفاع عدة مواليد لخدمة الإحتياط إضافة إلى ذلك أستدعت عدد من دورات الضباط الإحتياط والضباط المجندين.
في طريق عودتي من إحدى زياراتي إلى مصيف سرسنك لمتابعة تنفيذ قصور صدام حسين وبرفقة مهندسان معماريان من مجموعتي، أستمعت إلى نبأ إستدعائي إلى خدمة الإحتياط من مذياع السيارة وقد شمل الإستدعاء زميلي المهندس جبار الذي كان برفقتي في السيارة وتم تحديد فترة ثلاثة أيام في بيان وزارة الدفاع للإلتحاق إلى مدرسة صنف الهندسة العسكرية.
في التاسع من ايلول من عام 1990 اي بعد شهر ونيف من دخول القوات العراقية الى الكويت التحقت بمقر مدرسة الهندسة العسكرية مع بقية زملائي من المهندسين من الدورة 26 للضباط المجندين والدورات الثلاث الأخرى التي تم إستدعائهم معنا، وكانت فرصة للإلتقاء برفاق السلاح القدامى ولم الشمل بعد إفتراق دام إحدى عشر من السنين.
كان معظمنا برتبة ملازم ثاني بالرغم تجاوز اعمارنا العقد الرابع عدا بعض الزملاء الذين شاركوا في الحرب العراقية الايرانية فكانوا برتبة نقيب.
بعد إنقضاء فترة شهر ونيف من الإنتظار في مدرسة الهندسة العسكرية تم تنسيبي إلى شعبة التصاميم في هيئة المشاريع العسكرية وكان مقر الهيئة في جهة الكرخ من العاصمة بغداد وفي منطقة الكاظمية.
مرت أربعة شهور ونيف على إلتحاقي بمقر عملي الجديد في الجيش، وكانت هذه الفترة فترة ترقب وإنتظار لما يخبئه القدر من احداث جسام.
بعد ان قررت القيادة إطلاق سراح الرهائن من رعايا الدول الغربية الذين كانوا محتجزين في المنشآت الصناعية والعسكرية لإستخدامهم كدروع بشرية نتيجة لتوسط بعض الشخصيات السياسية والشهيرة في مجالات اخرى ورفض الولايات المتحدة الامريكية والدول المتحالفة معها مبادرة الرئيس صدام حسين لحل جميع مشاكل المنطقة حلا جذريا بما فيها القضية الفلسطينية، أيقنا بانّ الحرب واقعة لا محالة.
في هذه الاثناء وجه الرئيس الامريكي جورج بوش “الاب” إنذارا نهائيا إلى العراق لسحب قواته من الكويت وتم تحديد الخامس عشر من كانون الثاني من عام 1991 كآخر موعد لبدء الإنسحاب، فخيم التوتر في صفوفنا وبدأت طبول الحرب تقرع من جديد.
قبل الموعد المحدد لبدء العمليات الحربية قررت إبعاد عائلتي عن بغداد لأنني كنت اتوقع قصفا مركزا وعنيفا عليها كما انّ زوجتي كانت تحتاج إلى عناية خاصة بسبب قرب قدوم الوليد الرابع لنا.
سافرت بسيارتي مع عائلتي الى مدينة الذهب الاسود قبل موعد الإنذار النهائي بيومين وقفلت راجعا إلى بغداد وحيدا في اليوم التالي للإلتحاق بوحدتي العسكرية بعد ان تركتهم في رعاية شقيقتي.
في فجر السابع عشر من كانون الثاني من عام 1991 جفلت من النوم في دارنا في محلة راغبة خاتون على اصوات دوي إنفجارات القنابل والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات، وبعد ان القيت نظرة من النافذة الفيت السماء وقد تحول ظلامها إلى انوار متلألئة كالألعاب النارية التي تطلق في الإحتفالات وأيقنت بأنّ الواقعة قد وقعت وإننا دخلنا في الحرب مع ثلاثين دولة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
الدول التي شاركت في التحالف ضد العراق شملت :
عُمان ، باكستان ، قطر ،السعودية ،كندا ، بلجيكا ، الدنمارك ، سوريا ، فرنسا ، ألمانيا ، اليونان ، اليابان ، إيطاليا ، الكويت ، الأرجنتين ، إستراليا ، البحرين ، السنغال ، كوريا الجنوبية ، أسبانيا ، مصر ، تركيا ، الإمارات ، تشيكوسلوفاكيا ، نيوزيلندا ، هولندا ، نيجيريا ، نرويج ، البرتغال ، الولايات المتحدة .
كان شعوري في تلك اللحظات مزيجا من الخوف والتحدي وكنت بين مصدق ومكذب لما يحدث فبالرغم من رهان الرئيس صدام حسين على الحرب البرية في خطابه الذي القاه قبل ايام من بدء المعارك فإنّ الدلائل كلها كانت تشير إلى كارثة كبيرة ستحل بنا فالكفتان غير متوازنتين والتفوق العلمي والتكنولوجي للأعداء سيكون العامل الأساسي في حسم الحرب لصالحهم.
بعد عدة ساعات خفتت اصوات الإنفجارات ولكني لم استطع معاودة النوم وبالرغم من إنقطاع التيار الكهربائي اشعلت المدفأة النفطية ووضعت عليه إبريق الشاي.
بعد ان اكملت تناول طعام الفطور اتجهت بسيارتي في الصباح الباكر نحو منطقة الكاظمية للإلتحاق بوحدتي العسكرية، وكانت اصوات إنفجارات متقطعة ما تزال تُسمع في العاصمة بغداد.
حين وصولي إلى مقر عملي لاحظت بأنّي اول ضابط التحق بالوحدة وبعد فترة قصيرة تقاطر الضباط والجنود وحضر آمر الوحدة وعلامات القلق والإرتباك بادية على محياه.
فتحنا المذياع وكان الرئيس صدام حسين يلقي خطابا قال في مقدمته: ” لقد غدر الغادرون” وأنهى خطابه بالآية القرآنية: ” يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم”.
أبلغنا آمر الوحدة بأمر الإخلاء وفعلا تحركنا بإتجاه منطقة الإخلاء المؤقت وكانت في مخيم قريب من الكاظمية مكونة من دور من البناء الجاهز كانت تستعمل من قبل شركة يوغسلافية التي كانت تُنشيء مقرا لأحدى الألوية العسكرية.
في الساعة التاسعة صباحا من نفس اليوم بدأت الموجة الثانية من الطائرات الغربية والأمريكية بقصف مدينة بغداد، وكان دوي الإنفجارات وأصوات المدافع المضادة للطائرات تهز المدينة هزا وتخرق سكونه خرقا.
بدأ سكان العاصمة بترك المدينة في موجات تتدافع نحو مخارج المدينة، وفي هذه الأثناء ابلغنا آمر الوحدة بأننا سنتجه في الصباح الباكر من اليوم التالي إلى منطقة الإخلاء الدائمية في قضاء النعمانية التابعة الى محافظة الكوت وعلى مبعدة حوالي مائة كيلومتر جنوب العاصمة بغداد، وطلب منا إستغلال الوقت المتبقي لتأمين أماكن آمنة لعوائلنا وكنت قد انجزت هذه المهمة قبل عدة أيام من بدء المعارك.
كانت الليلة الثانية من الحرب كمثيلتها السابقة، ليلة عاصفة انهالت فيها الصواريخ والقنابل عل الاهداف العسكرية والصناعية ومراكز الاتصالات والمطارات واجهزة الدفاع الجوي بعنف لم يسبق له مثيل.
في صبيحة اليوم الثاني من الحرب اتجهت بسيارتي إلى الكاظمية وبعد فترة وجيزة من الإستعدادات تحركت سيارات وحدتنا على شكل قافلة بإتجاه قضاء النعمانية قرب مدينة الكوت.
كانت خطة دول التحالف الإستمرار في قصف العاصمة والمدن الأخرى والقطعات المتواجدة في الجبهة الكويتية والجنوبية من العراق لفترة طويلة لإنهاك الجيش العراقي قبل بدء الهجوم بالقوات البرية.
في الطريق إلى النعمانية كنت اتناقش مع زملائي الضباط المهندسين الذين اقلتهم في سيارتي الخاصة حول الفترة التي ستستغرقها عملية القصف الجوي وخرجنا بنتيجة بأنّ تحديد الفترة سيقررها قيادة التحالف نظرا لتسيدهم سماء المعركة بعد تحييد القوة الجوية والدفاع الجوي للجيش العراقي وإخراجهما من المعركة.
بعد وصولنا الى منطقة الإخلاء توزعنا على الوحدات السكنية من نوع البناء الجاهز وسكنت مع خمسة زملاء من الضباط المهندسين في إحدى هذه الدور.
في اليوم التالي من وصولنا إلى النعمانية قصفت طائرات العدو معسكرنا ولكن الصاروخان اللذان أُطلِقا على المعسكر سقطتا في منطقة ترابية خالية.
نظرا لكون وحدتنا إحدى تشكيلات المقر العام فلم نشترك في الفعاليات القتالية وكانت توجيهات القيادة هي توفير مواقع آمنة لنا لتقليل الخسائر إلى أقصى حد ممكن.
في اليوم الثالث من الحرب عقد رئيس هيئة المشاريع العسكرية إجتماعا مع الضباط المتواجدين في معسكر الإخلاء في النعمانية وأبلغنا بتوجيهاته وتمت الموافقة في هذا الإجتماع على نقل عدد من الضباط الراغبين من سكنة محافظة ديالى والمحافظات القريبة منها إلى موقع الإخلاء الثاني في ناحية بلدروز التابعة لمحافظة ديالى الواقعة في الجهة الشرقية من العراق.
بناء على طلبي تم الموافقة على نقلي مع عدد من الزملاء الضباط المهندسين، وفي عصر نفس اليوم قررت زيارة عائلتي واهلي في مدينة الذهب الاسود للإطمئنان على سلامتهم قبل الإلتحاق إلى المعسكر الجديد.
بعد التزود بالوقود الذي بدأ يشح في القطر اتجهت بسيارتي نحو مدينة كركوك مارا بالعاصمة بغداد التي تحولت إلى مدينة الأشباح لخلو شوارعها من المارة.
بعد إطمئناني على سلامة عائلتي وقضاء يومين في كركوك التحقت بمعسكر الإخلاء في ناحية بلدروز وكانت الدور السكنية المخصصة لنا من نوع البناء الجاهز أيضا.
استمر القصف الجوي لقوات التحالف وكان رد الجيش العراقي مقتصرا على إطلاق بعض الصواريخ من نوع أرض أرض ( سكود الروسية) على الأراضي السعودية وبعض دول الخليج العربي وإسرائيل، كذلك قامت بعض وحدات من الجيش العراقي بالهجوم على منطقة الخفجي داخل الأراضي السعودية وذلك لإرغام قوات التحالف على ألبدء بالحرب البرية التي كان الرئيس صدام حسين يراهن عليها لتحقيق بعض الإنتصار معتمدا على قوة قواته البرية وخاصة فرق الحرس الجمهوري.
الحرس الجمهوري أحد أفرع القوات المسلحة العراقية وهو يعد أفضلها من حيث التسليح، تألف الحرس الجمهوري العراقي في عقد التسعينيات من فيلقين وكل فيلق يضم ثلاث فرق اي يضم الحرس الجمهوري ست فرق وهي قوات بغداد وقوات المدينة المنورة وقوات عدنان وقوات نبوخذ نصر وقوات النداء وقوات حمورابي.
مكثنا في معسكر الإخلاء لفترة شهر ونيف لا عمل لنا سوى الأكل والنوم وكانت التعليمات من الآمر تنص على عدم لبس الزي العسكري في المعسكر لتمويه الأعداء.
تم خلال فترة الإنتظار هذه تدمير معظم منشآتنا الصناعية وقواعدنا الجوية، ولكن الهجوم البري المرتقب تأخر البدء به وكان هدف قوات التحالف من هذا التأخير تدمير وإنهاك القوات المتواجدة في الجبهة وخاصة قوات الحرس الجمهوري قبل الإقدام على هذه الخطوة، وكانت هذه القوات تفتقر للحماية من قبل الغطاء الجوي العراقي التي تم تدميره في الأيام الأولى من بدء المعارك.
في الخامس والعشرين من شهر شباط من عام 1991 قررت القيادة العراقية الإنسحاب من الكويت، وبدأت صفحة جديدة من الحرب حيث تم قصف وتدمير معظم القوات المنسحبة وساد الإرتباك بين صفوف الجيش العراقي.
قضيت فترة الحرب هذه في معسكر الإخلاء في بلدروز وكنت اقضي إجازاتي في مدينة الذهب الاسود، وفي هذا المعسكر أحسست برغبة عارمة لكتابة هذه السيرة التي سأحاول تكملة أحداثها في الصفحات التالية.
في خضم هذه الأحداث الدامية وأثناء القصف الجوي لمدينة كركوك أنجبت زوجتي في مستشفى صدام ولدا رابعا سميناه أحمد.
في إحدى إجازاتي تركت سيارتي في كركوك لعدم تمكني من الحصول على الوقود وألتحقت بمعسكر الإخلاء بواسطة الحافلة التي كانت مخصصة لنقلنا من من بغداد إلى المعسكر.
بعد قرار الإنسحاب من الكويت وما صاحبه من قصف جوي للآليات والدبابات المنسحبة والخسائر التي مُنيت بها قطعاتنا المنسحبة، تم إعلان وقف إطلاق النار وهكذا أنتهت المعارك التي سُميت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ب “عاصفة الصحراء” وسميت من قبل القيادة العراقية ب “أم المعارك”.
في اليوم التالي من إعلان وقف إطلاق النار سافرت إلى مدينة الذهب الأسود لقضاء إجازتي الدورية مع عائلتي، ألتحقت بعد إنقضائها بمقر وحدتي في بغداد فالحرب وضعت أوزارها والقطعات العسكرية العراقية بدأت بالإنسحاب ورجعت الوحدات المشمولة بالإخلاء إلى مقراتها السابقة.
خلفت هذه الحرب المآساة آلاف القتلى والجرحى وألأسرى وتم تدمير معظم منشآتنا العسكرية والصناعية كما تم فرض حصار إقتصادي وتسليحي على البلد عانى من جرائه الشعب العراقي الأمَرَين.
بعد وقف إطلاق النار بدأت صفحة جديدة من المآسي بعد قيام معظم أفراد الشعب العراقي بإنتفاضة ضد الحكم الديكتاتوري للرئيس صدام حسين وحزب البعث العربي الأشتراكي وسُميت بالإنتفاضة الشعبانية لحدوثه في شهر شعبان من السنة الهجرية.
بعد إلتحاقنا بمقر وحدتنا العسكرية في الكاظمية طرق أسماعنا انباء حصول إنتفاضة ضد حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة الرئيس صدام حسين في بعض المحافظات الجنوبية والوسطى والتي اكثرية سكانها من المذهب الشيعي، ففي البصرة والناصرية وميسان والسماوة والديوانية والنجف والكوت وكربلاء وبابل قام افراد من المعارضة الشيعية وبمؤازرة متسللين من ايران بالسيطرة على مرافق الدولة وقاموا بقتل بعض منتسبي حزب البعث العربي الإشتراكي من أفراد الشرطة والجيش والجيش الشعبي في تلك المحافظات وتم نهب وحرق معظم الدوائر الحكومية هنالك.
أيضا طرق أسماعنا أنباء سقوط المحافظات الشمالية من العراق كالسليمانية واربيل ودهوك بأيدي المعارضة الكردية بقيادة الحزبين، حزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني وحزب الإتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة جلال الطالباني.
خلال إجازتي الأخيرة التي قضيتها في مدينة الذهب الأسود لاحظت بأنّ الجيش العراقي عزز قواته في المدينة وأتخذت الدبابات مواقعها في شمال وشرق المدينة تحسبا لأي هجوم محتمل من قبل المعارضة الكردية.
ونظرا لحجم القوات المتواجدة في المدينة لم يخطر ببالي سقوطها بأيدي المعارضة الكردية، لذلك تركت عائلتي في مدينة كركوك وأضافة لتلك الأسباب فإنّ الوضع الأمني في العاصمة بغداد كان قلقا أيضا فالمعارضة الشيعية في بعض احياء العاصمة وبالأخص في مدينة الثورة / مدينة صدام (سُميت بمدينة الصدر بعد سقوط حكم صدام حسين) كانوا قد نظموا مظاهرات ضد حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة صدام حسين.
بعد إشتعال فتيل الإنتفاضة والأحداث الدامية التي رافقتها، حشدت الدولة بقايا قوات الحرس الجمهوري وقسم من القوات المنسحبة من الكويت والجبهة الجنوبية وبدأت هذه القوات عمليات واسعة ضد المعارضة الشيعية في المحافظات الجنوبية والوسطى من العراق.
بدأت هذه المحافظات تتساقط تحت ضربات قوات الحرس الجمهوري تباعا واستمرت أعمال الفوضى والقتل والتدمير في تلك المحافظات لمدد مختلفة، فمنها مادام التمرد فيها أياما قليلة كالبصرة والناصرية (ثلاثة أيام حيث تم الانهاء عليها)، ومنها مادام أكثر من (أسبوعين) كالنجف وكربلاء. ولكن الخسائر في الأرواح والممتلكات الناجمة من القصف المدفعي والصاروخي والجوي لهذه المدن والقصبات كانت جسيمة.
كنت خلال هذه الفترة العصيبة أُقيم في دارنا في محلة راغبة خاتون في بغداد وحيدا وأصبح دوامنا في مقر الوحدة العسكرية التابعة لمديرية الأشغال العسكرية منتظما بصورة تدريجية ولكننا لم نكلف بأي عمل هندسي أو تصميمي لمواقع المعسكرات خلال تلك الفترة القلقة.
في صبيحة يوم الخميس المصادف للواحد والعشرين من شهر آذار أخبرني زميلي الرائد المهندس عثمان بأنّ المعارضة الكردية سيطروا على مدينة الذهب الأسود وأنّ شقيقه قد فرّ من المدينة طلبا للنجاة.
عندما سمعت هذه الأنباء بدأت الهواجس والأفكار المقلقة تراودني حول مصير عائلتي وأهلي، لذلك قررت السفر إلى كركوك لإنقاذهم من المآسي المتوقعة، فالحرس الجمهوري بعد أن سيطر على معظم المحافظات الجنوبية والوسطى سيتجه حتما نحو المحافظات الشمالية ومن ضمنها كركوك وستتكرر الأحداث الدامية هنالك أيضا.
بعد أخذ الموافقة من آمر الوحدة على السفر توجهت نحو البيت لإستبدال ملابسي العسكرية بملابس مدنية وكنت برتبة ملازم ثاني مهندس إحتياط في هذه الدعوة أيضا.
بعد ذلك توجهت نحو موقف السيارات في باب المعظم حيث يتواجد مجمع الحافلات التي تقل المسافرين من بغداد إلى مدينة كركوك، لكن المعلومات التي استقيتها في المجمع كانت محبطة لجميع آمالي، فالطريق المؤدي إلى المدينة كان مقطوعا ولم أستطع الحصول على أية واسطة تقلني إلى كركوك بالرغم من مكوثي في المجمع حتى وقت الغروب.
كان المجمع أشبه بخلية للنحل حيث أزدحم في جزء منه العسكريون الذين كانوا يرومون الإلتحاق بوحداتهم العسكرية في شمال العراق بعد قرار العفو عن الفارين من الخدمة العسكرية التي أصدرتها القيادة بعد وقف إطلاق النار والتوقيع على شروط الإستسلام المهين في خيمة قرب الحدود الكويتية.
أما الجزء الآخر من المجمع فكانت تحوي عدة حافلات متوقفة نتيجة لنفاذ وقودها وكنت ألاحظ في بعض أجزاء المجمع حلقات من الناس حول بعض الفارين من مدينة الذهب الأسود وهم يروون قصصا درامية عن المدينة وكيفية فرارهم منها.
أزداد قلقي على مصير زوجتي وأطفالي وأهلي وبعد أن يئست من الحصول على واسطة تقلني إلى مدينتي قفلت راجعا إلى البيت مثقلا بالهموم ولاعنا اليوم الذي ولِدتُ فيه في العراق بلد النكبات والمآسي.
في صبيحة اليوم الثاني كررت المحاولة ولكن عبثا وتكرر في المجمع ما حدث في اليوم الأول. في اليوم الثالث توجهت مبكرا إلى باب المعظم عازما على السفر مهما كلفني الأمر من مخاطر وتضحيات. بعد أن يئست من الحصول على واسطة نقل قررت التوجه إلى مجمع علاوي الحلة للحافلات في جهة الكرخ من مدينة بغداد لعلي اجد وسيلة نقل إلى مدينة تكريت التي تبعد عن مدينة كركوك بحوالي مائة وعشرون كيلومترا.
لقد ترامى إلى أسماعي بأنّ الدولة قد أنشأت مخيما للاجئين الفارين من كركوك في مدينة تكريت وكنت آمل أن أجد عائلتي في هذا المخيم.
أثناء حديثي مع أحد ألسواق في باب المعظم ألتقيت بأحد زملاء دراستي في مدرسة إعدادية كركوك وكان هذا الزميل يتسقط أخبار والديه وأهله، كما تعرفت على رائد مهندس تركماني كان في المجمع لنفس الغرض وأبدى الإثنان رغبتهما لمرافقتي إلى مدينة تكريت مسقط رأس الرئيس صدام حسين.
من الجدير بالذكر أنّ مدينة تكريت ومحافظة نينوى ومحافظة ديالى ومحافظة الأنبار والتي معظم سكانهم من الطائفة السنية لم تشترك بالإنتفاضة ضد حكم الرئيس صدام حسين.
من العوامل التي أسهمت في سقوط المحافظات بأيدي المعارضة:
– الحالة المعنوية العامة المنهارة عقب إخراج القوات العراقية من الكويت بشكل فوضوي غير منظم، حتى أن كثيرا من الجنود عادوا إلى محافظاتهم مشياً على الأقدام و العديد منهم قُتِلوا على يد الغوغاء و أُسِروا .
– الغياب التام للإعلام الحكومي وبخاصة الإذاعة والتلفزيون الذي كان أقوى رأسمال لدى النظام في صلته بالناس، نتيجة قطع الكهرباء وتدمير جميع محطات ومعيدات البث في كل أنحاء العراق، فضلاً عن تدمير مباني الإذاعة والتلفزيون، وسمح ذلك للبث الإذاعي والتلفازي الإيراني أن يسيطر على معظم محافظات العراق وبضمنها بغداد ويكون هو مصدر المعلومات الوحيد، مع باقي المحطات المعادية للعراق التي كانت تبث دعايات عن احتلال وانهيار النظام، واحتمال هرب الرئيس صدام إلى روسيا، وغيرها من الإشاعات التي أسهمت في خلخلة ثقة الناس بالسلطة وقوتها، هذا القطع الإعلامي، مع نشر إشاعات مختلقة، في إطار حرب الدعاية النفسية جعلت الكثير من العراقيين في المحافظات الساقطة يعتقدون أن نظام بغداد قد انهار بالكامل وأن الرئيس صدام هرب إلى الخارج.
الدعم الإيراني وإدخال آلاف قطع السلاح والتفجيرات إضافة إلى الدعم البشري بعناصر من العراقيين المقيمين في إيران والمجندين من قبل سلطات النظام الإيراني. كقوات بدر التابعة للمجلس الإسلامي وعناصر حزب الدعوة.
– خضوع عموم الناس إلى نظرية السلوك الجمعي والانقياد الطوعي لمثيري الفتنة من خلال تشجيع الناس على مهاجمة الدوائر الحكومية وسرقة ما فيها من مواد ومخزونات وأثاث، وتخوف الناس من غدر المسلحين القادمين من إيران الذين هددوا الناس بالقتل إن لم يشتركوا في الانتفاضة.
بعد حديث قصير أستقلنا سيارة أجرة إلى كراج علاوي الحلة ولكننا لم نستطع الحصول على أية واسطة لنقلنا إلى مدينة تكريت، فالبلد كان يمر بأزمة وشحة في توفير الوقود بعد أن قصفت قوات التحالف معظم خزانات الوقود والمصافي في البلد.
بعد مكوثنا فترة في مجمع النقل لاحظت حافلة تروم التوجه نحو قضاء سامراء التابعة لمحافظة صلاح الدين والقريبة من تكريت مركز المحافظة وأتفقت مع زميلي الرحلة على إستغلال هذه الفرصة السانحة.
كانت الطبيعة في تلك الصبيحة متواطئة مع الأحداث فالرعد كان مزمجرا والمطر ينهمر بعنف وتيارات الهواء البارد كانت تلفح وجوهنا بقسوة مكرسة الجو المأساوي الذي كان يعيشه البلد.
بالرغم من بلل ملابسي العسكرية وغوص حذائي في الأوحال وسريان القشعريرة إلى أوصالي، فإنّ تفكيري كان مركزا على مصير عائلتي وأهلي وكنت أتمنى في تلك اللحظات المتسمة بالقلق والخوف والألم أن أتحول إلى طائر يشق عنان السماء لأحط في مدينة الذهب الأسود وأحملهم نحو أفق جديد بعيدا عن لعنة الذهب الأسود، هذه الثروة التي أصبحت وبالا على العراقيين.
أثناء إحدى مناقشاتنا مع الزملاء من الضباط المهندسين في معسكر الإخلاء حول أسباب هذا الحرب الضروس، قلت بأنّ هذا الحرب وقعت بسبب نقطة على حرف ! تساءل الزملاء عن معنى قولي، فقلت بأنّ قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي برئاسة صدام حسين رفعت شعار ” نفط العرب للعرب ” أما الدول الإستعمارية الغربية فإنّهم يؤمنون بشعار ” نفط العرب للغرب “، فلولا هذه النقطة اللعينة عل حرف العين في كلمة “للعرب” ولولا الذهب الأسود المخزون في باطن أراضي العراق لما حدثت هذه المآسي والأحداث.
بعد ساعتين من رحلتنا نحو المجهول وصلت الحافلة إلى مجمع الحافلات في قضاء سامراء،وكان زميلا الرحلة صائمين فأغتنمت فترة إنتظار الحافلة التي ستقلنا إلى مدينة تكريت وتناولت وجبة خفيفة من الطعام في المجمع.
بعد فترة قصيرة من الإنتظار أستقلنا حافلة قديمة متجهة إلى مدينة تكريت ، وبعد الإستفسار في المدينة عن موقع مخيم اللاجئين الفارين من مدينة كركوك أستقلنا سيارة أجرة واتجهنا نحو المخيم.
كان المخيم عبارة عن عشرات من الخيم الصغيرة المنصوبة على جانبي إحدى الطرق وكانت كلها خالية من ساكنيها وأعلمنا سائق سيارة الأجرة بأنّ جميع العوائل قد تم نقلهم إلى مبنى مركز الشباب المجاور بسبب سوء الأحوال الجوية.
بعد أن دلفنا إلى داخل المبنى لم نعثر على أحد من افراد عوائلنا هناك، وكان عدد العوائل المتواجدة هنالك قليلا وتلاشى هذا البصيص من الأمل.
بعد التداول مع الرائد المهندس فكرت وزميل الدراسة فريق عباس أستاذ اللغة الأنكليزية في جامعة المستنصرية قررنا الإنتظار في الطريق العام المتجه نحو مدينة كركوك لعلنا نحظى بواسطة تقلنا إلى المدينة.
كانت فترة الإنتظار هذه فترة عصيبة وطويلة فبالإضافة لحالتنا النفسية القلقة فإنّ زخات المطر وتيارات الهواء البارد كانت تصفع وجوهنا وأجسامنا بقسوة متضامنة مع الجو المأساوي لذلك اليوم، ولم نجد في ذلك العراء الموحش سقفا يحمينا من غضبة الطبيعة.
بعد ساعة من الإنتظار اليائس أتجهنا مشيا نحو نقطة السيطرة العسكرية التي تتواجد في مداخل ومخارج جميع المدن العراقية والتي كانت تبعد بحوالي كيلومترا واحدا عن موقعنا السابق وهنالك أحتمينا بسقف المبنى من غضبة الطبيعة ألأم.
عندما بلغت الساعة الثانية ظهرا وقفت شاحنة عسكرية روسية الصنع من نوع “إيفا” في نقطة السيطرة وترجل منها نائب ضابط للإستفسار عن موقع قناة ري كركوك التي كانت القطعات الخلفية للجيش محتشدة بالقرب منها وكان هذا الموقع على مشارف مدينة كركوك ويبعد عن مركز المدينة بحوالي عشرون كيلومترا.
أغتنمت هذه الفرصة السانحة وطلبت من نائب الضابط أن يقلنا معهم إلى كركوك، ونظرا لإمتلاء المقعد الأمامي الوحيد في الشاحنة بمرافقي نائب الضابط وافقنا على الجلوس في الحوض الخلفي للشاحنة والذي كان يفتقر لأي غطاء واقي.
كنت في ذلك اليوم لابسا معطفا شتويا أزرق اللون فوق ملابسي العسكرية بحيث كانت رتبتي العسكرية مخفية عن الأنظار، فظن نائب الضابط المسؤول عن الشاحنة بأنّي أحد الجنود الذين يرومون الإلتحاق بوحدته العسكرية في كركوك.
أما زميلي الرائد المهندس فقد كان يرتدي ملابس مدنية كذلك كان الزميل الآخر الاستاذ في الجامعة.
أثناء صعودنا إلى الحوض الخلفي للشاحنة العسكرية التحق بمجموعتنا جنديان تركمانيان من أهالي كركوك وكان هدفهما مماثلا لهدفنا وكانت لهم معرفة سابقة بالرائد المهندس فكرت.
المفاجأة كانت بإنتظارنا بعد تسلقنا الحوض الخلفي للشاحنة، لاحظنا بأنّها مملوءة بأكداس من قنابل المدفعية والهاونات ومختلف العتاد الحربي كطلقات البنادق والقنابل اليدوية، ولكن لم يكن لنا خيار غير الجلوس فوق هذه الكومة من العتاد الحربي الذي يكمن فيها الموت والنيران التي ستصب على مدينة الذهب الأسود عند بدء الهجوم عليها لإنتزاعها من قبضة المعارضة الكردية التي أحتلتها في غفلة من القدر.
أستغرقت رحلتنا العجيبة هذه ساعتان كانتا من أحلك ساعات التي عشتها أثناء تلك الحرب، فزخات المطر أزدادت عنفوانا والرياح الباردة صارت أشد قسوة وسكاكين القلق كانت تُزيد من وضعنا المأساوي وكل هذا ونحن جالسون فوق كومة الموت التي قد تنفجر بأية شرارة عمياء من برق.
بالرغم من هذاالوضع الذي لا نحسد عليه كنت أمازح رفاق الرحلة قائلا بأنّي لا أستطيع الصبر وأنّي مقبل على إشعال سيجارة ولا أستطيع الإستمرار في هذه الرحلة بدونها.
بعد أن شارفت الرحلة على نهايتها توقفت الشاحنة في ضواحي مدينة كركوك وفي الضفة الغربية من قناة الري ولاحظت في بداية الجسر المقام على القناة نقطة سيطرة عسكرية وعلى جهتي الطريق المؤدي إلى مدينة الذهب الأسود كانت القطعات العسكرية منتشرة فبمحاذاة الطريق أنتشرت وحدة الميدان الطبية وعلى مقربة منها رُصت عشرات المدافع الثقيلة مصوبة فوهاتها نحو المدينة، وفي الجهة المقابلة من الطريق كانت الراجمات موجهة ايضا نحو مدينة كركوك التي كانت غافلة عما يُبيت لها.
كان المنظر مفزعا وايقنت بأنّ مدينتي العزيزة ستُقلَب عاليها سافلها إذا سقطت عليها هذه الأكوام من أسلحة الدمار والموت.
مرت لحظات قاسية بعد رؤية هذه الأكوام من أسلحة الدمار التي ستسقط كحمم البركان على مدينة الذهب الأسود.
ترجلنا من الحوض الخلفي للشاحنة العسكرية التي أقلتنا خلال رحلة العذاب وأجسامنا مبللة من قمة رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا وكنا أشبه بأسفنجة سقطت في ماء النهر البارد، وكانت أسناني تصطك من شدة البرد وأنا أبحث عن جدار أو جسم يقيني من قسوة الريح.
جاء طوق النجاة عند لفيف من الجنود كانوا قد أشعلواإطارا قديما لسيارة وألتفوا حولها كما يلتف الهنود الحمر حول نيرانهم وبدأنا نحضن هذه الكتلة من السعير كما يحضن العاشق حبيبته بعد لوعة الفراق، وبدأ الدفء المنبعث من الإطار المحترق يسري في أوصالنا تدريجيا بمصاحبة الهباء الأسود المتصاعد مع النيران ألذي حولَ وجوهنا إلى لون أسود كأننا أشباح في الظلام الذي بدأ يُخيم علينا في العراء.
بعد هذه اللحظات العصيبة أيقنا بأنّه من الجنون محاولة الوصول إلى مدينة كركوك في عتمة هذا الليل الدامس كما علمنا بأنّ نقطة السيطرة العسكرية المقامة في بداية الجسر على قناة الري لا تسمح بالمرور من الجسر إلا للعسكريين الذين يرومون الإلتحاق بوحداتهم المحتشدة في أطراف المدينة، لذلك قررنا المبيت في تلك الموقع.
كان الحظ حليفنا هذه المرة فعلى مقربة من الطريق لاحظنا مخيما مهجورا من أبنية جاهزة كان مخصصا لعمال إحدى الشركات المقاولة التي كانت تعمل في مشروع ري كركوك.
بعد عملية إستكشاف أولية ألفينا قسما من هذه الدور مشغولة من قبل بعض العوائل الفارة من المدينة بعد إحتلال ميليشيا البيشمركة الكردية للمدينة، أما القسم الآخر فقد تم إستخدامه من قبل إحدى القطعات العسكرية.
بعد فترة لم يطل أمده عثرنا على دار فارغ مكون من ثلاثة غرف، كانت غرفتان منها مستخدمة كمرافق صحية وكانت ارضيتا تلك الغرف مغطاة بالفضلات، أما الغرفة الثالثة فكانت أرضيتها الخرسانية نظيفة ولكن الشباك اليتيم فيها كان مقلوعا.
بعد سد فتحة الشباك بمبردة ماء قديمة عثرنا عليها في الجوار، أوقدنا نار نصطلي بها مستعملين جميع الأخشاب التي تمكنا من إقتلاعها من الجدران الخشبية للدار.
بدأنا بالمرحلة الثانية من تجفيف ملابسنا وأحذيتنا ولكن الجوع بدأ ينهش أحشاءنا.
كانت مجموعتنا التي جمعتها الصدفة مؤلفة من خمسة أفراد.. أنا والرائد فكرت والأستاذ فريق والجنديان آيدن وأحمد.
كان فكرت وفريق صائمين وتمكنا من الحصول على قدح من الماء من إحدى العوائل اللاجئة تقاسمه الصائمان ثم أخرج أحمد من حقيبته الجلدية حفنة من العنب الأسود المجفف والتي أصبحت إفطارا للصائمين.
قضينا تلك الليلة الغريبة في أحاديث عن الأوضاع السائدة في البلد ولعنا المسبب لها ولم يرنق الكرى أجفاننا إلا لساعات قليلة، كانت الأرضية الخرسانية فراشا لنا والدخان المتصاعد من كومة الخشب المحترق بهبائه غطاء لنا.
مع أول خيوط الفجر التي أعلنت إنتهاء تلك الليلة العصيبة زحفنا صوب بوابة المخيم، وبدأنا رحلة البحث عن وسيلة لإختراق نقطة السيطرة العسكرية والتي كانت سدا بوجه تيار رغبتنا الجارفة للوصول إلى المدينة.
بعد عدة ساعات من البحث أيقنا بإستحالة العبور من تلك النقطة لعدم إمتلاكنا أية وثائق رسمية تسمح لنا بالعبور إضافة إلى كون الجنديان في المجموعة هاربان من وحدتهم العسكرية بعد تفشي الفوضى أثناء عملية الإنسحاب الغير المنظم من الكويت وعقاب الهروب من الخدمة أثناء الحرب هي الإعدام بلا شك.
كانت الأنباء الواردة من مدينة كركوك توحي بسيطرة ميليشيا البيشمركة التابعة للأحزاب الكردية على جميع أجزائها ماعدا معسكر خالد والطريق الرابط بين كركوك ومدينة تكريت.
بعد اليأس من العبور إلى الضفة الأخرى من قناة الري بواسطة الجسر قرر الرائد فكرت والأستاذ فريق العودة إلى بغداد، ولكن عزيمتي لم تفتر وشوقي للقاء زوجتي وأطفالي وإنقاذهم من هذه المحنة أعطاني زخما من الطاقة لإختراق جميع الحواجز، لذلك قررت محاولة الدخول إلى المدينة من نقطة أخرى فأتجهت شرقا بمحاذاة القناة مع رفيقا السفر أحمد وآيدن مشيا على الأقدام بعد أن ودعنا فكرت وفريق.
عندما بدأنا المسير كانت ساعتي تشير إلى الثامنة صباحا وكان هطول المطر قد توقف وبدأ دفء أشعة الشمس في ذلك اليوم الربيعي يسري في أوصالنا ببطء.
كانت نقطة السيطرة العسكرية التي بدأنا منه المسير تبعد عن المدينة بحوالي عشرون كيلومترا.
بعد مسيرة نصف ساعة وصلنا إلى الجسر الثاني المشيد على القناة ولاحظنا بأنّها محروسة من قبل عدة أفراد من الجيش للسيطرة على الداخلين والخارجين من المدينة. بعد مداولات أستغرقت عدة دقائق أستطعنا إقناعهم للسماح لنا للعبور إلى الضفة المقابلة من النهر والتوجه نحو قرية جرداغلي التركمانية المقابلة للحي الصناعي في أطراف مدينة كركوك.
بعد أن ملأنا الزمزمية التي عثرنا عليها في الطريق بالماء من النهر بدأنا بالمسير بإتجاه الشمال على طريق مكسو بالحصى تارة وعلى النياسم التي كانت تخترق حقول القمح تارة أخرى.
أستغرقت المرحلة الأولى من مسيرتنا حوالي أربع ساعات توقفنا خلالها مرة واحدة للراحة وتدخين السجائر.
بعد هذه المسيرة الطويلة لاحظنا على يمين الطريق الترابي بناية مبنية من الطين المجفف في الشمس وعلى مقربة منه كانت تربض حافلة لنقل المسافرين. توجس رفيقا السفر خيفة من الموقف وكان قد طرق إلى أسماعهما بأنّ الجيش يضم إليه جميع الجنود المبعثرين في المنطقة لتشكيل قوات لمحاربة المعارضة الكردية وإسترجاع المدينة منهم.
بعد الدنو من الحافلة تعرف آيدن عليها من لوحة رقم الحافلة وأخبرنا بلهفة وفرحة بأنّ الحافلة ملك لأبن خالته وأنّه يسكن في قريتهم التي كنا نروم التوجه إليها.
خرجنا من مسارنا وأنعطفنا نحو اليمين بإتجاه المبنى الذي كان حقلا لتربية الدواجن كما دلت عليه اللافتة المثبتة بالقرب منه.
كان شعورنا بالعثور على بعض أقارب آيدن في المبنى مزيجا من الفرحة واللهفة لمعرفة أخبار مدينة الذهب الاسود.
استقبلتنا العوائل المحتشدة في المبنى بالعجب والترحاب، وأثناء تناولنا لوجبة الإفطار المكونة من الخبز الحار واللبن والشاي علمنا بأنّ قرية جرداغلي التركمانية خالية من قوات البيشمركة الكردية ووأنّها تحت سيطرة الجيش العراقي.
بعد إستراحة قصيرة ودعنا مضيفينا وواصلنا المسير بإتجاه الهدف المنشود ……. مدينة الذهب الأسود.
عند إقترابنا من القرية مر بجوارنا جرار زراعي، تعرف سائقها عل آيدن وبعد عبارات الترحيب أقلنا معه إلى القرية.
دخلنا قرية جارداغلي في الساعة الواحدة ظهرا أي بعد مسيرة خمس ساعات مضنية، رحب بنا أهل وأقارب آيدن وتم إطلاعنا على الوضع في القرية ومركز مدينة كركوك بالتفصيل.
كانت المساكن الطينية للقرية تربض في الجهة الجنوبية من الطريق الذي يربط الطريقين الرئيسيين المتجهين من مدينة كركوك نحو العاصمة بغداد ومدينة تكريت ولاحظنا بأنّ هذا الطريق قد أصبح بمثابة الخط الأحمر أو الأرض الحرام الذي يفصل بين القوات المتحاربة، فعلى شمال هذا الخط كانت تربض مساكن مدينة الذهب الأسود والتي تم إحتلالها من قبل الميليشيات الكردية التابعة للأحزاب الكردية، وعلى جنوب هذا الطريق تمركزت قوات الجيش العراقي التي أنسحبت بعد هجوم الميليشيا الكردية على مدينة كركوك وقتلهم قسم من هذه القوات وقوات ميليشيا الجيش الشعبي التابعة لحزب البعث العربي الإشتراكي الحاكم.
في ساحة المدرسة الوحيدة في القرية تمركز رهط من الضباط والجنود وكانوا قد نصبوا مدفعا ضخما لغرض قصف المدينة.
أصبح محاولة العبور الطريق الفاصل بين المتقاتلين أي الأرض الحرام هدفنا الأول، ولكنها كانت مجازفة خطرة في تلك الأثناء لأنّ القتال كان ناشبا والطرفان يتبادلان إطلاق النار بعنف.
في هذه الأثناء قرر زميل الرحلة آيدن المكوث في قريته بعد أن علم بأنّ معارفه سيحاولون جلب عائلته المحصورين في مركز المدينة إلى قريتهم.
بناء على رغبة رفيق السفر أحمد أتجهت معه إلى الحي الصناعي الذي كان مجاورا للقرية من الجهة الغربية، كان الحي الصناعي الذي تم تأسيسه مؤخرا في أطراف المدينة وكان يضم ورش لتصليح السيارات ومحلات لبيع الأدوات الإحتياطية لها.
أخبرني أحمد بأنّه يملك ورشة في ذلك الحي وأتفقنا عل المبيت فيها في حالة عدم تمكننا من دخول المدينة لحين إيجاد وسيلة آمنة لإختراق الخط الأحمر الفاصل بين المتقاتلين.
بعد إقترابنا من الورشة لمحنا بعض افراد الجيش على سطح الورشة وأفراد آخرين في داخلها وكانوا يتراشقون بالنيران مع قوات الميليشا الكردية المتمركزين في الجهة الشمالية من الطريق.
تعجب أفراد الزمرة العسكرية من وجودنا في تلك المنطقة الخطرة وبعد الإستفسار من أحمد الذي كان يسبقني في المسير عن غرضه، أخبرهم بأنّ المبنى الي أحتلوه ملك له ويروم المبيت فيه، ولكن الجنود شكّوا في أمره وحاولوا أخذه إلى الضابط المسؤول للتحقيق.
كان أحمد في موقف لا يُحسد عليه فقد كان غائبا عن وحدته العسكرية منذ عدة أيام بعد إستحفال الفوضى بين صفوف الجيش العراقي أثناء الإنسحاب الغير المنظم من الكويت. تحركت بسرعة لنجدة رفيق السفر وقبل وصولي إلى أفراد الزمرة العسكرية خلعت المعطف الذي كان يُخفي رتبتي العسكرية وتقدمت نحو الجنود الذين أستفسروا متعجبين عن سبب وجودي في تلك البقعة بعد أن أدوا التحية العسكرية.
بعد أن بينت لهم هدفي وسبب قدومي إلى تلك المنطقة أخبرتهم بأنّ أحمد من معارفي ورفيقي في السفر فأخلوا سبيله ولكنهم أنبؤني بإستحالة عبور الطريق من تلك النقطة بالذات.
في هذه الأثناء أخلى الجنود أحد رفاقهم الذي أُصيب بطلق ناري في ساعده الأيمن إلى داخل الورشة فإزداد يقيني بإستحالة العبور من تلك المنطقة فقفلنا عائدين إلى القرية نجر أذيال الخيبة.
في القرية قررت زيارة القوة العسكرية المتمركزة في المدرسة، وبعد تبديل ملابسي العسكرية بملابس مدنية أستعرتها من أحمد إلتقيت بالضابط المسؤول عن الوحدة العسكرية ولكني تلقيت نصيحة مماثلة بعدم إمكانية دخول المدينة من تلك المنطقة.
بعد تفكير وجيز ومداولة مع أحمد قررنا مواصلة المسير بإتجاه الغرب محاولين الوصول إلى بداية الطريق الذي يتجه من مدينة كركوك نحو مدينة تكريت القريب من منطقة معارض بيع السيارات ألتي تقابل حي واحد حزيران السكني في أطراف المدينة.
سلكنا طريقنا بين حقول القمح متحاشين مناطق تحشد قوات الجيش. في الساعة الثانية ظهرا وبعد مسيرة ست ساعات مضنية وصلنا إلى مقربة الطريق المنشود.
في تلك المنطقة لاحظت بعض الجنود وقد أحتلوا مواقعهم على أسطح المباني المحاذية للطريق فطلبت من أحد الجنود مقابلة الضابط المسؤول وكان برتبة ملازم وكنت في تلك الأثناء قد خلعت المعطف الذي كان يُخفي رتبتي العسكرية وصرت ضابطا في الجيش كي لا يتكرر معنا ما حدث في الحي الصناعي.
بعد حديث قصير مع آمر الفصيل وكان شابا في العشرينات من العمر أحاطني علما بالمخاطر الجسيمة التي تُحيط بمحاولتي الدخول إلى المدينة وأعلمني بأنّه لا يستطيع تحمل مسؤولية الموافقة أو المساعدة في هذا الأمر ونصحني بمقابلة آمر سريته الذي كان في المبنى المجاور.
بعد مقابلة آمر السرية ألذي كان برتبة نقيب، خرجت من المقابلة بنفس النتيجة حيث نصحني بمراجعة مقر اللواء المتمركز في الجهة الشمالية من الطريق قرب سايلوات القمح.
أيقنت بأنّه من العبث تكرار المحاولة في مقر اللواء لذلك أتجهت بصحبة أحمد غربا نحو طريق تكريت ووصلنا إليه بعد نصف ساعة من المسير ثم أنعطفنا نحو الشمال بإتجاه مدينة الذهب الأسود.
خلال مسيرتنا ألتقينا بضابط برتبة نقيب وكان بملابس مدنية ويروم التسلل إلى المدينة لنجدة زوجته وأطفاله المحصورين هنالك.
بعد كلمات المجاملة تحركنا معا نحو نقطة السيطرة العسكرية الأخيرة في تلك المنطقة.
حالفنا الحظ هذه المرة حيث مرت سيارة عسكرية يقودها ضابط برتبة نقيب أقلنا معه إلى نقطة السيطرة العسكرية.
ترجلنا من السيارة وبعد حديث قصير مع الضابط المسؤول أحطناه علما بهدفنا وتكررت النصيحة بعدم المجازفة بالدخول إلى المدينة فالمعلومات المتوفرة لديه كانت تُفيد بأنّ القوات الكردية يقتلون أو يأسرون كل ضابط يقع في قبضتهم ولكن الضابط المسؤول لانَ أخيرا بعد أن لاحظ إصرارنا على إختراق الحاجز الأخير ونصحنا بالتوجه نحو السياج المشيد على يمين الطريق والذي كان يقف بمحاذاته سيارة للأجرة أحتمى بها الملازم الأول المسؤول عن نقطة السيطرة الأخيرة.
قبل دنوي من السياج لبست السروال المدني الذي استعرته من أحمد فوق سروالي العسكري ونزعت الرتبة العسكرية وأخفيته مع دفتر الخدمة العسكرية تحت ملابسي الداخلية ولبست المعطف الأزرق بحيث غطى القميص العسكري وبذلك تحولت إلى رجل مدني ظاهريا وكنت أحمل لحسن الحظ معي هوية وزارة الإسكان والتعمير وهوية نقابة المهندسين العراقية.
أما أحمد فقد خلع ملابسه العسكرية وأخفاها في الحقيبة الجلدية مع بيريتي وبقي بملابسه الداخلية التي كانت عبارة عن سروال وقميص رياضي وبعد التخلص من جزمته العسكرية أنتعل النعال الذي أستعاره من صديقه آيدن في قرية جارداغلي.
بعد عملية التخفي توجهنا نحو السياج وتكرر نفس الحديث مع الملازم الأول ولكني أخبرته بأنّي ملازم مهندس إحتياط ومقر عملي وسكني الدائمي في العاصمة بغداد ولا يعلم برتبتي العسكرية أحد في المدينة سوى معارفي وأقربائي.
وافق الضابط على دخولنا إلى المدينة على أن أتحمل مسؤولية تلك المخاطرة تحملا تاما.
لم أضيع لحظة أخرى سدى فأتجهت مسرعا بصحبة رفيق السفر أحمد نحو الفتحة الوحيدة في السياج أما النقيب الذي ألتقيناه في الطريق فقد تخلف عنا لتدارس الموقف مع ضباط السيطرة.
كان السياج محاذيا للسكة الحديدية فبعد عبورنا السكة الحديدية ألفينا أنفسنا في طريق ترابي يعتلي مرتفعا ترابيا والذي كان يُفضي إلى حي واحد حزيران السكني في داخل مدينة الذهب الأسود.
أثناء المسير ألتقينا ببعض العوائل التي كانت تتجه نحو الجهة المعاكسة محاولين الفرار من المدينة من نفس النقطة التي دلفنا منها. بعد سير حثيث مشوب بالتوجس والخوف أستغرق حوالي عشر دقائق أقتربنا من الدور السكنية لحي واحد حزيران وأنعطفنا نحو جهة اليمين فأصبحنا داخل أزقة الحي.
كان الإنطباع الأول عن الموقف في الحي يدعو للإطمئنان فبعض النسوة والأطفال كانوا واقفين أمام دورهم وبعض السابلة يحثون الخطى في بعض تلك الأزقة ولم نلتقي بأحد من الميليشيا للأحزاب الكردية أو نلاحظ وجود نقاط للسيطرة لهم في الحي.
الشخص المسلح الوحيد الذي إلتقيناه كان لابسا بدلة مدنية زرقاء كالتي يلبسها عمال المصانع وكان مشغولا بمحادثة أفراد عائلته وكان يتكلم باللغة العربية، فسلمنا عليه ورد التحية بمثلها.
أكثرية سكنة حي واحد حزيران كانوا من القوميتين التركمانية والعربية. مدينة الذهب الأسود مكونة من أحياء ومحلات متعددة، معظم سكنة الأحياء المحيطة بالطريق الواصل من المدينة إلى بغداد أي القسم الجنوبي من المدينة هم من التركمان والعرب أما الأحياء والمحلات في القسم الشمالي من المدينة القريبة من الطريقين المتجهين إلى المدينتين أربيل والسليمانية فمعظم سكانها كانوا من القومية الكردية كحي رحيماوة وحي إمام قاسم والشورجة.
الأحياء في مركز المدينة كمحلة صاري كهية وبريادي والمصلى وجقور ومنطقة القورية التي هي المناطق السكنية القديمة من المدينة معظم سكنتها كانوا من التركمان، أما القلعة التاريخية في مركز المدينة فكان يسكنها التركمان والمسيحيون قبل أن يأمر صدام حسين بهدم جميع دورها السكنية.
واصلنا المسير مسرعين ومتحاشين الإلتفات نحو الشخص المسلح وبعد دقائق معدودات أفضى بنا إحدى الأزقة إلى شارع عريض يخترق مركز الحي ولكننا بالرغم من الإعياء الشديد لم نتوقف للراحة وكنت في تلك اللحظات أحلم بسرير مريح وفراش دافيء أرتمي عليه لأريح جسدي المنهك.
بعد فترة وجيزة من السير قدمت سيارة نقل صغيرة كانت تحمل عائلة في المقعد الأمامي ووافق سائقها على نقلنا في الحوض الخلفي إلى حي غرناطة ألذي كان متجها إليه بدون مقابل.
بعد أن أشتريت علبة سجائر وأشعلت سيجارة منها بلهفة تحركت السيارة على مهل نحو حي غرناطة الذي يقع في القسم الجنوبي من المدينة وغرب نهر خاصة صو ويضم هذا الحي دار رفيق السفر أحمد ودار شقيقي أردال وهو الشقيق الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد أن أنتزع يد المنون أشقائي أورخان وياووز ويلماز وهم في أوج شبابهم.
ترجلنا من السيارة في طريق بغداد وهو الطريق الرئيسي المتجه نحو العاصمة ولاحت لي طلائع قوات الميليشيا الكردية وهي تجوب الطريق ذهابا وإيابا بالسيارات وهم بملابسهم التقليدية الكردية وكانوا مدججين بالأسلحة الخفيفة وكان قسم منهم واقفين على طوار الطريق على شكل مجموعات مشكلين نقاطا للسيطرة والتفتيش.
بعد أن ودعنا وشكرنا السائق ألذي أقلنا أنعطفنا مباشرة نحو يمين الطريق ودلفنا إلى الزقاق الذي كان فيه دار أحمد.
كان قدوم أحمد مفاجأة لعائلته وأستقبلوه بفرح وبعد أن أطمأن على سلامتهم ودعني بعد أن أخرج من حقيبته بيريتي العسكرية و ناولني إياها.
حثثت الخطى نحو دار شقيقي ألذي كان يبعد مسافة قليلة من دار أحمد، ألفيت شقيقي جالسا على كرسي مع أحد جيرانه أمام الدار فأرتسمت الدهشة عل وجهه عند رؤيتي وعانقني بحرارة وكانت فرحتي بلقائه وسلامته كبيرا.
علمت من أردال بأنّ شقيقتاي قد تركوا مسكنهم في حي البعث هربا من القصف الشديد على ذلك الحي إلى بيت شقيقي المتوفي يلماز في حي المنصور القريب من حي غرناطة وأخبرني بأنّه زارهم هناك صباح ذلك اليوم وأطمأن على سلامتهم، كما علمت منه بأنّ عائلتي تركوا بيت عديلي علي وأنتقلوا إلى بيت شقيقة علي في حي الضباط ثم قفلوا راجعين إلى مسكن والدة زوجتي الواقع في الجزء الشمالي من المدينة في محلة تبة وذلك بعد إنتهاء الإشتباكات في ذلك الحي.
بعد سماعي هذه الأنباء زال قسم من القلق الذي لازمني طوال رحلة الشقاء.
بادرني شقيقي بالسؤال الذي واجهني كثيرا خلال مكوثي في مدينة كركوك:
هل صحيح بأنّ العاصمة بغداد سقطت بأيدي المعارضة وهرب الرئيس صدام حسين إلى روسيا؟
أعلمت شقيقي بتفاصيل الوضع في بغداد وبعدم صحة الإشاعات ألتي كانت الأحزاب الكردية تبثها في المدينة وبأنّ الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري بدأت بالتحشد في أطراف مدينة كركوك للبدء بالهجوم على المدينة.
أتجهت مع أردال نحو دار شقيقي يلماز بعد أن أستبدلت ملابسي العسكرية بملابس مدنية أعارني إياها شقيقي وتم إخفاء هذه الملابس مع رتبتي العسكرية ودفتر الخدمة العسكرية في مكان أمين تحسبا لأي طاريء.
بعد مسيرة نصف الساعة وصلنا في الساعة الخامسة مساء إلى دار شقيقي وبعد الإطمئنان على سلامتهم وإعطائهم موجزا عن مغامرتي قررت البدء بالمرحلة الأخيرة من البحث للعثور على زوجتي وأطفالي.
ودعت شقيقي أثناء رحلة العودة بالقرب من زقاقهم وواصلت المسير متجها نحو شمال المدينة بالرغم من التعب والإنهاك التي كنت أعاني منه نتيجة المسيرة المضنية ألتي أستغرقت تسع ساعات.
كانت الشمس قد بدأت بالمغيب في ذلك المساء الربيعي وجيوش الظلام تحفزت للزحف على ما تبقى من من خيوط الضياء التي بدأت تتقهقر تدريجيا.
كانت أنباء الأضطرابات في العاصمة بغداد قد وصلت إلى مدينة الذهب الأسود وكان جميع الذين ألتقيتهم من الأقارب متيقنين بأنّ سلطة الرئيس صدام حسين وحزب البعث الحاكم قد ضعفت وبأنّ الحكومة ستسقط أمام الضربات الماحقة للمعارضة.
في هذه الأثناء توقفت سيارة نقل ذو حوض خلفي بالقرب من أحد أفراد الميليشيا الكردية وطرق سمعي الحديث المتبادل بينه وبين سائق السيارة وكان الحديث باللغة التركمانية.
أغتنمت هذه الفرصة بالرغم من المخاطر المحفوفة بها وسألت السائق عن وجهته وبعد أن علمت بأنّه متجه إلى منطقة قريبة من هدفي، طلبت منه أن يقلني معهم وقد حظي طلبي بالقبول.
أرتقيت الحوض الخلفي للسيارة وجلست قبالة أحد أفراد الميليشيا الكردية ( البيشمركة) ألذي كان مسلحا ببندقية روسية الصنع من نوع الكلاشنكوف.
تحركت السيارة ببطء مخترقة عتمة الليل بضوء مصابيحها وأتجهت نحو شمال المدينة.
أثناء مرورنا أمام مبنى المحافظة بصق الكردي على صورة للرئيس صدام حسين مرسومة على جدارية كبيرة والتي كانت مقامة قرب المبنى وقد تم تشويهها بالأصباغ الدهنية، وقال وهو يتفحصني بنظراته الثاقبة:
إنّ هذا الشارع الذي نمر به والذي كان يُسمى بشارع الثورة سيتغير إسمه من الآن وصاعدا إلى شارع ( مام ريش ) وهو أحد قيادي الميليشيا الكردية ألذي قُتِلَ في إحدى المعارك في شمال العراق أثناء حركة تمرد سابقة.
في تلك اللحظات خطر ببالي خاطر غريب، فهذا الكردي المتمرد والمتحمس لدعواه الذي يجلس قبالتي لو علم بأنّي أحد ضباط الجيش العراقي لفتك بي في طرفة عين، ولكني طردت هذا الخاطر من عقلي مبتسما في قرارة نفسي.
وصلت السيارة إلى هدفها وبعد أن ودعت السائق شاكرا جميله تلمست طريقي في ظلام الليل الدامس نحو محلة تبه حيث تسكن عائلة والدة زوجتي متحاشيا الشوارع الرئيسية ونقاط التفتيش المنتشرة فيها.
في الساعة السابعة مساء وصلت إلى باب البيت ولكن السكون والظلام كان يلفه ولم أجد ساكنا واحدا فيه، وكانت الحالة في دار عديلي أسعد المجاور مماثلة وفشلت محاولتي الثالثة للعثور على أي ساكن في البيت الثالث الذي طرقت بابه وهو لأحد الأقرباء الساكنين في نفس الزقاق.
خارت قواي وكدت أسقط من الإرهاق ولكن بصيص شمعة كان يخترق شباك أحد الجيران بوجل أنعش آمالي، فطرقت الباب وأعدت الطرق عدة مرات وبعد برهة تحركت ستارة الشباك بتوجس وسمعت صوتا يستفسر من وراء الشباك عن الطارق الغريب في تلك الليلة العجيبة.
تحفزت للإجابة وعرَّفتُ الرجل بهويتي ومرامي، بعد فترة وجيزة فُتِحت ضلفة الباب واصبحت وجها لوجه مع الجار العزيز ألذي رحب بي ترحيبا حارا وأبلغني بأنّ عائلتي تركوا الدار في الصباح الباكر وذهبوا إلى بيت شقيقة زوجتي فخمنت بأنّهم في دار شقيقتها الكبرى سميعة في محلة شاطرلو ألذي يبعد عن موقعي الحالي بمسيرة نصف ساعة.
أسقطت من قائمة بحثي بيت أختها الصغرى لأنّ زوجها كان منتميا إلى حزب البعث الحاكم لذلك لا يستطيع المكوث في مسكنه خوفا من أذى الميليشيات الكردية.
ودعت الجار الطيب شاكرا جميله ودعوتِه لي بالمبيت في داره وحثثت الخطى صوب محلة شاطرلو مخترقا الأزقة ومتحاشيا الشوارع الرئيسية ووصلت إلى هدفي في الساعة الثامنة مساء، طرقت الباب آملا أن أجد عائلتي هنالك لأنهي رحلة العذاب ألتي أستغرقت ثلاثة أيام سرتُ في يومها الثالث حوالي عشر ساعات مشيا على الأقدام.
فتح الباب الطفلة سوزان وأرتفع صوتها تبشر زوجتي بقدومي، فأيقنت بأنّ المرحلة الأولى من رحلتي شارفت إلى نهايتها.
كانت فرحتي بلقاء عائلتي كبيرة وسعادتي بسلامتهم طاغية، فما أحلى اللقاء بعد طول إفتراق وما أطيب العناق بعد طول إشتياق.
بعد أن حدثتهم عن تفاصيل مغامرتي، تحدثت زوجتي عن معاناتهم وقصة إحتلال ميليشيا الأحزاب الكردية لمدينة الذهب الأسود قائلة:
” في صبيحة يوم الأثنين المصادف للثامن عشر من شهر آذار أي قبل ستة أيام طرق أسماعنا أنباء إحتلال طلائع ميليشيا الأحزاب الكردية للأحياء السكنية في شمال وشرق المدينة وكانت محلة تبه ألتي تسكن فيها عائلة والدتي ضمن تلك المحلات وكنا في تلك الأثناء ضيوفا في بيت شقيقتي الصغرى أحلام في محلة شاطرلو.
كان ولدي البكر وشقيقه في بيت جدتهم في محلة تبه وقد أرسلتهم مع شقيقتي كريمة أثناء زيارتها لنا لغرض الإستحمام في بيت جدتهم لأنّ الكهرباء والماء كانا مقطوعين في محل إقامتنا وكنا نضطر لجمع مياه الأمطار من أجل إرواء عطشنا.
أستطردت زوجتي قائلة:
عند سماعي بأنباء إحتلال محلة تبه بدأ القلق يراودني على مصير الطفلين المعزولين في تلك المنطقة وزاد من قلقي إلتقاط المذياع للمكالمات اللاسلكية للطائرات السمتية التي كانت تُنبيء بالمباشرة بقصف تلك المنطقة لتحشد قسم من البيشمركة فيها، لذلك عزمت على إختراق منطقة القتال الذي كان ناشبا بين قوات الجيش والميليشيا الكردية في شوارع الحي.
أصطحبت معي إمرأة من الجيران توثبت لمساعدتي لإنقاذ الطفلين البريئين من المخاطر المتوقعة نتيجة القصف الجوي.
بعد نصف ساعة من المسير تمكنا من إختراق منطقة الإشتباك وكانت طلقات البنادق تئز من فوق رؤوسنا ووصلنا إلى بيت والدتي، وبعد الإطمئنان على سلامة الطفلين وسلامة والدتي وأخواتي قفلنا راجعين بصحبة الطفلين من نفس الطريق إلى دار شقيقتي الصغرى أحلام فوجدتها بإنتظاري على أحر من الجمر.
كانت شقيقتي متهيأة للرحيل وقد كومت الأغذية وما خف حمله وغلا ثمنه في سيارتنا ألتي كانت تحوي قليلا من الوقود، وأعلمتني بنيتهم ترك الدار خوفا من وصول القوات الكردية إلى المحلة وإيذائهم لزوجها علي.
أستطردت زوجتي وهي تحكي معاناتهم قائلة:
أتجهنا صوب جنوب المدينة وكان هدفنا الوصول إلى دار شقيقة علي في حي الضباط التي كانت تعيش مع أشقائها بعد إستشهاد زوجها الضابط في الجيش العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
كنا نعتقد بانّ تلك المنطقة آمنة ومن المستحيل وصول القوات الكردية إليها نظرا لحجم قوات الجيش التي كانت محتشدة للدفاع عن المدينة.
في صباح اليوم التالي جفلنا من النوم على أصوات الطلقات النارية وبعد ساعات قليلة أحتلت المعارضة الكردية حي الضباط بكامله وبدأت عمليات النهب لمخازن الأغذية الحكومية القريبة من الحي.
في ظهيرة نفس اليوم طرق زمرة من افراد البيشمركة الأكراد باب الدار وهم مدججون بالأسلحة الخفيفة وبعد الإستفسار عن عائدية ملكية السيارات الثلاث المتواجدة في الدار وبعد معرفتهم بأنّ زوجي غير متواجد في المدينة عزموا على سلب سيارتنا بحجة أنّ مالكه ضابط في الجيش وهو الآن يحاربهم في صفوفها.
بعد محاولات عديدة تمكنت من إقناعهم بأنّ زوجي ليس ضابطا بل مهندسا في وزارة الإسكان والتعمير، فلان عريكتهم أمام إصراري بعدم تسليمهم مفاتيح السيارة فتركونا إلى حين.
في اليوم التالي أخترقت شظية قذيفة مدفع زجاج الشباك لإحدى غرف النوم وتكوم الزجاج المتناثر فوق الطفلة الرضيعة زينب وهي البنت الصغرى لشقيقتي أحلام.
بعد ساعة ونيف من ذلك الحدث سمعنا طرقا عنيفا على الباب الخارجي للدار وكان التيار الكهربائي والماء مقطوعا منذ اليوم الأول من إحتلال الميليشيات للأحزاب الكردية لمدينة الذهب الأسود.
هرعنا نحو الباب الخارجي للمسكن فإذا بمجموعة أخرى من المتمردين الأكراد متجمهرين أمام الدار وبعد أن تأكدوا من ملكية السيارتين العائدتين لشقيقة وشقيق علي أستفسروا عن مالك سيارتنا التي كنا قد نقلناها إلى مرأب المسكن المجاور الخالي من سكانها لغرض إخفائها عن أنظارهم.
بعد تيقنهم من عدم وجود مالك السيارة في الدار عزموا لأخذها ولم تفلح محاولاتي لإقناعهم بالعدول عن قرارهم المجحف.
في هذه الأثناء تعرفت على أحد أفراد الزمرة وهو من ألأكراد الساكنين في كركوك وكان يسكن في نفس الزقاق المتواجد فيها دار والدتي في محلة تبه، فأستطاع هذا الجار من إقناع زملائه بالعدول عن عزمهم وأدعى بأنّه يعرف زوجي ولا علاقة له بالجيش من قريب أو بعيد.
بعد إبتعادهم عن الدار تنفست الصعداء وقررنا الفرار من حي الضباط إلى دار شقيقتي الأخرى سميعة التي تسكن مع زوجها وطفليها في محلة شاطرلو ولكن علي زوج شقيقتي أحلام أعتراه خوف من ألمجيء إلى تلك المنطقة المزدحمة بالأكراد الساكنين والذين يعرفونه لأنّه يسكن في نفس المحلة.
في هذه الأثناء ألتقى شقيق علي الذي خرج لزيارة والديه بشقيقي محمود مصادفة وأخبره بعزمنا على ترك حي الضباط الذي بدأ القصف المدفعي للجيش العراقي يزداد عليه لتمركز قسم من القوات الكردية فيه.
حضر شقيقي محمود على عجل وأصطحبنا بسيارتنا إلى محلة شاطرلو ثم رجع لإصطحاب شقيقتي أحلام وزوجها بعد أن تطوع أحد جيران شقيقتي من الأكراد الطيبين من سكنة مدينة كركوك لمرافقتهم وحمايتهم طوال الطريق.
بعد إستقرارنا في دار شقيقتي في محلة شاطرلو قضينا هنالك ثلاثة أيام ضيوفا عليهم وأقترح جارهم الكردي بأن يخفي سيارتنا في مرأب دارهم حفاظا عليها من النهب “.
بعد إكمال زوجتي حديثها وإحاطتي علما بمقدار معاناتهم، عزمت على إنقاذهم من هذا الكابوس المرعب بأقرب وقت ممكن، لذلك بدأت البحث عن الوقود لسيارتي ولكن جميع محاولاتي بالعثور على الوقود وعلى منفذ آمن للخروج من المدينة بالسيارة باءت بالفشل، فالطريقان المؤديان نحو العاصمة بغداد كانا محفوفين بالمخاطر وقد حدثني أحد معارفي بأنّ طائرة سمتية تابعة للجيش العراقي قصفت سيارة إحدى العوائل بينما كانوا يحاولون إختراق الأرض الحرام الذي يفصل الميليشيا الكردية عن قوات الجيش العراقي.
أثناء بحثي عن الوقود لسيارتي عرجت على عدد من محطات الوقود ولاحظت بأنّ القوات الكردية قد نهبوا مولدات الطاقة الكهربائية لتلك المحطات ونظرا لإنقطاع التيار الكهربائي في المدينة فإن مضخات تزويد الوقود في تلك المحطات لم تكن تعمل، وشاهدت عدد من أفراد الميليشيا الكردية يحاولون إستخراج الوقود من الخزانات المتواجدة تحت أرض المحطة بإستخدام حبل مربوط بدلو.
عمليات النهب في المدينة شملت محتويات جميع دوائر الدولة من الأثاث والسيارات ومخازن الغذاء الحكومية التابعة لوزارة التجارة التي كانت تزود الأهالي بالمواد الغذائية حسب نظام البطاقة التموينية،كما قام الغوغاء بنهب محتويات مخازن مديرية تربية كركوك من الأقلام والدفاتر المدرسية وكذلك محتويات دور الضباط والقيادات الحزبية وقيادات الجيش الشعبي التابعة لحزب البعث العربي الأشتراكي.
إنّ ظاهرة النهب تحصل دوما عندما تفقد الحكومات السيطرة على بعض المناطق وذلك بتأثير البطالة والجوع والعوز التي ترافق فترات الحروب والكوارث الطبيعية والحصار الأقتصادي وذلك بدافع غريزة البقاء.
في اليوم الثاني والثالث من مكوثي في مدينة كركوك تصاعد القصف المدفعي وقصف الطائرات السمتية وكانت القذائف والقنابل تسقط على أحياء المدينة بصورة عشوائية وكانت الخسائر في الأرواح جسيمة.
بدأ سكان المدينة بالفرار بالسيارات نحو المنفذين الوحيدين السالكين وهما الطريقان المؤديان نحو مدينتي أربيل والسليمانية التي كانتا تحت سيطرة قوات ألأحزاب الكردية.
أما العوائل ألتي قررت الإتجاه جنوبا نحو مدينة تكريت فلم يكن لها إلا خيار واحد وهو السير مشيا على الأقدام والخروج من خلال حي واحد حزيران والعبور إلى الطريق المؤدي إلى مدينة تكريت ومن المنفذ الوحيد الذي دخلت منه إلى مدينة الذهب الأسود قبل ثلاثة أيام.
في ظهيرة اليوم الرابع من مكوثي في المدينة لاحظت بأنّ قسم من قوات الميليشيا التابعة للأحزاب الكردية قد بدأت بالإنسحاب من المدينة مصطحبة معهم معظم العوائل الكردية بإتجاه مدينتي أربيل والسليمانية.
أيقنت بأنّ ساعة الصفر قد دنت وأنّ الهجوم البري المرتقب لقوات الحرس الجمهوري والجيش العراقي بات وشيكا، لذلك قررت الفرار من المدينة مع عائلتي نحو مدينة تكريت ومن ثم محاولة الوصول إلى العاصمة بغداد.
بعد أن وصلنا بسيارتي إلى مسافة قريبة من طريق تكريت لم أستطع إختراق الأرض الحرام لإشتداد القصف الجوي والإشتباك بين الطرفين المتقاتلين فعدلت عن عزمي وأيقنت بأنّ الموقف هناك محفوف بالمخاطر لذلك قفلت راجعا وتوجهت نحو دار شقيقي أردال وقد قررت في تلك اللحظة محاولة الخروج من المدينة سيرا على الأقدام نحو الطريق الذي يؤدي إلى مدينة تكريت في صبيحة اليوم التالي.
وصلنا إلى دار شقيقي والقصف المدفعي والجوي يزداد عنفوانه وحمم النيران تتساقط على جميع أجزاء المدينة بلا رحمة.
أخبرني شقيقي بأنّ شقيقتي آيسل عرجت إليه بسيارتها للإستئناس برأيه حول قرارهم الرحيل بإتجاه مدينة أربيل وبأنّه لم يؤيد هذه الفكرة لذلك أسرعت بسيارتي إلى دار زوجة شقيقي الراحل يلماز لأمنعهم من الإقدام على هذه الخطوة الغير الحكيمة فالمأساة التي ستحدث في مدينة كركوك ستتكرر في أربيل والسليمانية وبعنف أشد لكون غالبية سكان هاتين المدينتين من الأكراد ألذين تمردوا على حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة الرئيس صدام حسين.
حين وصولي إلى الدار لم أجد فيه غير العجوز رؤوف والد زوجة شقيقي وأعلمني بأنّ جميع من في الدار ذهبوا إلى دار أبن خالتي فيصل وذلك للسفر معهم إلى مدينة أربيل.
قدت سيارتي بسرعة نحو دار أبن خالتي لأنّ دقائق قليلة وربما لحظات معدودة ستحدد مصيرهم، ووصلت إلى الهدف في اللحظة المناسبة فالحقائب كانت محزومة ومشدودة إلى سقف السيارات وقافلة الضياع كانت على وشك الحركة نحو المجهول.
بعد الحديث مع المجموعة أستطعت إقناعهم بالعدول عن قرارهم وأخبرتهم بعزمي الخروج من المدينة سيرا على الأقدام من المنفذ ألذي كنت أعرفه في حي واحد حزيران، وقد وافق الجميع على الإنضمام إلى قافلة الغد فيما عدا أبن خالتي وعائلته فقد كانوا عازمين على الخروج بإتجاه مدينة أربيل ليس من مدينة الذهب الأسود فقط بل من العراق.
إنّ بعض النماذج الإنسانية أثناء تلك اللحظات العصيبة وبعد معايشة مثل هذه المآسي لا تأبه بأي رابطة تربطه بالوطن فغريزة البقاء أقوى من كل رابط والنداء الوحيد ألذي تسمعه في تلك اللحظات الأليمة هو الخلاص من هذا الجحيم الذي خلقه بنو البشر في الأرض.
قضينا تلك الليلة مسهدين وكانت قذائف المدفعية تمزق سكون الليل بين فينة وأخرى، وفي صبيحة اليوم التالي دب النشاط في أوصالنا وتحركت قافلتنا المكونة من عشرين فردا معظمهم من النساء والأطفال بقيادتي سيرا على الأقدام صوب الطريق الرئيسي ألذي يؤدي إلى مدينة تكريت مخترقين الأحياء بإتجاه منفذ النجاة اليتيم في حي واحد حزيران.
قبل مغادرتي دار شقيقي أردال أخفقت جميع محاولاتي لإقناعه بالإنضمام إلى قافلتنا مع عائلته فقد أخبرني بأنّه لا يستطيع السير هذه المسافة الطويلة لأنّ صحته لا تسمح بذلك فقد كان كاحله ملتويا نتيجة لحادث، لذلك تركت سيارتي في مرأب داره وسلمته المفاتيح ليستعين بها إذا أراد الخروج إلى ضواحي المدينة عند بدء الهجوم المرتقب للحرس الجمهوري والجيش العراقي.
قبل الوصول إلى حي واحد حزيران لاحظت بأننا لم نكن القافلة الوحيدة في تلك الأنحاء فالمئات من العوائل كانت تحث الخطى قادمة من عدة إتجاهات نحو الهدف كأننا جداول مياه تشق طريقها لتصب إلى النهر الكبير ألذي يتجه بدوره بفعل جاذبية الأرض نحو المصب الآمن.
بعد مسيرة ساعتين وفي حوالي الساعة العاشرة صباحا عبرنا خط السكة الحديدية والفتحة العتيدة في السياج المحاذي لها بدون حادث سوى بعض الطلقات النارية الطائشة التي مرت فوق رؤوسنا.
رحب بنا الجنود والضباط بعد وصولنا إلى الطريق الرئيسي الذي يتجه نحو مدينة تكريت مدينة الرئيس صدام حسين.
فور وصولنا إلى مقربة قطعات الجيش بدلت ملابسي المدنية بملابس عسكرية التي كنت قد أخفيتها في إحدى الأكياس لأتمكن من الحصول على سيارة لنقل مجموعتي إلى العاصمة بغداد.
بعد فترة من الإنتظار بجانب الطريق قدمت شاحنة عسكرية روسية الصنع من نوع إيفا تقطر خلفها خزانا للماء وتوقف سائقها بناء على إشارتي وتسلق الجميع حوضها الخلفي وتحركت بإتجاه الجنوب ولكن الشاحنة توقفت بعد قطعها عدة كيلومترات في تقاطع إحدى الطرق وأعلن سائقها بأنّه سيتوجه إلى قضاء الحويجة لجلب الماء لأنّه مكلف بهذا الواجب.
ترجل الجميع من الشاحنة وبدأنا بالإنتظار بجانب الطريق مرة أخرى، وبعد نصف ساعة من الإنتظار توقفت سيارة نقل عسكرية صغيرة ذو حوض خلفي بالقرب منا ولاحظت بأنّ ضابطا برتبة عميد كان يجلس بجانب السائق، وسمعت في هذه الأثناء أحد الجنود الواقفين بقربي يحادث زميله قائلا: بأنّ هذا العميد التركماني ينتظر قدوم عائلته المحصورة في المدينة قبل أن يبدأ الهجوم البري.
أغتنمت تلك الفرصة السانحة وطلبت من العميد بعد أن أديت له التحية العسكرية بأن يقل مجموعتي إلى نقطة السيطرة المقامة بالقرب من قناة الري وهي المنطقة التي قضيت فيها الليلة العصيبة قبل أربعة أيام.
وافق العميد على مد يد المساعدة وأنتقل خلف مقود السيارة ليفسح المجال لأكبر عدد ممكن من الأفراد بالصعود إلى السيارة، وركبت مع زوجتي والطفل الرضيع أحمد في المقعد الأمامي الوحيد بعد ترجل الجندي السائق من السيارة بأمر من قائده بينما تكوم باقي مجموعتنا في الحوض الخلفي للسيارة فيما عدا اربعة من الشباب تخلفوا عن الركوب لعدم وجود موطيء قدم فيها لذلك قرروا تعقبنا سيرا على الأقدام.
بعد نصف ساعة من المسير لاحت من بعيد دعامات الجسر المشيد على قناة الري وترجلنا من السيارة في الشاطيء الآخر من القناة وبعد أن شكرت الضابط أفترشنا الأرض بالقرب من قطع المدفعية والراجمات بأنتظار المتخلفين من القافلة.
لاحظت قرب موقع الإنتظار حركة مستمرة لقطعات الجيش والحرس الجمهوري كأنّها تتهيأ لبدء الهجوم البري على مدينة الذهب الأسود وتبينت من بين الضباط والقادة حسين كامل زوج أبنة الرئيس صدام حسين وعزت الدوري نائب مجلس قيادة الثورة. أستغرقت فترة الإنتظار هذه ثلاث ساعات ألتحق في أثنائها بقية أفراد المجموعة المتخلفين بالقافلة وأغتنمت فترة الإنتظار للبحث عن وسيلة نقل تقلنا إلى بغداد.
باءت جميع محاولاتي للحصول على وسيلة لنقلنا إلى بغداد بالفشل ولاحظت بأنّ قسم كبير من العوائل تعتلي متون ناقلات الدبابات المتجهة إلى مدينة تكريت بعد إفراغ حمولتها كأنّهم أكوام من النمل ألتصقت بقطعة من السكر وكان منظرا غريبا ومعبرا عن المآساة الإنسانية في زمن الحروب.
في الساعة الثانية ظهرا قدمت حافلة كبيرة من بغداد تقل الجنود العائدين من إجازاتهم، وبعد أن علمت بأنّ الحافلة تروم الرجوع إلى بغداد تمكنت من تأمين مقاعد لأفراد مجموعتي في الحافلة ثم تحركت الحافلة صوب الجنوب متجهة نحو العاصمة بغداد.
ألقيت نظرة الوداع الأخيرة من الشباك الخلفي للحافلة على مدينة ألذهب ألأسود فلم أرى سوى ألدخان الأسود ألمتصاعد من إحدى آبار ألبترول ألتي أحترقت أثناء هذه ألأحداث ألدامية فلفني موجة من الحزن وألأسى وألقلق على مصير هذا ألشعب ألصابر ألذي أُصيب بلعنة ألذهب ألأسود.

المؤلف: كامل علي
مهندس معماري
باحث في ألمعتقدات وألأديان يؤمن بالعلمانية والديموقراطية وحقوق ألإنسان.
مؤلفاته:
ثورة ألشك
أساطير ألأولين
ألرائيليةمحاولة للتزاوج بين ألدين والعلم
لعنة ألذهب ألأسود

لعنة الذهب الأسود
في منتصف ليلة ألخامس والعشرين من شباط عام 1991 وبينما كانت رحى حرب ألخليج ألثانية تدور في وطني أصابني ألأرق، كان صوت ألرعد في ألخارج يدوي كدوي أنفجارات ألقنابل ألّتي كانت تنفجر فوق رؤوسنا منذ شهر ونيّف في سمفونية عنيفة وعارمة، وفي تلك أللحظات لَمْ أستطعْ أنْ أمنع نفسي مِنْ أستعادة أحداث حياتي أمام ناظري، هذه ألأحداث التراجيدية ألّتي أستمرّت أثنين وأربعين عاما.
وممّا زاد في أضطراب تفكيري وأحاسيسي ظروف هذا ألصراع ألدامي مِنْ أجل ألذهب ألأسود ألّذي أحرق ألأخضر وأليابس في منطقة الخليج ألعربي.
لقد أحسستُ برغبة عارمة لكتابة هذه القصّة ألّتي تحكي قصّة إنسان منسي في غياهب الحياة، هذا ألإنسان ألّذي ينتظر نهايته ألمحتومة وألّتي نسميها الموت…….أللغز المُحيِّر ألّذي لَمْ يستطعْ أحد مِنْ فكِّ طلاسمه.
في هذه أللحظات ألمُتَّسمة بألتأمُّل بدأتُ أتساءل لِمَ أشعر بهذه ألرغبة ألجنونية لكتابة هذه ألقصّة؟ هل هي محاولة للخلود؟ ولكنَّ كلكامش حاول قبلي أنْ يُخلِّدَ نَفسَهُ فلَمْ يُفلِح، وباءت محاولات ألكثيرين مِنْ بعده بألفشل أيضا. إنَّنا كبطل ألأسطورة أليونانية سيزيف ألّذي أستطاعَ أنْ يخدع إله الموت ثانتوس وكبّله، مما أغضبَ كبير الآلهة زيوس، فعاقبه بأنْ يَحمِل صخرة مِنْ أسفل ألجبل إلى أعلاه، فإذا وصلَ القِمَّة تدحرجت ألصخرة إلى ألوادي، فيعود إلى إصعادها إلى القِمَّة، ويظلُّ هكذا حتّى ألأبد، لذا أصبحت هذه ألأسطورة رمزاً للعذاب ألأبدي. إنَّ أشد ما يؤلِم في ألحياة أنَّ ألإنسان يسقط شهيداً عندما يشيخ، فهو كألثمرة ألّتي تحين أوان قطافها عندما تنضج، وألأشد إيلاما مِنْ هذا أنْ تسقط ألثمرة قبل ألنضوج.
بألرغم مِنْ هذه ألأفكار ألّتي راودتني بدأتُ بكتابة هذه ألصفحات، فلعلني أكتشفُ فيها نفسي وأملأ ألفراغ ألّذي أُحسُّ به نتيجة لتعطّلي عن ألعمل بسبب ظروف هذه ألحرب ألمُدمِّرة. كان سبب تعطّلي عن ألعمل أستدعائي لخدمة ألأحتياط للمرة ألثالثة بعد أنْ أكملت ألخدمة ألألزامية عام 1977 كضابط مجنّد في مديرية ألأشغال ألعسكرية، وعند نشوب ألحرب تمَّ إخلاء وحدتنا ألعسكرية إلى قضاء ألعزيزية لتقليل ألخسائر في صفوفنا لأنَّ وحدتنا كانت تُعتبر مِن وحدات ألمقر ألعام وليست لها خبرة قتالية ثُمَّ نُقِلتُ إلى منطقة إخلاء ثانية بالقرب مِن قضاء بلدروز. لقد بدأت بكتابة هذه ألقصّة في معسكر ألإخلاء ألثاني، وسأبدأ هذه ألقصّة كما بدأَتْ قصّة كلّ إنسان عاش ويعيش وسيعيش في غياهب هذا ألكون ألعجيب مِنْ لحظة إطلاق ألصرخة ألأولى….. مِنْ لحظة ألميلاد……
ولِدّتُ في منتصف شهر حزيران مِنْ عام 1949 في مدينة كركوك، هذه ألمدينة ألتاريخية ألّتي تقع في ألشمال ألشرقي مِن ألعراق. تنتصب في مركز مدينتي وعلى ضفاف نهر خاصة صو قلعتها ألتاريخية ألّتي تمتد تاريخها إلى ألفترة ألآشورية، ويُقال أنَّ ألملك ألآشوري ناصربال بنى هذه ألقلعة ألعتيدة بملأ ألمناطق ألمستوية ألمحصورة بين ثلاث تلال بألتراب وأنّه أسْتخدَم ألأسرى مِن بني إسرائيل لهذا ألغرض، ويوجد في ألقلعة مقامات ثلاثة أنبياء من بني إسرائيل، هم دانيال وعزير وحُنين، هذه ألمقامات تغفو بهدوء تحت سقف جامع قديم يُدعى بجامع ألنّبي دانيال، ويحيط به مساكن قديمة لقسم مِن أهالي ألمدينة.
ساكني كركوك يُسمّون ألجهة ألشرقية مِن ألمدينة بقلعتها بالصوب ألكبير وهو في الأصل مدينة كركوك ألقديمة، أمّا ألجهة ألغربية مِن ألمدينة فتُسمّى بألقورية. المجرى ألجاف لنهر خاصة صو يُقسِّم ألمدينة إلى شطرين ويمتلأ ألمجرى بسيول ألأمطار ألّتي تهطل في ألشتاء على ألتلال وألجبال ألمحيطة بالمدينة مِن ألجهة ألشمالية وألشمالية ألشرقية.
يرتبط شطرا مدينة ألذهب ألأسود بجسرين مبنيين مِن ألخرسانة ألمسلّحة ويقعان على جانبي ألقلعة ألتاريخية، بألقرب مِن ألجسر ألجنوبي ألّذي سُميَّ بعد مجزرة كركوك ألرهيبة بجسر ألشهداء هنالك آثار جسر حجري قديم بناه ألعثمانيون وكانت تُسمّى بطاش كوبري أي ألجسر ألحجري.
بعد إعادة فتح بغداد مِنْ قِبل ألسلطان ألعثماني مراد ألرابع، سيطر ألعثمانيون على مُعظم أنحاء ألعراق ومِن ضمنها مدينة كركوك، وخلال ألحكم ألعثماني للعراق كانت ألمدينة تابعة إداريا إلى ولاية ألموصل، ولايزال مبنى مقر ألجيش ألعثماني قائما ويسميّه أهل ألمدينة بألقشلة وتعني ألمقر ألشتوي ويسمّيه ألبعض أيضا بناية ألسراي، يتميّز هذا ألمبنى بأعمدته ألحجرية ألدائرية ألضخمة وألّتي تسند أقواسا نصف دائرية عند مدخل ألرئيسي للمبنى، أمّا ألجدران ألخارجية على جانبي ألمدخل فهي مُسندة بجدران ضخمة عمودية على الجدار ألخارجي وسطح هذه ألجدران ألساندة مائلة بزاوية تتجه مِن ألأعلى إلى ألأسفل وقد ساعدت هذه ألجدران على صمود ألمبنى ألمكوّن مِن طابقين أمام عاديات ألزمن.
ألقاطنون في مدينة كركوك خليط مِن عدّة قوميات وأديان ومذاهب، ففيها يعيش ألتركمان وألعرب طوألأكراد ألمسلمون بسنّتهم وشيعتهم وألآثوريون وألارمن ومسيحيوا ألقلعة والسريان وألكلدان بإخوّة وصفاء منذ قرون بأستثناء بعض ألأحداث ألّتي عكّرت صفو ألمدينة، وكانت هذه ألمدينة تضم أيضا أقليّة مِن أليهود ألّذين هاجروا إلى فلسطين بعد تشكيل دولة إسرائيل عام 1948، كان أليهود يقطنون في ألشطر ألشرقي ألقديم مِن ألمدينة في محلّة خاصّة بهم كانت تُسمّى بمحلّة أليهود، ولعلّهم كانوا مِن أحفاد أولئك ألأسرى ألّذين جلبهم ألملك ألآشوري لبناء قلعته.
ولِدّتُ في هذه ألمدينة ألموغلة في أعماق ألتاريخ وألّتي شهدتْ مُعظم أحداث حياتي وذكرياتي في محلّة جقور ألّتي تقع في ألصوب ألكبير وتعني ألعميق أو ألحفرة وربّما سُميت بهذه ألتسمية لكون مساكنها مبنية على أرض منخفضة أو لكونها منخفضة نسبة إلى ألقلعة ألشامخة ألمجاورة لها.
أختار والدي لي بعد ولادتي أسم يالجن وهو أسم تركماني، وكانت ولادتي في شهر حزيران ألّذي تبدأ فيه درجات ألحرارة في ألعراق بألأرتفاع وخلال أيام أمتحانات ألوزارية ألعامّة للمرحلة ألأعدادية لشقيقي ألأكبر أورخان، ولعلَّ ولادتي خلال فترة ألأمتحانات لها علاقة بأحداث حياتي ألمقبلة وألّتي كانت للدراسة وألأمتحانات وألنجاح وألرسوب فيها أبلغ ألأثر في مجرى حياتي، إنَّ ألإنسان خلال رحلته ألقصيرة في ألحياة يخضع شاء أمْ أبى لإمتحانات لا أول لها ولا آخر، ففي ألمدرسة وألجامعة امتحانات، وفي ألحياة أليومية أمتحانات لا حصر لها وألله يمتحننا ويبتلينا كلّ يوم لفصل ألخبيث مِن ألطيّب.
كان والدي محمّد فاتح رجلا مكافحا ينحدر مِن عائلة تركمانية، وكان جدّي ملّا صالح يُعلِّم ألقرآن للصبيان وقد أستشهد في معركة جناق قلعة ألّتي جرت بين ألجيش ألعثماني وألحلفاء ألغربيين في آسيا ألصغرى وعلى ضفاف مضيق ألبسفور.
بعد وفاة جدّي تزوّج والدي من فتاة تركمانية مِن عشيرة صاري كهية ألّذين كانوا يسكنون في ألقورية في محلّة تُسمّى بصاري كهية، وقسم منهم كان يسكن في قرية بلاوة ألتابعة لهم وكانوا يمارسون زراعة ألقمح وألخضراوات. هذه ألقرية أزالها مِن ألوجود صدّام حسين أثناء حكمه بسبب سياسة ألتعريب ألّتي كان يمارسها ولكونها مجاورة لحقول باباكركر ألغنية بألنفط. عشيرة صاري كهية أنجبت بعض ألقادة ألعسكريين ألّذين خدموا في ألجيش ألعثماني ومِن ثمَّ في ألجيش ألعراقي بعد تأسيس ألدولة ألعراقية وأذكر منهم ألقائد مصطفى راغب باشا ألّذي شارك في معارك فلسطين ألّتي جرت بين ألدول ألعربية وأليهود خلال فترة تأسيس دولة أسرائيل.
كانت هذه ألزيجات بين شاب مِن ألصوب ألكبير وفتاة مِن ألقورية أو ألعكس نادرا ما تحصل في مدينة كركوك، وقد تمَّ أختيار ألعروسة مِن قبل جدتي ملّا حليمة وألّتي كانت تعلّم ألبنات ألقرآن في ألكتّاب.
نتيجة لظروف ألحربين ألعالميتين ألأولى وألثانية، عانت عائلتي كبقية ألعوائل ألعراقية مِن شظف ألعيش، حيث كانت ألمواد ألغذائية شحيحة وأتذكّر أنَّ والدي حدثنّا عن تلك ألفترة في إحدى ألمرّات قائلا ” أثناء ألحرب ألعالمية ألاولى ذهبت إلى قرية مجاورة للمدينة سيرا على ألأقدام وأشتريت بالمال ألقليل ألّذي كنت أملكه كيسا مِن ألقمح ورجعت حاملا ألكيس على كتفي “.
أمّا فرص ألعمل فكانت محدودة في تلك ألفترة وقد أشتغل والدي في شبابه في مهنة ألسراجة في دكّان صغير في ألسوق ألكبير ألمجاور للقلعة، وكان في تلك ألفترة يرتاد ألتكيّة ألكبيرة المسماة بتكيّة ألشيخ جميل، وكان يتناوب على مشيخة هذه ألتكيّة أفراد مِن ألعائلة ألطالبانية وأشهرهم ألشاعر ألمعروف ألشيخ عبدألرحمن ألطالباني والد شاعر ألهجاء ألمعروف ألشيخ رضا ألطالباني. أفراد هذه ألعائلة كانوا يكتبون ألشعر بأللغة ألتركية وألكردية وألفارسية وأحيانا بأللغة ألعربية.
كان معظم ألدراويش يجتمعون في هذه ألتكيّة لذكر ألله وألصلاة وممارسة بعض ألطقوس ألخاصة بطريقتهم ألصوفية ألمعروفة بألكزنزانية، كجَرحِ أجسادهم بالسيف أو ألشيش بعد وصولهم إلى حالة ألغيبوبة نتيجة ألذكر ألمتواصل وبمصاحبة إيقاع ألدفوف وألنقّارات، وأعتقد أنَّ هذه ألممارسات نوع مِن أنواع ألتنويم ألمغناطيسي ألّذي يُمكّن ألجسم مِن تحمّل ألألم ولا علاقة لها بالدين ألإسلامي بدليل أنّها تُمارس مِن قبل فئات أخرى غير إسلامية كفقراء ألهندوس والبوذيين، ولكنّها كانت تُعتبر معجزة مِن ألمعجزات ألدينية، وكان ألدروايش يدعّون بأنَّهم يمارسون هذه ألطقوس والمعجزات أمام ألجمهور لتقوية إيمان ألنّاس وأقناع ألمشركين وأهل ألكتاب بصدق ألدعوة ألإسلامية.
ألطريف في ألأمر أنّه في حالة فشل بعض ألدروايش في تحقيق ألمعجزة وأصابتهم بجروح خطيرة فأنّهم يعزون سبب ذلك إلى وجود شخص جُنُب بين ألجمهور. كان والدي كبقية ألدراويش مسترسل ألشعر وزاهدا في ألحياة، حيث كان لا ينام إلّا على حصيرة مصنوعة مِن خوص ألنخيل. مِن الحكايات ألطريفة ألّتي كان والدي يرويها عن تلك ألفترة مِن حياته أذكر ألحكاية ألتالية: قال والدي ضاحكا ” كنّا نمارس ألذكر في فناء ألتكيّة في موسم ألصيف ونصدم رؤوسنا في ألحائط في بعض ألأحيان، وفي حالة معرفتنا بمراقبة ألفتيات لنا مِن ألسطوح ألمجاورة، كنّا نصدم ألحائط بشدة أكثر “.
روى لي أحد مِن معارفي وهو يكبرني في ألعمر، وقد عاصر تلك ألفترة حكاية ذو مغزى نقلا عن صديقه، قال ” كان صديقي يعمل سائقا لباص ذو سقف خشبي وكان يقوم بنقل ألعمّال مِن وإلى شركة نفط ألشمال لقاء أجرة، وكان في ألشركة مدير أنكليزي يدعى تشرشل. في أحدى ألأيام نقلَ ألسائق مجموعة مِن ألدراويش مع شيخهم مِن تكية ألشيخ جميل إلى قرية تقع على ألطريق ألخارجي ألّذي يربط كركوك بمدينة ألسليمانية، بعد أستقرار ألمجموعة في مسجد ألقرية وصلت سيّارة إلى ألقرية وترجّل منها شخص ذو سحنة بيضاء وبعيون زرقاء وكان لابسا ألزي ألكردي وعلى رأسه عمامة، قال ألسائق: سألت أحد ألساكنين في ألقرية: مَنْ هذا؟ فأجابني هذا ألشيخ ألكبير للطريقة. كان وقع ألأجابة عليَّ كألصاعقة، لأنَّ ألشيخ ألكبير لَمْ يكن سوى مستر تشرشل “.
بعد هذه ألمرحلة مِن حياة والدي ونتيجة لمطالعاته وتأثره بألثورة ألثقافية ألعلمانية ألكمالية في تركيا حدثَ تحوّل جذري في أفكاره ونظرته إلى ألدين وطقوسها، فترك ألدروشة وقصَّ شعره ألطويل وغيّرَ زيّه إلى زيّ أوربي ولبس قبّعة متأثرا بألأنقلابات ألّتي قادها مصطفى كمال أتاتورك بعد تأسيس ألجمهورية ألتركية على حطام ألأمبراطورية ألعثمانية. في أحدى ألمرّات سألت والدي عن سبب تركه للدروشة فقال ” في إحدى ألأيام وعندما كنت راجعا من ألتكيّة في ألليل وكان ألوقت متأخرا شاهدتُ قسم مِن زملائي ألدروايش ألمسلحين بألبنادق وهم يقطعون طريق أحد ألمارّة ويسلبونه، هذه ألحادثة تركت في نفسي جرحا عميقا ولَمْ أستطع ألتخلّص مِن تأثيرها، وقد تركت ألدروشة بعد هذه ألواقعة بعدّة أيام “. أعتقد أنَّ ألسبب ألآخر لتركه ألدروشة وألّذي لَمْ يذكره والدي هو استشهاد جدّي في معركة جناق قلعة، فهذه ألحادثة جعلت شعوره ألقومي يطفو فوق سطح لاشعوره، وبما أنَّ مُعظم مرتادي ألتكيّة وشيخهم كانوا مِن ألأكراد، فلمْ يستطعْ والدي ألتوفيق بين شعوره ألقومي ألجارف وكونه درويشا تحت أمرة كردي، وقد يكون سمِع بحكاية ألشيخ تشرشل وهذه ألحكاية تدلُّ على سيطرة ألأنكليز ألّذين كان والدي يمقتهم على ألطريقة ألكزنزانية في كركوك ويوجهونها لتحقيق مآربهم في كركوك ألغني بالذهب ألأسود.
رافقتْ هذه ألتغيُّرات ألدراماتيكية تركه لمهنة ألسراجة وأختار مهنة ألكُتبي ألّتي كانت مهنة قلّما يمتهنها أحد في تلك ألأيام وأسس أول مكتبة لبيع القرطاسية وألجرائد وألمجلّات وألكتب في مدينة كركوك، وخصص ركنا منها للمطالعة، وكان ألمولعون بألقرأة وألثقافة يرتادونها بأنتظام وسمّاها في ألبداية ( أوميد قرآت خانه سي ) وبعد فترة مِن خروجه مِن ألسجن غيّرَ ألتسمية إلى ( مكتبة ألأمل ) وهي ترجمة للتسمية ألتركية ألسابقة.
بدأ محمّد فاتح كفاحا مريرا مِنْ أجل لقمة ألعيش وألقيام بأود أسرته ألمتكونة مِن تسعة أفراد، كانت ألمكتبة ألمصدر ألوحيد لرزق ألعائلة، لقد كان أختياره لهذه ألمهنة نابعا مِن حُبّه للثقافة بألرّغم مِن أنّه لَمْ يتلّقى ألعلم في ألمدارس حيث تعلّم ألقرآة وألكتابة بأللغة ألعربية في كُتّاب والده. كانت هذه ألكتاتيب منتشرة في أرجاء ألعراق خلال تلك ألحقبة وكانت تشكّل ألمصدر ألوحيد ألشائع لتعلّم ألقرآة وألكتابة، وكانت كلّ محلّة تحوي كُتّابا وتسمّى بأللغة ألتركمانية (ملّا) وهذه ألتسمية تعني مُعلِّم ألقرآن او رجل ألدين ألّذي كان يُدرِّس في هذه ألكتاتيب. كان لكلّ ملّا مساعد يختاره مِن بين ألصبيان وعادة يكون أكبرهم سنّا وكانوا يسمّون ألمساعد بألخليفة، ومِن مهام ألخليفة ألمحافظة على ألنظام ومساعدة ألملّا أثناء تطبيق ألعقوبة على ألصبيان ألمشاكسين بضرب باطن أرجلهم بألعصا بعد ربطها إلى (ألفلقة).
تأثر والدي بثقافة عصره وتعلّمَ ألقرآة وألكتابة بألتركية وبمجهوده ألخاص، وكان يُستعمَل فيها ألحروف ألعربية حينذاك، وبعد تغيير ألحروف ألعربية إلى ألحروف أللاتينية في أللغة ألتركية نتيجة ألثورة ألثقافية ألكمالية، تعلّمَ والدي ألقرآة وألكتابة بألحروف ألجديدة أيضا وبدأ بحملة لتعليمها لِمَن يروم ذلك مِن أهالي ألمدينة، وكان يُجيد بعض أللغات ألآخرى وعلى درجات متفاوتة مِن ألجودة كأللغة ألكردية وألفارسية وألأنكليزية، وكان مولعا بمطالعة ألكتب وبألأخص ألكتب ألأدبية منها، وقد أصدر في عام 1950 أوّل كتاب بألحروف ألتركية ألحديثة يجمع ألشعر ألشعبي ألتركماني ألمسمّى بألخوريات، وقد جمع في هذا ألكتاب ثلاثمائة مِن ألخوريات ألمتداول بين ألتركمان نقلا مِن أفواه ألنّاس وألمطربين ونسقّها حسب ألحروف ألأبجدية في كتابه ألمعنوّن ( كركوك خورياتلاري وماعنيلري ) وتعني ( خوريات وأغاني كركوك ).
وألخوريات شعر على شكل رباعيات ذات أوزان هجائية سباعية وقافية موحّدة وأحيانا يكون ألبيت ألأوّل ذو ثلاث أو أربع أوزان هجائية امّا البيت الثالث من الخوريات فلا يُلتزَم فيه بالقافية.
يُغنّى الخوريات باستخدام المقامات ألموسيقية الشرقية، ولكلّ مقام طريقة في ألأداء ويُطلق عليها أسم (أصول) كأنْ يُقال (مُخالِف أصولي) أو (حسيني أصولي) أو (كَرَمْ هواسي) كما يٌطلق على ألخوريات أسم ألقوريات أحيانا، وهي لون من ألوان فلكلور ألغناء ألتركماني ألأصيل في ألعراق وتتألف من مايزيد على ألعشرين مقاما تحمل خصوصياتها من حيث ألتركيبة ألشعرية ألمبنية على (ألجِناس)، وألجِناس هي أستعمال كلمة ذات معنيين في ألشعر. كانت تلك المقامات تؤدّى في ألمقاهي في تلك ألحقبة، وتؤدّى أيضا ليلا في التكايا وأثناء المناقب النبويّة الشريفة بألدفوف وألنقّارات وكذلك اثناء الاحتفال بالختان والاعراس، وتؤدّى المقامات والخوريات ألآن مع الآلات ألموسيقية مثل ألعود وألقانون وألكمان وألسنطور وعلى شكل محاورة غنائية، وكانت تثير حماس ألجمهور ألّذي يحضرون للإستماع إلى إلمؤدّين للخوريات وتنتهي المحاورة الغنائية باستسلام احد المؤدّين بعد نفاذ خزين ذاكرته من الخوريات او تحوّله الى خوريات ذات موضوع مختلف.
إنّ ألمقامات ألموسيقية ألشرقية هي تُراث مشترك بين ألشعوب ألقاطنين في ألشرق ألأوسط، فألأتراك وألعرب وألفرس وألأكراد وشعوب أخرى شرقية يستعملون نفس ألمقامات في ألغناء مع بعض ألأختلافات في ألتفاصيل ومِن هذه ألمقامات، مقام ألبيات وألحجاز وألرست وجاركاه وبنجكاه ونهاوند ويتفرّع مِن كلّ مقام مقامات فرعية عديدة.
نتيجة لحُب والدي للثقافة فقد أرسل أبناءه وبناته إلى ألمدارس ألّتي بدأت بألأنتشار تدريجيا وحلّت محل ألكتاتيب وبألرغم مِن معارضة بعض ألأقارب على إرسال بنتيه إلى ألمدرسة فقد أصرَّ على ذلك وأقنع ألمعارضين بضرورة تعليم ألبنات أيضا في ألمدارس، وكانت هذه ألمعارضة ناجمة عن ألتقاليد ألبالية الموروثة مِن نظام ألحريم.
في ألعام ألّذي ولِدّتُ فيه كانت مدينة ألذهب ألأسود كبقية ألمدن وألأقضية وألنواحي وألقرى ألعراقية ترزح تحت نير ألأستعمار ألبريطاني، فبعد أنْ وضعت ألحرب ألعالمية ألأولى أوزارها، أصبح ألعراق مِن حصّة بريطانيا بعد توقيع أتفاقية سايكس بيكو وألّتي بموجبها تمَّ تقسيم ممتلكات ألأمبراطورية ألعثمانية بين ألحلفاء ألمنتصرين.
بألرغم مِن أكتشاف ألذهب ألأسود في منطقة باباكركر إلّا أنَّ أهالي مدينة كركوك كباقي أفراد ألشعب ألعراقي لَمْ يستفيدوا مِن هذه ألثروة ألفتيّة، فبعد ألبدء بأستخراج ألنفط وتشكيل شركة نفط ألعراق، أستخدم ألبريطانيون موظفين أنكليز في ألشركة مع عدد مِن ألموظفين وألعمّال ألمحليين وكانت حصّة ألأسد مِن هذه ألثروة تذهب إلى خزائن ألمُستعمِر ألبريطاني.
بدأ حقد ألبريطانيين على ألشعب ألعراقي بجميع أطيافه واضحا مِن خلال تعاملهم مع أهالي ألمدينة، هذا ألحقد ألّذي تغلغل في نفوسهم منذ ألحروب ألصليبية، ولكّن ألتركمان نالوا منهم معاملة خاصة كألتهميش وحبك ألمؤامرات ضدّهم حيث كانوا يعتبرون ألتركمان مِن رعايا ألأمبراطورية ألعثمانية ألّتي أنتصروا عليها وتقاسموا إرثها فيما بينهم.
بدأ ألبريطانيون بزرع بذور ألشقاق بين ألمسلمين وألمسيحيين ألّذين كانوا يعيشون في ألمدينة بوئام وصفاء وذلك لإحكام سيطرتهم على ألمدينة وعلى ألذهب ألأسود ألمخزون في باطن أرضها. في تلك ألفترة ونتيجة لمعارضة ألتركمان للسياسة ألبريطانية ورفضهم ألأستفتاء على تنصيب ألملك فيصل ألأول ملكا على العراق ألّذي كانوا يعتبرونه وعائلته مِن ألّذين غدروا بألمسلمين وتعاونوا مع ألبريطانيين لمحاربة ألدولة ألعثمانية ألّتي كانت تمثّل ألخلافة ألأسلامية في تلك ألفترة، ولوأد ألروح ألقومية ألمتنامية بين صفوف ألتركمان، قام ألجنود ألمرتزقة ألتابعين للبريطانيين ألّذي ضمَّ بعض ألآثوريين ألعراقيين وألهنود والّذين كانوا يُسمّون بألليفي بأعمال نهب لدكاكين ألتركمان وقتلوا عددا مِن ألمواطنين وقد جرت هذه ألأحداث في ألرابع مِن شهر أيّار مِن عام 1924.
( بداية ألمجزرة كانت في ألموصل فبسبب السلوك الخشن لقوات الليفي وقعت مشادة بين عدد من أفراد هذه القوات والسكان الموصليين في سوق العتمة في 15 آب 1923 ، وأدّى ذلك إلى وقوع عدد مِن القتلى وألجرحى في صفوف ألأهالي بعد أنْ أطلق جنود ألليفي ألنار عليهم ، وكادت الأمور تفلت مِن يد ألحكومة بعد أنْ تهيّأ ألأهالي للثأر من جنود ألليفي مما دفع ألحكومة إلى ألاتصال بالمندوب السامي البريطاني طالبة منه ألمساعدة في إحتواء ألأزمة ، وتم ألإتفاق بين ألحكومة وألمندوب ألسامي على سحب قوات ألليفي مِن ألموصل إلى كركوك، وأضطر ألملك فيصل إلى السفر إلى ألموصل لتهدئة أهالي ألموصل بنفسه خوفاً مِن تطور ألأوضاع إلى ما لا يحمد عُقباه، غير أنَّ قوات ألليفي لَمْ يتوقفوا عن تصرفاتهم ألرعناء تلك ، بل قاموا بمجزرة جديدة أُخرى أشدّ وطأة، في كركوك بتاريخ 4 أيّار 1924 .
ففي ذلك أليوم تخاصمَ عدد من أفراد قوات ألليفي مع أحد الأهالي في أحد أسواق كركوك ، وأدّى ألخصام إلى جرح أحد أفراد ألليفي ، فما كان منهم إلاّ أنْ ذهبوا إلى ثكنتهم ، وجلبوا معهم عدداً كبيراً من أفراد قوات ألليفي ، مع كامل أسلحتهم وصاروا يطلقون النار على كلّ مَنْ واجههم في ألطريق . وعندما تصدّى لهم أثنان مِن رجال ألشرطة لمنعهم مِن إطلاق ألنار ، أطلق أفراد قوات ألليفي ألنار عليهما وقتلوهما في ألحال ، فلمّا رأى ألأهالي مدى إستهتار قوات ألليفي أندفعوا حاملين سلاحهم للدفاع عن أنفسهم فوقعت مصادمات عنيفة بين الطرفين ، ووقع عدد كبير مِن ألقتلى وألجرحى جاوز عددهم 200 شخص .
ولمّا عِلمَتْ ألقبائل ألمحيطة بكركوك بما قامَ به جنود ألليفي زحفت جموع كبيرة بأسلحتها لأخذ ألثأر منهم . غير أنَّ ألمندوب ألسامي سارعَ إلى إخراج قوات ألليفي مِن كركوك قبل وصولهم ، وتمكَّن مِن ترحيلهم إلى قضاء جمجمال ألواقع بين ألسليمانية وكركوك ، وأصدرَ بياناً إلى الأهالي يدعوهم إلى إلتزام جانب ألهدوء واعداً إيّاهم بإجراء محاكمة للمعتدين ، ودفع تعويضات لأهالي ألمقتولين وتعويض المصابين .
إلاّ أنَّ ألمندوب ألسامي بدلاً مِن أنْ يُنفِّذ وعده بمحاكمة ألمعتدين، أقال مُتصرِّف أللواء ، وعيَّن رئيس ألبلدية بدلاً عنه ، وقام بحملة إعتقالات واسعة في صفوف ألأهالي ، وأرسلَ فوجاً من ألجنود ألبريطانيين إلى كركوك بالطائرات، للحيلولة دون قيام ألأهالي بأيّ أعمال أنتقامية .
أمّا إجراءات ألحكومة ، فلم تتعدَّ تخصيص 30 ألف روبية للأهالي ألمنكوبين في تلك ألأحداث، وألطلب مِن ألمندوب ألسامي نقل قوات محلية للشرطة تقوم مقام قوات ألليفي لحماية ألأمن وألنظام في المدينة، وجعل إدارة كركوك كإدارة بقية ألألوية .
وتحت ألضغط ألشعبي ألغاضب وألمتواصل ، وألمُطالِب بمحاكمة ألمجرمين مِن قوات ألليفي، أضطرَّ ألمندوب ألسامي إلى تشكيل محكمة، برئاسة ألبريطاني بريجادر وعضوية ألحاكمين عمر نظمي وعبد الكريم ألكركوكلي بالإضافة إلى ضابط بريطاني، وألمارشمعون رئيس ألطائفة ألآشورية.
أجرَتْ ألمحكمة محاكمات صوريّة لبعض ألمجرمين ، ولم تُتّخذ أيّ إجراءات فعّالة بحقهم ، حتى أنَّ ألميجر أدمونس قال عن تلك ألمحاكمات مايلي:
“إنَّ ألحكومة ألعراقية، وألرأي ألعام ألعراقي ظلّوا يعتقدون بأنَّ ألسلطات ألبريطانية تحمي ألمجرمين”).
قاومَ ألعراقيون مع إخوتِهم ألتركمان ألأحتلال ألبريطاني لبلدهم بكلِّ ما أوتوا مِن قوّة، ولمْ تكن ألحكومات ألذليلة ألّتي شكلّها ألمُستعمِر أقل قسوة وظلما مِن ألبريطانيين أنفسهم، فقد عانت عائلتي ألأمرّين مِن هذه ألحكومات، فبألأضافة إلى شظف ألعيش، أُعتُقِل والدي محمّد فاتح بتهمة ظالمة، فبسبب إعتزازه بقوميته ومعاداته للإحتلال ألبريطاني ونشاطاته ألسياسية فقد تمَّ تقديمه للمحاكمة ألعرفية وحُكم عليه بالسجن مع ألأشغال ألشّاقة لمدّة أربع سنوات، قضى مِنها في ألسجن سنتان وأُفرِجَ عنه بعد صدور قرار ألعفو عن ألسجناء ألسياسيين بعد أعتلاء ألملك غازي عرش ألعراق.
بعد ألمجزرة ألّتي نفذتها قوات ألمرتزقة ألتابعة للبريطانيين المسماة بقوات ألليفي في ألرابع مِن شهر أيّار مِن عام 1924 قام ألعمّال في شركة نفط ألعراق في كركوك بإضراب للمطالبة بحقوقهم ألمهضومة في 12 تمّوز مِن عام 1946. يذكر ألباحث وألكاتب ألتركماني أرشد ألهرمزي في مؤلّفِه صفحات مِنْ ألتاريخ ألتركماني حول هذه ألمجزرة ما يلي:
” لقد تحددت مطالب عمال شركة نفط العراق أثناء إضرابهم العمالي في المطالب التالية:
1- المطالبة بأن تنشيء شركة نفط العراق مساكن صحية للعمّال أو أن تمنحهم بدلات للسكن المريح.
2- المطالبة بالتأمين الاجتماعي ضد البطالة والعجز والشيخوخة.
3- تحديد الأجر الأدنى للعمال بمبلغ 250 فلسا عراقيا لليوم مع مخصصات تبلغ 170 فلسا لغلاء المعيشة، بحيث يكون مجموع الأجر اليومي 420 فلسا عراقيا.
4- المطالبة بتوفير المواصلات إلى مقر العمل ومنه.
5- المطالبة بمعاملة العمّال أسوة بعمّال الشركة في حيفا من حيث منحهم بدلات مخاطر الحرب وبواقع أجر ما يماثل 72 يوما في العام.
6- توقف الشركة عن الفصل التعسفي للعمّال ومعارضتها للعمل النقابي.
وقد بلغ مجموع عدد العمال المضربين خمسة آلاف شخص مما يدل على عدم صواب الحجة التي تناقلتها السفارة البريطانية والحكومة العراقية آنذاك من تأثير خارجي على عمال كركوك. بل إنَّ الاعتصام الّذي حدث يوم الثاني عشر من تموز(يوليو) لم يكن إلاّ للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين من العمّال الّذين زُجَّ بالكثير منهم في السجون اثر التقدم بمطالبهم المشروعة. وفي برقية سرية برقم 6350 بتاريخ 16 تموز(يوليو)1946 من السير ستونهيوير بيرد، السفير البريطاني في بغداد وهو اليوم الذي أنهى فيه العمّال إضرابهم بعد الاستجابة لبعض من مطالبهم إلى الحكومة البريطانية قدَّم السفير تقريرا موجزا يفيد بأن مظاهرات عمّالية قد جرت في يوم الثاني عشر من الشهر المذكور خلافا لأوامر متصرف كركوك الخاصة بالامتناع عن التظاهر وأنَّ تبادلا لإطلاق النار قد جرى بين المتظاهرين وقوّات الشرطة نجم عنه وفاة خمسة عمال وإصابة أربعة عشر عاملا بجروح مختلفة بالإضافة إلى إصابة ستّة من أفراد الشرطة المحلية.”.
إنَّ ألمُستعمر ألبريطاني لَمْ يحتل ألعراق إلّا لمصِّ ثروات هذا ألبلد ألعريق بحضاراته، فألذهب ألأسود أسال لعاب هؤلاء ألمصّاصين لدماء ألشعوب وأستكثروا على كادحي ألبلد مِن ألعمّال ألمطالبة بأبسط حقوقهم، وإنَّ تنفيذهم لهذه ألمجزرة بحق ألعمّال ألكادحين وألّتي سُميّت بمجزرة كاورباغي نسبة إلى منطقة كاورباغي في كركوك لدليل على عنجيتهم وإستهتارهم بأبسط حقوق ألإنسان.
أزدادت معاناة عائلتي خلال فترة سجن والدي وبدأت رحلتهم ألطويلة مع ألفقر، وقد أتّفق محمّد فاتح وهو في ألسجن مع صديق له على أنْ يُدير هذا ألصديق مكتبته لقاء جزء مِن ألأرباح، وكان هذا ألصديق يُسلِّم قسم مِن واردات ألمكتبة إلى والدتي لتتمكّن مِن إعالة أطفالها ألثلاثة وهم شقيقي ألأكبر أورخان وشقيقتاي آيتان وآيسل ألّتي كانت أثناء ألإعتقال طفلة رضيعة.
بعد أطلاق سراح والدي وبألرغم مِن ألظروف ألقاسية ألّتي مرّت بها ألعائلة أستمرَّ شقيقي أورخان وبقية أشقائي وشقيقاتي بألدراسة، فبعد أنْ أكمل أورخان ألمرحلة ألأعدادية بعد ولادتي بشهور، قرر والدي إرساله إلى تركيا لدراسة ألطب في جامعة أسطنبول، أمّا شقيقتي ألكبرى فكان حظّها عاثرا في ألحياة، فقد أحترق جسمها ووجهها في حادث إنفجار ألطبّاخ ألنفطي ألّذي يعتمد على ضغط ألهواء في إيقاده، وأضطرّها هذا ألحادث ألأليم على ترك ألدراسة، وتفرّغت بعد وفاة والدتي ألّتي أُصيبت بمرض ألسرطان للقيام بألأعباء ألمنزلية وأنجاز ألمستلزمات ألمنزلية مِن طبخ وكنس وتنظيف وقامت بإشْغال ألفراغ ألّذي تركه وفاة والدتي وكانت كألأُم ألحنون لأشقّائها وشقيقتها ألصغرى بألرغم مِنْ أنَّ عمرها لَمْ يتجاوز حينذاك أثنا عشر عاما.
عندما توفيّت والدتي كنت طفلا في ألرابعة مِن ألعُمر ولا أذكر ملامحها جيدا ولَمْ يبقَ لي مِن ذكريات تلك ألأيام إلّا طيفها وخيالات قليلة لفّها ضباب ألنسيان وتراكم ألأحداث.
كانت فرحة والدي لاتقاس عندما أستلم رسالة أورخان يُبشّره فيها بحصوله على ألشهادة ألجامعية، وأحسَّ في تلك أللحظة أنَّ معاناته وتضحياته لَمْ تذهب سدى، فها هو أبنه ألبكر قد أصبح طبيبا وسيرجع إلى مدينته مُسلّحا بألعلم وألثقافة وسيخدم أبناء بلدته بمهنته. لقد رفع تخرّج أورخان عبئا ثقيلا عن كاهل محمّد فاتح وأعانه على أتّخاذ قرار آخر فأرسل بنته ألصغرى بعد إكمالها ألمرحلة ألأعدادية لدراسة ألصيدلة في نفس ألجامعة.
في صبيحة تمّوز مِن عام 1958 أستمعَتْ ألعائلة إلى صوت ألمذياع وهو يذيع نشيد ألله أكبر وتلا بعد ذلك ألمذيع ألبيان رقم واحد مبشّرا بقيام ألثورة على ألحكم ألملكي، فأستبشروا كما أستبشر ألعراقيون خيرا بهذا ألحدث ألجليل، كيف لا، وقد ولّى عهد ألأستعمار وتحرر ألعراقيون مِن نير ألأستعباد.
ولكنّ ألفرحة لَمْ تستمر طويلا، فبعد ألخلافات ألّتي دبّت بين ألضبّاط ألأحرار أقصى ألزعيم عبدألكريم قاسم قسما منهم مِن ألسلطة كعبدألسلام عارف ومؤيديه ألّذين كانوا يطالبون بالوحدة مع ألجمهورية ألعربية ألمتحدّة، وهو الاسم الرسمي لما سُمّي بالوحدة المصرية – السورية (1958-1961) والّتي كانت بداية لتوحيد الدول العربية والّتي كانت إحدى أحلام الرئيس جمال عبد الناصر.
في تلك ألفترة كان ألعالَم مُنقسِما إلى قطبين وألحرب ألباردة بينهما كانت على أشدّها فألقطب ألأوّل كان يضم ألولايات المتحدّة ألأمريكية وحلفائها ألغربيين في حلف ألناتو وألّذين كانوا يُمثلّون ألعالم ألرأسمالي، أمّا ألقطب ألثاني فكان يضم بين جناحيه ألأتحاد ألسوفيتي وحلفائه مِن ألدول ألإشتراكية في حلف وارشو.
وصلّت رياح ألمد ألأحمر إلى عدد مِن ألدول ألعربية وكان ألشعب ألعراقي مِن أكثر ألشعوب تأثرا بألأفكار ألماركسية فأنتشرت ألشيوعية بين ألعمّال وألمثقفين، وشكّل ألحزب ألشيوعي ميليشيا بأسم ألمقاومة ألشعبية وبسطوا سيطرتهم على بعض مراكز ألقوّة في ألجيش وبألأخص ألفرقة ألثانية ألّتي كان مقرها في مدينة كركوك حيث عُيِّن ألشيوعي داوود ألجنابي قائدا لها بعد إقصاء ألقائد ناظم ألطبقجلي لإتهامه بألمشاركة في ثورة عبدألوهاب ألشوّاف ألّتي تلتها مجزرة ألموصل ألرهيبة، ومما زاد ألطين بلّة إنضمام بعض ألأكراد إلى ألحزب ألشيوعي وشكلّوا تحالفا ثنائيا ضد ألقوميين مِن ألعرب وألتركمان.
أحداث جسيمة جرت بعد أصدارَ ألزعيم عبدألكريم قاسم عفوا عن ألملّا مصطفى ألبرزاني، زعيم ألحزب ألديوقراطي ألكردستاني ألّذي كان منفيا ولاجئا في روسيا، وفي يوم إيابه أختار الهبوط عمدا في مطار كركوك، فخرج أعضاء حزبه مع ألشيوعيين لإستقباله وقاموا بمظاهرات أستفزازية ضد ألتركمان وخربّوا قسما مِن متاجر ألمواطنين وعند مرورهم مِن شارع أطلس تمادوا في إستفزازاتهم ممّا أدّى إلى وقوع صِدام بألسلاح ألأبيض بين ألمتظاهرين وعدد مِن شباب ألتركمان ألّذين كانوا يجلسون في مقهى ( أصلان يواسي ) أيْ مقهى عرين ألأسد، وأدّى هذا ألصِدام إلى جرح عدد مِن أفراد ألمجموعتين ألمتقاتلتين.
بدأ ألمواطنون ألعراقيون وبألأخص ألقوميون ألعرب في مدينة ألموصل وألتركمان في مدينة الذهب ألأسود بمقاومة ألمد ألشيوعي بمختلف ألوسائل ألسلمية ورفضوا ألإنسياق وراء هذا ألتيّار ألجارف لذلك بدأت معاناتهم. مِن أسباب مقاومة ألشيوعية مِن قبل ألمواطنين رفض ألشيوعيين ألعقائد ألدينية وتشريعاتها، ومِنْ ألشعارات ألطريفة ألّتي كان ألشيوعيون يرددونها ” ماكو مهر ماكو مهر، ذبّينا ألقاضي بألنهر “، وكان هدف هذا ألشعار إشاعة ألإباحية ألجنسية ورفض ألزواج حسب ألشريعة ألإسلامية أو ألمسيحية وهدم ألنظام ألأسري.
بعد مجزرة ألموصل نفّذ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني مع حلفاءه مِن ألشيوعيين وبتخطيط مُسبَق مجزرة رهيبة في مدينة كركوك وذلك في مساء ألخامس عشر مِن تمّوز مِن عام 1959 وأثناء إحتفال جماهير ألشعب ألعراقي ومنهم أهالي كركوك بألذكرى ألأولى لثورة ألرابع عشر مِن تمّوز حيث تعاونت ميليشيات ألمقاومة ألشعبية ألتابعة للحزب ألشيوعي ألعراقي مع قوّات ألبيشمركة ألتابعة للحزب ألديموقراطي ألكردستاني وزحفوا إلى كركوك مِن ألقصبات وألقرى ألكردية ألواقعة في شمال ألعراق وبأوامر مِن ملّا مصطفى ألبرزاني، وكان جلال ألطالباني في تلك ألفترة قياديا في ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني ويتحمّل جزءا مِن مسؤولية هذه ألمجزرة ألرهيبة إضافة إلى قائد ألفرقة ألثانية ألشيوعي داوود ألجنابي ألّذي نال جزاءه ألعادل بإعدامه بعد قيام ثورة ألثامن مِن شباط عام 1963.
لقد راح ضحية مجزرة كركوك أكثر مِن خمسين مِن ألشهداء ألأبرياء مِن ألرجال وألنساء وألأطفال وبعد مرور ألأيام ألثلاث للمجزرة بلياليها أرسل ألزعيم عبدألكريم قاسم أللواء ألمتجحفل في مدينة بعقوبة بقيادة عبدألرحمن عارف إلى كركوك وسيطروا على ألوضع ألأمني في ألمدينة وذلك بعد أنْ أبلغه ألزعيم عبدالله عبدالرحمن بتفاصيل ألأمر في مقر ألزعيم عبدالكريم قاسم في وزارة ألدفاع حيث أنَّ ألأكراد والشيوعيين كانوا يُبرقون إليه برقيات مُلفقّة يدّعون فيها بأنَّ ألتركمان قاموا بمؤامرة ضد ألجمهورية وأعتصموا في قلعة كركوك ويطلقون ألنّار على ألقوات ألحكومية .
هذه ألمجزرة أتصّفت بأقسى أنواع ألوحشية مِن نهب لممتلكات ومتاجر ألتركمان وقتل وسحل في ألشوارع وتعليق للجثث على أعمدة ألكهرباء وألأشجار، وألأدهى مِن ذلك قيامهم ببيع لحم ألشهيد في مزاد علني. إنّها وصمة عار في جبين مقترفيها ونقطة سوداء في تاريخ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني وألحزب ألشيوعي ألعراقي.
مِن أهم أسباب تخطيط وتنفيذ ألحزب ألديموقراطي ألكردستاني لهذه ألمجزرة ألأليمة أطماعهم في مدينة كركوك ألّتي تطفوا فوق بحيرة مِن ألذهب ألأسود، هذا ألسائل ألدموي ألّذي أصبح لعنة على ألتركمان وألشعب ألعراقي ألصابر. لقد كان هدفهم ألأوّل ترهيب ألسكّان ألأصليين مِن ألتركمان ليهاجروا إلى مناطق أُخرى مِن ألعراق أو إلى خارجه.
لقد تركَتْ هذه ألأحداث في نفسي وأنا صبيٌّ في ألعاشرة مِن ألعمر أبلغ ألأثر وأثخنَتْ جسم مدينتي بجراح لا تندمل، وأدّت إلى وقوع أحداث دامية أُخرى، فألعنف يولّد ألعنف، فبعد محاكمات صوريّة وأحكام طفيفة لقسم مِن منفذي ألمجزرة، خرج هؤلاء مِن ألسجون بعد فترة وجيزة وبدأوا يسرحون ويمرحون في كركوك مرّة أُخرى.
بدأ ألتركمان في كركوك وألموصل يعدّون ألعدّة للقضاء على هذه ألزمرة ألباغية، فتشكلّت خلايا سريّة للمقاومة وبدأ ألمجرمون يتساقطون واحدا تلو ألآخر ولَمْ يسلَم مِن هذا ألإنتقام ألمشروع إلّا مَنْ ولّى ألأدبار وترك ألمدينة إلى غير رجعة. لا يوجد أنسان واعي يُقِر أسلوب ألعنف لحل ألنزاعات بين ألبشر، ولكن ألإحساس بألظلم وعدم تطبيق ألعدالة بألأقتصاص مِن ألمجرمين يدفع ألإنسان إلى ألإنتقام ومحاولة تطبيق ألعدالة بقدراته ألذاتية، وهذا ما فعله فتية مِن ألتركمان آمنوا بحقوق قومهم في ألعيش ألكريم في وطنهم ألعراق، فانبروا للدفاع عن أنفسهم وضحّوا في سبيل ذلك بتضحيات جسام سيسجّلها ألتاريخ بأحرف مِن ذهب، فقسم منهم أُعتِقِلَ وأمضى في ألسجن ريعان شبابه وقسم آخر ألتجأ إلى بلدان أخرى بعد صدور أوامر بالقبض عليهم، كما تمَّ إعدام ألبعض منهم في عهد صدّام حسين.
كنت أثناء هذه ألأحداث ألجِسام طالبا في ألمرحلة ألرابعة مِن ألدراسة ألإبتدائية، وكانت عائلتي قد أنتقلت مِن مسكننا ألقديم في محلّة صاري كهية ألى مسكن حديث نسبيا في محلّة إمام عبّاس، وقد حاول قسم مِن ألزمرة ألمجرمة أثناء ألمجزرة إقتحام ألدار بغية قتل شقيقي أورخان ولكنّه كان لحسن ألحظ في ألعاصمة بغداد للمشاركة في ألإحتفال ألسنوي ألأوّل لثورة ألرابع عشر مِن تمّوز ضمن وفد ألمواطنين ألتركمان ولكنَّ ألغوغاء وألفوضويون نهبوا مكتبة والدي مع معظم متاجر أهالي ألمدينة مِن ألتركمان ممّا أثَّر سلبا على ألحالة ألمادية للعائلة وزاد مِن معاناتنا.
بعد مجزرة كركوك غيَّرَ ألزعيم عبدألكريم قاسم مِنْ سياسته وبدأ بسحب ألبساط مِن تحت أقدام ألشيوعيين وألحزب ألديموقراطي ألكردستاني بزعامة ملّا مصطفى ألبارزاني لأنّه أكتشفَ (بعد خراب ألبصرة) كما يُقال في ألمثل ألعراقي بانَّ ألحزب ألشيوعي يحاول ألأستحواذ على ألسلطة في العراق، ومِن ألشعارات ألمسجوعة ألّتي كان ألشيوعيون يرددونها في مسيراتهم قبل ألمجزرة وهم يحملون ألمنجل وألمطرقة وألحبال ألّتي كانوا يلوّحون بها أتذكّر ألشعار: ( عاش ألزعيمي، عبدألكريمي، حزب ألشيوعي بألحكم، مطلب عظيمي) و ( ماكو مؤامرة تصير وألحبال موجودة ) كناية إلى أنّهم سيسحلون ألمعارضين لهم بألحبال في ألشوارع، كما أدرك ألزعيم بعد أحداث كركوك أنَّ ملّا مصطفى ألبارزاني يهدف إلى ألإنفصال عن ألعراق وتشكيل دولة كردستان بعد ألأستحواذ على مدينة ألذهب ألأسود ألغني بألنفط.
وقبل أنْ أُنهي ألحديث عن ألاحداث ألمتعلقة بمجزرة كركوك أود أنْ أٌشير ألى ألمعلومات ألخاطئة ألّتي وردتْ في كتاب ألسيّد حامد ألحمداني (ثورة تمّوز نهوضها وأنتكاساتها وأغتيالها)، يقول ألمؤلِّف في فصل (أحداث كركوك في ألذكرى ألأولى لثورة 14 تمّوز) وفي قسم (ألتركيب ألسكاني لمدينة كركوك ودوره في ألأحداث) مايلي: ” لقد وقعت أحداث عديدة في كركوك ، وكانت مؤشراً على عمق الهوة بين التركمان والأكراد ، بتحريض من عملاء شركات النفط ، حيث قام التركمان باغتيال عدد من الأكراد، أذكر من بينهم سيد ولي و محمد الشربتجي… إلى آخره مِنْ ألتلفيقات. ” ثمَّ ينتقل بعد هذه ألمقدّمة إلى سرد أحداث تلك ألأيام ألمشؤومة بوجهة نظر متحيّزة.
إنَّ ألكاتب يحاول أنْ يوحي في كتابه بأنَّ أغتيال سيّد ولي ومحمّد ألشربتجي حدث قبل وقوع ألمجزرة ويحاول توجيه أصابع ألأتهام إلى ألمواطنين ألتركمان وألأيحاء بأنّهم ألسبب في حدوث ألمجزرة، وللحقيقة وألتاريخ وكشاهد عيان على تلك ألأحداث ألمؤلِمة أُبيّن بأنَّ عملية أغتيال ألمذكورين حدثت بعد ألمجزرة بفترة وبعد إنتهاء ألمحاكمات لمرتكبي ألمجزرة وأطلاق سراح قسم منهم، فعملية ألأغتيال كانت كَرَدِّ فعل وعملية إنتقامية لأرتكاب هؤلاء لجرائم قتل وسحل للتركمان ألمُسالمين وليس العكس كما يحاول ألباحث أنْ يوحي به.
إنَّ ألحقائق لا يُمكن تزييفها بهذه ألسهولة في عصر ألتدوين وألثورة ألمعلوماتية وثورة ألأتصالات وعصرألشبكة ألعنكبوتية، ثمَّ أنَّ مُعظم أهالي كركوك مِن ألعرب وألتركمان وألقوميات ألأخرى ألمُحايدة وألّذين عاصروا تلك ألأحداث لازالوا على قيد ألحياة ويستطيع ألكاتب ألوصول إلى ألحقائق بإستجوابهم، وكان عليه ألإطلاع على وثائق وزارة ألداخلية حول تواريخ ألإغتيالات ألّتي حدثت بعد مجزرة كركوك، فالتاريخ لا يُمكن تلفيقه بهذه ألسهولة في عصر يتمكن ألمؤرِخ فيه ألوصول إلى ألوثائق إنْ أراد ذلك، ثمَّ أنَّ ألكاتب يتّهم ألتركمان بألعمالة لشركات ألنفط ألأجنبية، لذا أتساءل: متى كان ألتركمان عملاء للبريطانيين ألّذين يمقتونهم عبر ألتاريخ؟
لقد حارب ألبريطانيون ألمُستعمِرون ألأتراكَ ومنهم ألتركمان عبر ألتاريخ وليست معارك جناق قلعة وأحتلالهم معظم أرجاء تركيا وحرب ألأستقلال ألّتي قادها مصطفى كمال لتحرير ألأراضي ألتركية مِن إحتلال ألبريطانيين وحلفائهم ألأمبرياليين وكذلك مؤامراتهم في مباحثات لوزان بخاف على أحد مِن ألمؤرخين ألموضوعيين. ولا ننسى في هذا ألصدد ثورة ألعشرين ضد ألأستعمار ألبريطاني وألّتي شارك فيها عشائر ألتركمان في تلعفر وبقية أنحاء ألعراق، إنَّ رفض ألتركمان ألإستفتاء على تنصيب ألملك فيصل ألأوّل ألّذي عيّنه ألمستعمر ألبريطاني ملكا على ألعراق دليل آخر على مُناوئة ألتركمان للأستعمار ألبريطاني وعملائهم ألشركات ألنفطية.
إنَّ ثورة 14 مِنْ تمّوز ثورة مجيدة ضد ألأستعمار ولكنَّ ألشيوعيين وأعضاء الحزب ألديموقراطي ألكردستاني حاولوا ألأستحواذ عليه وتغيير مساره ألوطني وأُذكِّر ألسيد حامد ألحمداني بدلالة رمزية واحدة على تأييد ألتركمان لثورة 14 تمّوز ألمجيدة، ففي إحتفالات ألذكرى ألأولى للثورة نصَبَ ألمواطنون ألتركمان في كركوك خمسة وخمسين قوسا مُزينّا في شوارع كركوك وقد تمَّ تحطيم معظمها مِن قبل مرتكبي مجزرة كركوك مِن ألشيوعيين وألبيشمركة، كما شارك ألمواطنون ألتركمان بوفد كبير في مسيرات وإحتفالات ألّتي أُقيمت في بغداد في ألذكرى ألأولى للثورة وكان شقيقي وشقيقتي ضمن هذا ألوفد.
بعد هذه ألأحداث بدأ عصيان ألأكراد بقيادة ألبارزاني في شمال ألعراق، فدخل ألجيش ألعراقي في معمعة صراع دامي مع ألأكراد راح ضحيتها ألمئات مِن ألمواطنين ألعراقيين ولَمْ يتوقف هذا ألنزف ألدموي خلال ألأعوام ألتالية حيث أستمرَّ ألأقتتال لما يقارب ألثلاثين عاما وبفترات متقطعة وتوقف ألنزف في نهاية أحداث ألأنتفاضة الشعبانية ألّتي أعقبت حرب ألخليج ألثانية وذلك باعلان ألتحالف ألغربي وبقرار مِن ألأمم ألمتحدة جعل قسم مِن ألمحافظات ألشمالية منطقة آمنة وتمّت حمايتها مِن قِبل قوّات ألمطرقة ألتابعة لحلف ألناتو.
بألرغم مِن راتب شقيقي أورخان ألّذي بدأ بممارسة مهنته كطبيب في مديرية صحّة ألمعارف فإنَّ ألحالة ألمادية للأسرة لَمْ تتحسن كثيرا لأنَّ راتبه ألبالغ ستّون دينارا كان يُصرَف معظمه لشراء ألأثاث للبيت ألّجديد ألّذي أستأجره في شارع ألأطباء وخصص غرفتان منه كعيادة له أضافة إلى مصاريف ألجامعية لشقيقتي ألّتي كانت تدرس في جامعة أسطنبول ومصاريف ألسيارة ألقديمة ألّتي أشتراها شقيقي أورخان، أمّا مكتبة والدي فقد مرَّ بمرحلة عصيبة بعد نهب محتوياتها أثناء مجزرة كركوك بالرغم مِن ألتعويض ألقليل ألّذي دفعته حكومة ألزعيم عبدألكريم قاسم بعد تلك ألأحداث للمتضررين.
في تلك ألفترة كنتُ في ألصف ألخامس مِن ألمرحلة ألأبتدائية في مدرسة ألخالدية ألأبتدائية للبنين.
أكملتُ المرحلة ألأبتدائية بتفوّق في مدرسة أخرى في محلّة كاورباغي ألّتي شهدتْ أحداث كاورباغي في تمّوز عام 1946 ثمَّ أنتقلت ألى ألمرحلة ألمتوسطة في متوسطة ألشرقية. كانت أعداد ألمدارس للمرحلتين ألمتوسطة وألثانوية قليلة جدا في تلك ألحقبة، كانت في القورية مدرستان للمتوسطة، ألشرقية وألغربية وفي ألصوب ألكبير مدرسة واحدة هي متوسطة ألمصلّى ومتوسطة واحدة للبنات، أمّا بالنسبة للمدارس ألثانوية للبنين فكانت أثنتان، ثانوية كركوك في ألقورية وثانوية ألمصلّى في ألصوب ألكبير، وكانت في ألمدينة مدرسة ثانوية واحدة للبنات فقط هي ثانوية كركوك للبنات.
بألرغم مِن ألأحداث ألجسيمة ألّتي مر بها ألعراق، أنصرفتُ إلى تحصيل ألعِلم بكلِّ همَّة ونشاط وربّما توارثتُ هذه ألخصلة مِن والدي محمّد فاتح ألّذي كان شغوفا بألثقافة وألمطالعة وقد حدّثني في إحدى ألمرّات عن فترة سجنه فقال ” كنتُ أطلب مِن والدتك تسريب ألكتب إليَّ خفية مع ألطعام أثناء ألمواجهات ألأسبوعية للسجناء مع عوائلهم “.
تفاقم ألصراع بين رئيس ألوزراء عبد الكريم قاسم وألتيار القومي العربي ألمسنود مِن قِبل ألزعيم جمال عبدألناصر بعد اعدام مجموعة من الضباط في 20 تشرين ألأوّل مِن عام 1959 بأوامر مِن عبدالكريم قاسم. في أجتماع للقيادة القطرية لحزب البعث العربي قررت ألقيادة إغتيال ألزعيم عبدالكريم قاسم، وتمّ تشكيل فرقة لتنفيذ هذه ألمهمّة من صدّام حسين المجيد وعبدالوهاب الغريري وعبدألكريم ألشيخلي وحاتم ألعزّاوي وأحمد طه ألعزوز وسمير ألنجم. أنتظرتْ ألمجموعة في عيادة ألدكتور حازم ألبكري في منطقة رأس ألقرية مِن شارع ألرشيد في ألعاصمة بغداد سبعة أيام ثم بدأوا بألتنفيذ فأمطروا برشاشاتهم سيارة عبدألكريم قاسم عند مروره بوابل مِن ألرصاص فأُصيب عبدألكريم قاسم ومُرافقَه بألجراح وقُتِلَ سائقه، وأٌصيب من ألمجموعة ألمهاجمة سمير ألنجم وصدّام حسين بألجراح وقُتِلَ عبدألوهاب ألغريري ولاذت ألمجموعة ألناجية مع جرحاهم بألفرار، ثُمَّ هرب صدّام حسين إلى تكريت ومِنها إلى سورية عبر ألحدود ثمَّ أستقر به ألمقام في مصر تحت حماية جمال عبدالناصر وقد كان جمال عبدألناصر في تلك ألفترة يدعم ألقوميين وألبعثيين ألعراقيين.
في ألثامن مِن شباط مِن عام 1963 حدث أنقلاب عسكري على حكومة ألزعيم عبدألكريم قاسم ، بدأ ألإنقلاب باغتيال العميد الطيّار جلال ألأوقاتي قائد القوة الجوية أمام منزله على يد الإنقلابيين، ومن بعدها تمَّ ألهجوم ألجوّي على مبنى وزارة ألدفاع وقاعدة ألرشيد ألجوية بقيادة منذر الونداوي. بعد هذه المعركة تمَّ إعتقال كلّ مِن ألزعيم عبدالكريم قاسم وفاضل عباس ألمهداوي وطه الشيخ أحمد وألضابط كنعان خليل وأُقتيدوا إلى مبنى دار ألإذاعة في ألصالحية وتمَّ إعدامهم هناك وبحضور عبد السلام عارف ألّذي كانَ مُشترِكا في ألإنقلاب، وكذلك تمَّ قَتلُ وصفي طاهر، وعبد ألكريم ألجدّة داخل وزارة الدفاع.
بعد ألإنقلاب تمَّ إعدام داوود ألجنابي قائد ألفرقة ألثانية بتهمة ألمشاركة في مجزرة كركوك، وبعد فترة مِن ألزمن أعدَمَ ألأنقلابيون مجموعة مِن ألمجرمين ألّذين أشتركوا فعليا في أرتكاب جرائم ألقتل في تلك ألأحداث وألّذين كانوا مسجونين في سجن نُكَرة سلمان، وتمَّ عرض جثثهم في ثلاث مِن ألساحات ألعامّة في مدينة ألذهب ألأسود وهي ساحة ألعمّال وساحة أحمد آغا في ألقورية وساحة محلّة ألمصلّى في ألصوب ألكبير. هذه ألعقوبات ألعادلة أرجعت قليلا مِن ألبسمة ألى شفاه أبناء وبنات شهداء ألمجزرة وأصبحوا عِبرة لِمن يَظلِم أخيه ألإنسان حين يكون مُقتدرا. بعد ألإنقلاب شكّلَ ألبعثيون ميليشيا بأسم ألحرس ألقومي كانت مِن مهامها ألرئيسية تصفية ألمعارضين لحزب ألبعث وكان ألشيوعيون ألهدف ألأول في هذه ألتصفيات.
بعد مرور عام على هذه ألأحداث ألدرامية وعندما كنت في ألصف ألثالث مِن ألمرحلة ألمتوسطة مِن ألدراسة، أُصيبت عائلتي بنكبة لَمْ تكنْ في ألحسبان حيث أُصيب شقيقي ألأكبر أورخان بمرض غامض ولَمْ يتمكّن هو أو زملائه مِن ألأطبّاء مِن تشخيص ألمرض، لذلك أرسلوا ألتحاليل وألتقارير ألطبية إلى طبيب أختصاصي في لندن.
بعد فترة أستلم أورخان رسالة مِن ألطبيب ألأختصاصي وعلِمَ بإصابته بمرض سرطان ألمُخ، فأنهارت معنوياته وأظلّمت ألدنيا أمام ناظريه. بدأت معاناتنا وصراعنا المرير مع هذا المرض ألعُضال وأنعكست آثارها على ألحياة أليومية لأفراد ألأسرة، فأختفت ألبسمة مِن ألوجوه، لقد بلغ تأثري مبلغا لَم أشعر به مِن قبل لطبيعتي ألحسّاسة وذكرياتي ألأليمة مع هذا ألمرض ألّذي خَطفَ منّي ألصدر ألحنون ألّذي كنتُ آوي إليه وأنا صبي في ألرابعة مِن ألعمر.
إنَّ مرحلة ألطفولة مرحلة حرجة في حياة ألإنسان وتترك آثارا بليغة في بنائه ألنفسي وسلوكه في ألمستقبل، فبعد فقدي للوالدة ألحنونة أُشاهد شقيقي يذبل أمام ناظري يوما بعد يوم وهو في أوج شبابه. في محاولة لإنقاذه قررت ألعائلة إرساله إلى لندن للعلاج ولكن ألعقبة ألوحيدة كانت مصاريف ألسفر وألعلاج، وقد تمَّ حل ألإشكال ببيع ألسيارة ألقديمة ألّتي كان يملكها أورخان كما شارك زملائه ألأطباء في تحمّل قسم مِن ألمصاريف.
بعد إكمال علاجه في لندن رجع شقيقي إلى ألوطن بصحّة جيدة وبدأ يمارس مهنته كطبيب ورجعت ألبسمة إلى شفاهنا وشفاه زوجته وإبنه ألوحيد ألّذي كان طفلا في ألرابعة مِن ألعمر، لكنّ ألمرض عاوده مرة أُخرى وبدأ ينخر في جسمه، وبدأت ألألام ألمُبرِحة تعاوده بين فينة وأخرى مع فترات مِن ألغيبوبة.
كان أورخان يذبل يوما بعد يوم، وفي محاولة لإنقاذه قررت ألعائلة إرساله إلى أسطنبول للعلاج مرة أخرى ورافقه في رحلته زوجته وإبنه ألبكر. لَمْ تمضِ فترة طويلة على سفرة ألعلاج وإذا بألنبأ ألفاجع يطرق أسماعنا. لقد هزّني ذلك ألنبأ ألأليم كما يهزّ ألبركان ألجبل ألساكن، وبدأتُ أُفكّر في هذا ألوقت ألمُبكِّر مِن ألعُمر بلُغز ألحياة وألموت، وبدأتُ أتساءل، لِمَ يتعذّب ألإنسان في هذه ألحياة؟ ومِن أين جاء؟ وإلى أين يرحل؟ ولِمَ؟
لَمْ أجد أجوبة شافية على تساؤلاتي في عقلي، فأتجهت ألى ألكتب أبحث وأٌنقّبُ فيها لعلّي أجِدُ بُغيتي. لقد وجدّتُ في ألإيمان بألله علاجا شافيا لآلامي وحيرتي وأجوبة على معظم تساؤلاتي، فبدأت أصلّي وأصوم وألتزمْتُ بجميع أركان ألدين ألإسلامي وتشريعاته، وأصبحتُ أؤدّي ألصلاة في أوقاتها في مسجد ألمحلّة ألّتي أنتقلنا إليها بعد وفاة شقيقي، كان ألمسكن ألجديد في محلّة صاري كهية وهي محلّة ذات بيوت قديمة متلاصقة مبنية مِن ألحجر وألجص، ويقع في نفس ألزقاق ألّذي كنّا نسكنه قبل تخرّج أورخان مِن ألجامعة.
كان ألدار ألّذي أستأجرّه والدي بإيجار شهري قدره ثمانية دنانير مكوّنا مِن طابق واحد فيه أربع غرف ذات سقوف مبنية مِن ألحجر وألجص وعلى شكل قباب، كان هذا ألأسلوب في ألتسقيف شائع ألإستعمال في ألبيوت ألتراثية لمدينة كركوك قبل إستعمال ألمقاطع ألحديدية وألخرسانة في ألتسقيف. كانت جدران ألمسكن رطبة وغرفها مضاءة بشبابيك تطل على فناء وسطي يؤدّي إلى غرفة عالية عن مستوى ألفناء في تحتها سرداب رطب ومظلم وذو فتحات للتهوية عمودية تنتهي في سطح ألدار ألمفروش بألطين ألمخلوط بألتبن. هذا ألأسلوب مِن ألتهوية يُسمّى في ألعراق بالبادكَير.
شَهِدَ هذا ألدار مرحلة أُخرى مِن ألمعاناة ألقاسية للاُسرة وصراعها مع ألفقر وأهم مرحلة مِن مراحل تكويني ألنفسي وألفكري. بألرغم مِن مُلِمّات ألحياة وشظف ألعيش تفوقتُ في دراستي وكان ترتيبي في ألإمتحانات ألوزارية للمرحلة ألنهائية للدراسة ألمتوسطة ألأوّل على مدرستي وألثاني على جميع مدارس ألمرحلة ألمتوسطة في مدينة كركوك، وقد كرّمني متصرّف أللواء نايف حمّودي بهديّة قيّمة كانت عبارة عن قلم حبر ماركة باركر ولكنّي ضحيّت بألهدية مضطرّا وسلّمتها إلى والدي فباعها بخمسة دنانير ليتمكّن مِن دفع بدل ايجار ألمسكن ألشهري.
بألإضافة إلى إنشغالي بألدراسة ومطالعة ألكتب وأداء ألواجبات ألدينية، كانت لي أهتمامات وهوايات أخرى كلعب كرة ألقدم وألسباحة والموسيقى وجمع ألطوابع وألمراسلة مع أصدقاء مِن أقطار عربية أُخرى كانت عنوانيهم تُنشر في مجلّات مصريةّ كمجلّة سمير ومجلّة ميكي ومجلّة سندباد ومجلّة أٌخرى كانت تصدر في لبنان بأسم بساط ألريح.
شكّلت هذه ألمجلات ألمصوّرة بداية لمطالعاتي، ثمَّ بدأت بقراءة ألروايات ألبوليسية كروايات أللص ألظريف أرسين لوبين وروايات شارلوك هولمز للكاتب آرثر كونان دويل وروايات ألكاتبة أجاثا كريستي والكاتب ألأمريكي أدجار والاس، ثمَّ أطّلعت في تلك ألفترة على معظم ألروايات ألعالمية وروايات ألكاتب نجيب محفوظ. لَمْ يكن ألتلفزيون قد دخل إلى كركوك في تلك ألفترة لذلك كانت ألإذاعة وألكتب والسينما ألمنافذ ألّتي كنّا نطل منها ونتعرّف بواسطتها على ما يدور حولنا في هذا ألعالم.
كان ألساكنون في زقاقنا معظمهم مِن ألعوائل ألتركمانية وقسم مِنهم مِن ألأقرباء، بألإضافة إلى ذلك كان في ألزقاق ثلاث عوائل عربية وأذكر منهم عائلة مجيد سعدون ألّذي كان يكبرني في ألعمر بعدّة سنوات وكان مثقّفا يمتلك مكتبة عامرة بألكتب في منزلهم، وكنّا نستعير مِنه ألكتب للمطالعة، وبعد عدّة سنوات أصبح مجيد سعدون مدرّسا للغة ألعربية في إحدى مدارس كركوك. ألعائلة ألعربية ألثانية في ألزقاق كان منزلهم في نهاية ألزقاق ذو ألنهاية ألمسدودة، وكنّا نُسمّيهم ببيت ألضابط لأنَّ والدهم كان ضابطا في ألجيش. رَبُّ ألعائلة ألثالثة كان كشّافا في ألبلدية وكنّا نُسميهم ببيت أحمد بلدية، وكانوا مِن ألمذهب ألشيعي وفي كلّ شهر مُحرّم كانوا يُقيمون ألعزاء للامام حسين بن علي بن ابي طالب مع تمثيل لزواج ألأمام قاسم في فناء منزلهم وكانت ألنسوة يحضرن بألمئات للمشاركة في هذه ألطقوس ألدينية وكان ألأطفال يتفرجون على ألمراسيم مِن ألسطوح ألمجاورة، وفي العاشر مِن شهر مُحرّم كان يتمّ توزيع أكلة ألهريسة على جميع ألجيران في ألزقاق.
كان زقاقنا إحدى مراكز ألمقاومة ألسرية ألّتي تشكلّت بعد مجزرة كركوك عام 1959، وكان ألشباب ينطلقون منها للأقتصاص مِن ألمجرمين ألّذين عاثوا ألفساد في ألمدينة وقتلوا وسحلوا عشرات ألأبرياء في شوارعها.
كان شقيقي يلماز ألّذي يكبرني في ألعمر بسنتين يمتلك موهبة موسيقية فريدة فبعد أنْ تعلّم ألعزف على آلة موسيقية مشابهة للكَيتار صنعها بنفسه، تعلّمَ ألعزف على آلة ألعود وعلّمني ألعزف عليها، ثمَّ تعلّم ألعزف على آلة ألكمان أيضا. كنتُ وشقيقي وبعض ألأصدقاء نقضي أوقات ألفراغ بعزف ألمقطوعات ألموسيقية في مسكننا ونشارك أحيانا في إحياء حفلات ألعرس وألمناسبات ألسعيدة للأقارب وألأصدقاء.
بعد إكمالي للمرحلة ألمتوسطة أنتقلت إلى مرحلة ألإعدادية وهي ألمرحلة الّتي ستقرر ألكليّة ألّتي سأستطيع ألأنتساب إليها. في تلك ألفترة أكمل شقيقي يلماز دراسته ألأعدادية بعلامات جيدة أهّلته للدخول إلى ألقسم ألمدني مِن كلية ألهندسة في جامعة ألموصل وحزم أمتعته وسافر إلى ألموصل لإكمال دراسته هناك.
في تلك الأثناء تخرجت شقيقتي ايسل من كلية ألصيدلة وتعينت في إحدى مستشفيات مدينة بعقوبة وكان شقيقي اردال قد ترك الدراسة في نهاية المرحلة الاعدادية وعمل في شركة المقاولون العرب المصرية التي كانت تنفّذ مشروع ري كركوك وذلك لعدم تمكّنمه من اجتياز الامتحانات الوزارية وليتمكّن من مساعدة والدي على تحمّل اعباء العيش.
بدأت الحالة المادية للعائلة بالتحسّن بعد تخرّج شقيقتي وتعيينها في المستشفى فأجّرنا دارا في حي تسعين الجديدة الذي عكس الرفاه النسبي للعائلة.
اضافة الى انغماسي في الدراسة وممارستي لهواياتي بدأت بالتفكير في الجنس الاخر، فمرحلة المراهقة مرحلة حرجة في حياة الانسان، ونظرا لتديّني فلم اكن اشاطر اقراني واخواني في مغامراتهم العاطفية.
كانت هناك فتيات عديدات اللواتي حزن على اعجابي في المراحل المختلفة من صباي وشبابي وكان لانتقالنا المستمر من دار الى اخر دورا كبيرا في اختياري لفتاة احلامي، فلكلّ محلّة فتاة احلام المتمثلة في بنت الجيران واتذكر انّ اول حب داعب اوتار قلبي الصغير عندما كنت في الحادية عشر من العمر وكانت الحبيبة صبية تسكن قبالة دارنا. جميع هؤلاء لم يكنّ يعرفن بشعوري نحوهن ولم اجرؤ على مفاتحتهنّ لطبيعتي الخجولة وظلّت في نفسي رغبة كامنة لتمثيل دور البطل في قصة حب حقيقية اسوة باقراني ومحاكاة لقصص الحب التي كنت اقرأُها في الروايات واشاهدها في الافلام السينمائية.
انّ هذا الكبت المستمر لاحاسيسي وعواطفي تجاه الجنس اللطيف كان له ابلغ الاثر في تفجير طاقاتي الشعرية في المراحل اللاحقة من شبابي اضافة الى قصة الحب الّتي نسجت خيوطها في المرحلة الاخيرة من دراستي في الاعدادية، هذه القصّة الّتي لم تبدا ولم تنتهي كالقصص السابقة.
كنت في فترة الطفولة والصبا ارافق اسرتي في الزيارات الّتي كانوا يتبادلونها مع الاقرباء وكان من بينهم احدى قريباتنا من جهة والدي، كانت هذه العائلة مكونّة من بنت خالة والدي وزوجها وولداها وبناتها الثمانية. كانت البنت السابعة اسماء تماثلني في العمر وكنّت اقضي خلال هذه الزيارات سويعات حلوة في اللعب البريء معها ولكن هذه الزيارات قلّت خلال الفترات التالية ورسّبت في عقلي الباطن ذكريات جميلة ثمّ لفّها ضباب النسيان فاصبحت كالشرنقة الملفوفة بخيوط الحرير تنتظر قدوم فصل الربيع لتنشق وتنطلق منها فراشة الحب نحو الضياء والامل.
بدات في السنة الاخيرة من دراستي الاعدادية احس بحنين وشوق نحو رفيقة صباي وبدات اتسقّط اخبارها واتذكر انّي لمحتها في احدى المرّات في الحافلة من بُعد، هذه اللمحة اليتيمة الّتي اثارت كوامن ذكرياتي. في تلك الفترة طرق الى سمعي انّ ابن خالتها معجب بها وهناك اتفاق عائلي على تزويجها له واعتقدت بانّ هنالك حب متبادل بينهما. انّ هذا الخبر وانشغالي بالدراسة ساعدا على طي صفحة من صفحات قصة هذا الحب الى حين.
في هذه المرحلة زاد افق تفكيري واطّلعت على نظريات جديدة تبحث في اصل الانسان كنظرية النشوء والتطوّر لتشارلس داروين في كتاب درس الاحياء وبالرغم من وجود فصل كامل حول هذه النظرية في كتاب درس الحيوان فانّ تعليمات وزارة التربية كانت تمنع تدريسها وكانت مستبعدة من المنهج المقرر.
بدات اكثر من مطالعاتي للكتب الادبية والفكرية واقضي ساعات طويلة في المكتبة العامة الوحيدة في مدينة كركوك كما كنت استعير منها الكتب لمطالعتها في البيت، ولكن بالرغم من اطلاعي على هذه الافكار الجديدة ونقاشاتي مع زملائي حول اصل الكون والانسان فانّ ايماني بالله ورسوله محمّد لم يتزعزع واتجهت الى مطالعة كتب المفكرين الاسلاميين امثال سيّد قطب ومحمّد قطب ككتاب العدالة الاجتماعية الاسلام وشبهات حول الاسلام لعلّي اجد في هذه الكتب تفسيرا للتناقضات الموجودة بين النظريات العلمية الحديثة والنظرة الدينية حول نشوء الكون واصل الانسان والحيوان والنبات.
بعد اجتيازي الامتحان الوزاري للمرحلة الاعدادية بتفوّق الّذي كان مثار اعتزاز والدي واهلي حيث كنت الاوّل في الترتيب لجميع المدارس الاعدادية في مدينة الذهب الاسود.
بدات افكّر في الكلية التي ساختارها، وكان مجموع درجاتي يؤهلني للانتساب الى اية كلية ارغب في الدراسة فيها.
في تلك الفترة من سنة 1966 وهي الفترة الّتي انتشرت فيها وباء الهيضة في العراق، كان امامي عدة خيارات، الخيار الاوّل كان التقديم لبعثة على نفقة وزارة النفط للدراسة في المملكة المتحدة للحصول على شهادة البكلوريوس في هندسة النفط، كماعرض عليّ والدي قبول زمالة دراسية لدراسة الطب في جامعة حاجت تبّة في انقرة بوساطة احد معارفه في الملحقية الثقافية في السفارة التركية، ولكنّي رفضت جميع هذه العروض المغرية وقررت دراسة الهندسة المعمارية في كلية الهندسة في جامعة بغداد.
كانت لدراسة شقيقي يلماز في كلية الهنسة تاثيرا كبيرا في اتّخاذي لهذا القرار فقد احببت مهنة الهندسة بعد اطلاعي على مناهجه الدراسية ووجدت في الهندسة المعمارية مجالا لاشباع ميولي الفنية ورغبتي الكامنة للخلق والابداع.
انّ الهندسة المعمارية فن منطقي يتناسب مع حاجة الانسان ويستنبط من هذه الحاجة لتهيئة محيط يتكيّف لمتطلباته ويوفّر للانسان الجو الملائم لانجاز طاقاته المختلفة على اتم وجه وباحسن صورة، ويلم المهندس المعماري بجميع الفروع العلمية بدرجة تمكّنه من تنسيق اعمال ذوي الاختصاص فيها للوصول الى الهدف معبرا عنها بلغته كفنان بالمخططات التصميمية والتصويرية.
لم اكن اعرف هذه المعلومات التفصيلية عن الهندسة المعمارية حينذاك ومع ذلك قدّمت وثائقي الى مركز القبول في جامعة بغداد مسجّلا فيها اختيارا واحدا هو القسم المعماري في كلية الهندسة بالرغم من انّ التعليمات كانت تنص على ادراج عدّة اختيارات ولكن المجموع الّذي حصلت عليه في الامتحان منحني الثقة الكافية لادراج هذا الاختيار الوحيد.
انّ مسيرة الحياة هي كرحلة القطار تتوقف في محطات متعددة فيتوجب على المسافر اختيار الطريق الّذي سيسلكه في تلك المحطات، انّ هذه الاختيارات هي الّتي تحدد مسار حياة الانسان في هذه الحياة المليئة بالالام والافراح والزاخرة بالاحاسيس المتناقضة من حب وكره وامل ويأس.
بدأ ألعام ألدراسي في أوائل الخريف من عام 1966 فحزمت امتعتي للسفر الى العاصمة بغداد الّتي زرتها زيارتين قصيرتين سابقا. إنّ هذه الرحلة نحو المجهول كانت مشوبة بقلق فهذه اوّل مرّة اترك فيها بيتي ومدينتي وعائلتي لاخوض غمار الحياة وحيدا.
توفيرألسكن كانت أوّل مشكلة جابهتني في بغداد، فبعد معرفتي بأنّ أجراءات القبول في ألأقسام الداخلية للطلبة ستستغرق عدة شهور قررت مع زميلي سليم السكن في فندق نجاة في ساحة الميدان. كان فندق نجاة فندقا متواضعا ومناسبا لدخلنا المحدود ويتميّز بقربه من كلية الهندسة والطب.
كان سليم مقبولا في كلية الطب ولكنّه بعد فترة وجيزة من الدوام في الكليّة فاتحني برغبته في الانتقال الى كليّة الهندسة لانّه اصيب برد فعل من دروس الطب وخاصّة درس التشريح حيث لم يعجبه منظر الطلبة وهم يقطّعون الجثث بمشارطهم، وتحققت رغبته الجديدة فانتقل الى القسم المدني من كلية الهندسة.
كنّا نقضي النهار في الكليّة وفي المساء نعود الى غرفتنا في الفندق بعد تناول وجبة الطعام في المطعم القريب من الفندق لمراجعة الدروس وتحضير الواجبات لليوم التالي.
لم يكن جو الفندق ملائما للدراسة فضيق الغرفة وضوضاء النزلاء ظلّت تعيقنا عن الدراسة وخاصّة بالنسبة لي حيث لم تكن الغرفة تتسع للوحة الرسم الهندسي والّتي اشتريتها بخمس دنانير من احد طلّاب الصف الثاني، امّا بالنسبة للدروس النظرية فكنت ادرسها في مكتبة الكليّة او في المكتبة المركزيّة للجامعة.
بعد قضاء عدّة شهور في الفندق انتقلنا مع سليم وزميلنا عصمت الى القسم الداخلي لنادي الاخاء التركماني وكان هذا القسم الداخلي افضل من الفندق نسبيا واشتركت مع سليم وعصمت في الغرفة المخصصة لنا.
كان هذا النادي الاجتماعي والثقافي الّذي تأسس في بداية الستينات يهتم بشؤون التركمان القاطنين في بغداد ومعظمهم من العائلات التي هاجرت من مدينة كركوك بعد احداث مجزرة كركوك عام 1959. كان النادي ينظّم حفلات فنيّة ويقوم بفعاليات ثقافية واجتماعية اضافة الى تنظيم سفرات وحفلات تعارف للطلاب التركمان الدارسين في جامعة بغداد اضافة الى اصدار مجلّة ثقافية وادبية باللغتين العربية والتركمانية باسم مجلّة الاخاء.
بعد امتحانات نصف السنة قُبِلت مع سليم في القسم الداخلي لجامعة بغداد واهّلني مجموع درجاتي في الامتحانات للاعدادية العامة للحصول على منحة شهرية قدرها سبع دنانير ونصف الدينار لتغطية مصاريفي الدراسية الجامعية.
كان القسم الداخلي للجامعة في ضواحي بغداد وابنيته كانت تشكّل جزءا من مدينة الرشاد والّتي انشئت من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لتحوي ملجأ للايتام ومساكن للعجزة والمسنين وقد تمّ إستإجارها من قبل جامعة بغداد وحوّلت الى اقسام داخلية للطلبة الدارسين في المراحل الثلاث الاولى من كليات الجامعة.
بالقرب من الاقسام الداخلية كان يربض مستشفى الشماعية للامراض النفسية والعقلية وهو المستشفى الوحيد المتخصص في هذا المجال في العراق.
كان القسم الداخلي المخصص لنا عبارة عن مبنى مكوّن من طابق واحد يطل غرفه المتلاصقة على ممر طويل وتمّ تخصيص غرفة لكلّ طالبين فأشتركت مع زميلى سليم في احدى هذه الغرف، ونظرا لبعد القسم الداخلي من الكليّات فقد خصصت الجامعة حافلات خاصّة لنقل الطلّاب من والى الجامعة ولم يكن بأستطاعتنا المكوث في مدينة بغداد الّا لفترات محددة مرتبطة بمواعيد حركة الحافلات.
كانت الدراسة في السنة الاولى في القسم المعماري من اصعب السنين بالنسبة لي، فاضافة الى ظروف السكن الغير الملائم وعدم تعودي على البعد عن العائلة وعن مدينتي فانّ الدروس كانت باللغة الانكليزية، اضافة الى ذلك فانّ القسم الّذي اخترته كان من اصعب الاقسام الهندسية، فعلاوة على الدروس المشتركة مع الاقسام الاخرى كالفيزياء والرياضيات كان للقسم المعماري دروس اضافية كالتصميم المعماري والرسم المعماري والرسم اليدوي.
كان يومنا مثقلا بالواجبات البيتية للدروس المعمارية بحيث كنت اسهر حتّى الفجر في معظم الايام لاتمكن من اكمال واجباتي ولم يكن لي معارف في الصفوف المتقدمة من القسم المعماري لتوجيهي ومساعدتي كبقية معظم زملائي من سكنة بغداد.
بالرغم من الجهود الّتي بذلتها في الدراسة لم تكن العلامات الّتي حصلت عليها في الدروس المعمارية مشجّعة مما سببت لي قلقا والما نظرا لتعودي على التفوق في الدراسة وان اكون الاول دائما بين اقراني.
انّ عقدة التفوق سلاح ذو حدّين تجرح المتسلح بها احيانا جروحا بليغة لا تندمل بيسر، ففي نهاية السنة الدراسية استلمت النتيجة فكنت مكملا في درس الرسم اليدوي وكانت هذه النتيجة مؤلمة ومخيّبة لامالي وعزوت السبب الى خطأي في اختيار هذا القسم، ونظرا لتفوقي في الدروس النظرية كالفيزياء والرياضيات حاولت بعد اجتيازي لامتحان الدور الثاني ونجاحي الى المرحلة الثانية التحوّل الى قسم الميكانيك ولكنّ تعليمات كليّة الهندسة كانت لا تسمح بالانتقال الى المرحلة الثانية في حالة التغيير من القسم المعماري الى الاقسام الاخرى وذلك لاختلاف في المناهج بين قسمنا والاقسام الاخرى وهذا يعني فقداني لسنة كاملة وحرماني من منحة الجامعة والسكن في الاقسام الداخلية وهذا الامر لم يكن بمقدوري تحمّله للظروف المادية الّتي كانت عائلتي تعاني منها في تلك الفترة، لذا عدّلت عن قراري وعزمت على اكمال الدراسة في القسم المعماري.
بعد انقضاء السنة الدراسية الاولى ابتُ الى مدينة كركوك وقضيت العطلة الصيفية فيها ثم سافرت برفقة سليم الى بغداد بعد انتهاء العطلة لاكمال دراستي في الجامعة.
في الخامس من حزيران من عام 1967 اندلعت الحرب العربية الاسرائيلية والتي سُميّت بنكسة حزيران، لقد ترك هذا الحرب اثارا عميقة في نفسية المواطن العراقي والعربي، وكان طعم الهزيمة مرّا كالعلقم وانعكست اثار الهزيمة على الوضع السياسي للقطر برمّته وتوضّحت هذه الآثار في الحياة الجامعية، فالعام الثاني من دراستي صاحبه اضرابات طلّابية وصراعات بين الاحزاب المختلفة.
خلال هذه الاحداث الّتي هزّت كيان المجتمع العراقي والعربي كنت في المرحلة الثانية من دراستي الجامعية وكنت قد انتقلت من غرفتي الى قاعة منام كبيرة ضمّت عشرين طالبا جامعيا من كليات مختلفة ولم تكن هذه القاعة ملائما لدراستي المعمارية، لانّ الطالب الدارس في القسم المعماري عليه السهر حتّى انبلاج خيوط الفجر عند تهيئته التصاميم المعمارية وهذا الامر كان يتعارض مع كون القاعة مخصصة للنوم فقط، فالانارة الّتي كنت احتاجها لتحضير المخططات كانت تزعج زملائي في القاعة الذين يرومون النوم.
في تلك الفترة كان عبدالسلام عارف رئيسا للجمهورية خلفا لشقيقه عبدالسلام عارف الّذي قضى نحبه في حادث سقوط الطائرة العمودية الّتي كانت تقلّه في جنوب العراق. عبدالسلام عارف استحوذ على الحكم في العراق عدة سنوات بعد ابعاد البعثيين الّذين اشتركوا معه في القضاء على حكم الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1963 وسُمي هذا الانقلاب في حينه بثورة 14 رمضان لحدوثه في شهر رمضان.
بعد ذلك حدثت تغييرات سياسية في القطر وذلك بعد حدوث انقلاب آخر في السابع عشر من تمّوز من عام 1968 واستلام حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة بصورة كاملة في الثلاثين من تمّوز من الشهر نفسه وذلك بعد تصفية القادة العسكريين من انصار رئيس الجمهورية عبدالرحمن عارف الّذين اشتركوا مع البعثيين في التخطيط للانقلاب وتنفيذه.
بعد استقرار الوضع واستلام حزب البعث لمقاليد الحكم اصبح الزعيم احمد حسن البكر رئيسا للجمهورية ورئيسا للوزراء، اما صدّام حسين فقد اصبح مسؤولا عن الجهاز الامني للحزب.
تميّز الحكم الجديد بسلبيات عديدة وبعض الايجابيات، فبالنسبة للتركمان فقد تمّ منحهم حقوقا ثقافية وبقرار من مجلس قيادة الثورة وتمّ تشكيل اتّحاد لادباء التركمان ومديرية للثقافة التركمانية وكذلك أُقرّ التدريس في المرحلة الابتدائية باللغة التركمانية للمدن والاقضية والنواحي والقرى الّتي اكثريتها من التركمان، ولكنّ بعض هذه الحقوق تمّ الغاءها بعد استلام صدّام حسين للسلطة بعد ازاحته للمهيب احمد حسن البكر من منصب رئيس الجمهورية وقيادة مجلس قيادة الثورة في عام 1979. بعد الغاء الدراسة باللغة التركمانية قام المعلمون والمدرسون والطلبة التركمان باضراب عن الدراسة وتمّ اعتقال بعض المعلمّين واستشهد احدهم في المعتقل نتيجة التعذيب، على اثر تلك الاحداث اعتصم الطلاب التركمان الدارسون في جامعة بغداد باعتصام امام مبنى الاتحاد الوطني لطلبة العراق وقدّموا مطالبهم المكتوبة الى رئيس الاتحاد كريم المللا ومنها اطلاق سراح المعتقلين واعادة الدراسة باللغة التركمانية في المدارس.
على صعيد آخر تمّ في عهد المهيب احمد حسن البكر تأميم النفط في الواحد من حزيران من عام 1972 وكذلك مُنح الحكم الذاتي للاكراد وبدأت حملة للقضاء على الاميّة.
بعد تأميم النفط وفشل الحصار الاقتصادي على العراق والّتي كانت كرد فعل على التأميم ازدهر الاقتصاد العراقي في تلك الفترة.
لم يكن العام الدراسي الثاني مختلفا عن العام الاول، فالمعوقات استمرت ولم استطع التكيّف مع الجو الجامعي والتفوق في دروسي وكانت النتيجة اعادتي للامتحانات في الدور الثاني لدرسين مما حزّ في نفسي وحرّمني من التمتع بالأجازة الصيفية الّتي قضيتها في اعداد المخططات والتحضير لامتحانات الدور الثاني الّتي اجتزتها بنجاح متواضع.
في المرحلة الثالثة من دراستي الجامعية استطعت التكيّف مع الظروف وسكنت في غرفة مستقلّة مع زميل من كليّة الاداب وفي نفس القسم الداخلي، وبدأت علاماتي في الدروس وخاصّة درس التصميم المعماري بالتحسّن مما شجّعني على بذل المزيد من الجهد بحيث اجتزت هذه المرحلة بصورة جيّدة.
في المرحلة الرابعة من دراستي المؤلفة من خمس مراحل انتقلت للسكن في دار الطلبة في ساحة الباب المعظم وكانت كلية الهندسة مجاورة للقسم الداخلي.
كان مبنى دار الطلبة مكوّنا من عدّة طوابق وقد تمّ تخصيص غرفة في الطابق الاول تسع لستّة طلاب وشاركني فيها خمسة زملاء من كليّات متنوّعة.
الزميل الاول كان يدرس في القسم المعماري وهو من مدينة الحلّة، الزميلان الثاني والثالث كانا يدرسان في القسم المدني من كليّة الهندسة، امّا الزميلان الآخران فكانا من كليّة العلوم.
كانت هذه التشكيلة التّي شاركتني في الغرفة في الغرفة رقم واحد من محافظات مختلفة وذو اتجاهات سياسية متنوعة ومن قوميات مختلفة، فأنا تركماني من مدينة كركوك ولم اكن منتميا الى حزب سياسي مع تميّز هذه الفترة من حياتي بتطرّفي في التديّن واكثاري من مطالعة الكتب الدينية وقضائي لمعظم اوقاتي في الصلاة وارتياد المساجد والقيام بدور المؤذن او الامام لمسجد القسم الداخلي.
هذا التطرّف في التمسّك بتعاليم الدين الاسلامي واكثاري من مطالعة الكتب الدينية والتطورات الّتي صاحبت هذه الحالة أثّرت على دراستي الجامعيّة الّتي كانت تحتاج الى ذهن صافي وتفرّغ تام.
نتيجة لعقيدتي الدينية عانيت من صراع داخل في لاشعوري بين رغبتي في مواكبة متطلّبات الحياة العصريّة ونواهي الدين الاسلامي الّتي كانت تتعارض مع هذه المتطلبات، هذا الصراع الدامي في دهاليز عقلي اتعبني واورثني شرودا في الذهن.
زميلاي في الغرفة عبّاس ومحمود كانا منتميين الى حزب البعث العربي الاشتراكي وعضوين فعّالين في كادر الاتحاد الوطني لطلبة العراق التابع لحزب البعث واصبح عبّاس في نهاية الثمانينات وزيرا للاسكان والتعمير وهي نفس الوزارة التي عملت فيها بعد تخرّجي من الجامعة وقد التقيت به خلال زيارته لموقع عملي في المركز القومي للاستشارت الهندسية والمعمارية واستدعاني الى غرفة المدير العام للمركز فأسترجعنا بعضا من ذكريات القسم الداخلي.
امّا بالنسبة الى الزملاء الآخرين فقد كان جمال احد اعضاء جماعة الاخوان المسلمون الّذين كانوا يعملون على شكل خلايا سريّة في تلك الفترة خشيّة من بطش الحكّام البعثيين، وكان جمال قادما للدراسة من مدينة الموصل ولم يكن للزميلين الآخرين انتماءات الى ايّ حزب او تنظيم سياسي.
بعد العطلة الربيعية حاولت جماعة الاخوان المسلمون اجراء اوّل اتصّال لهم معي لغرض ضمّي الى صفوفهم وذلك بعد ان تمّ مراقبتي في الكليّة والقسم الداخلي.
كنت في تلك الفترة من شبابي اؤمن ايمانا عميقا بأنّ التمسّك بشعائر الدين الاسلامي من صلاة وصوم وغيرها من الطقوس الدينية ليس كافيا لارضاء الله فالاسلام دين ودولة ولا يكمل ايمان المسلم ما لم يسع الى تطبيق جميع تعاليم الاسلام في الحياة والحكم ويدعو بهذه الدعوة وكانت هذه الافكار مترسّخة في عقلي نتيجة لمطالعتي لكتب سيّد قطب وشقيقه محمّد قطب.
تمّ الاتّصال الاول معي من قبل احد طلّاب المرحلة الرابعة من القسم المدني في كلية الهندسة وقد رحّبت بالمبادرة وتمّ الاتفاق معه على عقد اوّل اجتماع في مسكنه بعد ثلاث ايّام عقب صلاة الجمعة. تعرّفت اثناء الاجتماع على اخواني في الخليّة والّتي كانت مكوّنة من اربعة اشخاص وكنّا جميعا من طلّاب كليّة الهندسة عدا امير الخليّة فقد كان مهندسا حديث التخرّج.
كانت معلوماتي حول الاحزاب السياسية والتنظيمات الدينية شحيحة فكنت اتوّقع ملأ استمارات للانتساب او اعطاءهم صور فوتوغرافية في الاجتماع الاوّل او الّذي يليه ولكن شيئا من هذا لم يحدث واقتصرت الاجتماعات الاسبوعية على تلاوة القرآن وترديد بعض السوّر القرآنية الّتي كنّا نُكلف بحفظها خلال الاسبوع وبعض المناقشات السطحية حول الاوضاع السياسية.
استمرت اتصالاتي بهذا التنظيم واقتصرت على الاجتماعات الاسبوعية حتّى نهاية السنة الدراسية للمرحلة الرابعة وقد اثّر هذا التطوّر الجديد على دراستي الجامعية تأثيرا كبيرا،لأنّي بدأت اعتبر النجاح في الدراسة هدفا تافها بالقياس للاهداف العظيمة الّتي بدأت تترسخ في لاشعوري وأعني بهذا هدف المشاركة في انشاء دولة تحكم بالشريعة الاسلامية من الفه الى يائه.
استلمت نتيجة السنة الدراسية فكانت محبطة وتوجب عليّ اعادة الامتحان وتهيئة مشاريع لثلاث دروس اساسية هي التصميم المعماري وتخطيط المدن والتصميم الداخلي للابنية.
حزمت امتعتي وقفلت راجعا الى كركوك برفقة خيبتي واحزاني ولم تفارقني الكآبة والشعور بالاحباط خلال العطلة الصيفية الّتي قضيتها في اعداد المخططات والمشاريع الّتي كُلّفتُ باعدادها من قبل اساتذتي والتحضير لامتحانات الدور الثاني.
شعوري بالقلق والمرارة الّذي استحوذ على تفكيري اعاقتني عن المثابرة والاندفاع لتجاوز هذه المحنة القاسية، كنت اتهرّب من الدراسة بمختلف الوسائل كممارسة بعض الالعاب الرياضية كلعبة التنس والسباحة وكنت أُكثِرُ من لقاء الاصدقاء.
تمّ خلال هذه الفترة اعادة اتصالي بجماعة الاخوان المسلمون في مدينة كركوك وبدات الاجتماعات الاسبوعية وسارت على نفس الوتيرة المملّة السابقة وبدأ حماسي يفتر تدريجيا ربّما نتيجة للظروف النفسية الّتي كنت امر بها في تلك الايام او لتناقض افكار الاخوان المسلمون مع الشعور القومي المترسّب في لاشعوري منذ الطفولة نتيجة لتربيتي في كنف والد ذو نزعة قومية.
في هذه الفترة العصيبة من حياتي تفجّرت طاقاتي الشعرية فكتبت عدة قصائد باللغة التركية وكان للقلق الّذي لازمني كظلّي تأثيرا كبيرا في ذلك التطوّر.
انّ القلق يهدم الجدار الحاجز بين الوعي واللاوعي والاخير هو مصدر النبضات والدفقات الشعرية، انّ شيطان الشعر يربض وراء هذا الجدار منتظرا الفرصة السانحة لاثبات ذاته والوثوب الى الساحة. وقد نشرت بعض هذه القصائد في مجلّة الاخاء الادبية.
في نهاية العطلة الصيفية سافرت الى بغداد وقدّمت المشاريع التصميمية الّتي اعدتها الى اساتذة القسم المعماري واديت الامتحانات ثمّ قفلت راجعا الى مدينة الذهب الاسود.
بدأت مرحلة الانتظار للنتيجة ولم تطل فعلمت بفشلي في اجتياز الامتحانات وتعذر عليّ الانتقال الى المرحلة الخامسة والاخيرة من دراستي المعمارية وكان يتوجب عليّ اعادة السنة الدراسية وحضور محاضرات درسي التصميم المعماري وتخطيط المدن خلال العام الدراسي القادم اما بقية الدروس الّتي نجحت فيها فقد أُعفيتُ من اعادتها حسب نظام جامعة بغداد.
وقع عليّ خبر رسوبي وقع الصاعقة وزلزل الارض تحت اقدامي، فهذا اوّل فشل اجابهه في حياتي واوّل حجر اتعثر به. انّ تجربة الفشل يمر بها كثير من النّاس ولا تترك اثارا مدمّرة في حياتهم ويستطيع معظمهم تجاوز ازمته والتغلّب على النكسات والتكيّف مع الوضع المستجَد ولكن الحالة معي كانت مختلفة تماما فقد كنت متعودا على التفوّق وكنت الاوّل دائما خلال دراستي في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية من دراستي، لهذا لم يتقبّل عقلي الامر بسهولة وخيّم عليّ سحابة من الحزن والكآبة وبدأت مشارط القلق تمزّقني اربا وامسى الارق رفيقي وتبعثر تفكيري كما يتبعثر حبّات العقد بعد انقطاع الخيط.
بعد اسبوع من استلامي لنتيجة الامتحان كان عليّ ان احمل حقائبي للسفر الى بغداد مرّة اخرى لأكمل رحلة الدراسة او رحلة العذاب، وبدأت اتساءل لم كلّ هذه الامتحانات في الحياة؟ الامتحان في كلّ مكان وزمان خلال هذه الحياة القصيرة حتّى الله يمتحننا في الحياة الدنيا واذا نجحنا فسيجازينا بالجنّة وان فشلنا فلنا جهنّم وبئس القرار.
اوّل معضلة جابهتني كانت تدبير السكن لانّه لم يكن يحقّ لي البقاء في القسم الداخلي بعد رسوبي وتمّ قطع المنحة الدراسية الّتي كنت استلمها من الجامعة فأحسست بأنّي سأضيف عبئا ماليا على كاهل ابي الّذي كان يرزح تحت ثقل مصاريف العائلة بعد تعطّل شقيقي اردال عن العمل بعد مغادرة شركة المقاولون العرب الّتي كان يعمل فيها القطر نتيجة خسائرها في مشروع ري كركوك ولم يكن شقيقي الآخر يلماز قد توظّف بعد تخرّجه من جامعة الموصل قسم الهندسة المدنية بعدُ لانّ القطر كان يمر بحالة ركود اقتصادي في تلك الفترة نتيجة للحصار الّذي فرضته مجموعة شركات النفط على بيع النفط بعد قرار الحكومة العراقية تأميم نفط العراق.
شركة نفط العراق الشهيرة بتسمية (IPC) هي التسمية التي اطلقت على شركة النفط التركية بعد سقوط الدولة العثمانية. إذ قامت الشركة باستخراج النفط لأول مرة في حقل بابا كركر في عام 1927. وحصلت الشركة على موافقات متعددة لاستخراج النفط في المملكة العربية السعودية والكويت ودبي وكانت الشركة تمتلك حقوق استخراج النفط في تلك الحقول حتى عام 1961.
في عام 1961 قام رئيس الوزراء العراقي الزعيم عبد الكريم قاسم بتشريع القانون رقم 80 الذي بموجبه حدد عمل الشركات الاجنبية بالحقول التي كانت تعمل بها دون السماح لها باكتشاف حقول جديدة حتى عام 1964 حيث أسس الرئيس عبد السلام عارف منشأة عراقية وطنية سميت (شركة النفط الوطنية) وكان الهدف منها البحث عن حقول جديدة واستثمارها وطنيا وفي عام 1972 تم تاميم مجموعة شركات نفط العراق المحدودة (IPC) من قبل الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر.
قام مجلس قيادة الثورة بتأميم شركة نفط العراق باصدار القانون رقم 69 في 1 حزيران 1972 الذي تلاه عبر الاذاعة والتلفزيون رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية احمد حسن البكر والذي تم بموجبه نقل جميع الاموال والحقوق والموجودات التي آلت الى الدولة عن ذلك الى شركة حكومية جديدة باسم الشركة العراقية للعمليات النفطية لتدار من قبل موظفي وعمال شركة نفط العراق المؤممة.
لقد كان رد مجموعة شركات النفط سريعا حيث اعتبرت تأميم منشآت شركة نفط العراق خرقا لشروط اتفاقية امتيازها وللقانون الدولي واحتفظت بحقها لاتخاذ كافة الاجراءات القانونية ضد الحكومة وكل من يقوم بشراء نفطها المؤمم.
بعد سكني لبضعة ايام في شقّة ابن خالتي في الكرادة الشرقية استأجرت بمشاركة عدد من الاصدقاء شقّة في الوزيرية بالقرب من جسر الصرّافية.
بعد انقضاء شهرين من السنة الدراسية عدت الى كركوك لقضاء عطلة عيد الفطر مع العائلة، هذا العيد الّذي لم يمر كبقية الاعياد، ففي صبيحة اليوم الثاني منه زارتنا قريبتنا احلام لوحدها لتبادل التهاني بهذه المناسبة السعيدة. كانت هذه الزيارة مفاجأة بالنسبة لي لانّ الزيارات المتبادلة بين عائلتي وعائلتها كانت نادرة ففسّرت تلك الزيارة تفسيرا خاطئا كما اكتشفت ذلك بعدئذ ولكنّي احسست في ذلك الصباح الندي بعاطفة جيّاشة نحو احلام وأعترتني رعشة دافئة عندما صافحتني.
ظللت بعد هذه الزيارة فترة طويلة استرجع تفاصيلها وأنسج حولها في خيالي قصّة حب خالدة.
بدأت بعد صبيحة هذا العيد اقتات على هذه القصّة الوهمية الجميلة عامان نظّمت خلالها اجمل قصائدي.
بعد انقضاء اجازة العيد قفلت عائدا الى بغداد محمّلا بحبي ووهمي لأبدأ الدوام في الكليّة مرّة أخرى.
صار دوامي يبدأ في العاشرة صباحا ولأيام معينة من الاسبوع وكنت احضر الدرسان اللذان رسبت فيهما وهما التصميم المعماري وتخطيط المدن.
كنت احضر هذان الدرسان بفكر شارد وذهن مشتت وبلا ايّة رغبة وكنت اتهرّب من بعض المحاضرات وأتخلّف عن تقديم قسم من المشاريع، امّا المشاريع او التصاميم الّتي كنت انجزها فلم اكن ابذل جهدا في اعدادها، وظلّ الارق اللعين رفيقي الدائم في تلك الليالي العصيبة، وبدأ شبح الفصل من الكليّة يطاردني ويسرق النوم من اجفاني، فالرسوب في هذا العام حتميّ اذا ظللت على هذا المنوال، فالنتائج الشهرية والفصلية كانت متردّية وتنذر بحلول كارثة لا قِبلَ لي بتحمل اثارها المدمّرة، فزاد قلقي وغمرتني موجة من الكآبة وانزلقت نحو حافة الانهيار.
في محاولة عقيمة لرفع معنوياتي المنهارة ولكي اتخلّص من احساسي بأنّي اصبحت عالة على والدي وعائلتي، عملت ولفترات متقطّعة في بعض المكاتب الهندسية لاساتذتي ولكنّ حالتي النفسية استمرت في التدهور لذلك قررت تأجيل دراستي لتلك السنة الدراسية وفعلا حصلت على موافقة رئاسة صحّة الجامعة على التأجيل.
بعد صدور الموافقة على تأجيل دراستي لتلك السنة الدراسية أبتُ الى مدينة الذهب الاسود وقضيت فيها الشهور القليلة المتبقيّة من العام الدراسي وشهور العطلة الصيفية.
كان قلبي مايزال متعلّقا باحلام وطلبت من عائلتي ان يخطبوها لي فأنصاعوا صاغرين لرغبتي الجنونية، ولكنّ اهلها أبدوا رغبتهم في تأجيل الخطبة حتّى اكمالنا الدراسة الجامعية وكانت احلام تدرس في كليّة العلوم في جامعة الموصل.
بعد فترة ندمتُ على تسرّعي وأنّبت نفسي لانّي لم اتحقق من شعورها نحوي قبل الاقدام على هذه الخطوة المصيرية فكانت هذه صحوة ومحاولة لرؤية الحقائق بوضوح من خلال ضباب الاوهام الّذي كان يحيط بعقلي حاجبا شعاع الحقيقة عن ناظري.
بعد هذه الظروف الّتي عشت في دوّامتها والّتي كانت تتقاذفني كامواج البحر الهائج يمينا وشمالا قطعت اتصالي بتنظيم الاخوان المسلمون وانكمشت على نفسي داخل قوقعتي وبدأت الشكوك تراودني حول وجود الخالق وارساله للانبياء وتمزّق نسيج عقلي كما يتمزق نسيج العنكبوت في ليلة عاصفة.
في شهر ايلول من خريف عام 1971 عدتُ الى مقاعد الدراسة ولكنّ تفاعلي مع الدراسة لم يصبح في هذا العام افضل من سابقه، فعقلي كان مشتتا ودوامة من التعاسة كانت تلّفني وبات الارق اللعين لا يفارقني كظلّي طاردا الكرى من جفوني فكنتُ اظلّ مسهدا في عتمة الليل حتى انبلاج خيوط الفجر وعيناي تحملقان في سقف الغرفة، وكنت اكتب معظم قصائدي في هذه الساعات العصيبة من اليوم حيث السكون السرمدي يلّف الكون وأنا ممد على الفراش احاور شيطان الشعر في لاشعوري وافكّر في حبّي ومستقبلي.
في محاولة لمعرفة شعور حبيبتي انتفضت وكتبت لها رسالة ضمنتها مشاعري تجاهها وطلبت منها الرد.
بعد انتظار لم يطل جاءني الرد على تساؤلي فايقنت بانّها لا تحسُّ نحوي بأيّة عاطفة حب وتعتبرني كأخ لها وتمنت لي في ختام رسالتها التوفيق والارتباط بفتاة تبادلني شعوري بالحب ورجتني ان امزّق خطابها، وفعلا مزّقت الخطاب فتمزّق معه اوهامي وامالي وقصّة حبّي الّتي وأدتها في اعماقي وبدأت رحلة النسيان.
بعد الصدمة الثانية هذه ازدادت شكوكي حول المسألة الدينية ربّما لانّ العقل الباطن عند تلّقيه صدمة عنيفة يتخلّص من العقائد او الافكار الّتي ترّسخت في لاوعيه نتيجة الايحاء والتكرار كما يتخلّص الحديد المصهور من الخبث.
بدأت أُكثِر من مطالعاتي للكتب الفلسفية والفكرية الّتي تلائم اتجاه تفكيري الجديد الى ان وصلت الى قناعة بعدم وجود خالق لهذا الكون وأنّ الله لم يخلق آدم من تراب وأنّ الانسان تطوّر من خليّة نباتية بدائية الى حيوان ثمّ الى انسان يمشي على قائمتين عبر مرحلة تطوّر استغرقت مليارات من السنين، ومما رسّخ اعتقادي هذا اطّلاعي على مؤلف العالم تشارلس داروين في اصل الانواع والمؤلفات الفكرية للعالم النفساني سيجموند فرويد وبالاخص مؤلَّفه موسى والتوحيد الّذي يدرس ويحلل فيه فرويد شخصيّة موسى ونشوء اوّل ديانة توحيدية في تاريخ الانسانية من وجهتي النظر التاريخية والتحليلية النفسية ويحاول ان يثبت بان موسى لم يكن يهوديا بل مصريا وأنّه نقل الديانة التوحيدية للفرعون المصري الثائر أخناتون الى الشعب اليهودي.
انعكس تأثير هذا التحوّل الفكري على سلوكي فانتقلت الى حياة مختلفة عن سابقتها تاركا وراء ظهرانيَّ بعض نواهي الدين ولكنّي ظللت محتفظا بمعظم افكاري المثالية وخاصة الاخلاق الحميدة كالصدق والايثار والجوانب الايجابية الاخرى الّتي جاء بها محمّد في دينه الجديد.
في محاولة لنسيان فشلي في الدراسة والحب بدأت بمعاقرة الخمر. في هذه الفترة العصيبة من حياتي سكنت في فندق بغداد الدولي في الحيدرخانة وكان فندقا متواضعا بالرغم انّ اسمه لايوحي بذلك. في هذا الفندق تعرّفت على ماجد وهو احد النزلاء المقيمين في الفندق. كان ماجد شابّا في الرابعة والعشرين من العمر ومن مواليد مدينة الحلّة وكان في تلك الفترة عاطلا عن العمل ولا يملك شروى نقير وذلك بعد تركه لوظيفته في احدى شركات التأمين الحكومية لعدم اقتناعه بتلك الوظيفة فقد كان شابّا مثقفا ذو طموحات ادبية ويرغب في ممارسة الصحافة ككاتب للمقالات ولكنّ ارائه واتجاه تفكيره كانت متناقضة مع معتقدات الحزب الحاكم واعني به حزب البعث العربي الاشتراكي.
كان ماجد يعيش في بغداد حياة بوهيمية، ينتقل بين الحانات ويمارس الجنس مع المومسات كلّما اتاح له وضعه المادي ذلك.
بدأت ارتاد الحانات الوضيعة في شارع ابو نؤاس والباب الشرقي برفقة رفيقي ماجد كلّما توّفر لدينا بعض النقود ومرّت علينا ايام عصيبة لم نكن نملك فيها مالا لدفع ثمن طعام الغداء او العشاء.
أثّرَت الظروف النفسية الّتي كنت امرُّ بها نتيجة للتحولات الفكرية الّتي زلزلت كياني على دراستي في الجامعة، لقد كنت كمن خرج من قرية انفجر بقربها بركان ثائر وخلّف وراءه اثارا مدمرة من حرائق ودخان وموت لذا كانت نتيجة دراستي في الجامعة الفشل مرّة اخرى ففُصِلت من كلية الهندسة نهائيا وايقنت بانّ جميع الجهود الّتي بذلتها خلال سنين دراستي الطويلة اصبحت هباء منثورا وذهبت ادراج الرياح، فازداد قنوطي ويأسي واصبحت الحياة لا تطاق وبدأت فكرة الانتحار تراودني بين حين وآخر لانّي كنت اراها طوق النجاة الوحيد للتخلّص من عذاباتي.
كنت استيقظ فزعا من النوم من جراء الكوابيس الّتي كنت احلم بها اثناء النوم فكرهت النوم بالرغم انّ النوم هو الملاذ الآمن الوحيد الّذي يلجأ اليه المصابون بالقلق الشديد، واستمر الحال على هذا المنوال الى ان وصلتُ الى حافّة الانهيار التام.
لا اذكر تفاصيل هذه الفترة العصيبة من حياتي جيّدا لأنّ عقلي لفّه ضباب كثيف من النسيان، ولكنّي اتذكّر انّي مررت بفترات من الكآبة الشديدة كنت انفرد فيها في احدى الغرف لساعات وربّما لايام طويلة، وحدث ان أُغمي عليّ عدة مرّات بعد حالات شديدة من الهيستيريا، وكنت في بعض المرّات اتفوّه بكلمات لامنطقية او اتصرّف بتصرّفات غريبة، ففي فجر احدى ايام الصيف تسلّقت سور حديقة بيتنا لكون باب السياج الخارجي موصدا وابتعدت عن البيت وظللت سائرا في شوارع مدينة الذهب الاسود حتّى وصلت الى الضواحي الشمالية للمدينة وبعد ان جلست في الخلاء على شاهد قبر قفلت راجعا الى الدار حاملا معي بعض الزهور والاشواك البريّة.
وفي احدى الليالي اسريت في ازقّة وشوارع بغداد لساعات طويلة محملقا في مصابيح الانارة لاعمدة الشوارع بحيث انّ دورية لشرطة النجدة شكّت في امري، وبعد ان تمّ توقيفي في مركز الشرطة لفترة قصيرة اعادوني الى الفندق الّذي كنت اسكن فيه بسيارة النجدة بعد ان تيقنوا من هويتي الجامعية ولاحظوا حالتي النفسية المتدهورة فعندما قال لي معاون المركز:
– سأوقّفك في النظارة حتّى الصباح لكي نتحقق من امرك.
اجبته بثقة:
– حتّى لو اوقفتني فانّي استطيع الخروج من النظارة طائرا.
الحديث عن الطيران ذو شجون، فقد كنت في تلك الفترة العصيبة من حياتي احلم كثيرا اثناء النوم بأنّي اطير في الجو محرّكا يداي كاجنحة طائر، قد يكون سبب ذلك مرور الانسان في رحلّة تطوّره من خلية بدائية بمرحلة الطيور حسب نظرية التطور لتشارلس داروين واشتياقه الى تلك المرحلة من تطوّره، وقد يكون الطيران في حلمي رمزا للهروب من ازمتي او رمزا لخروج الروح الّفه لاشعوري لانّني جبنت من تنفيذ رغبتي في الانتحار عندما كان عقلي الواعي مسيطرا على زمام الامور في اليقظة.
الكاتب المصري الدكتور مصطفى محمود تناول في مؤلفه ( الاحلام ) بالتفصيل آلية تكوّن الاحلام، كما انَّ العديد من علماء النفس كيونغ وبرجسون وسيجموند فرويد لهم باع طويل في موضوع تفسير الاحلام بالرغم من انَّ فرويد يغلب عليه عامل الجنس في تفسيراته للاحلام وهذه هي احدى مثالب نظريته.
خلاصة القول انّ الحلم يتكوّن في العقل الباطن ( اللاشعور ) للانسان النائم باستخدام ارشيف المعلومات والذكريات الموجودة في دماغ الحالم وذلك بتأليف سيناريو مُبهَم وباستعمال رموز بدل الاحداث والشخصيّات الحقيقية.
انّ المؤثرات في تكوين الاحلام عديدة، فمثلا حدوث حادثة او اجراء حديث او مشاهدة فلم قبل النوم بفترة وجيزة او قبل عدّة ايام وكذلك رغبات الانسان المكبوتة كالرغبات الاقتصادية والجنسية والبيولوجية الاخرى وحالته النفسية، فمثلا لو تشاجر احدهم مع مديره في العمل فقد يرى في الحلم مديره على شكل مخلوق بجسم انسان ورأس حمار هذا اذا كان يعتقد في قرارة نفسه انّ مديره غبيٌّ وانّه ظلمه في تلك الحادثة، يضاف الى ذلك تاثيرات البيئة المحيطة بالنائم كسماع الاصوات والضوء الساقط على عين النائم والروائح التي يتنشقها مع الهواء. مثال آخر على تأثير الاصوات الّتي نسمعها اثناء النوم يرويه العالم النفساني سيجموند فرويد، يقول فرويد: في ليلة آويت الى الفراش بعد نهار مرهق قضيته في القاء المحاضرات على طلبتي في الجامعة ثم نمت فحلمت باني القي محاضرة في القاعة على طلبتي، بعد فترة قصيرة سمعت همهمة وبعد ذلك تعالت اصوات الاستنكار من الطلبة وكانت تردد (آوت OUT… آوت OUT … آوت OUT ) اي اخرج الى الخارج باللغة الانكليزية، ثم استيقظت من النوم فزعا وسمعت صوتا صادرا من خارج غرفة النوم، صوت كلب ينبح تحت نافذتي بمقاطع مقاربة لصيحات الطلاب في الحلم. نفهم من هذا الحلم ان فرويد وبتاثير نباح الكلب استرجع من ارشيف ذاكرته وهو استاذ محاضر في الجامعة مع الطلبة بعض ذكرياته وصاغها في الحلم بعد ترميزها وبتاثير نباح الكلب قرب نافذة غرفة النوم.
انّ افضل من يفسّر الحلم هو الحالم نفسه، لانه المؤلّف وكاتب السيناريو والمخرج والممثل في انٍ واحد.
لتوضيح الية تكوّن الاحلام وتفسيرها ساذكر مثالا لحلم فسّرته لصديق.
كنت اعمل في احدى الدوائر الهندسية في بغداد وكان لي صديق في نفس القسم الذي كنت اشتغل فيه، هذا الصديق كان يحب زميلة لنا ولكن الحبّ كان من طرف واحد، وعندما كاشف صاحبي زميلتنا بحبه ردّته بلطف وتمنّت له السعادة.
جاءني صديقي صباح احدى الايام وروى لي حلمه وهو يبتسم وعلامات الانشراح بادية في اساريره، قال صديقي بانه حَلُمَ الليلة الماضية بانه كان في المصعد مع زميلتنا وفجاة توقّف المصعد لانقطاع التيّار الكهربائي، مضت فترة طويلة ونحن محبوسان في المصعد، ولكنّي لم اشعر بالقلق او الخوف او الملل بل بالعكس كنت اشعر بالسعادة اثناء الحدث.
نتيجة لمطالعاتي حول موضوع الاحلام استطعت من تفسير حلم زميلي العاشق، وقد اصابه العجب عندما استمع الى التفسير وبدت على وجهه امارات التاييد.
انّ رؤية صديقي لهذا الحلم كانت نتيجة للرغبة الكامنة في نفسه من الزواج بزميلتنا التي كان يعشقها، فالمصعد المغلق عليهما يرمز الى عش الزوجية ( القفص الذهبي ) وانّ شعوره بالسعادة اثناء الحدث ناجم عن احساسه بانَّ عش الزوجية ضمَّت كليهما بين جدرانه، ونظرا لشعوره باستحالة تحقق امانيه في الواقع فانَّ رغباته المكبوتة انطلقت من اسارها في هذا الحلم الممتع.

انّ القلق حالة من التوتر تنتابنا حينما ننقسم في داخلنا ونشهد رغباتنا وهي تقتتل وتتصارع، انّها اللحظة الاليمة الّتي تتجلّى فيها عداوتنا لانفسنا، وهي عداوة مُفزِعة لانّ لا شيء فيها يُمكن لمسه بالاصبع او رؤيته رؤية العين. انّ اللحظات تصبح عبثا والحياة تصبح كابوسا والقلب يصيح جثّة يفوح منها الملل والسأم والضجر والصيحة الوحيدة الّتي تبقى لنا هي الخلاص…. والخلاص من نفوسنا.
في اثناء ازمتي النفسية هذه كانت عائلتي تراقبني بقلوب واجفة تُمزّقها الاسى والالم، ولكنّهم لم يتروكوني اجابه مصيري القاتم لوحدي، كانوا يعاملونني بعطف بالغ ويحاولون مداواة جراحي الغائرة في اعماقي والّتي كانت تنزف الما وشقاء.
كان والدي، هذا الشيخ الصابر يتألّم بصمت لالمي وكنت الحظ احيانا الدموع في مقلتيه وهي تنزلق بين الاخاديد الّتي حفرتها معاول الزمن على وجهه. في محاولة لانقاذي اصطحبوني الى بغداد لعرضي على طبيب نفساني شهير، بعد الاستفسار عن حالتي كتب لي الطبيب وصفة تتضمن بعض الحبوب المهدّئة وبعض الحبوب الاخرى الّتي ستساعد في شفائي من المرض الّذي كنت اعاني منه واقاسي من اهواله.
نتيجة لتأثير العلاج ومرور الايام الّتي تُنسي الالام والاحزان وتكاتف عائلتي بدأت صحّتي بالتحسن التدريجي ودخلت في دور النقاهة، ولكنّ حالات الكآبة والقلق والارق لم تفارقني لفترة ليست بالقصيرة.
كان قرار عائلتي بارسالي الى خارج العراق للراحة والاستجمام قرارا حكيما، وربّما كان بنصيحة من الطبيب المعالِج. بعد ان قضيت شهرا من صيف عام 1972 في تركيا في السياحة وزيارة عائلة شقيقي اورخان في اسطنبول عدتُ الى الوطن وقد تحسنت صحّتي تحسّنا ملحوظا وبدأتُ بالعودة الى حياتي الطبيعية بخطى وئيدة.
بعد ان علمت بوجود مجال للعودة الى مقاعد الدراسة في كليّتي وذلك بعد قضاء سنة في العمل في احدى المكاتب الهندسية الاستشارية لاكتساب الخبرة الهندسية فيها، قررت الاستفادة من هذه التعليمات الّتي نزلت كالغيث الّذي يحيي الارض البوار، فقدّمت نفسي الى مكتب الاستشاري العراقي الذي كان يُديره المهندس المعماري الاستشاري رفعت الجادرجي وهو احد روّاد الهندسة المعمارية في العراق ومن الرعيل الاوّل الذين ارسوا اسس المهنة في العراق، هذا الرعيل الذي ضمّ نخبة من ابرز المعماريين كان بينهم اوّل رئيس قسم للهندسة المعمارية في كلية الهندسة، الدكتور محمّد مكيّة والمهندس المعماري الاستشاري هشام منير والمهندس المعماري قحطان عبدالله عوني مصمم مجمّع مباني الجامعة المستنصرية والمهندس المعماري قحطان المدفعي.
معظم هؤلاء الفطاحلة كانوا ضمن الفريق التدريسي لقسم الهندسة المعمارية في تلك السنين وكانت لهم مكاتب هندسية استشارية يمارسون فيها الاعمال التصميمية.
جميع هؤلاء الاساتذة كان لهم طرازهم الخاص في التصميم المعماري وكوّنوا بأبداعاتهم التصميمية مدرسة عراقية متميّزة، اسلوب المهندس رفعت جادرجي تميّز باستعمال العناصر التراثية كالاقواس النصف الدائرية الّتي أُسستعملت لاوّل مرة في العمارة السومرية والفناءات الداخلية للابنية والّتي هي متلائمة مع مناخ العراق، فلسفة المهندس رفعت جادرجي في التصميم وكما استوعبته من احدى محاضراته التي القاها على طلّاب القسم المعماري كانت تنحو الى استعمال العناصر التراثية في العمارة الحديثة بعد اذابتها في بوتقة العناصر الاخرى للمبنى، وبعبارة اخرى فانّ اسلوبه لم يكن يعتمد على استنساخ العناصر التراثية وحشرها في التصميم.
تمّ تعييني في مكتب الاستشاري العراقي بعد مقابلة قصيرة مع رئيس قسم التصاميم التنفيذية المهندس المعماري أتيلّا المدرّس وبراتب مقداره ثلاثون دينارا وبدوام كامل لمده ثمان ساعات يوميا، وكان موقع المكتب في شارع النضال، امّا بناية المكتب المصمم من قبل المهندس المعماري رفعت الجادرجي فقد كان متكونّا من طابقين، تطلّ غرفه وقاعاته على فناء وسطي وكان هناك جسر خشبي معلّق يربط قسم التصاميم الاوّلية بقسم التصاميم التفصيلية، كانت الشبابيك الّتي تطل على الفناء الوسطي واسعة ومعمولة من الخشب المطلي بعازل شفاف، امّا الفناء الوسطي فكان مزروعا باشجار ونباتات متنوعة مما اضفى على محيط المكتب شعورا دافئا ومريحا.
في القسم الّذي عملت فيه اضافة الى المهندس اتيلّا كان يعمل زميلان، فارس حازم نامق ومحمّد تقي وهما من طلّاب القسم المعماري، اضافة الى ذلك عمل معنا في المجموعة ثلاثة من كوادر الرسم المعماري،الفريد ومرقص وابو زيد.
العمل الاساسي في القسم كان اعداد التصاميم والمخططات التنفيذية للتصاميم الاولية التي كانت تُعَد في قسم التصاميم الاولية الّذي كان يُشرف عليه الاستاذ رفعت الجادرجي ويعمل فيه خيرة المهندسين المعماريين كمعاذ الآلوسي ومهندسة معمارية ايرانية الّتي كانت زوجة المهندس صفاء الكليدار ومن المهندسين الشباب اتذكّر المهندس سامان اسعد ومعتز كمّونة وشقيقه التوأم مازن كمّونة.
كان المكتب يوميا في حركة دائبة فبلاضافة الى اعداد تصاميم المسابقات المعمارية والمشاريع الحكومية، كنّا نقوم باعداد التصاميم للدول العربية الخليجية كمجمّع الرياضي للنادي العربي في الكويت وابنية مختلفة في الامارات العربية وقطر.
سرّبت هذه الكوّة الّتي انفتحت امامي شعاعا من الضوء الى اعماقي المظلمة فأنغمست في العمل بجد ووجدتُ فيه كياني الضائع وبدأتُ أُحبُّ مهنتي وأكتشف خفاياها واسرارها وازدادت خبرتي من خلال ممارسة العمل الهندسي المعماري والاطلّاع على التصاميم الّتي كنت اشارك في اعداد مخططاتها التفصيلية.
لأوّل مرّة في هذا المكتب اطّلعت على اسلوب عالمي جديد في اعداد التصاميم التفصيلية المسمى (نظام- S.F.B ). المخططات الّتي كنّا نقوم باعدادها كنّا نرسمها بأقلام حبر خاصّة على ورق شفاف خاص ( TRACING PAPER )، ففي السبعينات لم تكن الحاسبة الالكترونية الشخصية قد دخلت العراق، واول حاسبة شاهدتها كانت في كلية الهندسة وكان ذو حجم كبير داخل غرفة مكيّفة ولم يكن بامكاننا استعمال هذه الحاسبة البدائية لاغراض الرسم الهندسي والمعماري.
كان الراتب الّذي اتقاضاه رغم تواضعه يكفي لدفع ايجار الشقّة الّتي استأجرتها في الصالحية بمشاركة صديق كان يعمل مذيعا في القسم التركماني من اذاعة بغداد، امّا المتبقي من الراتب فكنت اخصصه للمصاريف الاخرى كالطعام والشراب الّذي اصبح عادة يوميّة وعلاجا شافيا لما تبقّى في نفسي من ألم وقلق، كما بدأت امارس هوايتي القديمة في العزف على العود وهكذا انغمست في العمل والشراب والموسيقى، هذا الثلاثي الذي اعانني على استرجاع عافيتي والاقبال على الحياة مرّة اخرى بقلب يملأه الامل والتفاؤل من المستقبل.
في التاسع من آذار من عام 1973 ومع اطلالة الربيع اشتركت في سفرة مع الطلّاب التركمان الدارسين في جامعة بغداد الى سدّة الهندية، وبينما كنت اداعب اوتار آلة العود في الحافلة الّتي كانت تُقلّنا سمعت صوتا ناعما يناديني من المقعد الخلفي وفوجئت بوجودها فلم تكن غير أسماء، رفيقة صباي واحسست في تلك اللحظة بأنّ قلبي يرتجف في مكمنه محاولا شق شرنقته لينطلق فراشة الحب من جديد نحو النور والحب والحياة.
بعد وصولنا الى موقع السفرة اغتنمتُ اوّل فرصة سانحة لأنفرد بأسماء وبدأ حديث العتاب والمكاشفة وانتهى بارتباط قلبين تعاهدا على الحب والوفاء مدى الحياة.
كانت اسماء قد اكملت دراستها الاعدادية وقدّمت وثائقها الى معهد اعداد المعلمين والمعلمات في اربيل، وكانت تقضي معظم ايّامها في مدينة الذهب الاسود بانتظار نتائج القبول في المعهد.
بدأتُ أُكثِر من زياراتي الى كركوك للقائها وكانت هذه اللقاءات من احلى لحظات العمر، وازداد ارتباطنا بمرور الايام وبدأ حبنا ينمو ويترعرع وكنت اشتاق اليها عقب فراقنا.
اصبح الشعر سلواي في ايام البعاد فافرغت فيه مشاعري وصارت القصائد تعكس الواقع الجديد فأنغمست في خضم الحياة بفؤاد يملؤه التفاؤل والامل والحب.
في ألخريف ألّذي تلا ذلك ألربيع ألخالد رجعت إلى مقاعد ألدراسة في ألجامعة بنفسية جديدة فألحب كما يُقال يصنع ألمعجزات، وبدأت دراستي بهمّة ومثابرة وعزيمة يفل ألحديد وأندفاع المقاتل ألموعود بإحدى ألحسنيين إمّا ألشهادة (ليس ألمقصود شهادة ألبكلوريوس طبعا) أو ألجنّة، فبدأت أحضر ألدروس بإنتظام وأعدّ تصاميم ألمشاريع برغبة لم أعهدهها في نفسي في ألسنوات ألأخيرة…. سنوات ألمحنة.
تكللت جهودي بألنجاح وبدأتُ أقطف ثمار ألنبتة ألّتي زرعها ألحب في عقلي وصارت علاماتي في جميع ألدروس ممتازة وأصبحتُ في طليعة ألمتفوقين.
في مساء إحدى ألأيام كنت أتجاذب ألحديث في إحدى بارات أبي نؤاس في بغداد مع صديقي بهجت ألّذي كان في تلك ألسنة طالبا في قسم ألمسرح في أكاديمية ألفنون ألجميلة، وبعد أنْ أسكرتنا ألخمور ألّتي تفتح عقال ألألسنة تشاركنا في أحاديثنا ذكرياتنا وتجاربنا في ألحب، سرد بهجت قصّة حبّه ألأول مع بنت ألجيران في مدينة كركوك عندما كان في سن ألمراهقة، وعرفت منه انه لَمْ يلتقِ بحبيبته تلك منذ عشر سنوات وذلك بعد أنْ أنتقلت مع عائلتها إلى مدينة أربيل ولكنّها كانت لاتزال تحتل موقعها في إحدى أركان قلبه وفهمت من حديثه بأنّه يحسُّ بحنين جارف لرؤيتها حتّى تلك أللحظة.
في تلك ألجلسة ألشاعرية على ضفاف نهر دجلة قررنا ألبحث عن ألحبيبة ألمفقودة. كانت سلوى في مدينة أربيل معلمّة ولكنّ صديقي بهجت لَمْ يكن يعرف عنوان سكنها أو محل عملها ولكنّه قال بان أحد أصدقائه في أربيل قد يستطيع مساعدتنا في ألعثور على ألحبيبة ألمفقودة.
في ألصباح الباكر سافرنا إلى أربيل وكنت من ناحيتي آملُ رؤية حبيبتي هنالك لأنّها كانت قد قُبِلَت في معهد إعداد ألمعلمات في أربيل بالاضافة إلى رغبتي في مساعدة صديقي بهجت للعثور على حبّه ألضائع.
بعد وصولنا إلى أربيل وألّذي يبعد بحوالي 350 كيلومترا عن بغداد توصّلنا إلى معرفة عنوان مسكن سلوى بواسطة صديق بهجت ألذي رافقنا في زيارتنا إلى مسكن ألحبيبة، ولكننا لَمْ نجدها في ألدار وأخبرتنا والدتها بعد ألترحاب وكرم ألضيافة ألّذي هي مِنْ شيم أهل ألعراق بأنَّ سلوى معلِّمة في إحدى مدارس قضاء مخمور.
علمت أيضا من صديق بهجت بأنَّ الدوام في معهد ألمعلمات لَمْ يبدأ بَعدُ لذلك لَمْ أتمكّن مِنْ لقاء حبيبتي اسماء فقفلنا مع بهجت راجعين إلى بغداد بخفي حنين.
تمخضت عن هذه المغامرة ألمفاجئة تطوّرات مذهلة في ألأيام التالية، فبدأت ألجسور تمتد بي بهجت وحبيبته وأنتهت بالنهاية ألسعيدة كما يحدث في ألأفلام ألمصرية فتزوّج ألعاشقان بعد تخرّج بهجت من اكاديمية الفنون الجميلة- قسم المسرح.
بعد إيابنا إلى بغداد علمتُ بأنَّ أبن خالي جهاد قد حضر من كركوك وأخبرني صاحب ألفندق الّذي كان يسكن فيه بهجت بأنَّ أهلي أرسلوه لكي يخبرني بضرورة سفري إلى كركوك لأمر هام.
بدأت ألأفكار وألهواجس تراودني وأحسست بأنَّ مصيبة قد حلّت وندمتُ لأنني لَمْ أعرج على أهلى خلال مروري من كركوك في طريقنا إلى اربيل أو عودتنا منه. كانت ظنوني في محلّها فبعد أنْ دخلت زقاقنا في كركوك بعد سفرة كئيبة لاحظت تجمهر النّاس امام دارنا وحركة ألنساء ألمتشحات بالسواد فايقنت بأنَّ أحد أفراد عائلتي قد فارق الحياة ولَمْ يكن غير والدي ألّذي مات على أثر نوبة قلبية مفاجئة وتمَّ دفنه بجانب قبر والدتي في مقبرة ألقورية.
كان وقع النبأ عليَّ أليما ولفّني ألحزن لفراق هذا ألأب ألحنون ألمضحّي وألذّي ترك برحيله جرحا ثالثا غائرا في أعماقي.
بعد أنتهاء فترة ألحداد أبتُ إلى بغداد مهموما لأكمّل دراستي ألجامعية.
قبل وفاة والدي كان شقيقي يلماز قد تزوج من زميلة له كانت تدرس في جامعة الموصل، اما شقيقتي آيسل فقد تزوجت بعد يلماز بفترة وجيزة وانتقلت مع زوجها للسكن في بغداد، في هذه الاثناء استأجرت شقة في الباب الشرقي بمشاركة صديقي المذيع وصديق آخر كان موظفا في إحدى السفارات الاجنبية.
كنت اقضي اوقاتي في العمل في المكتب وكذلك في اعداد التصاميم المعمارية التي كنا نكلف بها في القسم المعماري اضافة الى ذلك كنا نجتمع مع الاصحاب في النادي كل يوم خميس حول مائدة الشراب.
اكملت السنة الدراسية الرابعة ونجحت في نهايتها نجاحا باهرا وكانت علاماتي ممتازة في جميع الدروس، ان هذا التفوق اعاد الثقة الى نفسي واعطاني زخما اضافيا لإكمال السنة الخامسة والاخيرة من دراستي الجامعية.
حينما بدأت الاجازة الصيفية لم اعد الى كركوك وفضلت الاستمرار في العمل في المكتب على العودة ولكني اغتنمت عدة فرص خلال هذه الاجازات للسفر الى كركوك للقاء بحبيبتي اسماء التي نجحت هي الاخرى وانتقلت الى المرحلة الثانية والاخيرة في دراستها في معهد اعداد المعلمات.
في احدى هذه الزيارات فاتحت اهلي برغبتي في خطبة اسماء وتحققت رغبتي وتمت الخطوبة وبارك اهلي واهلها حبنا الذي بقي طي الكتمان لاكثر من عام واقتصرت الخطوبة على الاهل وسعد بها الجميع.
في خريف عام 1974 بدأت السنة الدراسية للمرحلة الخامسة والاخيرة من دراستي فكنت في خلالها كالعام السابق متفوقا في الدراسة.
في الأشهر الاخيرة من هذه السنة انتقلت بناء على رغبة شقيقتي للسكن معها وانشغلت في هذه الاشهر في إعداد اطروحة التخرج التي كانت تصميم مجمع مدرسة اصلاحية في بغداد.
كانت لقاءاتي بخطيبتي خلال فترة الدراسة قليلة واقتصرت على الاعياد والعطلة الربيعية وسافرت مرة الى اربيل للقائها وقضيت معها عدة ايام كانت من احلى ايام العمر، اما في ايام البعاد فقد كان الشعر سلواي وخطاباتي اليها كانت لا تخلو من قصيدة ابث فيها اشواقي ولوعتي من الفراق وحنيني الى اللقاء.
ان سفينة الحياة كما هي زاخرة بالمسرات فهي مليئة ايضا بالآلام وان الاقدار تلعب دورا اساسيا في رحلتنا العبثية هذه، ففرحة اللقاء والميلاد تعقبها لوعة الفراق والموت…. هذا الحدث المفزع الذي يخطف منا احبائنا واعزائنا في لحظات، وهكذا خطفت يد المنون ابن شقيقتي البكر يشار ولم يتجاوز عمره الربيع الرابع في حادثة اليمة في دار الحضانة الملحقة بالمستشفى التي كانت تعمل فيه والدته. كانت هذه الورقة الرابعة التي سقطت من شجرة العائلة بعد والدتي وشقيقي اورخان ووالدي.
ان هذه الواقعة المفزعة تركت في نفس شقيقتي وزوجها جراحا غائرة وآثارا مدمرة ظلا يعانيان منها لفترات طويلة.
لقد احزنني الاغتيال المرعب لهذا الطفل فالبرعم تم قطفه قبل ان يزهر ويثمر وراودني التساؤل الخالد حول لغز الحياة ولغز الموت والحكمة من تعاقب الوجود والفناء.
عندما كنت مؤمنا بالاديان كانت الاجابة جاهزة فهي إرادة الخالق والاطفال مكانهم في جنة الخلد عند مليك مقتدر، ولكني اتسأل الآن: ماالحكمة من خلق هذا الطفل ثم ارسال عزرائيل لقبض روحه قبل ان يكمل استخلافه في الارض كما تدّعي الاديان؟
حكاية الوجود والفناء هذه عبث في عبث، فالطبيعة عشوائية في تصرفاتها فهي تقطف البرعم قبل ان يزهر وتقطف الزهرة قبل ان يثمر وترسل الرياح والعواصف فتتساقط الثمرات قبل اوان نضجها احيانا.
عندم كنت مؤمنا بالدين الإسلامي كنت اعتقد بان الكون مسيّر من قبل الخالق حسب نظام دقيق، ولكني اكتشفت بعد ذلك ان العشوائية هي التي تحكم الكون… مليارات من الكواكب والنجوم موجودة بدون هدف والارض تتزلزل تحت اقدامنا بين فينة واخرى والبراكين تنفجر فتحرق الاخضر اليابس والعواصف والفيضانات تقتلع كل ما يصادفها، وفي الطرف الآخر صحاري جرداء يعاني من يسكنها من القحط والجوع.
ان من يدعي بان من خلق الكون والارض والانسان عليم حكيم ورؤوف رحيم في جهل مطبق ومخدّر فإذا كان هناك خالق للكون والإنسان فهو خالق فاشل لا يرى ابعد من ارنبة انفه.
في تلك الفترة من عام 1975 وعندما كان حزب البعث العربي الاشتراكي مشددا قبضته على العراق حدثت في مدينة الذهب الاسود اضرابات قام بها الطلبة والمعلمون التركمان بسبب الغاء الدراسة باللغة التركمانية في عدد كبير من المدارس التركمانية، وتمّ اعتقال عدد من الطلاب والمعلمين كما استشهد احد المعلمين نتيجة التعذيب في المعتقل.
نتيجة لهذه الاحداث قام الطلاب التركمان الدارسون في جامعة بغداد بإعتصام سلمي امام مقر الاتحاد الوطني لطلبة العراق الذي كان تابعا لحزب البعث للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين وإرجاع الدراسة باللغة التركمانية الى المارس التي الغيت منها.
خلال الإعتصام قدّمنا مطالبنا الى رئيس الإتحاد وتم بعد ذلك تفريق هذا التجمع بالقوة والغيت بعد فترة الدراسة باللغة التركمانية من جميع المدارس المشمولة بها.
لم اجد مبررا منطقيا لهذه الإجراءات المتعسفة التي اتخذتها قيادة حزب البعث الحاكم ولكن التوجهات والمماراسات التي تعاقبت على مر الايام كشفت توجههم العنصري وتمييزهم بين العرب والقوميات من الاقليات الاخرى كالاكراد والتركمان والاثوريين، فالحكم الذاتي للاكراد تحول الى هيئات شكلية وتجرد من اهدافه والمحافظات والمناطق الكردية والتركمانية ظلت تعاني من التخلف والإهمال والتفرقة.
بعد إلغاء الدراسة باللغة التركمانية بدات حكومة حزب البعث بسياسة تعريب مدينة الذهب الاسود- كركوك – وذلك بتشجيع العرب للهجرة من المحافظات الاخرى الى المدينة وذلك بمنحهم امتيازات مالية وتخصيص الاراضي السكنية لهم. وعلى النقيض من ذلك تم إجبار السكان الاصليون للمدينة على إخلاء بعض المناطق السكنية والزراعية واستولت الدولة على الدور السكنية العائدة للتركمان لقاء تعويض مالي واسكنت فيها العرب المهاجرين من المحافظات الاخرى التي اغلبية سكانها من العرب.
ان هذه الممارسات ولّدت شعورا بالنقمة في المدينة وخاصة بين التركمان والاكراد فبدأوا يتسألون عن مبرراتها.
ان بعض بلدان العالم تعاني من مشكلة الاقليات القومية والدينية والمذهبية، وإن افضل وسيلة للتعايش السلمي بين الاقليات والاغلبية هي الاعتراف بحقوقهم في العيش الكريم وفسح المجال امامهم للمشاركة الديمقراطية في البرلمان والحكومة والقضاء فالعلمانية والالتزام ببنود اعلان حقوق الانسان هي صمام الامان والوسيلة للتعايش بين القوميات والاديان والمذاهب المختلفة.
ان التمييز القومي لم يؤدي الى ذوبان اية قومية في عالمنا او القضاء عليها لان الشعور القومي لدى الانسان شعور جارف حاليا ومترسب في لاشعوره ولا يمكن اقتلاعه بالقوة.
إن عقل الانسان في تطور مستمر فالتطور هي سنة الحياة فالاحياء تتطور والمذاهب والاديان تتطور، فبعد ان كانت النزعة الفردية غالبة على الانسان البدائي تطورت الى نزعة عائلية ثم الى نزعة قبلية ثم الى نزعة عشائرية ثم الى نزعة قومية، والعقل الانساني ووعيه مستمر في التطور ونأمل ان يأتي عصر الانسانية بعد ان يبلغ تطور العقل البشري والحضارة الانسانية مبلغا يمكنه من نبذ التفرقة القومية والدينية والمذهبية.
لقد ساهم المفكرون والفلاسفة وبعض الانبياء على مر العصور والاحقاب في دفع عجلة هذا التطور الى الامام ولكن بعض من هؤلاء وخاصة الانبياء منهم زادوا الطين بلة فالدين اليهودي يدعّي بان اليهود هم شعب الله المختار والدين الإسلامي رغم قوله لافرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى ينبذ المخالف لمعتقده ( كنتم خير امة اخرجت للناس ) كما يأمر بأخذ الجزية من اهل الكتاب وهم صاغرون اما المسيحية فهي امتداد للدين اليهودي من الناحية التشريعية فالكتاب المقدس (العهد الجديد) يضم بين دفتيه الاناجيل الاربعة والعهد القديم اي التوراة وخلاصة القول ان جميع الاديان سبب للتفرقة اكثر مما هي سبب لتوحيد الجنس البشري.
بعد هذه الاحداث المؤسفة قدمت اطروحة التخرج الى رئاسة القسم المعماري وعدت الى مدينة الذهب الاسود وكنت قد استقلت من عملي في مكتب الاستشاري العراقي لاتفرغ للدراسة خلال فترة إعداد اطروحة التخرج.
بعد ان قضيت عدة ايام في مدينتي قفلت راجعا الى بغداد لإستلام نتائج الامتحانات والاطروحة، فكانت سعادتي غامرة بالنجاح الباهر الذي حققته وتكللت جهود السنوات الطويلة الي قضيتها على مقاعد الدراسة بتخرجي من الجامعة وحصولي على شهادة البكلوريوس علوم في الهندسة المعمارية.
في هذه الاثناء تخرجت خطيبتي اسماء من المعهد فاصبحت الفرحة فرحتان.
بعد تخرجي من الجامعة عملت في مكتب أحد المهندسين المعماريين في كركوك وكان ذلك خلال أشهر الصيف وكنت التقي رفيقة صباي وخطيبتي كلما سنحت الفرصة لذلك، واتفقنا في إحدى اللقاءات على عقد قراننا وفاتحت أهلي برغبتي فتم إرتباطنا الابدي في أوائل شهر ايلول من عام 1975.
بعد فترة وجيزة التحقت بالخدمة العسكرية الإلزامية في مدرسة الهندسة العسكرية في بغداد بعد أن تأخرت عدة أيام من الالتحاق بسبب رقودها في إحدى مستشفيات بغداد لمرض الم بها، وقد عانت من هذا المرض لفترة طويلة واصابها الهزال والضعف من أثره، وكان فراقي لخطيبتي مؤلما.
كانت الحياة العسكرية مختلفة وقاسية جدا وتوجب علينا المبيت في المعسكر لاسابيع قبل السماح لنا بالتمتع بإجازة قصيرة أستطعت خلالها من الإطمئنان على صحة حبيبتي وكنت قد تركتها مرغما تحت رعاية شقيقتي آيسل في المستشفى التي كانت تعمل فيها في بغداد.
بالرغم من رتابة الحياة العسكرية إلا أنها كانت لا تخلوا من متعة ومواقف طريفة مع العريف أو المداعبات بين الزملاء المهندسين، هذه المداعبات كانت في بعض الأحيان تنقلب إلى عقوبة تطال الجميع لا يفرق العريف في تطبيقها بين المذنب والبريء لعدم إستطاعته من تحديد المذنب بسبب تكاتف الزملاء مع بعضهم.
في شهر نيسان من عام 1976 تخرجت من كلية الإحتياط ومنحت رتبة ملازم مجند مهندس في الجيش وتم تنسيبي للعمل في معاونية أشغال القوة الجوية وتم تكليفي مع عدد من الزملاء الضباط المهندسين بإعداد تصاميم قاعدة القيارة الجوية، والقيارة هي إحدى أقضية محافظة نينوى في شمال العراق، وكان فريق العمل يضم عدد من الضباط المهندسين المصريين المختصين في إعداد مثل هذه القواعد وكان فريق العمل بأمرة عميد مهندس مصري وترأس فريقنا المعماري عقيد مهندس معماري مصري أيضا.

في هذه الأثناء تم تعيين أسماء في إحدى مدارس قضاء حديثة التابعة لمحافظة الأنبار الواقعة في غرب البلاد وكان قرار تعيينها في هذه المحافظة البعيدة عن مدينة كركوك له علاقة بسياسة تعريب مدينة كركوك التي انتهجتها حكومة حزب البعث العربي الإشتراكي، حيث كان يتم تعيين الخريجين التركمان والأكراد الساكنين في كركوك في المحافظات التي غالبيتها من العرب، وكان يتم تشجيع العرب الساكنين في المحافظات التي غالبيتها من العرب للهجرة إلى مدينة الذهب الاسود وذلك بمنحهم بعض الإمتيازات المالية لبناء مساكن لعوائلهم على قطع من الأراضي الممنوحة لهم مجانا والسبب الأساسي لسياسة التعريب وتغيير البنية الديموغرافية لسكان مدينة كركوك هي وجود بحيرة من النفط تحت هذه المدينة.
بعد هذا التعيين لاسماء في قضاء حديثة اصبح لقائي بها عسيرا فكنت أستغل الاجازات للسفر إلى محل عملها وقطع مئات الكيلومترات لهذا الغرض، ولكن بالرغم من إختلاف موقعي عملنا أتفقنا على الزواج في شهر حزيران من نفس العام ومع بداية العطلة الصيفية للمدارس.
قبل موعد الزفاف بعدة أيام سافرت إلى مدينة الذهب الاسود بعد حصولي على إجازة قصيرة من وحدتي العسكرية ولكني فوجئت بأن خطيبتي راقدة في المستشفى وذلك بعد أن أجريت لها عملية جراحية لإستئصال الزائدة الدودية وهكذا أضطررنا لتاجيل الزفاف إلى نهاية تموز، وتم الزفاف بعد أن تماثلت اسماء للشفاء.
لم نستطع توفير مسكن يجمعنا بعد الزواج فبعد أن قضينا شهور العطلة الصيفية كضيوف في شقة شقيقتي في بغداد سافرت زوجتي إلى قضاء حديثة لمباشرة عملها في التدريس، ولكن فراقنا لم يدم طويلا فقد استطعت الحصول على موافقة وزارتها على نقلها إلى إحدى مدارس بغداد إستنادا على قانون القاعدة الزوجية، وهكذا اصبحنا ضيوفا في مسكن شقيقتي وزوجها مرة أخرى.
بعد فترة وبعد بحث دؤوب أستطعت إستئجار دار صغير مكون من غرفتين وكان الدار في جهة الرصافة من بغداد في حي الأعظمية وعلى مسافة قريبة من جامع الإمام الأعظم أو جامع أبو حنيفة النعمان ( أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ 80-150هـ ) وهو أحد المساجد والمدارس التاريخية في مدينة بغداد، ولقد بني المسجد عام 375 هـ/1065م بجوار قبر أبو حنيفة النعمان، ويقابلها منطقة الكاظمية في جهة الكرخ الذي يحوي جامع ومرقد موسى بن جعفر الكاظم (128هـ-183هـ) وهو أحد أعلام المسلمين، والإمام السابع عند الشيعة، وهنالك جسر مشيد على نهر دجلة وبالقرب من جامع الإمام أبو حنيفة يربط الرصافة بالكرخ، جزئي العاصمة بغداد.
سكنا في هذا الدار على مضض لأنها كانت في حالة يرثى لها لقدمها.
بدأنا بناء عش الزوجية وكنا لا نملك من الأثاث شيئا عدا اثاث غرفتي النوم والجلوس وكنت قد أشتريتهما من محل لتصنيع وبيع الأثاث على ان ادفع ثمنهما بالأقساط.
كانت زوجتي تطبخ الطعام على طباخ نفطي صغير نسميه في العراق ب (الجولة) باللهجة العامية وفي مطبخ لا يحوي غيره، ولكننا بدأنا بشراء إحتياجاتنا تدريجيا من المبالغ التي كنا نوفرها من راتبينا، وهكذا اكملنا تأثيث البيت قطعة بعد قطعة وكنا نجد سعادة ومتعة في ذلك لأنّ كل قطعة اثاث اصبحت لها ذكرى وكنا نشعر بأنّها من ثمرات جهودنا.

بعد إنقضاء عام على إستقرار عائلتي في بغداد أنهيت خدمتي العسكرية الإلزامية والتي استغرقت اثنان وعشرون شهرا وتسرحت من الجيش.
كنت ارغب بممارسة مهنتي كمهندس معماري في القطاع الخاص او التعيين في إحدى الدوائر الهندسية في مدينة الذهب الأسود، ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن احيانا، فقد صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بتعيين جميع الضباط المهندسين المتسرحين من الجيش في دوائر الدولة وذلك لسد إحتياجات هذه الدوائر من الكادر الهندسي وحسب تنسيب وزارة التخطيط وبصورة إجبارية وقضت التعليمات الصادرة بهذا الخصوص بتعقب ومعاقبة المتخلفين عن تطبيق القرار.
تم تعييني بموجب القرار في وزارة الإسكان والتعمير التي نسبتني إلى العمل في إحدى دوائرها التصميمية ، وكان المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية من نصيبي.
بعد تمردي على قرار التعيين لفترة وجيزة تيقنت بأنّه لا مناص لي من الإذعان للأمر الواقع لأنّ بعض الزملاء المهندسين الذين تمردوا على قرارات التعيين ولم يلتحقوا بدوائرهم قد تم إعتقالهم من قبل السلطات الأمنية وتم الإفراج عنهم بشرط الإلتحاق بالوظيفة بعد أخذ الضمانات اللازمة.
في صبيحة إحدى ايام شهر تموز من عام 1977 توجهت إلى مقر عملي الجديد وقد خامرني إحساس بأنّي مقبل على منعطف جديد في حياتي العملية، كان شعوري مزيجا من القلق الذي ينتابني عند الإقدام على المجهول والفخر لأنّي صرت موظفا مهما في جهاز الدولة، وكنت أتساءل وأنا في الطريق عن طبيعة عملي هناك وكيفية التعامل مع الرؤساء والمرؤوسين، فالوظيفة الحكومية كما كنت أتصورها غابة علي إختراقها وخوض الصراع الدائر فيها حيث البقاء للأقوى والأصلح والأذكى.
لكن الصورة التي كانت في مخيلتي للحياة الوظيفية تبدلت بعد فترة من مزاولتي للعمل في دائرتي الجديدة، حيث كان الزملاء المهندسون متعاونين وكان الكادر العامل في مقر عملي من النخبة الممتازة إضافة إلى أنّ جو العمل كان مماثلا لجو العمل في المكاتب الهندسية الإستشارية التي عملت فيها اثناء الدراسة.
كان رئيس قسم العمارة والتخطيط في المركز الأستاذ هنري زفوبودا احد اساتذتي المتميزين في القسم المعماري من كلية الهندسة، وهو مهندس معماري عراقي وأحد أحفاد عـائـلـة زفـوبـودا الـبـغـداديـة الّـتي بـدأت بـوصـول الـتّـاجـر الـمـجـري أنـطـون زفـوبـودا Antone Svodoba إلى بـغـداد في بـدايـة الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر، وإقـامـتـه فـيـهـا مـتـاجـراً بـالـكـريـسـتـال الـمـسـتـورد مـن بـوهـيـمـيـا وبـبـضـائـع أخـرى مـن أوربـا. وقـد تـزوّج أنـطـون في 1825 بـبـغـداديـة مـسـيـحـيـة مـن عـائـلـة أرمـنـيـة، وأنـجـب مـنـهـا أحـد عـشـر ولـداً وبـنـتـاً. رحب الأستاذ هنري بي ترحيبا حارا ووجهني خلال فترة عملي في قسمه إلى اسلوب العمل الهندسي الإستشاري بصورته المثالية وكان قدوة لي ولجميع المهندسين المعماريين العاملين في المركز.
كان قرار تأسيس هذا المركز الأستشاري الهندسي الحكومي يهدف إلى خلق مكتب حكومي رائد في تقديم الخدمات الهندسية وإلى خلق كوادر وطنية تستطيع ان تقود في المستقبل العملية الإستشارية في القطر.
لقد رسخت السنوات اللاحقة من ممارسة الحياة الوظيفية في هذا المركز من قناعتي بأنّي بدأت بممارسة مهنتي في المكان الملائم بالرغم من دخله المحدود.
إنّ الهيكل الإداري والفني للمركزالمتضمن لأقسام متكاملة للعمل الهندسي من جميع الإختصاصات كالتصاميم المعمارية والإنشائية والكهربائية والميكانيكية مكنتني من إستيعاب والدخول في خضم العمل الإستشاري الهندسي بصورته المثالية ووضعتني على الدرجات الاولى من سلم الصعود والإبداع في حقل إختصاصي.
بعد تكليفي من قبل رئيس القسم بإكمال التصاميم النموذجية لدوائر الإحصاء في المحافظات العراقية وتصميم خاص لدائرة إحصاء محافظة نينوى والإشراف على تنفيذ هذه المشاريع، بالإضافة لتصميم دائرة إحصاء للعاصمة بغداد ، انجزت المهمة الموكلة لي بكفاءة وتم توجيه كتاب شكر لي من قبل مجلس الإدارة مع صرف مكافأة تقديرا لكفاءتي وجهودي في إنجاز تلك المشاريع.
بعد هذه المرحلة دخل المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية في مرحلة جديدة نتيجة للإزدهار الإقتصادي التي تلا إنتصار تأميم النفط والبدء بالخطة الإنفجارية للتنمية القومية، حيث ازداد عدد المشاريع الحكومية التي تم تكليفنا بإعداد الدراسات والتصاميم التفصيلية لها زيادة مفاجئة وكبيرة ونتيجة لذلك ازداد عدد الكادر الهندسي في المركز زيادة ملحوظة فبعد ان كان عدد المهندسين المعماريين عند تعييني ستة مهندسين قفز العدد ليصبح خمس وعشرون مهندسا معماريا.
من المشاريع التي تم إعداد تصاميمها والإشراف على تنفيذها، تصاميم ابنية الوزارات كوزارات النقل والمواصلات والصحة والشباب، وكذلك تم التعاقد مع الشركات الأجنبية لتنفيذ هذه المشاريع وتقديم الخدمات الاستشارية لها.
من ضمن المشاريع التي تم تدقيق تصاميمها وتقديم الخدمات الاستشارية لها مشروع جامعة الرشيد ومشروع ساحة إحتفالات الكبرى في بغداد.
في تلك الفترة تم تكليفي من قبل رئيس القسم المعماري بتصميم مبنى الأقسام الداخلية لطلبة جامعة البصرة وبعد إنجازها تم تكليفي بإعداد تصاميم بناية اتحاد مجالس البحث العلمي العربية التابعة لجامعة الدول العربية في جانب الكرخ في منطقة علاوي الحلة، وقد تم تنفيذ المشروع من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية بمشاركة شركة فودو اليابانية.

وهكذا مرت الأيام متسارعة في خضم إنشغالي بالعمل وبناء بيت الزوجية، لكن سحابة من القلق بدأت تخيم على حياتنا السعيدة، فبعد مرور ستة أشهر على زواجنا لم تظهر أية بوادر للحمل على زوجتي، وبدأنا نطرق ابواب الأطباء ولكنهم جميعا بينوا لنا عدم وجود أي عائق جوهري للحمل والمسألة عبارة عن إلتهاب تمت معالجته.
كانت فرحتنا غامرة عندما ظهرت بوادر الحمل على أسماء، وفي مساء ذلك اليوم قررنا الإحتفال بهذا الحدث السعيد في حدائق جمعية المهندسين العراقية وهناك أحتسيت نخب القادم الجديد بدون تذمر أسماء لأنها كانت لا تحبذ معاقرتي للخمر ولكن وقع الخبر السعيد أنساها تحفظها على رفيقي القديم، فسكرت تلك الليلة مرتين.
إن الرغبة والشوق في أن يكون للإنسان خلف من صلبه غريزة متأصلة في جيناتنا ونعتقد بأنها إحدى الوسائل للخلود، وعند قدوم الوليد يحس الوالدان بأنه إستمرارية لهما في الحياة بالرغم من أن هذا الوهم الجميل لا يمنع فناء الإنسان ولكنه يخفف من وطأة الخشية من الموت.
عندما نموت، يمكننا أنْ نخلف وراءنا شيئين هما الجينات والميمات، والميمات هي كيانات متضاعفة أو مستنسخة ناقلة للثقافة. لقد بُنينا كآلات جينية وأُوجدنا لننقل جيناتنا. لكن هذا الجانب منا سيصبح منسيا بعد ثلاثة أجيال. فأبني أو حتى أبن حفيدي قد يشبهني، ربما في بعض ملامح الوجه أو في موهبته الموسيقية أو لون شعره. لكن مع مرور كل جيل تتناقص مساهمة جيناتي إلى النصف.
ولن يمر وقت طويل قبل أنْ تصبح النسبة زهيدة جدا. فقد تكون جيناتنا خالدة، لكن مجموعة الجينات التي تشكّل كل واحد منا محكومة بالتلاشي. فلا يُفترض بنا أنْ نبحث عن الخلود في التوالد.
لكن إنْ أنا ساهمت في ثقافة العالم، كأن طورت فكرة جيدة أو ألفت لحنا موسيقيا، أو أبتكرت شمعة إشعال، أو كتبت قصيدة، فقد يبقى إنجازي على حاله حتى بعد مرور وقت طويل على ذوبان جيناتي في الجمعية المشتركة.ربما لا يشتمل عالمنا اليوم على جينة حية أو أثنتين من جينات سقراط، ولكن من يكترث؟ فالمركبات الميمية الخاصة بسقراط وليوناردو دافنشي وكوبرنيكوس وماركوني لا تزال تنتشر.
غيَرَ هذا الحدث السعيد مجرى حياتنا، فالمشاكل التي تحدث بين الزوجين المنحدرين من بيئتين ونفسيتين مختلفتين بدأت تقل وتعمق أحاسيسنا بوحدة المصير والإرتباط الأبدي، والوليد قبل قدومه أزال الملل والرتابة التي كانت تزحف على الحياة الزوجية.
في ظهيرة اليوم الموعود جاء المولود المنتظروسميناه أرجان، وعمت السعادة في أرجاء المسكن وأنشغلنا بالعناية بالقادم الجديد والإهتمام بمستلزمات معيشته.
حياة الإنسان مليئة بالمتناقضات فالميلاد يعقبه الموت والموت يعقب الميلاد كتعاقب الليل والنهار وعجلة الزمن تدور والإنسان مكتف عليها يدور مع دورانها نحو المجهول.
الإنسان لا يستطيع أن يمنع نفسه من طرح الأسئلة الوجودية كما تساءل مؤلفو أسفار اليوبانشاد الهنود عن السر في هذا العالم الذي عزّ على الإنسان فهمه:
“فمن أين جئنا، وأين نقيم، والى أين نحن ذاهبون؟ أيا مَن يعرف “براهمان” نبّئنا مَن ذا أمرَ بنا فإذا نحن هاهنا أحياء.. أهو الزمان أم الطبيعة أم الضرورة أم المصادفة أم عناصر الجو، ذلك الّذي كان سبباً في وجودنا، أم السبب هو من يُسمّى “بوروشا”- الروح الأعلى؟.
وأوّل درس سيعلّمه حكماء اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل، إذ كيف يستطيع هذا المخ الضعيف الّذي تتعبه عملية حسابية صغيرة أنْ يطمع في أنْ يُدرِك يوماً هذا العالم الفسيح المعقّد، اليس مخ الإنسان إلاّ ذرة عابرة من ذراته؟ وليس معنى ذلك أنّ العقل لا خير فيه، بل إنّ له مكانة متواضعة، وهو يؤدّي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات، أمّا إذا ما حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللانهائية، أو الحقيقة في ذاتها، فما أعجزه من أداة.
لكن العقل يمكن ان يتوصل إلى حقيقة الأديان بعد دراسة متمعنة ومقارنة لمحتويات الكتب المسماة بالمقدسة، فبعد دراساتي للأديان الإبراهيمية ( اليهودية والمسيحية والإسلام) وبعد الإطلاع على معتقدات وأساطير الحضارات الرافدينية والفرعونية والأساطير والديانات في الهند، توصلت إلى نتيجة مفادها بأن جميع الأديان مؤلفات بشرية والأنبياء حاولوا الإجابة على الأسئلة الوجودية حسب ثقافتهم ومعظمهم توهموا بأن وحيا نزل عليهم من السماء أو كلمهم الإله مباشرة.
شاركني زملائي في محل عملي فرحتي بقدوم الوليد وعبروا عن مشاركتهم بالهدايا وكانت مبادرة رئيس القسم الأستاذ هنري زفوبودا بتقديمه خلخالا من الفضة كهدية للوليد من اغرب الاحداث في ألقسم المعماري، حيث عُرف عنه إبتعاده عن مثل هذه المجاملات الإجتماعية أو هكذا كان ألإنطباع ألسائد عنه عند معظم المنتسبين.
كان الأستاذ هنري من الشخصيات الفريدة ألتي عرفتها، وبالرغم من دخوله العقد الخامس من عمره فقد ظل مضربا عن الزواج، وكان مهندسا معماريا بارعا وناقدا من الطراز الأول وتميز نقده للتصاميم المقدمة من قبلنا في كلية الهندسة عندما كان أستاذا في القسم المعماري بسخرية لاذعة محببة إضافة إلى كونه مهيب الجانب وعادلا أثناء تقييم المشاريع ومحترما من قبل جميع الطلبة والطالبات لأنّه لم يكن يحابي الطالبات مثل بعض أساتذة القسم.
خصلة واحدة من خصال الأستاذ هنري لم تعجبني اثناء ممارسة عمله في رئاسة القسم المعماري في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية، هي إستحواذه على وضع الفكرة التصميمية لمعظم المشاريع التي كنا نكلف بتصميمها، ومن هذه النقطة بدأ الخلاف يدب بينه وبين المهندسين المعماريين الشباب المتحمسين للعطاء لأن المهندس المعماري فنان ينشد الخلق والإبداع ويعتبره وسيلة من وسائل خلود الذكر ويشعر بالغبن من حرمانه هذا الحق.
أحس المدير العام للمركز بمعاناة المهندسين المعماريين وحاول الحد من إحتكار الأستاذ هنري وكحل للإشكال قرر إجراء مسابقات معمارية لبعض المشاريع المعمارية بين المهندسين المعماريين.
في صيف من عام 1978 سافرت مع زوجتي إلى تركيا للسياحة وزيارة زوجة شقيقي أورخان وولده وبنته ألذين أستقروا في أسطنبول بعد وفاة شقيقي.
في شهر شباط من عام 1979 رزقنا بوليد ثاني سميناه يلدرم، وفي نفس السنة تلقيت دعوة لخدمة الإحتياط في الجيش لفترة تدريبية أمدها خمسة وأربعون يوما، قضيتها في في كتيبة هندسة الميدان العاشرة التي كانت مقرها في معسكر الرشيد في بغداد.
بالرغم من كون صنفي أثناء الخدمة العسكرية الإلزامية هو صنف الأشغال العسكرية والتي قضيتها في معاونية أشغال القوة الجوية في مطار مثنى العسكري ببغداد، فإن قيادة الجيش قررت تغيير صنفي مع زملائي المهندسين إلى صنف هندسة الميدان.
تلقينا أثناء فترة الإحتياط دروسا وتدريبات عملية المتعلقة بهذا الصنف كخصائص الألغام وكيفية زراعتها ورفعها وكذلك إنشاء الجسور وكيفية تفجيرها وأنشاء التحصينات الميدانية.
كانت بوادر أحداث جسام تبدو في الافق في تلك الفترة، ففي البلد المجاور أيران عصفت ثورة إسلامية بالشاه رضا بهلوي وبحكمه بقيادة آية ألله الخميني وتم إعلان ألجمهورية الإسلامية في ذلك البلد، هذا الحدث أعطى الأمل لبقية التنظيمات الإسلامية لتحقيق أهدافهم في إرجاع الحكم الإسلامي في بلادهم وتحقيق حلم الخلافة.
إيران بقيادة الخميني رفع شعار تصدير الثورة الإسلامية إلى البلدان ألتي اكثريتها من المسلمين وبالاخص إلى العراق الذي يتالف من غالبية شيعية، وبتأثير نظام الخميني تأسس في العراق حزب سري تحت تسمية حزب الدعوة وبدأوا بمعارضة حكم حزب البعث الإشتراكي.
في تلك الأثناء حصلت في بلدنا تغييرات في قيادة الحزب الحاكم، حيث أستلم نائب مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الجمهورية صدام حسين السلطة من رئيس الجمهورية ألمهيب أحمد حسن البكر بعد عزله وأعلن رئيس الجمهرية إستقالته في حديث متلفز مبينا بأن الداعي لتقديم إستقالته هو المرض ولكن الجميع كانوا يعلمون بأنه أرغم على الإنسحاب من قبل نائبه صدام حسين.
رافقت عملية التغيير هذه تصفية لبعض العناصر البارزة في القيادة والحزب بعد إتهامهم بمحاولة قلب الحكومة وإغتيال النائب صدام حسين بالتعاون مع نظام حكم حزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا بقيادة الرئيس حافظ اسد.
فبعد اسبوعين تقريبا من اجبار احمد حسن البكر على التنحي من مناصبه واستيلاء صدام حسين على الحكم كرئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ، وفي ظل الحاجة الماسة لتعزيز سلطاته الجديدة والقضاء على أصوات المعارضة وازاحة خصومه ، أعلن صدام عن اكتشاف محاولة انقلابية يدبرها بعض قادة حزب البعث في العراق كان من بينهم خمسة من القيادة القطرية لحزب البعث في العراق بدعم من سوريا وألقي القبض على المدبرين وتم محاكمتهم وانتهت المحاكمة بإعدام 17 من قادة وكوادر الحزب واستمرت الحملة التي أطلق عليها وقتها حملة التطهير فشملت قرابة 450 من قادة الجيش والحزب .
ففي آب 1979 أعلن صدام حسين من قاعة الخلد ببغداد عن اكتشاف مؤامرة دبرها حافظ الأسد للإطاحة بنظامه في بغداد . فتم اعدام العديد من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث ومجلس قيادة الثورة ، وحكم بالسجن على مجموعة كبيرة من الوزراء والقادة السياسيين والعسكريين. مثلوا أمام محكمة الثورة التي رأسها حينذاك نعيم حداد، ومن أعضائها سعدون غيدان وتايه عبدالكريم وحسن العامري وسعدون شاكر وحكمت العزاوي . بعد ذلك تم تنفيذ مشهد أشد وقعا في قسوته عندما أمر الرئيس بان يقوم رفاق وربما كانوا أصحاب واصدقاء الامس باعدام رفاق لهم، حيث أمر الرئيس صدام بان يقوم بتنفيذ الاعدامات اعضاء من الحزب يمثلون كل محافظة من محافظات العراق، كي يكون تحذيرا للاخرين من عدم المس بكرسي القائد الاوحد.
ذكرني هذاالاسلوب في إختيار فرقة الإعدام بما ورد في التراث الإسلامي حول محاولة قريش قتل النبي محمد حينما أختاروا شابا من كل قبيلة لتنفيذ الإغتيال حتى يتفرق دم النبي بين القبائل.
من الذين اعدموا وهم أعضاء القيادة القطرية: عبدالخالق ابراهيم خليل السامرائي ومحمد فاضل وعبدالوهاب كريم وكريم الشيخلي وصلاح صالح وفليح حسن الجاسم ومحمد عايش حمد ومحيي عبدالحسين مشهدي الشمري وعدنان حسين عباس الحمداني ومحمد محجوب مهدي الدوري وغانم عبدالجليل سعودي ومرتضى سعيد عبدالباقي الحديثي (قتل في السجن) وكردي سعيد عبدالباقي الحديثي(قتل في السجن)، والفريق الركن وليد
محمود سيرت عضو قيادة المكتب العسكري للحزب وهوأحد قادة فيالق الجيش العراقي.
في صبيحة احد ايام شهر تموز من عام 1979 تلقيت في محل عملي مكالمة هاتفية من اختي آيسل التي كانت تعمل في إحدى مستوصفات بغداد، أنبأتني بأنّ شقيقي الأصغر ياووز راقد في المستشفى في مدينة كركوك وفي حالة خطرة نتيجة لمرض مفاجيء ألمَّ به.
بعد الإستئذان من المدير العام للدائرة سافرت مع اختي وزوجها وبرفقة زوجتي إلى كركوك، لإفاجأ بنفس المنظر الذي رأيته عند وفاة والدي، فالبيت مكتظ بالمعارف والأصدقاء والنساء متشحات بالسواد وأصوات البكاء والنحيب كانت تطرق اسماعي عند إقترابنا من البيت.
ايقنت انّ القدر لا يتركنا نتنفس الصعداء فهاهي الماساة الإنسانية تتكرر مرة أخرى، كان وفاة شقيقي الشاب بجلطة في الدماغ أشبه بالإغتيال، فالموت هذا القاتل الطليق يسرح ويمرح كما يشاء ولا يفرّق بين ضحاياه من الأطفال والشباب والشيوخ.
هذه الحادثة الأليمة دفعتني للتساؤل حول لغز الموت.
في كتابه الجينة الأنانية يتطرق عالم ألأحياء ريتشارد داوكينز لموضوع الموت، فيقول:
” ما أود تأكيده هو أنّه من المفضل النظر إلى الوحدة الأساسية للإنتقائية الطبيعية ليس بإعتبارها الفصيلة أو المجموعة أو حتى الفرد، وإنّما الوحدة الصغيرة من المادة الجينية التي تستحق أنْ نسميها الجينة.
إنّ الحجر الأساس في حجتي، كان الإفتراض أنّ الجينات خالدة في حين أنّ الأجساد والوحدات الأخرى الأعلى مستوى تبقى مؤقتة.
والجديرذكره أنّ هذه الفرضية ترتكز على حقيقتين إحداهما تتعلق بالتوالد الجنسي والعبور التبادلي، وترتبط الثانية بفناء الفرد.
وهاتان حقيقتان لا يمكن دحضهما. لكن هذا لا يمنعنا من التساؤل عن اسباب كونهما حقيقتين. لمَ نمارس نحن وغيرنا من آلات البقاء التوالد الجنسي؟ ولمَ تمارس صبغياتنا العبور التبادلي؟ ولمَ لا نعيش إلى ألأبد؟
الواقع أنّ السؤال عن السبب الذي يجعلنا نموت عندما يتقدّم بنا العمر يشكّل سؤالا معقدا.
بالإضافة إلى الأسباب الخاصة، جرى إقتراح عدد من الأسباب العامة، فعلى سبيل المثال، تقول إحدى النظريات إنّ الهرم هو تراكم أخطاء مضرة في النسخ وأشكال أخرى من العطب الجيني تطرأ خلال حياة الفرد.
لقد سبق أنْ تساءلنا عن المزايا العامة لأي جينة “جيدة ” وقررنا أنّ ” الأنانية ” تشكّل إحدى هذه المزايا. لكن ميزة أخرى ستمتلكها الجينات الناجحة تتمثل بالنزعة إلى تأجيل موت آلات البقاء أقله إلى ما بعد التوالد. ولاشك في أنّ عددا من أبناء عمّك وأعمام والديك وأخوالهما قد مات في مرحلة الطفولة، إلا أنّ هذا لم يحدث لأي من أسلافك. فالأسلاف بكل بساطة لا يموتون في الصغر.
لابد من الأشارة إلى أنّ الجينة التي تتسبب بموت صاحبها تُعرف بأسم ” الجينة الفتاكة “. أما الجينة شبه الفتاكة، فلها تأثير موهن بعض الشيء بحيث أنّها تجعل الموت الناجم عن أسباب أخرى مرجحا أكثر. وإذ تمارس كل جينة أقصى تأثير ممكن على الأجساد في إحدى مراحل الحياة، لا تشكّل الجينات الفتاكة وشبه الفتاكة إستثناء لهذه القاعدة.
الواقع أنّ الجينات بمعظمها تمارس تأثيراتها خلال الحياة فيما تمارس جينات أخرى تأثيراتها في مرحلة الطفولة، وأخرى في مرحلة البلوغ، وأخرى في منتصف العمر، وأخرى في سن الشيخوخة، ” تذكّر أنّ دودة القز والفراشة التي تتحول إليها لاحقا، تمتلكان المجموعة نفسها من الجينات”.
ومن الجلي أنّ الجينات الفتاكة ستُستبعد من الجمعية الجينية، إنّما من الجلي أيضا أنّ الجينة الفتاكة ذات التأثير المتأخر ستكون أكثر ثباتا في الجمعية الجينية من الجينة الفتاكة ذات التأثير المبكر. فالجينة الفتاكة في جسد مسنّ قد تبقى ناجحة في الجمعية الجينية، شرط ألا تتجلّى تأثيراتها ألا بعد أنْ يتسنّى الوقت للجسد أقله للتوالد.
وبحسب هذه النظرية إذاً، يشكّل وهن الشيخوخة بكل بساطة نتاجا ثانويا لتراكم الجينات الفتّاكة وشبه الفتّاكة ذات التأثير المتأخر التي سُمح لها بالإنزلاق عبر شبكة الإنتقائية الطبيعية فقط لأنّ تأثيراتها تتجلّى في مرحلة متأخرة “.
بدأت اتسأل عن سر تساقط هذا العدد من الضحايا من عائلتي وتكررت نفس الدراما ….. الصدمة، الألم، الحزن ثم النسيان.
إنّ النسيان هو الدواء الوحيد لهذه الألام فلولا هذه الخصلة التي نتميز بها نحن البشر لأصبحت الحياة جحيما لا يُطاق.
دارت الأيام وجاء الإستدعاء الثاني لخدمة الإحتياط في الجيش في أوائل الربيع من عام 1980 عن طريق شفرة سرية قرأتها في إحدى الجرائد وكنا قد استلمنا الشفرة اثناء خدمة الإحتياط الأولى قبل عام واحد.
تواترت خلال فترة الإحتياط الأنباء من الحدود الشرقية بتأزم الوضع هناك، وكنت مع زملائي الضباط في كتيبة هندسة الميدان العاشرة نقرأ التعميمات العسكرية التي ترد من القيادة حول التحرشات والإعتداءات الإيرانية على القصبات والمدن العراقية.
بعد إنقضاء شهر على خدمتي في الجيش تم إجراء عملية جراحية لي لإستئصال اللوزتين في مستشفى الرشيد العسكري، وكنت أعاني منذ الصغر من إلتهابات حادة ومزمنة فيهما.
بعد تماثلي للشفاء وإنقضاء فترة الإجازة المرضية ألتحقت بسريتي في معسكر الرشيد وكان زملائي من الضباط الإحتياط من دورتي قد تسرحوا بعد أن قضوا فترة خمس واربعون يوما المحددة لخدمة الإحتياط.
في هذه الأثناء كانت سريتي قد أنتقلت إلى الجبهة الشرقية قرب قضاء بدرة وجصان على الحدود الإيرانية ولكن مقر الكتيبة ظلت في معسكر الرشيد ونسبني آمر الوحدة إلى سرية أخرى لأقضي فيها الأيام القليلة المتبقية من خدمة الإحتياط.
بعد إنقضاء فترة الإحتياط تسرحت من الجيش وألتحقت بمقر عملي السابق في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية.
في نهاية شهر أيلول من نفس العام اندلعت الحرب الشاملة بين العراق وإيران، وبدأت الطائرات من الطرفين المتحاربين بقصف المدن والأهداف العسكرية وتحركت القطعات العسكرية نحو الحدود الشرقية وحمى وطيس المعارك التي تحولت إلى حرب ضروس أستمرت ثمانية أعوام تخللتها معارك طاحنة راح ضحيتها الوف من الشباب بين قتيل وجريح واسير ومفقود.
إنّ هذا الحرب المأساة وقعت لتحقيق آطماع الإستعمارية للدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ولإضعاف البلدين اجارين العراق وإيران ولغرض إسستنزاف مواردهما من الذهب الأسود، فالعراق الذي أمم ثروته النفطية في الواحد من حزيران سنة 1972 أصبح هدفا لهذه الدول الإستعمارية، أماالحكام الجدد في إيران فقد رفعوا شعار تصدير الثورة الإسلامية بقيادة الخميني إلى الخارج وخاصة إلى العراق لوجود أكثرية من الطائفة الشيعية فيها وكذلك إلى بعض دول الخليج الغنية بالذهب الأسود.
وهكذا أستمرت المعارك سجالا بين الفريقين المتحاربين وأشتعلت النيران التي كانت تزود بالحطب من قبل بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية الطامعة في ثروة القرن العشرين…. الذهب الأسود.
كان موقف الدول المنضوية تحت لواء مجلس التعاون الخليجي كالمملكة العربية السعودية والكويت مساندا لحكومة العراق في هذه الحرب الضروس بالمال وذلك بسبب تخوفهم من ألأطماع الإيرانية.
بدأت القيادة العسكرية بدعوة الإحتياط للخدمة في الجيش من مختلف المواليد ودورات الضباط الإحتياط وكنت أترقب دعوتي للإلتحاق بالجبهة ولكن نظرا لكوني منسوبا إلى صنف الأشغال العسكرية وهو صنف غير قتالي فلم يتم إستدعائي لخدمة الإحتياط خلال فترة الحرب التي أستغرقت لثمانية سنين عجاف.
إنّ المعاناة والآلام التي نجمت نتيجة لهذا الوغى لا يمكن لقلم أن يصفها كلها، فالإقتصاد تدهور والآلاف من العوائل ثكلت بشبابها بين قتيل وجريح أو مفقود أو أسير.
وهكذا مرت أيام وشهور وسنين وأصبح الحرب جزءاً من حياتنا اليومية وأستمر العراقيون بممارسة حياتهم في خضم هذه الأحداث والتناقضات.
بالرغم من هذه الظروف العصيبة أستمرت دائرتي بتقديم الخدمات الإستشارية الهندسية لدوائر الدولة، كان العراقيون يقاتلون ويبنون في آن واحد، فالصواريخ أرض أرض والطائرات والمدافع والدبابت كانت تهدم والمهندسون والعمال يبنون، ومن بين النقيضين مرت قافلة الضياع نحو المستقبل حاملا كل ما تزخر به هذه الحياة من يأس ونقيضه الامل بحياة أفضل للإنان في هذا الكون العجيب.
أنقضت خمس سنوات من هذه المأساة الإنسانية بين خوف وألم وحزن ورجاء بأنّ الحرب ستتوقف ولكنها أستمرت بكل عنفوانها.
تأقلمنا مع الظروف الجديدة وبدأتُ أنغمس في العمل فشاركت بتلك الفترة في عدة مسابقات معمارية بعد فوزي بالمرتبة الأولى في أول مسابقة معمارية شاركت فيها لتصميم سياج موحد يحيط بنصب الجندي المجهول ومتنزه الزوراء وساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد، لكن المشروع بعد إقراره من قبل وزير الإسكان والتعمير وأمين العاصمة بغداد في الإجتماع الذي حضرته في الوزارة لم يتم تنفيذه للظروف الأقتصادية التي كانت تمر بها القطر بسبب الحرب.
في هذه الأثناء تم تنسيبي للأشراف ومتابعة تنفيذ مشروع ساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد التي صُممت من ونفذت من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية بالإشتراك مع شركة فود اليابانية، وقد كان عملي في هذا المشروع فرصة سانحة للإحتكاك بالخبرة العالمية في مجالي التصميم والتنفيذ.
كان المشروع يضم منصة لجلوس رئيس الجمهورية وأعضاء قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي والوزراء والضيوف بسعة مائة عشرون شخصا مع توفير أنابيب للتكييف بجانب كل مقعد ومنصة للخطابة.
على جانبي منصة ألشرف كان التصميم يحتوي على منصتين لجلوس الضيوف الآخرين بسعة أكبر.
أضافة إلى ذلك كانت منصة الشرف مرتبطة بصالة المدخل الرئيسي وغرف للإدارة وصالتان للجلوس والطعام مخصصة لضيوف الشرف مع مكتب خاص لرئيس الجمهورية صدام حسين التي كانت مزودة بشباك ذو زجاج مقاوم لطلقات البندقية.
أمام المنصات تم تصميم شارع ألإستعراض بعرض خمسين متر لمرور الكراديس والدبابات أثناءالإستعراضات العسكرية.
في الجهة المقابلة لمنصات الجلوس تم تصميم مبنى دائري داخل حوض الماء كان يستخدم لعرض أشعاعات الليزر في سماء بغداد ولكن الشباك الامامي المقابل للمنصة الرئاسية التي كانت ترسل ثمانية وعشرون إشعاعا ليزريا نحو مرايا بنفس العدد منصوبة فوق المنصة الرئاسية تم أقفاله لاسباب أمنية خاصة بأمن رئيس الجمهورية. كان سبب إختيار العدد ثمانية وعشرون لأشعة الليزر والمرايا بسبب كون عيد ميلاد صدام حسين مصادفا لتاريخ الثامن والعشرين من نيسان.
المشروع ضم أيضا ساحة كبيرة لوقوف حشود الجماهير وشاشتان لعروض الفيديو والأفلام مع مبنى للمسرح وسينما ومبنى لعرض الأعمال الفنية ومقاهي.
في احدى الزيارات المتكررة لصدام حسين لمشروع ساحة الاحتفالات الكبرى في بغداد وعندما كان المشروع قيد الانشاء طلب من المهندس المقيم ان يخبر الشركة اليابانية التي كانت تنفذ المشروع للبدء بتفكيك القوسين المشيدين في بداية ونهاية شارع الموكب والتي كانت من تصميم نحات ياباني.
كما اوعز باجراء مسابقة لتصميم قوس للنصر على ان تشيد في موقع القوسان الملغيان.
حدث ذلك في اثناء الحرب العراقية الايرانية وكنت حينذاك امثل وزارة الاسكان والتعمير في موقع المشروع كمهندس معماري مشرف على التنفيذ.
اقترح المهندس المقيم للمشروع اشتراكي في هذه المسابقة المهمة وبعث كتابا الى وزارة الاسكان والتعمير لدعوة المهندسين المعماريين العاملين في الوزارة للاشتراك في هذه المسابقة.قدمتُ مع اثنتا عشر مهندسا معماريا التصاميم المعمارية للمسابقة.
بعد فترة تم اعلامنا من قبل الوزارة بوجوب حضورنا الى القصر الجمهوري للاجتماع مع رئيس الجمهورية صدام حسين.
في الموعد المحدد اجتمعنا مع صدام حسين في احدى قاعات القصر الجمهوري.
حضر الاجتماع اربعة وعشرون مهندسا معماريا وعدد من النحاتين العراقيين اذكر منهم الفنانان اسماعيل فتاح الترك مصمم نصب الشهيد وسهيل الهنداوي وعدد من ممثلي المكاتب المعمارية من القطاع الخاص بينهم مهندسة معمارية واحدة.
اعلمنا صدام حسين عن نيته باعادة المسابقة وذلك لإنّه يرتأي ادخال رموز معينة في تصميم قوس النصر، من تلك الرموز قوس عربي اسلامي ، النخلة العراقية، العلم العراقي وسيوف عربية مخترقة خوذ الجنود الايرانيين.بعد اكمال حديثه فسح رئيس الجمهورية المجال للاسئلة.
تحدثت المهندسة المعمارية الوحيدة الحاضرة في الاجتماع قائلة:
سيدي الرئيس ان تصميم مشروع ساحة الاحتفالات الكبرى له طابع معماري خاص،فاذا جمعنا في تصميم قوس النصر كل الرموز التي طلبتها فاني اخشى من عدم تلاؤم تصميم القوس مع الطراز المعماري لأبنية المشروع المنفذ.
تعجبت من جراة المتحدثة وانتظرت بفارغ الصبر جواب الرئيس صدام حسين.
ابتسم صدام حسين وخاطب المهندسة المعمارية قائلا :
– شوفي ست (وذكرها باسمها) في هذا الاجتماع كلنا زلم (رجال باللهجة العراقية) ماعداك، وانت جميلة وانيقة،هل تبدين نشازا بين هذا الجمع من الرجال؟ ام انك تضيفين جمالا ورونقا على هذا المجلس؟ كذلك الامر بالنسبة لتصميم قوس النصر، فاذا جاء التصميم متناسقا وجميلا فسيضيف على تصميم ابنية المشروع جمال اضافيا.
كان جواب الرئيس مقنعا ويدل على ذكاء وسرعة بديهية صاحبه.
بعد شهرين تم تقديم اربعة وعشرون تصميما للمسابقة واختار الرئيس صدام حسين تصميم الفنان الراحل خالد الرحال (مصمم نصب الجندي المجهول) للتنفيذ وشكلت لجنة من الفنانين برئاسة الفنان اسماعيل الشيخلي لاختيار خمس تصاميم اخرى للفوز بالجوائز المتبقية وحاز تصميمي الذي قام الفنان نداء كاظم بانجازالاعمال النحتية له بالمرتبة الرابعة.
أستلمت على أثر إعلان النتائج في الصحف جائزة نقدية مقدارها الف دينار من وزير الثقافة والإعلام حينذاك لطيف نصيف جاسم كتكريم مقدم من رئيس الجمهورية.
كانت هذه المرتبة المشرفة في المسابقة مثار إعتزاز المدير العام لدائرتي ووزير الإسكان والتعمير، وتم تكريمي من قبلهما بمنحي قِدما في الوظيفة لأغراض الترفيع والتقاعد.
بعد انتهاء المسابقة اطلعت على التقرير الفني لمقترح الفنان خالد الرحال.
الفكرة التصميمية للقوس المصمم من قبل خالد الرحال وبمشاركة المهندس المعماري عدنان الاسود احتوت عدة رموز وهي كالاتي:
– قبضة اليد الحاملة للسيف العربي: ترمز الى قبضة صدام حسين التي تخرج من باطن الارض مفجرا اياها.احد السيفين موجه نحو الغرب اي الى اسرائيل والاخر نحو الشرق اي الى ايران والجدير بالذكر أنّ السيفين المنفذين في الموقع الحالي متجهين نحو الشمال والجنوب وليس كما كما ذكر في تقرير المسابقة.
– الشبكة التي تحوي الخوذ الحربية والخوذ المتناثرة على ارضية شارع الموكب تحت القوس ترمز الى هزيمة الجيش الايراني امام الجيش العراقي. وفكرة الشبكة التي تحوي الخوذ مقتبسة من نحت من فترة الدولة الاشورية، وفي هذه المنحوتة نلاحظ جماجم القتلى الفرس موضوعة داخل شبكة.
– الاسد الذي يحمل شبكة الخوذ باسنانه يرمز الى القوة.
– التقاء السيفين يشكلان قوسا عربيا اسلاميا.
– لم يستعمل الفنان خالد الرحال العلم العراقي في مقترحه وقد تم وضع علم في موضع التقاء السيفين وبتوجيه من الرئيس صدام حسين بعد تنفيذ المشروع.

قبل تقديم المسابقة بخمسة عشر يوما وبعد إنجازي للفكرة التصميمية قررت دائرتي إيفادي إلى صوفيا، عاصمة بلغاريا لمدة اسبوع للمشاركة في المؤتمر الحولي للهندسة المعمارية، وبالرغم من تأخر وصول موافقة وزارتي سافرت إلى صوفيا ولكني لم أستطع اللحاق بجلسات المؤتمر إلا في اليوم الأخير منه.
بعد حضوري للجلسة الختامية وزيارتي لمعرض المشاريع المعمارية الذي أُقيم بمناسبة إنعقاد المؤتمر قفلت راجعا إلى الفندق.
قضيت اسبوعا في صوفيا وكانت بلغاريا ثالث دولة أزورها بعد تركيا والكويت، والأخيرة أوفِدت إليها سابقا من قبل وزارة النفط للإشتراك في معرض المواد العازلة المستعملة في البناء لكوني عضوا في إحدى اللجان الفرعية المنبثقة من اللجنة الإستشارية للطاقة المشكلة في وزارة النفط، وفي خلال عملي في هذه اللجنة أعددنا بمشاركة عدد من المهندسين المعماريين ومهندسي الميكانيك كتاب ” دليل العزل الحراري ” الذي تم طبعه في الكويت وعلى حساب وزارة النفط العراقية.
قضيت أسبوعا في صوفيا محاولا التعرف على المعالم العمرانية والسياحية والتراثية لهذا البلد الذي كان يرزح تحت وطأة حكم الحزب الشيوعي البلغاري في حقبة حلف وارشو الذي كان يضم عددا من دول شرق اوربا وبقيادة الإتحاد السوفيتي.
خلال ذلك الأسبوع اشتركت في عدة جولات سياحية كانت معلنة في صالة مدخل الفندق. إنّ الإنطباع الذي خرجت به من حصيلة جولاتي في صوفيا أنّ هذا البلد لا يسبقنا في التطور ويعاني من تدهور في حالته الإقتصادية، فالنسيج العمراني للعاصمة صوفيا كان يعكس هذا الواقع.
بعد عودتي من صوفيا كُلِفت بتصميم مبنى إتحاد مجالس البحث العلمي العربية وهذا الإتحاد هو إحدى تشكيلات جامعة الدول ا لعربية وكان مقره في بغداد. تم إختيار موقع للمشروع في جهة الكرخ من العاصمة بغداد وفي منطقة علاوي الحلة.
بعد إنجازي لتصاميم المشروع تم تنفيذه من قبل شركة ميتسوبيشي اليابانية وبمشاركة شركة فودو وهما نفس الشركتان اللتان نفذتا مشروع ساحة الإحتفالات الكبرى في بغداد ضمن عدة مشاريع أمر بإنشائها الرئيس صدام حسين، كقصر المؤتمرات وفندق الرشيد ونصب الجندي المجهول ونصب الشهيد كتهيئة لإنعقاد مؤتمر دول عدم الإنحياز في بغداد، ولكن إنعقاد المؤتمر أُلغي بسبب ظروف الحرب العراقية الإيرانية.
كان من ضمن مهامي بعد إنجاز التصاميم الإشراف على تنفيذ المشروع الذي استغرق تنفيذه عاما كاملا وفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية ألتي سُمٍيت بمعركة القادسية الثانية.
بعد هذه المرحلة من عملي في وزارة الإسكان والتعمير، اشتركت في مسابقة لتصميم دار إستراحة لرئيس الجمهورية صدام حسين في مسقط رأسه في قرية العوجة التابعة لمدينة تكريت ضمن محافظة صلاح الدين وعاونني في تصميم هذا المشروع زميلان معماريان من المجموعة المعمارية التي كنت أرأسها في الدائرة.
قبل ظهور نتائج المسابقة التي اشترك فيها اثنان وعشرون مكتبا حكوميا وخاصا، تم إستدعائي من قبل المنظمة الحزبية في منطقة سكني في محلة راغبة خاتون للإلتحاق بإحدى قواطع الجيش الشعبي وهي ميليشيا للحزب الحاكم، حزب البعث العربي الإشتراكي، ولكن نظرا لظروف الحرب مع إيران أصدرت القيادة أوامر بتجنيد الغير الحزبيين أيضا لحاجة جبهات القتال للرجال بغض النظر من أعمارهم أو وظائفهم، فكوني غير منتمي للحزب الحاكم لم يكن يشفع لي في هذه الحالة الطارئة.
شرحت لهم في المنظمة الحزبية كوني كنت ضابطا مجندا في الجيش وبأنّي رئيس مهندسين في وزارة الإسكان والتعمير ولكن لم ألقى آذانا صاغية، فرحى الحرب الضروس المشتعلة كانت محتاجة للوقود لإدامة زخمها.
كان الإستدعاء في اوائل من شهر كانون الأول عام 1985 اي بعد إنقضاء خمس سنوات عجاف من الحرب، حيث كان القتال مستمرا على اشده مع الإيرانيين والجبهة الطويلة كانت بحاجة ماسة إلى جنود للدفاع عن الوطن، إضافة ألى تدهور الوضع الأمني في شمال العراق، فالأكراد بقيادة جلال الطالباني كانوا يشنون غارات متواصلة على المدن والقصبات الشمالية من العراق منطلقين من قواعدهم الجبلية.
بعد إنقضاء فترة التدريب البالغة خمس وأربعون يوما في معسكر النهروان، تحرك قاطعنا لإحتلال مواقعه في شمال العراق.
لقد تم توزيع القواعد الثلاثة للقاطع على الربايا المطلة على طريق بغداد- كركوك في منطقة قريبة من قضاء طوزخورماتو التركمانية. كانت بعض هذه الربايا تقع على قمم التلول والجبال المحيطة بقضاء طوزخورماتو من الجهة الشرقية وكان نصيبنا من التوزيع ربيئة تقع في بداية تفرع الطريق الذاهب إلى قضاء كفري من الطريق الرئيسي.
كان الواجب المناط بافراد ربيئتنا إضافة إلى حماية الطريق الرئيسي الإشراف على نقطة السيطرة المجاورة للربيئة وكذلك حماية ناحية سليمان بك الواقعة في الجهة الجنوبية الغربية من الربيئة.
كانت ربيئتنا منشأة في ارض سهلية تقابلها عبر الشارع في الجهة الشمالية سلسلة جبال طوزخورماتو الجرداء وعلى مبعدة كليومتران.
كانت هذه الجبال تضم قواعد الاكراد بقيادة جلال الطالباني والذين كانوا يشنون منها غارات مستمرة على الاقضية والقصبات المجاورة.
كانت الربيئة عبارة عن ساتر ترابي شبه دائري تعلو متران من الارض المحيطة بها وضم الساتر الترابي في داخلها ثلاث غرف متلاصقة مبنية من الطين المجفف في الشمس (اللبن باللهجة العراقية) ومسقفة بصفائح معدنية مضلعة. إحدى الغرف كانت مخصصة لزمرة عسكرية منسوبة للدفاع الجوي مكونة من نائب ضابط وعريف وجنديان، كان نائب الضابط من قرية آمرلي أما العريف فكان من قرية ينكيجة، سكنة الناحية والقرية والقرى المجاورة هم من عشيرة البيات التركمانية.
كان الواجب المناط بالزمرة العسكرية مراقبة حركة طيران العدو بالعين المجردة وإخبار قيادة الدفاع الجوي بواسطة جهار اللاسلكي بالمعلومات حول اعداد الطائرات المعادية المحلقة في المنطقة وانواعها وإتجاهاتها.
تم تخصيص الغرفة الثانية لآمر الربيئة وتم تخصيص الغرفة الثالثة الكبيرة كمنام لبقية افراد المجموعة المكونة من ستة عشر مقاتلا.
كانت هذه التشكيلة من المقاتلين في الربيئة من اغرب التشكيلات المقاتلة، فالاعمار متفاوتة فبجانب الشباب كان يضم شيوخ في العقد الخامس من العمر. إنّ الفترة الطويلة التي استمرت بها هذا الحرب الضروس والخسائر البشرية الجأت القيادة للإستعانة بجميع من يقدر على حمل السلاح حتى وإن لم يكونوا من منتسبي الحزب الحاكم.
تجربة ميليشيا الجيش الشعبي تميزت بسلبيات عديدة فأسلوب الإجبار للمواطنين أدى بكثير من المواطنين للتهرب من الإلتحاق والإختفاء في بيوت غير بيوتهم او الإلتجاء إلى مدن أخرى. بالنسبة للهاربين من الخدمة العسكرية في الجبهة شكلت القيادة مجموعات للإعدامات وأصدر صدام حسين قرارا بقطع الأنوف وألآذان لمن يتم القبض عليه من الهاربين من الخدمة، وكانت عمليات القطع هذه تُجرى في المستشفيات ويتم إجبار الجراحين لإجراء هذه العمليات الوحشية، حتى انّ بعض الأطباء الذين رفضوا إجراء هذه العمليات أضطروا للهروب إلى خارج العراق لتجنب العقاب.
كان التفاوت الآخر في التشكيلة العجيبة التفاوت الثقافي والمهني فبجانب المهندس المعماري والمدرس والموظف كانت مجموعتنا تضم البقال وعامل البناء والنجار والخباز وخريجي إحدى السجون وسائق لسيارة أجرة والذي تم تعيينه كآمر للربيئة.
لقد كانت فترة التسعة الشهور التي قضيتها في هذه المعايشة الإنسانية فريدة من نوعها وعلمتني اساليب كثيرة في التعامل مع اناس من نفسيات متباينة وذو خلفيات ثقافية متناقضة.
انقضت هذه الفترة من الخدمة الإجبارية بأيامها العصيبة بدون حوادث تُذكر ماعدا بعض الهجمات من قبل الاكراد على الربايا المتواجدة في قمم التلال والجبال، كما تفاجأنا في إحدى الأيام بوجود افعى بطول متر داخل غرفة نومنا وبعد مناوشات تمكنا من قتلها بإطلاقات من بندقية الكلاشنكوف التي كانت تسليح معظم افراد المجموعة وكان من ضمن اسلحتنا ايضا بندقية قنص تدربت عليها في معسكر النهروان إضافة لمدفع هاون تدرب عليها آمر الربيئة.
في الشهور الاخيرة تم زرع حقل الغام حول الربيئة من قبل الهندسة العسكرية كإجراء دفاعي وكانت بعض الألغام تنفجر نتيجة لدخول الكلاب السائبة إلى حقل الألغام.
كان الساتر الترابي مليئا بجحور حشرة سوداء لم أرها من قبل يشبه العنكبوت ولكن بذيل عقرب ذو ابرة سامة تستعملها الحشرة للدغ.
في إحدى زيارات شقيقي يلماز للربيئة ابلغني بفوزي بالمرتبة السابعة في مسابقة تصميم دار الأستراحة في قرية العوجة وهي محل ولادة صدام حسين وكنت قد اشتركت في هذه المسابقة قبل الالتحاق بالجيش الشعبي، نتيجتها استلمت حصتي من الجائزة التي بلغت اربعة آلاف دينار وكنت بحاجة ماسة لهذا المبلغ لتسديد ديون السيارة التي اشتريتها في اوائل صيف من عام 1981.
في اوائل الصيف من عام 1986 استفحل الإلتهاب والالم الذي كان يعاني منه شقيقي يلماز في معدته منذ فترة طويلة وبدأت الشكوك تراود الأطباء حول إصابته بمرض السرطان في جهازه الهضمي وتأكدت هذه الشكوك بعد إجراء عملية جراحية لإستئصال القرحة المزمنة في امعائه الدقيقة.
لقد علمت بهذا النبأ الفاجع بعد ان رقد في إحدى مستشفيات كركوك نتيجة لتدهور حالته الصحية بعد فترة من إجراء العملية الجراحية.
بدأ هذا الداء الخبيث يستشري في جسمه الذي بدأ يذبل يوما بعد آخر وكنت ازوره في المستشفى وارقد بجانبه عدة ايام كلما تمكنت من الحصول على إجازة من قاطع الجيش الشعبي.
في منتصف تموز بدأ النزيف الداخلي يزداد يوما بعد آخر ولم تفد محاولاتنا ومحاولات الأطباء لتعويضه بدماء أخرى. كانت الأيام الاخيرة ليلماز وصراعه مع المرض الفتاك من احلك الايام واشدها إيلاما لي، فبعد أن قضيت هذه الأيام معه في المستشفى قررت نقله إلى البيت بناء على نصيحة الأطباء بعد ان اقترب من حافة الموت.
لم يمهله المرض الخبيث إلا ساعات معدودات لفظ بعدها انفاسه الاخيرة في فراشه.
لقد عصف هذا الفراق الاليم وبهذه الصورة الدرامية بكياني وبالرغم من تكرار هذه النكبات وتراكمها في حياتي، فإنّ الجرح الذي تركه فراق يلماز في اعماقي كانت من اعمق الجراح واشدها إيلاما وسلمتني إلى حزن سرمدي صامت.
إنّ شجرة عائلتي تعرضت خلال السنوات السابقة إلى عواصف الردى بعنف وقسوة تخطت القياسات المألوفة وتساقطت معظم ثمارها قبل اوان النضوج وهذا هو الجانب المؤلم في هذه المأساة الإنسانية.
في اوائل الخريف من نفس العام تسرحت من الجيش الشعبي بعد ان قضيت في الخدمة تسعة شهور عدت بعدها إلى ممارسة عملي في دائرتي مهموما ومثخنا بالجراح التي لم اصب بها في معركة ولكنها جراح سهام القدر.
وكما يتعاقب الليل والنهار فالموت والميلاد يتعاقبان، ففي منتصف الربيع من عام 1987 رزقنا بطفل ثالث ذكر سميناه ساركان.
في صيف عام 1988 وضعت الحرب اوزارها بعد فترة عصيبة من حرب المدن تبادل الطرفان المتقاتلان فيها إطلاق العشرات من صواريخ سكود التي كانت تطلق من منصات ارضية وكانت تدمر عند سقوطها عشرات من الدور السكنية ومناطق تجمع السكان.
بعد وقف إطلاق النار انزاح من صدورنا كابوس ثقيل جثم عليها ثمانية اعوام مرت بطيئة ومليئة بالمآسي والآلام تاركا في نفسية المواطن العراقي اخاديد من الجراح غائرة في أعماقه.
بعد أن سكتت المدافع في الجبهة بدأنا معركة البناء، فإعمار مدينة البصرة أعقبه إعمار مدينة الفاو الذي شاركت فيه مع زملائي في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية بجهود إستثنائية حيث تم تصميم وبناء مدينة كاملة خلال اربعة اشهر وكانت اشبه بالمعجزة ولكن سلبيات هندسية كثيرة رافقت هذه العملية وذلك بسبب قصر الفترة الزمنية المحددة لإنجاز المشروع من قبل رئيس الجمهورية صدام حسين.
بعد إنتهاء إعمار الفاو، اشتركت مع زميل في الدائرة في مسابقة لتصميم دار رئاسي خاص المزمع إنشاؤه على قمم تلال إصطناعية في محافظة بابل، اشترك في هذه المسابقة جميع المكاتب للدوائر الهندسية الحكومية وبلغ عدد التصاميم المشاركة اثنا عشر تصميما، بعد إجراء التحكيم حزنا في المسابقة على المرتبة الرابعة وأستلمت حصتي من المكافأة التي بلغت الف دينار.
بعد عدة شهور من أنتهاء الحرب العراقية الايرانية، رنَّ جرس هاتفي الداخلي في المركز القومي للاستشارات الهندسية والمعمارية وكان على الخط المدير العام للمركز:
– آلو.
– صباح الخير أستاذ كامل
– صباح الخير أستاذ إسطيفان.
– تمَّ تكليفنا من قبل دائرة الشؤون الهندسية التابعة لديوان الرئاسة بتصميم ست دور في مصيف سرسنك، ويجب انجاز جميع التصاميم في ثلاث ايّام وسنبدأ التنفيذ في اليوم الرابع.
– هذا مستحيل أستاذ إسطيفان.
– لايوجد مستحيل، هذا أمر صادر مِنْ الرئيس صدّام حسين. عليكم بالمبيت في الدائرة إذا أقتضى الامر….. بعد العبارة الاخيرة أغلق المدير العام الهاتف.
بعد برهة من التفكير، أنتابني شعور بالقلق، ولكن لَمْ أضيّع مزيداً مِنْ ألوقت وتركتُ أفكاري جانبا ودعوتُ أفراد مجموعتي المعمارية إلى إجتماع عاجل.
في ألإجتماع أبلغتُ أفراد مجموعتي المكوّنة مِنْ خمسة مهندسين معماريين وثلاثة رسّامين متمرسين في الرسم المعماري بطلب المدير العام. كان الجميع متفقين على إستحالة تنفيذ ألامر بالفترة المحددة، ولكنَّنا كنّا واعين بأنَّ أمر رئيس الجمهورية لا يُمكن تأخيره لأنَّ وراء التأخير حصبة وجدري، كما يُقال في المَثَل العراقي.
وزّعتُ العمل على المهندسين المعماريين، وكلّهم كانوا من أكفأ المعماريين المتخرجين مِنْ جامعة بغداد، وبدأنا العمل فوراً.
أنجزنا التصاميم الاولية مع تثبيت الابعاد الرئيسية على المخططات والّتي تُمكِّنْ الشركات المقاولة التابعة لوزارة الاسكان والتعمير مِنْ تسقيط الاسس على ارضية الموقع، ثُمَّ زوّدنا المهندسين المدنيين والكهربائيين والميكانيكيين بنسخ من المخططات المعمارية ليتسنّى لهم البدء بأعداد التصاميم الانشائية والخدمية للمشروع.
ألمشكلة ألاساسية ألّتي جابهتنا أثناء ألعملية ألتصميمية هي عدم توفّر مخططات لمواقع ألدور، لذلك أتصلتُ بالمدير ألعام لحل هذا ألإشكال:
– أستاذ إسطيفان، هلْ يٌمكننا الحصول على مخططات المواقع ألمخصصة للدور؟
– لا أعتقد ذلك، ولكن أتَصِلْ بمعاون دائرة ألشؤون الهندسية في ديوان رئاسة الجمهورية وأبحث ألموضوع معه.
– حسنا أستاذ.
كانَ مُعاون مدير دائرة ألشؤون ألهندسية مهندسا معماريا بارعا، وقد زاملته في ألقسم المعماري من كلية ألهندسة في جامعة بغداد، ثُمَّ عملنا معا في مقر عملي الحالي لعدّة سنوات قبل نقله إلى دائرة ألشؤون ألهندسية في ديوان رئاسة الجمهورية. أتصلت به وطلبت منه مخططات ألموقع:
– صباح ألخير أبو سيف، هل يُمكنك تزويدنا بمخططات ألموقع؟
– حاليا لاتوجد مسوحات للمواقع، لقد تمَّ أختيار ألمواقع مِنْ قِبل ألسيد ألرئيس بينما كان مُحلّقا في ألجو بطائرة سمتيّة فوق ألمنطقة ولَمْ أشاهد ألمواقع لحد ألانْ. إنَّ ألدور الست ألمخصصة لكم تقع على قمتي جبلين محاذيين لجبل كَارة في مصيف سرسنك، وعليكَ ألسفر إلى هناك بأسرع وقت ممكن للكشف ألموقعي.
– شكراً أبو سيف، سأبحث ألأمر مع ألمدير ألعام.
بعد إكمال المخابرة أتصلت بالمدير ألعام وشرحتُ له ألموقِف فطلب مِنّي ألحضور إلى مكتبه لبحث ألامر بالتفصيل.
في مكتبه عينني المدير ألعام إسطيفان ألصائغ مديراً للمشروع وطلب منّي ألسفر فوراَ إلى محافظة نينوى وألاتصال هناك بفرع شركة المنصور للمقاولات وهي إحدى ألشركات ألتابعة لوزارة ألأسكان وألتعمير لترتيب زيارة لموقع ألمشروع. أعلمني ألمدير ألعام كذلك أنَّ ألاوامر صدرتْ مِنْ وزير ألاسكان وألتعمير ألى شركة ألمنصور لتنفيذ ثلاث دور، أمّا ألدور ألثلاث ألاخرى فسيتم تنفيذها مِنْ قِبَلْ شركة ألطارق للمقاولات وهي أيضاً شركة تابعة لوزارتنا، وكان امر الوزير يقضي بأنْ يكون ألتنفيذ على شكل مسابقة بين ألشركتين، وستخصص جوائز لأفضل وأسرع تنفيذ للمشروع.
بعد أنتهاء ألاجتماع أستلمت ألسيارة ألمخصصة للمشروع وأنطلقتُ بها في الصباح ألباكر مِنْ اليوم ألتالي بأتجاه محافظة نينوى.
جرتْ كلُّ هذه ألاحداث في شتاء مِنْ عام 1989، وقبل غزو ألكويت، وكان ألرئيس صدّام حسين في تلك الفترة قد تمكّنَ مِنْ بسط سيطرته ألكاملة على شمال ألعراق، معقل أكراد ألعراق.
في فرع شركة ألمنصور ألتقيت بمجموعة مِنْ ألمهندسين مِنْ شركتَيْ ألمنصور وطارق ثمَّ بدأنا ألرحلة نحو مصيف سرسنك. كان في أستقبالنا هناك الشيخ مأمون ممثل ألوزارة وهو رئيس مهندسين في ألمؤسسة ألعامة للطرق وألجسور وكان يُشرِف على تنفيذ ألطرق وأبنية ومدرج مطار بامرني. توجّهنا بصحبة المهندس مأمون نحو جبل كَارة ألّذي ينام على سفحه مصيف سرسنك بهدوء.
عند وصولنا إلى سفح ألجبل، أذهلني أرتفاع ألجبل ألشامخ ألّذي كانت قمّته مغطاة بالثلوج.
أشار ألشيخ مأمون، وهو مهندس كردي من سكان المنطقة ألشمالية من ألعراق إلى قمّتين محاذيتين لجبل كَارة وكانتا أوطأ من قمّة جبل كَارة قائلا:
– هناك قمّتين، قمّة عالية وقمّة واطئة، سنبني ثلاث دور على ألقمّة ألعالية وثلاث أخرى على ألقمّة ألواطئة.
بادرت ممثل ألوزارة قائلا:
– أستاذ مأمون، هل يوجد طريق للسيّارات يوصِل إلى القمم؟
أبتسم مأمون بأسى وقال:
– مع ألاسف لا يوجد طريق للسيارات حاليا، لقد بدأتْ آلياتنا بألعمل قبل يومين لأنجاز هذا العمل، كما بدأنا ألعمل أيضا لأنشاء ألطريق ألموصِل الى قمّة جبل كَارة ألشامخ.
حوّلتُ نظري إلى جبل كَارة ألّذي كانتْ قمّته تعانق ألسحاب، وتمتمتْ بصوتٍ خافت كمن يحدّث نفسه: سيكون هذا أنجازا هندسياً رائعا ومحفوفاً بالعقبات، ثمّ خاطبتُ ألشيخ مأمون قائلا:
– هل سنبني دورا اخرى على جبل كَارة؟
– ستُبنى عشرات من الدور على جبل كَارة، ولكنَّ تصاميمها وتنفيذها ليست مِنْ مسؤولياتنا، لأنَّ ألكوادر الهندسية لدائرة ألشؤون ألهندسية ألتابعة للقصر ألجمهوري ستقوم بالمهمّة، ولعلمِكَ، هناك دور عديدة أخرى ستنشأ بألقرب مِنْ شلالات سره رَشْ، كما سيُشيّد قصرٌ كبير على شكل باخرة في وسط مياه البحيرة ألاصطناعية الّتي ستتكون بعد حصر مياه ألشلال.
– ما ألمدّة ألمقررة لأنجاز حصتنا من المشروع؟
أبتسمَ مأمون قائلاً:
– ستُّة أشهر، وهذا يعني بأنَّ علينا ألعمل لمدّة أربع وعشرين ساعة في أليوم في هذا الطقس ألبارد.
– هذه فترة قصيرة جدا لمثل هذا الموقع المعلّق في ألسماء.
– علينا ألالتزام بموعد الانجاز ولا تنسى أنَّ هذا أمرٌ مِنْ ألسيد رئيس ألجمهورية صدّام حسين وأنت تعرِف مايعني ذلك.
بعد العبارة ألاخيرة للشيخ مأمون، تحسست رقبتي بقلق، ثمّ أردفت قائلا:
– كيف يُمكن صب الخرسانة في درجات الحرارة ألّتي ستكون تحت الصفر؟
– سنجد حلّا عند وصولنا الى تلك ألمرحلة.
– حسنا، كيف سنصل الى قمّة ألجبل؟
– سنتسلّق إلى الأعلى، واحذّرِكم من وجود الغام مدفونة، متبقية مِنْ فترة حروب ألشمال وعليكم تجنب المناطق الرخوة أثناء التسلّق.
بعد التحذير الاخير تبادلنا نظرات ذات معنى وبدأنا بالرحلة الشاقة نحو القمّة.
أستغرق الوصول إلى ألقمّة ألواطئة حوالي الساعتين من الوقت، وبعد ألقاء نظرة على الموقع المخصص تيقنت بأنّه سيكون كافيا لأنشاء أكثر مِنْ ثلاث دور عليه، ثمّ باشرنا بقياس ابعاد الموقع.
بعد أستراحة قصيرة بدأنا بتسلّق القمّة العالية المجاورة، وكان أنحدار الجبل اكثر مِنْ سابقه وعانينا مشقّة كبيرة أثناء التسلّق. عندما وضعتُ قدماي على ألقمّة العالية، هالني ما رأيتُ، كان عُرض ألقمّة لا يتجاوز سبع أمتار ولكنَّ طوله كان مناسباً، ألتفتُّ نحو المهندس مأمون قائلا بخيبة:
– هذا الموقع غير مناسب، ولا يُمكن أنشاء ألتصاميم ألمعدّة مِنْ قِبلنا للدور على هذه ألقمّة، إنَّها لا تكفي لدارٍ واحد، فكيف بثلاث دور؟
– هذه مشكلتُكَ، أنا مهندس طُرُقْ….. قالها مأمون مبتسما.
– سأبحث ألموضوع مع ألمدير ألعام عند عودتي.
بعد أنجاز ألمهمّة المُرهِقة، رجعنا إلى مقر شركة المنصور في الموصل ووجدنا رئيس شركة طارق بانتظارنا على احر من الجمر، بعد التحيّة بادرني متسائلا:
– هل أحضرتَ معك مخططات الاسس؟ أريد أنْ أبدأ ألعمل في الغد.
– أستاذ خالد، نستطيع تسليمكم مخططات الاسس غداً، ولكنّكم لنْ تستطيعوا المباشرة غداً، لأنّ ألموقع المخصص لشركتكم غير مناسب، ولا يمكن تشييد التصاميم الحالية المعدّة على تلك القمّة لانَّ عرض قمّة الجبل قليل جداً.
أُسقط في يد رئيس الشركة وقال متسائلا:
– ما العمل اذن؟
– لا نستطيع أتّخاذ ايّ إجراء بدون أخذْ رأي دائرة ألشؤون الهندسية، لأنَّ أمر السيد الرئيس يقضي بأنشاء ثلاث دور على ألقمّة العالية.
– حسناً، أتّصل بي بعد حَل ألاشكال.
بعد استراحة قصيرة قفلتُ راجعاً إلى بغداد ووصلتها حوالي منتصف الليل. في الصباح التالي شرحتُ للمدير العام تفاصيل زيارتي إلى سرسنك، فطلب منّي ألاتصال بمعاون مدير دائرة الشؤون الهندسية لتبيان الموقف له.
هاتفتُ المعاون وشرحتُ له تفاصيل زيارتي لموقع المشروع، فطلب منّي التريّث وانتظار تعليمات جديدة حول الموضوع.
في اليوم التالي اتّصل بي المعاون قائلا:
– صدر امر مِنْ السيّد الرئيس بتفجير القمّة العالية لتوسيعها، أنت تَعلمْ أنَّ الجبل يكون أعرَضْ كلّما أتجهنا نحو ألاسفلْ.
– ولكن هذه العملية صعبة وستستغرق وقتا طويلا، ثمّ لاتنسى الخطر الناتج مِنْ تدحرج الصخور الى الاسفل وقد تُسَبِّب تهديدا للساكنين في المصيف.
– لا تقلق سأبحث هذه المشكلة مع المهندس مأمون، وأُعلمِكَ بأننا سَنُنْشِأ داراً واحداً فقط على ألقمّة العالية حسب التوجيه الجديد، أمّا بقية ألدور فسيتم أنشائها على القمّة الواطئة، وحسب شرحك للموقع فإنّها تكفي لخمس دور، أليس كذلك؟
– ألموقع سيكفي ولكن بصعوبة وقد نضطر إلى قشط وتفجير بعض الصخور، وهذه عملية ممكنة.
– حسنا فلنبدأ بألعمل.
بعد مرور عدّة أيام على المخابرة مع المعاون، أكملنا ألتصاميم المعمارية ألتفصيلية للدور أضافة إلى التصاميم التفصيلية ألانشائية والميكانيكية والكهربائية وأصبحنا جاهزين لتنفيذ المشروع.
كانت المساحة الكلية للدار الواحد حوالي 500 مترا مربع، واشتمل التصميم على صالة كبيرة للمعيشة والطعام وعلى خمس غرف للنوم مع حمام مٌرفَق بكلِّ غرفة اضافة الى الخدمات الاخرى كالمطبخ والمخزن وغرفة الخدمات الميكانيكية. تمّ تصميم الدور بطابق واحد وحسب التوجيهات الصادرة مِنْ دائرة الشؤون الهندسية.
بعد أنقضاء اسبوع على البدء بتفجير القمّة العالية للجبل، اتّصل المهندس مأمون بمعاون دائرة الشؤون الهندسية واخبره بانهم لم يحصلوا على نتيجة مُرضية من عمليات التفجير، فالجبل الاصم كان يقاوم بشدّة ارادة الانسان، لذلك اقترح مأمون غض النظر عن هذا الموقع. في اليوم التالي اتّصل المعاون بي وابلغني بقرار السيّد الرئيس حول انشاء الدور الست في القمّة الواطئة وغض ألنظر عن ألقمّة ألعالية، وطلب منّي السفر الى سرسنك لمساعدة الشركتين المنفذتين في تعيين موقع كلّ دار وتسقيط مخططات الاسس على الارض.
في الصباح الباكر سافرت الى سرسنك ووجدتُ المهندسين من شركتَيْ طارق والمنصور بانتظاري في موقع المشروع، وكان خبر انجاز طريق السيّارات الصاعد الى القمّة من احسن الاخبار الّتي سمعتها في ذلك اليوم.
انجزنا عملية تخطيط الاسس لخمس دور واجّلنا تخطيط اسس الدار السادس لحين انجاز تفجير وازاحة بعض الصخور الّتي كانت تُعيق عملية التخطيط. أبْتُ الى مقر عملي في بغداد وسارت عمليات الانشاء بدون معوقات، وتمّ حل مشكلة صب الخرسانة في الطقس البارد باستعمال النار لاذابة الماء المتجمد المستعمَل في الصب واضافة مواد كيمياوية تمنع تجمّد الماء داخل الخرسانة، كما تمّ تغطية كلّ مُنشأ بخيمة كبيرة اُشعلت بداخلها النار اثناء رش الخرسانة بالماء لحين وصولها الى القوّة المطلوبة.
كنتُ ازور موقع العمل كلّ اسبوعين للاشراف واقضي ثلاث ايّام في سرسنك. في بعض الزيارات كنتُ أصطحب معي بعض افراد الفريق التصميمي من مختلف الاختصاصات.
في احدى الزيارات طلبتُ مِنْ المهندس مأمون ترتيب زيارة لي لمواقع الدور والقصور الّتي يتم انشاءها من قبل كوادر دائرة الشؤون الهندسية، وبعد اتصاله بالعقيد المهندس المسؤول عن دور جبل كَارة، اصطحبنا الاخير بسيارته وتسلّقنا الطريق الحلزوني الموصل الى قمّة الجبل.
كان منظر جبل كَارة مهيبا وكانت سفوحه مغطاة باشجار السرو والجوز والبلّوط ألّتي أُلبِسَتْ ثوبا أبيضا مِنْ ألثلج، ولاحظت أنّهم انشأوا دارا في كلّ فُسحة عريضة يمر الطريق الحلزوني منها، كما تمّ انشاء مبنى للرصد في قمّة الجبل ألمغطاة بالثلوج.
قال العقيد المهندس اثناء شرحه للمشروع:
– جابهتنا صعوبات جمّة اثناء التنفيذ، فدرجات الحرارة تبلغ هنا خمس عشر درجة تحت الصفر المئوي في هذا الموسم، اضافة الى وجود قطعان من الذئاب المفترسة والّتي هي مصدر خوف دائم للعمال، لذلك كنتُ أُطْعِمْ الذئاب يوميا بوضع قطع من اللحم في اماكن متفرقة لأُشبعها حتّى لا تهاجمنا.
بعد الجولّة المثيرة في جبل كَارة زرنا موقع الدور قرب شلالات سره رَش وشاهدت التحضيرات لانشاء القصر الكبير الّذي سيكون على شكل باخرة في وسط البحيرة الاصطناعية.
أثناء التنفيذ كان عليّ اختيار التأسيسات الصحية الّتي سننصبها في حمامات الدور وكذلك نوعيات المواقد الثابتة المصنوعة من المرمر وكانت من النوع الجاهز ومن منشأ ايطالي. بعد عملية الاختيار من الصور كنّا نزور مخزن المواد الانشائية التابعة لديوان الرئاسة في منطقة البيّاع لمطابقة النموذج مع الصوَر.
تمّ انجاز الدور الست في الموعد المحدد وقد استعملنا القرميد الاخضر المزجج المستورد لتغطية السقوف المائلة للدور، كما تمّ استخدام المفاتيح الكهربائية والحنفيات المطلاة بالذهب في بعض الدور، اضافة الى المرمر العراقي والمستورد لتغطية الارضيات.
كان الرئيس صدّام حسين يتابع عن كثب سير المشاريع وكان يقوم بزيارات مُستمرّة الى سرسنك.
في أخر زيارة لي للموقع أصطحبتُ معي مهندسان معماريان من مجموعتي، أثناء الزيارة لاحظنا أنَّ العمل قد أُنجزَ ولَمْ يبقَ غير تأثيث الدور والّتي لَمْ تكن ضمن مسؤولياتنا، وبهذا بدأنا نحلم بالمكافأة القادمة.
في طريق العودة الى بغداد ، فتحت مذياع السيّارة فكانت المفاجأة، كان المذيع يتلوا بيانا صادرا من وزارة الدفاع/ مديرية التجنيد العامة بوجوب إلتحاق عدّة دورات من الضبّاط الاحتياط والمجندين وكذلك عدّة مواليد من جنود الاحتياط للخدمة في الجيش، وذكر البيان بوجوب التحاق الضبّاط خلال خمسة عشر يوما من تاريخ قراءة البيان.
طرقَ الى أسماعنا رقم دورتي للضبّاط المجندين ورقم مواليد زميلي ورفيقي في الرحلة المهندس المعماري جبّار حمزة، أمّا الزميل الاخر المهندس فاروق فؤاد فلم يكن مشمولا بالاستدعاء. كان الجيش العراقي قد أحتلَّ الكويت قبل فترة، وكانت طبول الحرب تقرع مِنْ وراء المحيط.
ألتفتُّ نحو زميلي جبّار وألفيته ممتقع اللون مِنْ المفاجأة وبادرته مواسياً:
– لا تبتئس غمّة أخرى وستزول، ستقضي عدّة شهور في مديرية ألأشغال ألعسكرية ثمّ ستتسرح.
– مَنْ يدري؟ قد تطول هذه الحرب لعدّة سنين، هل كُنتَ تتوقع أنْ تطول ألحرب مع أيران لثماني سنوات؟
– كلّا، ولكن الحرب القادمة غير متكافئة بين الطرفين، فالعدو هذه المرّة الولايات المتحدّة الامريكية وحلفائها وسَتُحسَم المعركة في فترة قصيرة كما أعتقد.
– ألله يستُر…. قالها بقنوط.
كان هذا استدعائي الثالث لخدمة الاحتياط بعد أكمالي ألخدمة ألالزامية في عام 1977، أضافة الى ذلك فقد كنتُ أُجبرتُ على ألخدمة في ألجيش ألشعبي لمدة تسع شهور كجندي بالرغم مِنْ كوني ضابطا مجنّدا متسرحا مِنْ ألجيش، وكان السبب في ذلك عدم أنتمائي الى حزب البعث، فقضيت تلك الفترة في إحدى الربايا في شمال العراق أثناء ألحرب العراقية الايرانية.
بعد تلك الزيارة الاخيرة لموقع المشروع ألتحقتُ بوحدتي في مديرية الاشغال العسكرية وألتحق ألمهندس جبّار بوحدته أيضا، وقضيت فترة تسع شهور ونصف الشهر في الجيش، ثمّ تسرّحتُ مِنْ ألخدمة بعد وقف اطلاق النار بعدّة أشهر.
كانت فترة عصيبة مرّت بالعراق وخلّفتْ الالاف من القتلى والجرحى والاسرى وخسائر جسيمة في البنيان.
لَمْ يتنعَمْ ألرئيس صدّام حسين بقصوره ألّتي شيّدناها في مصيف سرسنك، فبعد ألهزيمة في حرب ألكويت وألإعلان عن قرار الأمم المتحدة بجعل المحافظات الشمالية منطقة محمية من قبل طائرات قوات المطرقة التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أحتلَّ قوّات ألبيشمركة ألتابعة للزعيم الكردي مسعود ألبارزاني مصيف سرسنك بقصورها.
في الثاني من شهر آب عام 1990 أحتل الجيش العراقي البلد العربي المجاور الكويت بأوامر صادرة من الرئيس صدام حسين وذلك بعد تأزم العلاقات بين البلدين بسبب محاربة الحكام الكويتيين العراق إقتصاديا.
العراق خرج من حربه مع إيران التي أستغرقت لثماني سنوات بجيش قوي ومتمرس على القتال حيث بلغ تعداد القوات البرية 350 ألفا (بما في ذلك نحو مائة ألف من جنود الاحتياط)، وكانت القوات البرية مكونة من:
– سبعة فيالق
– ثلاث فرق مدرعة
– 11 فرقة ميكانيكية
– ست فرق من قوات الحرس الجمهوري
– أربعة ألوية من الحرس الجمهوري الخاص
– خمسة ألوية من الفدائيين
– لواءين من القوات الخاصة.
ولكن العراق خرج من الحرب مع إيران بإقتصاد متدهور حيث بلغت ديون العراق بسبب الحرب ما يقدر ب 40 مليار دولار أمريكي.
بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكية بدأت دولة الكويت بإنتاج الذهب الأسود بكميات تتجاوز حصتها المقررة من قبل دول منظمة أوبك، ونتيجة لذلك أنخفضت أسعار البترول في الأسواق العالمية والبترول المصدر من العراق، لذلك لم يتمكن العراق من إيفاء ديونه المستحقة للدول الدائنة له أثناء الحرب مع إيران.
بالرغم من تحذير العراق لحكام الكويت أثناء إنعقاد مؤتمر قمة رؤوساء الدول العربية من مغبة موقفهم هذا فإنهم أصروا عليه وتفاقم تأزم الوضع بعد الإجتماع الذي تم عقده بين الطرفين في جدة.
كشف موقع “ويكيليكس” ضمن وثائقه المسربة محضر جلسة تاريخية، لطالما تحدث عنها السياسيون باعتبارها لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، وهي التي تتعلق بالاجتماع الأخير بين الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، والسفيرة الأمريكية ببغداد، أبريل غلاسبي، وأوضحت الوثيقة أن صدام اتهم الكويت والإمارات “بالعجرفة” و”الأنانية” وبرفض مساعدته في ظروفه المالية الصعبة، رغم الحرب الطويلة التي خاضها مع إيران.
وتشير الوثيقة إلى أن صدام أراد من غلاسبي إيصال رسالة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش الأب، مفادها أن العراق “يريد الصداقة” بين الجانبين، ولكن على واشنطن أن تدرك بأن بغداد خسرت مائة ألف قتيل في الحرب مع إيران وباتت البلاد فقيرة لدرجة أنها قد توقف دفع الرواتب لعائلات القتلى.
وتابع صدام قائلاً: “الدعم الأمريكي للكويت والإمارات زاد من غرورهما وأنانيتها.. العراق مل من الحروب ولكن الكويت تجاهلت الدبلوماسية، وإذا تعرض العراق للإذلال فإنه سيرد بصرف النظر عمّا يمكن أن يقال مستقبلاً عن الطبيعة غير المنطقية لهذا الرد وما يحمله في طياته من تدمير ذاتي.”
وبحسب غلاسبي، فقد بدأ صدام الحديث عن تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين بغداد وأمريكا، والضربات التي تعرضت لها منذ 1984، وخاصة فضيحة “إيران غايت” التي انتقلت معها أسلحة من أمريكا وإسرائيل إلى إيران، واعتبر أن الولايات المتحدة لم تكن ترغب برؤية الحرب مع إيران تنتهي.
وأكد صدام، الذي “اختار كلماته بعناية” وفق غلاسبي، أن بلاده تعاني من مصاعب مالية خانقة، مع ديون تجاوزت 40 مليار دولار، وتحدث بمرارة عن أن بلاده تواجه هذا الواقع مع أنها “أحدثت بانتصارها في الحرب ضد ايران، فارقاً تاريخياً بالنسبة للعالم العربي والغرب،” واتهم الإدارة الأمريكية بالسعي لخفض سعر النفط، في الوقت الذي يحتاج فيه العراق للمال.
وأعرب صدام عن أمله في التوصل إلى علاقات جيدة “رغم هذه الانتكاسات،” ولكنه شدد على أن بغداد لن تقبل خفض سعر النفط، معتبراً أن من يقود هذه الحملة “يشن على العراق حرباً اقتصادية لا يمكن للعراق معها أن يقبل الاعتداء على كرامته وازدهاره.”
واتهم صدام الكويت والإمارات بلعب دور “رأس الحربة” للسياسة الأمريكية، ودعا غلاسبي إلى التذكر بأن بغداد هي التي حمت أصدقاء أمريكا في المنطقة، عبر الحرب مع إيران، وشدد على أن العراق دفع ثمناً باهظاً في سبيل ذلك، سائلاً ما إذا كانت أمريكا ستتحمل، مثل الشعب العراقي، سقوط عشرة آلاف قتيل من جنودها في معركة واحدة.
ولفت صدام إلى أن المناورات العسكرية المشتركة بين الكويت والإمارات والولايات المتحدة، شجعت انتهاج “سياسة بخيلة” في الدولتين الخليجيتين، وشدد على أن ما وصفها بـ”حقوق العراق” ستعود إليه واحدة بعد الأخرى.
وقال صدام أنه مقتنع بأن واشنطن “ترغب بالسلام،” ولكن عليها “التوقف عن لي الأذرع،” ونقلت عنه غلاسبي أنه قدم لها شرحاً مطولاً عن القيم العراقية، وأكد لها أن العراقيين “يؤمنون بالحرية أو الموت، وأن العراق سيضطر إلى الرد إذا استخدمت أميركا هذه الأساليب.”
وأقر صدام أن بوسع أمريكا “إرسال طائرات وصواريخ،” ولكنه حذرها من أن دفع العراق إلى نقطة يشعر معها بالإهانة سيؤدي إلى قيام بغداد بـ”تصرفات لا تعرف المنطق.
ولم يفت صدام خلال اللقاء الحديث عن الملفات الإقليمية، فأشار إلى ما أسماها بـ”ضغوطات صهيونية” تعرض لها بوش الأب خلال الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقال إن على واشنطن “النظر إلى حقوق 200 مليون عربي، كما تنظر إلى حقوق الإسرائيليين.”
وبعد ذلك، نقلت غلاسبي ما قالته لصدام، وذكرت أن الإدارة الأمريكية طلبت منها السعي لتعميق العلاقات مع العراق، وشددت على أن واشنطن غير مسؤولة عن الانتقادات التي توجهها الصحافة الأمريكية للعراق لأنها لا تسيطر على الإعلام، ولكن هذا لا يعني أن الصحف تعكس موقف الإدارة.
وأضافت غلاسبي أنها قالت لصدام إن القلق الأمريكي حيال نواياه مبرر، وشرحت بالقول: “أليس من المنطقي أن ينتابنا القلق عندما تقول أنت ووزير خارجيتك إن تصرفات الكويت توازي الاعتداء العسكري؟ ومن ثم تتوجه وحدات من الحرس الجمهوري العراقي إلى الحدود مع الكويت؟ نحن نسأل بروح الصداقة وليس المواجهة عن نواياكم.”
وبحسب الوثيقة، قاطع صدام غلاسبي بالقول: “هذا سؤال منطقي، ولكن كيف يمكننا أن نجعل الكويت والإمارات تفهمان مدى معاناتنا، لدينا مصاعب مالية سنضطر معها قريباً إلى قطع الرواتب عن أرامل ويتامى الحرب،” وهنا تشير السفيرة الأمريكية إلى أن المترجم وأحد المدونين لمحاضر اللقاء انهارا عصبياً وأجهشا بالبكاء.
وتابع صدام بالقول إنه قام بكل ما بوسعه لإقناع دول الخليج بمساعدته، بما في ذلك الطلب من العاهل السعودي الراحل، الملك فهد بن عبدالعزيز، تنظيم قمة رباعية تضم العراق والسعودية والإمارات والكويت، وجرى التوصل إلى اتفاق نفطي مع الكويت في جدة، ثم تراجع عنه وزير النفط الكويتي، كما روى أنه حصل على تعهدات إيجابية لم تنفذ لاحقاً من قبل الرئيس الإماراتي الراحل، الشيخ زايد بن سلطان، الذي “رجاه أن يتفهم مشاكل العراق.”
ثم ذكرت غلاسبي أن صدام تلقى اتصالاً هاتفياً مستعجلاً من الرئيس المصري، حسني مبارك، الذي نقل له التوصل إلى اتفاق للقاء مع الكويتيين في الرياض يتبعه لقاء آخر ببغداد قبل 30 يوليو/تموز، وأشارت إلى أن صدام وعدها بعدم القيام بخطوات عسكرية “إذا حصل على بصيص أمل من الموقف الكويتي.”
وذيلت غلاسبي رسالتها بالإشارة إلى الخلاف حول مناطق الثروات النفطية بين العراق والكويت، وأضافت أن أمريكا “لم تتدخل بهذا الشأن العربي الخاص،” ولفتت إلى أن صدام لم يسبق له أن استدعى أي سفير للقاء مماثل للذي عقده معها، واستنتجت أن ذلك يدل على قلقه، واعتبرت أنه أدلى بالكثير من الملاحظات التي تدل على اعترافه بشرعية الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط وبدور واشنطن كقوة عظمى.
وبحسب الوثيقة، فإن الاجتماع عقد في 25 يوليو/تموز 1990، وقامت غلاسبي بإرسال تفاصيله في اليوم نفسه إلى واشنطن، وحضر اللقاء وزير الخارجية العراقي الأسبق، طارق عزيز، ومدير مكتب صدام وعدد من كتبة المحاضر والمترجمين، علماً أن الجيش العراقي عاد واجتاح الكويت في الثاني من أغسطس/آب.
تتابعت الاحداث بسرعة مذهلة فبعد الإعلان عن قيام ثورة في الكويت قام بها عدد من الضباط الشباب في الجيش الكويتي، تم الإعلان عن الوحدة بين القطرين العراق والكويت ثم تلاه الإعلان عن ضم الكويت إلى العراق وتم إعتباره المحافظة التاسعة عشر من محافظات العراق وتم الإستيلاء على جميع ممتلكات الدولة الملغاة.
في تطور آخر للأحداث طلبت المملكة العربية السعودية من القوات الأمريكية والغربية المساعدة لصد هجوم عراقي محتمل على أراضي المملكة، وهكذا بدأ تحشيد هائل للجيوش والأساطيل الأمريكية والغربية في المنطقة أضافة لقوات من دول عربية كمصر وسوريا والمغرب لإخراج الجيش العراقي من الكويت.
تتالت قرارات الامم المتحدة ضد العراق وتم فرض حصار اقتصادي على البلد فبدأت الدولة بتقنين الوقود وتطبيق نظام البطاقات التموينية لتوزيع المواد الغذائية التي بدأت تشح في الأسواق المحلية.
في هذه الأثناء أستدعت وزارة الدفاع عدة مواليد لخدمة الإحتياط إضافة إلى ذلك أستدعت عدد من دورات الضباط الإحتياط والضباط المجندين.
في طريق عودتي من إحدى زياراتي إلى مصيف سرسنك لمتابعة تنفيذ قصور صدام حسين وبرفقة مهندسان معماريان من مجموعتي، أستمعت إلى نبأ إستدعائي إلى خدمة الإحتياط من مذياع السيارة وقد شمل الإستدعاء زميلي المهندس جبار الذي كان برفقتي في السيارة وتم تحديد فترة ثلاثة أيام في بيان وزارة الدفاع للإلتحاق إلى مدرسة صنف الهندسة العسكرية.
في التاسع من ايلول من عام 1990 اي بعد شهر ونيف من دخول القوات العراقية الى الكويت التحقت بمقر مدرسة الهندسة العسكرية مع بقية زملائي من المهندسين من الدورة 26 للضباط المجندين والدورات الثلاث الأخرى التي تم إستدعائهم معنا، وكانت فرصة للإلتقاء برفاق السلاح القدامى ولم الشمل بعد إفتراق دام إحدى عشر من السنين.
كان معظمنا برتبة ملازم ثاني بالرغم تجاوز اعمارنا العقد الرابع عدا بعض الزملاء الذين شاركوا في الحرب العراقية الايرانية فكانوا برتبة نقيب.
بعد إنقضاء فترة شهر ونيف من الإنتظار في مدرسة الهندسة العسكرية تم تنسيبي إلى شعبة التصاميم في هيئة المشاريع العسكرية وكان مقر الهيئة في جهة الكرخ من العاصمة بغداد وفي منطقة الكاظمية.
مرت أربعة شهور ونيف على إلتحاقي بمقر عملي الجديد في الجيش، وكانت هذه الفترة فترة ترقب وإنتظار لما يخبئه القدر من احداث جسام.
بعد ان قررت القيادة إطلاق سراح الرهائن من رعايا الدول الغربية الذين كانوا محتجزين في المنشآت الصناعية والعسكرية لإستخدامهم كدروع بشرية نتيجة لتوسط بعض الشخصيات السياسية والشهيرة في مجالات اخرى ورفض الولايات المتحدة الامريكية والدول المتحالفة معها مبادرة الرئيس صدام حسين لحل جميع مشاكل المنطقة حلا جذريا بما فيها القضية الفلسطينية، أيقنا بانّ الحرب واقعة لا محالة.
في هذه الاثناء وجه الرئيس الامريكي جورج بوش “الاب” إنذارا نهائيا إلى العراق لسحب قواته من الكويت وتم تحديد الخامس عشر من كانون الثاني من عام 1991 كآخر موعد لبدء الإنسحاب، فخيم التوتر في صفوفنا وبدأت طبول الحرب تقرع من جديد.
قبل الموعد المحدد لبدء العمليات الحربية قررت إبعاد عائلتي عن بغداد لأنني كنت اتوقع قصفا مركزا وعنيفا عليها كما انّ زوجتي كانت تحتاج إلى عناية خاصة بسبب قرب قدوم الوليد الرابع لنا.
سافرت بسيارتي مع عائلتي الى مدينة الذهب الاسود قبل موعد الإنذار النهائي بيومين وقفلت راجعا إلى بغداد وحيدا في اليوم التالي للإلتحاق بوحدتي العسكرية بعد ان تركتهم في رعاية شقيقتي.
في فجر السابع عشر من كانون الثاني من عام 1991 جفلت من النوم في دارنا في محلة راغبة خاتون على اصوات دوي إنفجارات القنابل والمدافع والصواريخ المضادة للطائرات، وبعد ان القيت نظرة من النافذة الفيت السماء وقد تحول ظلامها إلى انوار متلألئة كالألعاب النارية التي تطلق في الإحتفالات وأيقنت بأنّ الواقعة قد وقعت وإننا دخلنا في الحرب مع ثلاثين دولة تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
الدول التي شاركت في التحالف ضد العراق شملت :
عُمان ، باكستان ، قطر ،السعودية ،كندا ، بلجيكا ، الدنمارك ، سوريا ، فرنسا ، ألمانيا ، اليونان ، اليابان ، إيطاليا ، الكويت ، الأرجنتين ، إستراليا ، البحرين ، السنغال ، كوريا الجنوبية ، أسبانيا ، مصر ، تركيا ، الإمارات ، تشيكوسلوفاكيا ، نيوزيلندا ، هولندا ، نيجيريا ، نرويج ، البرتغال ، الولايات المتحدة .
كان شعوري في تلك اللحظات مزيجا من الخوف والتحدي وكنت بين مصدق ومكذب لما يحدث فبالرغم من رهان الرئيس صدام حسين على الحرب البرية في خطابه الذي القاه قبل ايام من بدء المعارك فإنّ الدلائل كلها كانت تشير إلى كارثة كبيرة ستحل بنا فالكفتان غير متوازنتين والتفوق العلمي والتكنولوجي للأعداء سيكون العامل الأساسي في حسم الحرب لصالحهم.
بعد عدة ساعات خفتت اصوات الإنفجارات ولكني لم استطع معاودة النوم وبالرغم من إنقطاع التيار الكهربائي اشعلت المدفأة النفطية ووضعت عليه إبريق الشاي.
بعد ان اكملت تناول طعام الفطور اتجهت بسيارتي في الصباح الباكر نحو منطقة الكاظمية للإلتحاق بوحدتي العسكرية، وكانت اصوات إنفجارات متقطعة ما تزال تُسمع في العاصمة بغداد.
حين وصولي إلى مقر عملي لاحظت بأنّي اول ضابط التحق بالوحدة وبعد فترة قصيرة تقاطر الضباط والجنود وحضر آمر الوحدة وعلامات القلق والإرتباك بادية على محياه.
فتحنا المذياع وكان الرئيس صدام حسين يلقي خطابا قال في مقدمته: ” لقد غدر الغادرون” وأنهى خطابه بالآية القرآنية: ” يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم”.
أبلغنا آمر الوحدة بأمر الإخلاء وفعلا تحركنا بإتجاه منطقة الإخلاء المؤقت وكانت في مخيم قريب من الكاظمية مكونة من دور من البناء الجاهز كانت تستعمل من قبل شركة يوغسلافية التي كانت تُنشيء مقرا لأحدى الألوية العسكرية.
في الساعة التاسعة صباحا من نفس اليوم بدأت الموجة الثانية من الطائرات الغربية والأمريكية بقصف مدينة بغداد، وكان دوي الإنفجارات وأصوات المدافع المضادة للطائرات تهز المدينة هزا وتخرق سكونه خرقا.
بدأ سكان العاصمة بترك المدينة في موجات تتدافع نحو مخارج المدينة، وفي هذه الأثناء ابلغنا آمر الوحدة بأننا سنتجه في الصباح الباكر من اليوم التالي إلى منطقة الإخلاء الدائمية في قضاء النعمانية التابعة الى محافظة الكوت وعلى مبعدة حوالي مائة كيلومتر جنوب العاصمة بغداد، وطلب منا إستغلال الوقت المتبقي لتأمين أماكن آمنة لعوائلنا وكنت قد انجزت هذه المهمة قبل عدة أيام من بدء المعارك.
كانت الليلة الثانية من الحرب كمثيلتها السابقة، ليلة عاصفة انهالت فيها الصواريخ والقنابل عل الاهداف العسكرية والصناعية ومراكز الاتصالات والمطارات واجهزة الدفاع الجوي بعنف لم يسبق له مثيل.
في صبيحة اليوم الثاني من الحرب اتجهت بسيارتي إلى الكاظمية وبعد فترة وجيزة من الإستعدادات تحركت سيارات وحدتنا على شكل قافلة بإتجاه قضاء النعمانية قرب مدينة الكوت.
كانت خطة دول التحالف الإستمرار في قصف العاصمة والمدن الأخرى والقطعات المتواجدة في الجبهة الكويتية والجنوبية من العراق لفترة طويلة لإنهاك الجيش العراقي قبل بدء الهجوم بالقوات البرية.
في الطريق إلى النعمانية كنت اتناقش مع زملائي الضباط المهندسين الذين اقلتهم في سيارتي الخاصة حول الفترة التي ستستغرقها عملية القصف الجوي وخرجنا بنتيجة بأنّ تحديد الفترة سيقررها قيادة التحالف نظرا لتسيدهم سماء المعركة بعد تحييد القوة الجوية والدفاع الجوي للجيش العراقي وإخراجهما من المعركة.
بعد وصولنا الى منطقة الإخلاء توزعنا على الوحدات السكنية من نوع البناء الجاهز وسكنت مع خمسة زملاء من الضباط المهندسين في إحدى هذه الدور.
في اليوم التالي من وصولنا إلى النعمانية قصفت طائرات العدو معسكرنا ولكن الصاروخان اللذان أُطلِقا على المعسكر سقطتا في منطقة ترابية خالية.
نظرا لكون وحدتنا إحدى تشكيلات المقر العام فلم نشترك في الفعاليات القتالية وكانت توجيهات القيادة هي توفير مواقع آمنة لنا لتقليل الخسائر إلى أقصى حد ممكن.
في اليوم الثالث من الحرب عقد رئيس هيئة المشاريع العسكرية إجتماعا مع الضباط المتواجدين في معسكر الإخلاء في النعمانية وأبلغنا بتوجيهاته وتمت الموافقة في هذا الإجتماع على نقل عدد من الضباط الراغبين من سكنة محافظة ديالى والمحافظات القريبة منها إلى موقع الإخلاء الثاني في ناحية بلدروز التابعة لمحافظة ديالى الواقعة في الجهة الشرقية من العراق.
بناء على طلبي تم الموافقة على نقلي مع عدد من الزملاء الضباط المهندسين، وفي عصر نفس اليوم قررت زيارة عائلتي واهلي في مدينة الذهب الاسود للإطمئنان على سلامتهم قبل الإلتحاق إلى المعسكر الجديد.
بعد التزود بالوقود الذي بدأ يشح في القطر اتجهت بسيارتي نحو مدينة كركوك مارا بالعاصمة بغداد التي تحولت إلى مدينة الأشباح لخلو شوارعها من المارة.
بعد إطمئناني على سلامة عائلتي وقضاء يومين في كركوك التحقت بمعسكر الإخلاء في ناحية بلدروز وكانت الدور السكنية المخصصة لنا من نوع البناء الجاهز أيضا.
استمر القصف الجوي لقوات التحالف وكان رد الجيش العراقي مقتصرا على إطلاق بعض الصواريخ من نوع أرض أرض ( سكود الروسية) على الأراضي السعودية وبعض دول الخليج العربي وإسرائيل، كذلك قامت بعض وحدات من الجيش العراقي بالهجوم على منطقة الخفجي داخل الأراضي السعودية وذلك لإرغام قوات التحالف على ألبدء بالحرب البرية التي كان الرئيس صدام حسين يراهن عليها لتحقيق بعض الإنتصار معتمدا على قوة قواته البرية وخاصة فرق الحرس الجمهوري.
الحرس الجمهوري أحد أفرع القوات المسلحة العراقية وهو يعد أفضلها من حيث التسليح، تألف الحرس الجمهوري العراقي في عقد التسعينيات من فيلقين وكل فيلق يضم ثلاث فرق اي يضم الحرس الجمهوري ست فرق وهي قوات بغداد وقوات المدينة المنورة وقوات عدنان وقوات نبوخذ نصر وقوات النداء وقوات حمورابي.
مكثنا في معسكر الإخلاء لفترة شهر ونيف لا عمل لنا سوى الأكل والنوم وكانت التعليمات من الآمر تنص على عدم لبس الزي العسكري في المعسكر لتمويه الأعداء.
تم خلال فترة الإنتظار هذه تدمير معظم منشآتنا الصناعية وقواعدنا الجوية، ولكن الهجوم البري المرتقب تأخر البدء به وكان هدف قوات التحالف من هذا التأخير تدمير وإنهاك القوات المتواجدة في الجبهة وخاصة قوات الحرس الجمهوري قبل الإقدام على هذه الخطوة، وكانت هذه القوات تفتقر للحماية من قبل الغطاء الجوي العراقي التي تم تدميره في الأيام الأولى من بدء المعارك.
في الخامس والعشرين من شهر شباط من عام 1991 قررت القيادة العراقية الإنسحاب من الكويت، وبدأت صفحة جديدة من الحرب حيث تم قصف وتدمير معظم القوات المنسحبة وساد الإرتباك بين صفوف الجيش العراقي.
قضيت فترة الحرب هذه في معسكر الإخلاء في بلدروز وكنت اقضي إجازاتي في مدينة الذهب الاسود، وفي هذا المعسكر أحسست برغبة عارمة لكتابة هذه السيرة التي سأحاول تكملة أحداثها في الصفحات التالية.
في خضم هذه الأحداث الدامية وأثناء القصف الجوي لمدينة كركوك أنجبت زوجتي في مستشفى صدام ولدا رابعا سميناه أحمد.
في إحدى إجازاتي تركت سيارتي في كركوك لعدم تمكني من الحصول على الوقود وألتحقت بمعسكر الإخلاء بواسطة الحافلة التي كانت مخصصة لنقلنا من من بغداد إلى المعسكر.
بعد قرار الإنسحاب من الكويت وما صاحبه من قصف جوي للآليات والدبابات المنسحبة والخسائر التي مُنيت بها قطعاتنا المنسحبة، تم إعلان وقف إطلاق النار وهكذا أنتهت المعارك التي سُميت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ب “عاصفة الصحراء” وسميت من قبل القيادة العراقية ب “أم المعارك”.
في اليوم التالي من إعلان وقف إطلاق النار سافرت إلى مدينة الذهب الأسود لقضاء إجازتي الدورية مع عائلتي، ألتحقت بعد إنقضائها بمقر وحدتي في بغداد فالحرب وضعت أوزارها والقطعات العسكرية العراقية بدأت بالإنسحاب ورجعت الوحدات المشمولة بالإخلاء إلى مقراتها السابقة.
خلفت هذه الحرب المآساة آلاف القتلى والجرحى وألأسرى وتم تدمير معظم منشآتنا العسكرية والصناعية كما تم فرض حصار إقتصادي وتسليحي على البلد عانى من جرائه الشعب العراقي الأمَرَين.
بعد وقف إطلاق النار بدأت صفحة جديدة من المآسي بعد قيام معظم أفراد الشعب العراقي بإنتفاضة ضد الحكم الديكتاتوري للرئيس صدام حسين وحزب البعث العربي الأشتراكي وسُميت بالإنتفاضة الشعبانية لحدوثه في شهر شعبان من السنة الهجرية.
بعد إلتحاقنا بمقر وحدتنا العسكرية في الكاظمية طرق أسماعنا انباء حصول إنتفاضة ضد حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة الرئيس صدام حسين في بعض المحافظات الجنوبية والوسطى والتي اكثرية سكانها من المذهب الشيعي، ففي البصرة والناصرية وميسان والسماوة والديوانية والنجف والكوت وكربلاء وبابل قام افراد من المعارضة الشيعية وبمؤازرة متسللين من ايران بالسيطرة على مرافق الدولة وقاموا بقتل بعض منتسبي حزب البعث العربي الإشتراكي من أفراد الشرطة والجيش والجيش الشعبي في تلك المحافظات وتم نهب وحرق معظم الدوائر الحكومية هنالك.
أيضا طرق أسماعنا أنباء سقوط المحافظات الشمالية من العراق كالسليمانية واربيل ودهوك بأيدي المعارضة الكردية بقيادة الحزبين، حزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني وحزب الإتحاد الوطني الكوردستاني بقيادة جلال الطالباني.
خلال إجازتي الأخيرة التي قضيتها في مدينة الذهب الأسود لاحظت بأنّ الجيش العراقي عزز قواته في المدينة وأتخذت الدبابات مواقعها في شمال وشرق المدينة تحسبا لأي هجوم محتمل من قبل المعارضة الكردية.
ونظرا لحجم القوات المتواجدة في المدينة لم يخطر ببالي سقوطها بأيدي المعارضة الكردية، لذلك تركت عائلتي في مدينة كركوك وأضافة لتلك الأسباب فإنّ الوضع الأمني في العاصمة بغداد كان قلقا أيضا فالمعارضة الشيعية في بعض احياء العاصمة وبالأخص في مدينة الثورة / مدينة صدام (سُميت بمدينة الصدر بعد سقوط حكم صدام حسين) كانوا قد نظموا مظاهرات ضد حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة صدام حسين.
بعد إشتعال فتيل الإنتفاضة والأحداث الدامية التي رافقتها، حشدت الدولة بقايا قوات الحرس الجمهوري وقسم من القوات المنسحبة من الكويت والجبهة الجنوبية وبدأت هذه القوات عمليات واسعة ضد المعارضة الشيعية في المحافظات الجنوبية والوسطى من العراق.
بدأت هذه المحافظات تتساقط تحت ضربات قوات الحرس الجمهوري تباعا واستمرت أعمال الفوضى والقتل والتدمير في تلك المحافظات لمدد مختلفة، فمنها مادام التمرد فيها أياما قليلة كالبصرة والناصرية (ثلاثة أيام حيث تم الانهاء عليها)، ومنها مادام أكثر من (أسبوعين) كالنجف وكربلاء. ولكن الخسائر في الأرواح والممتلكات الناجمة من القصف المدفعي والصاروخي والجوي لهذه المدن والقصبات كانت جسيمة.
كنت خلال هذه الفترة العصيبة أُقيم في دارنا في محلة راغبة خاتون في بغداد وحيدا وأصبح دوامنا في مقر الوحدة العسكرية التابعة لمديرية الأشغال العسكرية منتظما بصورة تدريجية ولكننا لم نكلف بأي عمل هندسي أو تصميمي لمواقع المعسكرات خلال تلك الفترة القلقة.
في صبيحة يوم الخميس المصادف للواحد والعشرين من شهر آذار أخبرني زميلي الرائد المهندس عثمان بأنّ المعارضة الكردية سيطروا على مدينة الذهب الأسود وأنّ شقيقه قد فرّ من المدينة طلبا للنجاة.
عندما سمعت هذه الأنباء بدأت الهواجس والأفكار المقلقة تراودني حول مصير عائلتي وأهلي، لذلك قررت السفر إلى كركوك لإنقاذهم من المآسي المتوقعة، فالحرس الجمهوري بعد أن سيطر على معظم المحافظات الجنوبية والوسطى سيتجه حتما نحو المحافظات الشمالية ومن ضمنها كركوك وستتكرر الأحداث الدامية هنالك أيضا.
بعد أخذ الموافقة من آمر الوحدة على السفر توجهت نحو البيت لإستبدال ملابسي العسكرية بملابس مدنية وكنت برتبة ملازم ثاني مهندس إحتياط في هذه الدعوة أيضا.
بعد ذلك توجهت نحو موقف السيارات في باب المعظم حيث يتواجد مجمع الحافلات التي تقل المسافرين من بغداد إلى مدينة كركوك، لكن المعلومات التي استقيتها في المجمع كانت محبطة لجميع آمالي، فالطريق المؤدي إلى المدينة كان مقطوعا ولم أستطع الحصول على أية واسطة تقلني إلى كركوك بالرغم من مكوثي في المجمع حتى وقت الغروب.
كان المجمع أشبه بخلية للنحل حيث أزدحم في جزء منه العسكريون الذين كانوا يرومون الإلتحاق بوحداتهم العسكرية في شمال العراق بعد قرار العفو عن الفارين من الخدمة العسكرية التي أصدرتها القيادة بعد وقف إطلاق النار والتوقيع على شروط الإستسلام المهين في خيمة قرب الحدود الكويتية.
أما الجزء الآخر من المجمع فكانت تحوي عدة حافلات متوقفة نتيجة لنفاذ وقودها وكنت ألاحظ في بعض أجزاء المجمع حلقات من الناس حول بعض الفارين من مدينة الذهب الأسود وهم يروون قصصا درامية عن المدينة وكيفية فرارهم منها.
أزداد قلقي على مصير زوجتي وأطفالي وأهلي وبعد أن يئست من الحصول على واسطة تقلني إلى مدينتي قفلت راجعا إلى البيت مثقلا بالهموم ولاعنا اليوم الذي ولِدتُ فيه في العراق بلد النكبات والمآسي.
في صبيحة اليوم الثاني كررت المحاولة ولكن عبثا وتكرر في المجمع ما حدث في اليوم الأول. في اليوم الثالث توجهت مبكرا إلى باب المعظم عازما على السفر مهما كلفني الأمر من مخاطر وتضحيات. بعد أن يئست من الحصول على واسطة نقل قررت التوجه إلى مجمع علاوي الحلة للحافلات في جهة الكرخ من مدينة بغداد لعلي اجد وسيلة نقل إلى مدينة تكريت التي تبعد عن مدينة كركوك بحوالي مائة وعشرون كيلومترا.
لقد ترامى إلى أسماعي بأنّ الدولة قد أنشأت مخيما للاجئين الفارين من كركوك في مدينة تكريت وكنت آمل أن أجد عائلتي في هذا المخيم.
أثناء حديثي مع أحد ألسواق في باب المعظم ألتقيت بأحد زملاء دراستي في مدرسة إعدادية كركوك وكان هذا الزميل يتسقط أخبار والديه وأهله، كما تعرفت على رائد مهندس تركماني كان في المجمع لنفس الغرض وأبدى الإثنان رغبتهما لمرافقتي إلى مدينة تكريت مسقط رأس الرئيس صدام حسين.
من الجدير بالذكر أنّ مدينة تكريت ومحافظة نينوى ومحافظة ديالى ومحافظة الأنبار والتي معظم سكانهم من الطائفة السنية لم تشترك بالإنتفاضة ضد حكم الرئيس صدام حسين.
من العوامل التي أسهمت في سقوط المحافظات بأيدي المعارضة:
– الحالة المعنوية العامة المنهارة عقب إخراج القوات العراقية من الكويت بشكل فوضوي غير منظم، حتى أن كثيرا من الجنود عادوا إلى محافظاتهم مشياً على الأقدام و العديد منهم قُتِلوا على يد الغوغاء و أُسِروا .
– الغياب التام للإعلام الحكومي وبخاصة الإذاعة والتلفزيون الذي كان أقوى رأسمال لدى النظام في صلته بالناس، نتيجة قطع الكهرباء وتدمير جميع محطات ومعيدات البث في كل أنحاء العراق، فضلاً عن تدمير مباني الإذاعة والتلفزيون، وسمح ذلك للبث الإذاعي والتلفازي الإيراني أن يسيطر على معظم محافظات العراق وبضمنها بغداد ويكون هو مصدر المعلومات الوحيد، مع باقي المحطات المعادية للعراق التي كانت تبث دعايات عن احتلال وانهيار النظام، واحتمال هرب الرئيس صدام إلى روسيا، وغيرها من الإشاعات التي أسهمت في خلخلة ثقة الناس بالسلطة وقوتها، هذا القطع الإعلامي، مع نشر إشاعات مختلقة، في إطار حرب الدعاية النفسية جعلت الكثير من العراقيين في المحافظات الساقطة يعتقدون أن نظام بغداد قد انهار بالكامل وأن الرئيس صدام هرب إلى الخارج.
الدعم الإيراني وإدخال آلاف قطع السلاح والتفجيرات إضافة إلى الدعم البشري بعناصر من العراقيين المقيمين في إيران والمجندين من قبل سلطات النظام الإيراني. كقوات بدر التابعة للمجلس الإسلامي وعناصر حزب الدعوة.
– خضوع عموم الناس إلى نظرية السلوك الجمعي والانقياد الطوعي لمثيري الفتنة من خلال تشجيع الناس على مهاجمة الدوائر الحكومية وسرقة ما فيها من مواد ومخزونات وأثاث، وتخوف الناس من غدر المسلحين القادمين من إيران الذين هددوا الناس بالقتل إن لم يشتركوا في الانتفاضة.
بعد حديث قصير أستقلنا سيارة أجرة إلى كراج علاوي الحلة ولكننا لم نستطع الحصول على أية واسطة لنقلنا إلى مدينة تكريت، فالبلد كان يمر بأزمة وشحة في توفير الوقود بعد أن قصفت قوات التحالف معظم خزانات الوقود والمصافي في البلد.
بعد مكوثنا فترة في مجمع النقل لاحظت حافلة تروم التوجه نحو قضاء سامراء التابعة لمحافظة صلاح الدين والقريبة من تكريت مركز المحافظة وأتفقت مع زميلي الرحلة على إستغلال هذه الفرصة السانحة.
كانت الطبيعة في تلك الصبيحة متواطئة مع الأحداث فالرعد كان مزمجرا والمطر ينهمر بعنف وتيارات الهواء البارد كانت تلفح وجوهنا بقسوة مكرسة الجو المأساوي الذي كان يعيشه البلد.
بالرغم من بلل ملابسي العسكرية وغوص حذائي في الأوحال وسريان القشعريرة إلى أوصالي، فإنّ تفكيري كان مركزا على مصير عائلتي وأهلي وكنت أتمنى في تلك اللحظات المتسمة بالقلق والخوف والألم أن أتحول إلى طائر يشق عنان السماء لأحط في مدينة الذهب الأسود وأحملهم نحو أفق جديد بعيدا عن لعنة الذهب الأسود، هذه الثروة التي أصبحت وبالا على العراقيين.
أثناء إحدى مناقشاتنا مع الزملاء من الضباط المهندسين في معسكر الإخلاء حول أسباب هذا الحرب الضروس، قلت بأنّ هذا الحرب وقعت بسبب نقطة على حرف ! تساءل الزملاء عن معنى قولي، فقلت بأنّ قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي برئاسة صدام حسين رفعت شعار ” نفط العرب للعرب ” أما الدول الإستعمارية الغربية فإنّهم يؤمنون بشعار ” نفط العرب للغرب “، فلولا هذه النقطة اللعينة عل حرف العين في كلمة “للعرب” ولولا الذهب الأسود المخزون في باطن أراضي العراق لما حدثت هذه المآسي والأحداث.
بعد ساعتين من رحلتنا نحو المجهول وصلت الحافلة إلى مجمع الحافلات في قضاء سامراء،وكان زميلا الرحلة صائمين فأغتنمت فترة إنتظار الحافلة التي ستقلنا إلى مدينة تكريت وتناولت وجبة خفيفة من الطعام في المجمع.
بعد فترة قصيرة من الإنتظار أستقلنا حافلة قديمة متجهة إلى مدينة تكريت ، وبعد الإستفسار في المدينة عن موقع مخيم اللاجئين الفارين من مدينة كركوك أستقلنا سيارة أجرة واتجهنا نحو المخيم.
كان المخيم عبارة عن عشرات من الخيم الصغيرة المنصوبة على جانبي إحدى الطرق وكانت كلها خالية من ساكنيها وأعلمنا سائق سيارة الأجرة بأنّ جميع العوائل قد تم نقلهم إلى مبنى مركز الشباب المجاور بسبب سوء الأحوال الجوية.
بعد أن دلفنا إلى داخل المبنى لم نعثر على أحد من افراد عوائلنا هناك، وكان عدد العوائل المتواجدة هنالك قليلا وتلاشى هذا البصيص من الأمل.
بعد التداول مع الرائد المهندس فكرت وزميل الدراسة فريق عباس أستاذ اللغة الأنكليزية في جامعة المستنصرية قررنا الإنتظار في الطريق العام المتجه نحو مدينة كركوك لعلنا نحظى بواسطة تقلنا إلى المدينة.
كانت فترة الإنتظار هذه فترة عصيبة وطويلة فبالإضافة لحالتنا النفسية القلقة فإنّ زخات المطر وتيارات الهواء البارد كانت تصفع وجوهنا وأجسامنا بقسوة متضامنة مع الجو المأساوي لذلك اليوم، ولم نجد في ذلك العراء الموحش سقفا يحمينا من غضبة الطبيعة.
بعد ساعة من الإنتظار اليائس أتجهنا مشيا نحو نقطة السيطرة العسكرية التي تتواجد في مداخل ومخارج جميع المدن العراقية والتي كانت تبعد بحوالي كيلومترا واحدا عن موقعنا السابق وهنالك أحتمينا بسقف المبنى من غضبة الطبيعة ألأم.
عندما بلغت الساعة الثانية ظهرا وقفت شاحنة عسكرية روسية الصنع من نوع “إيفا” في نقطة السيطرة وترجل منها نائب ضابط للإستفسار عن موقع قناة ري كركوك التي كانت القطعات الخلفية للجيش محتشدة بالقرب منها وكان هذا الموقع على مشارف مدينة كركوك ويبعد عن مركز المدينة بحوالي عشرون كيلومترا.
أغتنمت هذه الفرصة السانحة وطلبت من نائب الضابط أن يقلنا معهم إلى كركوك، ونظرا لإمتلاء المقعد الأمامي الوحيد في الشاحنة بمرافقي نائب الضابط وافقنا على الجلوس في الحوض الخلفي للشاحنة والذي كان يفتقر لأي غطاء واقي.
كنت في ذلك اليوم لابسا معطفا شتويا أزرق اللون فوق ملابسي العسكرية بحيث كانت رتبتي العسكرية مخفية عن الأنظار، فظن نائب الضابط المسؤول عن الشاحنة بأنّي أحد الجنود الذين يرومون الإلتحاق بوحدته العسكرية في كركوك.
أما زميلي الرائد المهندس فقد كان يرتدي ملابس مدنية كذلك كان الزميل الآخر الاستاذ في الجامعة.
أثناء صعودنا إلى الحوض الخلفي للشاحنة العسكرية التحق بمجموعتنا جنديان تركمانيان من أهالي كركوك وكان هدفهما مماثلا لهدفنا وكانت لهم معرفة سابقة بالرائد المهندس فكرت.
المفاجأة كانت بإنتظارنا بعد تسلقنا الحوض الخلفي للشاحنة، لاحظنا بأنّها مملوءة بأكداس من قنابل المدفعية والهاونات ومختلف العتاد الحربي كطلقات البنادق والقنابل اليدوية، ولكن لم يكن لنا خيار غير الجلوس فوق هذه الكومة من العتاد الحربي الذي يكمن فيها الموت والنيران التي ستصب على مدينة الذهب الأسود عند بدء الهجوم عليها لإنتزاعها من قبضة المعارضة الكردية التي أحتلتها في غفلة من القدر.
أستغرقت رحلتنا العجيبة هذه ساعتان كانتا من أحلك ساعات التي عشتها أثناء تلك الحرب، فزخات المطر أزدادت عنفوانا والرياح الباردة صارت أشد قسوة وسكاكين القلق كانت تُزيد من وضعنا المأساوي وكل هذا ونحن جالسون فوق كومة الموت التي قد تنفجر بأية شرارة عمياء من برق.
بالرغم من هذاالوضع الذي لا نحسد عليه كنت أمازح رفاق الرحلة قائلا بأنّي لا أستطيع الصبر وأنّي مقبل على إشعال سيجارة ولا أستطيع الإستمرار في هذه الرحلة بدونها.
بعد أن شارفت الرحلة على نهايتها توقفت الشاحنة في ضواحي مدينة كركوك وفي الضفة الغربية من قناة الري ولاحظت في بداية الجسر المقام على القناة نقطة سيطرة عسكرية وعلى جهتي الطريق المؤدي إلى مدينة الذهب الأسود كانت القطعات العسكرية منتشرة فبمحاذاة الطريق أنتشرت وحدة الميدان الطبية وعلى مقربة منها رُصت عشرات المدافع الثقيلة مصوبة فوهاتها نحو المدينة، وفي الجهة المقابلة من الطريق كانت الراجمات موجهة ايضا نحو مدينة كركوك التي كانت غافلة عما يُبيت لها.
كان المنظر مفزعا وايقنت بأنّ مدينتي العزيزة ستُقلَب عاليها سافلها إذا سقطت عليها هذه الأكوام من أسلحة الدمار والموت.
مرت لحظات قاسية بعد رؤية هذه الأكوام من أسلحة الدمار التي ستسقط كحمم البركان على مدينة الذهب الأسود.
ترجلنا من الحوض الخلفي للشاحنة العسكرية التي أقلتنا خلال رحلة العذاب وأجسامنا مبللة من قمة رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا وكنا أشبه بأسفنجة سقطت في ماء النهر البارد، وكانت أسناني تصطك من شدة البرد وأنا أبحث عن جدار أو جسم يقيني من قسوة الريح.
جاء طوق النجاة عند لفيف من الجنود كانوا قد أشعلواإطارا قديما لسيارة وألتفوا حولها كما يلتف الهنود الحمر حول نيرانهم وبدأنا نحضن هذه الكتلة من السعير كما يحضن العاشق حبيبته بعد لوعة الفراق، وبدأ الدفء المنبعث من الإطار المحترق يسري في أوصالنا تدريجيا بمصاحبة الهباء الأسود المتصاعد مع النيران ألذي حولَ وجوهنا إلى لون أسود كأننا أشباح في الظلام الذي بدأ يُخيم علينا في العراء.
بعد هذه اللحظات العصيبة أيقنا بأنّه من الجنون محاولة الوصول إلى مدينة كركوك في عتمة هذا الليل الدامس كما علمنا بأنّ نقطة السيطرة العسكرية المقامة في بداية الجسر على قناة الري لا تسمح بالمرور من الجسر إلا للعسكريين الذين يرومون الإلتحاق بوحداتهم المحتشدة في أطراف المدينة، لذلك قررنا المبيت في تلك الموقع.
كان الحظ حليفنا هذه المرة فعلى مقربة من الطريق لاحظنا مخيما مهجورا من أبنية جاهزة كان مخصصا لعمال إحدى الشركات المقاولة التي كانت تعمل في مشروع ري كركوك.
بعد عملية إستكشاف أولية ألفينا قسما من هذه الدور مشغولة من قبل بعض العوائل الفارة من المدينة بعد إحتلال ميليشيا البيشمركة الكردية للمدينة، أما القسم الآخر فقد تم إستخدامه من قبل إحدى القطعات العسكرية.
بعد فترة لم يطل أمده عثرنا على دار فارغ مكون من ثلاثة غرف، كانت غرفتان منها مستخدمة كمرافق صحية وكانت ارضيتا تلك الغرف مغطاة بالفضلات، أما الغرفة الثالثة فكانت أرضيتها الخرسانية نظيفة ولكن الشباك اليتيم فيها كان مقلوعا.
بعد سد فتحة الشباك بمبردة ماء قديمة عثرنا عليها في الجوار، أوقدنا نار نصطلي بها مستعملين جميع الأخشاب التي تمكنا من إقتلاعها من الجدران الخشبية للدار.
بدأنا بالمرحلة الثانية من تجفيف ملابسنا وأحذيتنا ولكن الجوع بدأ ينهش أحشاءنا.
كانت مجموعتنا التي جمعتها الصدفة مؤلفة من خمسة أفراد.. أنا والرائد فكرت والأستاذ فريق والجنديان آيدن وأحمد.
كان فكرت وفريق صائمين وتمكنا من الحصول على قدح من الماء من إحدى العوائل اللاجئة تقاسمه الصائمان ثم أخرج أحمد من حقيبته الجلدية حفنة من العنب الأسود المجفف والتي أصبحت إفطارا للصائمين.
قضينا تلك الليلة الغريبة في أحاديث عن الأوضاع السائدة في البلد ولعنا المسبب لها ولم يرنق الكرى أجفاننا إلا لساعات قليلة، كانت الأرضية الخرسانية فراشا لنا والدخان المتصاعد من كومة الخشب المحترق بهبائه غطاء لنا.
مع أول خيوط الفجر التي أعلنت إنتهاء تلك الليلة العصيبة زحفنا صوب بوابة المخيم، وبدأنا رحلة البحث عن وسيلة لإختراق نقطة السيطرة العسكرية والتي كانت سدا بوجه تيار رغبتنا الجارفة للوصول إلى المدينة.
بعد عدة ساعات من البحث أيقنا بإستحالة العبور من تلك النقطة لعدم إمتلاكنا أية وثائق رسمية تسمح لنا بالعبور إضافة إلى كون الجنديان في المجموعة هاربان من وحدتهم العسكرية بعد تفشي الفوضى أثناء عملية الإنسحاب الغير المنظم من الكويت وعقاب الهروب من الخدمة أثناء الحرب هي الإعدام بلا شك.
كانت الأنباء الواردة من مدينة كركوك توحي بسيطرة ميليشيا البيشمركة التابعة للأحزاب الكردية على جميع أجزائها ماعدا معسكر خالد والطريق الرابط بين كركوك ومدينة تكريت.
بعد اليأس من العبور إلى الضفة الأخرى من قناة الري بواسطة الجسر قرر الرائد فكرت والأستاذ فريق العودة إلى بغداد، ولكن عزيمتي لم تفتر وشوقي للقاء زوجتي وأطفالي وإنقاذهم من هذه المحنة أعطاني زخما من الطاقة لإختراق جميع الحواجز، لذلك قررت محاولة الدخول إلى المدينة من نقطة أخرى فأتجهت شرقا بمحاذاة القناة مع رفيقا السفر أحمد وآيدن مشيا على الأقدام بعد أن ودعنا فكرت وفريق.
عندما بدأنا المسير كانت ساعتي تشير إلى الثامنة صباحا وكان هطول المطر قد توقف وبدأ دفء أشعة الشمس في ذلك اليوم الربيعي يسري في أوصالنا ببطء.
كانت نقطة السيطرة العسكرية التي بدأنا منه المسير تبعد عن المدينة بحوالي عشرون كيلومترا.
بعد مسيرة نصف ساعة وصلنا إلى الجسر الثاني المشيد على القناة ولاحظنا بأنّها محروسة من قبل عدة أفراد من الجيش للسيطرة على الداخلين والخارجين من المدينة. بعد مداولات أستغرقت عدة دقائق أستطعنا إقناعهم للسماح لنا للعبور إلى الضفة المقابلة من النهر والتوجه نحو قرية جرداغلي التركمانية المقابلة للحي الصناعي في أطراف مدينة كركوك.
بعد أن ملأنا الزمزمية التي عثرنا عليها في الطريق بالماء من النهر بدأنا بالمسير بإتجاه الشمال على طريق مكسو بالحصى تارة وعلى النياسم التي كانت تخترق حقول القمح تارة أخرى.
أستغرقت المرحلة الأولى من مسيرتنا حوالي أربع ساعات توقفنا خلالها مرة واحدة للراحة وتدخين السجائر.
بعد هذه المسيرة الطويلة لاحظنا على يمين الطريق الترابي بناية مبنية من الطين المجفف في الشمس وعلى مقربة منه كانت تربض حافلة لنقل المسافرين. توجس رفيقا السفر خيفة من الموقف وكان قد طرق إلى أسماعهما بأنّ الجيش يضم إليه جميع الجنود المبعثرين في المنطقة لتشكيل قوات لمحاربة المعارضة الكردية وإسترجاع المدينة منهم.
بعد الدنو من الحافلة تعرف آيدن عليها من لوحة رقم الحافلة وأخبرنا بلهفة وفرحة بأنّ الحافلة ملك لأبن خالته وأنّه يسكن في قريتهم التي كنا نروم التوجه إليها.
خرجنا من مسارنا وأنعطفنا نحو اليمين بإتجاه المبنى الذي كان حقلا لتربية الدواجن كما دلت عليه اللافتة المثبتة بالقرب منه.
كان شعورنا بالعثور على بعض أقارب آيدن في المبنى مزيجا من الفرحة واللهفة لمعرفة أخبار مدينة الذهب الاسود.
استقبلتنا العوائل المحتشدة في المبنى بالعجب والترحاب، وأثناء تناولنا لوجبة الإفطار المكونة من الخبز الحار واللبن والشاي علمنا بأنّ قرية جرداغلي التركمانية خالية من قوات البيشمركة الكردية ووأنّها تحت سيطرة الجيش العراقي.
بعد إستراحة قصيرة ودعنا مضيفينا وواصلنا المسير بإتجاه الهدف المنشود ……. مدينة الذهب الأسود.
عند إقترابنا من القرية مر بجوارنا جرار زراعي، تعرف سائقها عل آيدن وبعد عبارات الترحيب أقلنا معه إلى القرية.
دخلنا قرية جارداغلي في الساعة الواحدة ظهرا أي بعد مسيرة خمس ساعات مضنية، رحب بنا أهل وأقارب آيدن وتم إطلاعنا على الوضع في القرية ومركز مدينة كركوك بالتفصيل.
كانت المساكن الطينية للقرية تربض في الجهة الجنوبية من الطريق الذي يربط الطريقين الرئيسيين المتجهين من مدينة كركوك نحو العاصمة بغداد ومدينة تكريت ولاحظنا بأنّ هذا الطريق قد أصبح بمثابة الخط الأحمر أو الأرض الحرام الذي يفصل بين القوات المتحاربة، فعلى شمال هذا الخط كانت تربض مساكن مدينة الذهب الأسود والتي تم إحتلالها من قبل الميليشيات الكردية التابعة للأحزاب الكردية، وعلى جنوب هذا الطريق تمركزت قوات الجيش العراقي التي أنسحبت بعد هجوم الميليشيا الكردية على مدينة كركوك وقتلهم قسم من هذه القوات وقوات ميليشيا الجيش الشعبي التابعة لحزب البعث العربي الإشتراكي الحاكم.
في ساحة المدرسة الوحيدة في القرية تمركز رهط من الضباط والجنود وكانوا قد نصبوا مدفعا ضخما لغرض قصف المدينة.
أصبح محاولة العبور الطريق الفاصل بين المتقاتلين أي الأرض الحرام هدفنا الأول، ولكنها كانت مجازفة خطرة في تلك الأثناء لأنّ القتال كان ناشبا والطرفان يتبادلان إطلاق النار بعنف.
في هذه الأثناء قرر زميل الرحلة آيدن المكوث في قريته بعد أن علم بأنّ معارفه سيحاولون جلب عائلته المحصورين في مركز المدينة إلى قريتهم.
بناء على رغبة رفيق السفر أحمد أتجهت معه إلى الحي الصناعي الذي كان مجاورا للقرية من الجهة الغربية، كان الحي الصناعي الذي تم تأسيسه مؤخرا في أطراف المدينة وكان يضم ورش لتصليح السيارات ومحلات لبيع الأدوات الإحتياطية لها.
أخبرني أحمد بأنّه يملك ورشة في ذلك الحي وأتفقنا عل المبيت فيها في حالة عدم تمكننا من دخول المدينة لحين إيجاد وسيلة آمنة لإختراق الخط الأحمر الفاصل بين المتقاتلين.
بعد إقترابنا من الورشة لمحنا بعض افراد الجيش على سطح الورشة وأفراد آخرين في داخلها وكانوا يتراشقون بالنيران مع قوات الميليشا الكردية المتمركزين في الجهة الشمالية من الطريق.
تعجب أفراد الزمرة العسكرية من وجودنا في تلك المنطقة الخطرة وبعد الإستفسار من أحمد الذي كان يسبقني في المسير عن غرضه، أخبرهم بأنّ المبنى الي أحتلوه ملك له ويروم المبيت فيه، ولكن الجنود شكّوا في أمره وحاولوا أخذه إلى الضابط المسؤول للتحقيق.
كان أحمد في موقف لا يُحسد عليه فقد كان غائبا عن وحدته العسكرية منذ عدة أيام بعد إستحفال الفوضى بين صفوف الجيش العراقي أثناء الإنسحاب الغير المنظم من الكويت. تحركت بسرعة لنجدة رفيق السفر وقبل وصولي إلى أفراد الزمرة العسكرية خلعت المعطف الذي كان يُخفي رتبتي العسكرية وتقدمت نحو الجنود الذين أستفسروا متعجبين عن سبب وجودي في تلك البقعة بعد أن أدوا التحية العسكرية.
بعد أن بينت لهم هدفي وسبب قدومي إلى تلك المنطقة أخبرتهم بأنّ أحمد من معارفي ورفيقي في السفر فأخلوا سبيله ولكنهم أنبؤني بإستحالة عبور الطريق من تلك النقطة بالذات.
في هذه الأثناء أخلى الجنود أحد رفاقهم الذي أُصيب بطلق ناري في ساعده الأيمن إلى داخل الورشة فإزداد يقيني بإستحالة العبور من تلك المنطقة فقفلنا عائدين إلى القرية نجر أذيال الخيبة.
في القرية قررت زيارة القوة العسكرية المتمركزة في المدرسة، وبعد تبديل ملابسي العسكرية بملابس مدنية أستعرتها من أحمد إلتقيت بالضابط المسؤول عن الوحدة العسكرية ولكني تلقيت نصيحة مماثلة بعدم إمكانية دخول المدينة من تلك المنطقة.
بعد تفكير وجيز ومداولة مع أحمد قررنا مواصلة المسير بإتجاه الغرب محاولين الوصول إلى بداية الطريق الذي يتجه من مدينة كركوك نحو مدينة تكريت القريب من منطقة معارض بيع السيارات ألتي تقابل حي واحد حزيران السكني في أطراف المدينة.
سلكنا طريقنا بين حقول القمح متحاشين مناطق تحشد قوات الجيش. في الساعة الثانية ظهرا وبعد مسيرة ست ساعات مضنية وصلنا إلى مقربة الطريق المنشود.
في تلك المنطقة لاحظت بعض الجنود وقد أحتلوا مواقعهم على أسطح المباني المحاذية للطريق فطلبت من أحد الجنود مقابلة الضابط المسؤول وكان برتبة ملازم وكنت في تلك الأثناء قد خلعت المعطف الذي كان يُخفي رتبتي العسكرية وصرت ضابطا في الجيش كي لا يتكرر معنا ما حدث في الحي الصناعي.
بعد حديث قصير مع آمر الفصيل وكان شابا في العشرينات من العمر أحاطني علما بالمخاطر الجسيمة التي تُحيط بمحاولتي الدخول إلى المدينة وأعلمني بأنّه لا يستطيع تحمل مسؤولية الموافقة أو المساعدة في هذا الأمر ونصحني بمقابلة آمر سريته الذي كان في المبنى المجاور.
بعد مقابلة آمر السرية ألذي كان برتبة نقيب، خرجت من المقابلة بنفس النتيجة حيث نصحني بمراجعة مقر اللواء المتمركز في الجهة الشمالية من الطريق قرب سايلوات القمح.
أيقنت بأنّه من العبث تكرار المحاولة في مقر اللواء لذلك أتجهت بصحبة أحمد غربا نحو طريق تكريت ووصلنا إليه بعد نصف ساعة من المسير ثم أنعطفنا نحو الشمال بإتجاه مدينة الذهب الأسود.
خلال مسيرتنا ألتقينا بضابط برتبة نقيب وكان بملابس مدنية ويروم التسلل إلى المدينة لنجدة زوجته وأطفاله المحصورين هنالك.
بعد كلمات المجاملة تحركنا معا نحو نقطة السيطرة العسكرية الأخيرة في تلك المنطقة.
حالفنا الحظ هذه المرة حيث مرت سيارة عسكرية يقودها ضابط برتبة نقيب أقلنا معه إلى نقطة السيطرة العسكرية.
ترجلنا من السيارة وبعد حديث قصير مع الضابط المسؤول أحطناه علما بهدفنا وتكررت النصيحة بعدم المجازفة بالدخول إلى المدينة فالمعلومات المتوفرة لديه كانت تُفيد بأنّ القوات الكردية يقتلون أو يأسرون كل ضابط يقع في قبضتهم ولكن الضابط المسؤول لانَ أخيرا بعد أن لاحظ إصرارنا على إختراق الحاجز الأخير ونصحنا بالتوجه نحو السياج المشيد على يمين الطريق والذي كان يقف بمحاذاته سيارة للأجرة أحتمى بها الملازم الأول المسؤول عن نقطة السيطرة الأخيرة.
قبل دنوي من السياج لبست السروال المدني الذي استعرته من أحمد فوق سروالي العسكري ونزعت الرتبة العسكرية وأخفيته مع دفتر الخدمة العسكرية تحت ملابسي الداخلية ولبست المعطف الأزرق بحيث غطى القميص العسكري وبذلك تحولت إلى رجل مدني ظاهريا وكنت أحمل لحسن الحظ معي هوية وزارة الإسكان والتعمير وهوية نقابة المهندسين العراقية.
أما أحمد فقد خلع ملابسه العسكرية وأخفاها في الحقيبة الجلدية مع بيريتي وبقي بملابسه الداخلية التي كانت عبارة عن سروال وقميص رياضي وبعد التخلص من جزمته العسكرية أنتعل النعال الذي أستعاره من صديقه آيدن في قرية جارداغلي.
بعد عملية التخفي توجهنا نحو السياج وتكرر نفس الحديث مع الملازم الأول ولكني أخبرته بأنّي ملازم مهندس إحتياط ومقر عملي وسكني الدائمي في العاصمة بغداد ولا يعلم برتبتي العسكرية أحد في المدينة سوى معارفي وأقربائي.
وافق الضابط على دخولنا إلى المدينة على أن أتحمل مسؤولية تلك المخاطرة تحملا تاما.
لم أضيع لحظة أخرى سدى فأتجهت مسرعا بصحبة رفيق السفر أحمد نحو الفتحة الوحيدة في السياج أما النقيب الذي ألتقيناه في الطريق فقد تخلف عنا لتدارس الموقف مع ضباط السيطرة.
كان السياج محاذيا للسكة الحديدية فبعد عبورنا السكة الحديدية ألفينا أنفسنا في طريق ترابي يعتلي مرتفعا ترابيا والذي كان يُفضي إلى حي واحد حزيران السكني في داخل مدينة الذهب الأسود.
أثناء المسير ألتقينا ببعض العوائل التي كانت تتجه نحو الجهة المعاكسة محاولين الفرار من المدينة من نفس النقطة التي دلفنا منها. بعد سير حثيث مشوب بالتوجس والخوف أستغرق حوالي عشر دقائق أقتربنا من الدور السكنية لحي واحد حزيران وأنعطفنا نحو جهة اليمين فأصبحنا داخل أزقة الحي.
كان الإنطباع الأول عن الموقف في الحي يدعو للإطمئنان فبعض النسوة والأطفال كانوا واقفين أمام دورهم وبعض السابلة يحثون الخطى في بعض تلك الأزقة ولم نلتقي بأحد من الميليشيا للأحزاب الكردية أو نلاحظ وجود نقاط للسيطرة لهم في الحي.
الشخص المسلح الوحيد الذي إلتقيناه كان لابسا بدلة مدنية زرقاء كالتي يلبسها عمال المصانع وكان مشغولا بمحادثة أفراد عائلته وكان يتكلم باللغة العربية، فسلمنا عليه ورد التحية بمثلها.
أكثرية سكنة حي واحد حزيران كانوا من القوميتين التركمانية والعربية. مدينة الذهب الأسود مكونة من أحياء ومحلات متعددة، معظم سكنة الأحياء المحيطة بالطريق الواصل من المدينة إلى بغداد أي القسم الجنوبي من المدينة هم من التركمان والعرب أما الأحياء والمحلات في القسم الشمالي من المدينة القريبة من الطريقين المتجهين إلى المدينتين أربيل والسليمانية فمعظم سكانها كانوا من القومية الكردية كحي رحيماوة وحي إمام قاسم والشورجة.
الأحياء في مركز المدينة كمحلة صاري كهية وبريادي والمصلى وجقور ومنطقة القورية التي هي المناطق السكنية القديمة من المدينة معظم سكنتها كانوا من التركمان، أما القلعة التاريخية في مركز المدينة فكان يسكنها التركمان والمسيحيون قبل أن يأمر صدام حسين بهدم جميع دورها السكنية.
واصلنا المسير مسرعين ومتحاشين الإلتفات نحو الشخص المسلح وبعد دقائق معدودات أفضى بنا إحدى الأزقة إلى شارع عريض يخترق مركز الحي ولكننا بالرغم من الإعياء الشديد لم نتوقف للراحة وكنت في تلك اللحظات أحلم بسرير مريح وفراش دافيء أرتمي عليه لأريح جسدي المنهك.
بعد فترة وجيزة من السير قدمت سيارة نقل صغيرة كانت تحمل عائلة في المقعد الأمامي ووافق سائقها على نقلنا في الحوض الخلفي إلى حي غرناطة ألذي كان متجها إليه بدون مقابل.
بعد أن أشتريت علبة سجائر وأشعلت سيجارة منها بلهفة تحركت السيارة على مهل نحو حي غرناطة الذي يقع في القسم الجنوبي من المدينة وغرب نهر خاصة صو ويضم هذا الحي دار رفيق السفر أحمد ودار شقيقي أردال وهو الشقيق الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد أن أنتزع يد المنون أشقائي أورخان وياووز ويلماز وهم في أوج شبابهم.
ترجلنا من السيارة في طريق بغداد وهو الطريق الرئيسي المتجه نحو العاصمة ولاحت لي طلائع قوات الميليشيا الكردية وهي تجوب الطريق ذهابا وإيابا بالسيارات وهم بملابسهم التقليدية الكردية وكانوا مدججين بالأسلحة الخفيفة وكان قسم منهم واقفين على طوار الطريق على شكل مجموعات مشكلين نقاطا للسيطرة والتفتيش.
بعد أن ودعنا وشكرنا السائق ألذي أقلنا أنعطفنا مباشرة نحو يمين الطريق ودلفنا إلى الزقاق الذي كان فيه دار أحمد.
كان قدوم أحمد مفاجأة لعائلته وأستقبلوه بفرح وبعد أن أطمأن على سلامتهم ودعني بعد أن أخرج من حقيبته بيريتي العسكرية و ناولني إياها.
حثثت الخطى نحو دار شقيقي ألذي كان يبعد مسافة قليلة من دار أحمد، ألفيت شقيقي جالسا على كرسي مع أحد جيرانه أمام الدار فأرتسمت الدهشة عل وجهه عند رؤيتي وعانقني بحرارة وكانت فرحتي بلقائه وسلامته كبيرا.
علمت من أردال بأنّ شقيقتاي قد تركوا مسكنهم في حي البعث هربا من القصف الشديد على ذلك الحي إلى بيت شقيقي المتوفي يلماز في حي المنصور القريب من حي غرناطة وأخبرني بأنّه زارهم هناك صباح ذلك اليوم وأطمأن على سلامتهم، كما علمت منه بأنّ عائلتي تركوا بيت عديلي علي وأنتقلوا إلى بيت شقيقة علي في حي الضباط ثم قفلوا راجعين إلى مسكن والدة زوجتي الواقع في الجزء الشمالي من المدينة في محلة تبة وذلك بعد إنتهاء الإشتباكات في ذلك الحي.
بعد سماعي هذه الأنباء زال قسم من القلق الذي لازمني طوال رحلة الشقاء.
بادرني شقيقي بالسؤال الذي واجهني كثيرا خلال مكوثي في مدينة كركوك:
هل صحيح بأنّ العاصمة بغداد سقطت بأيدي المعارضة وهرب الرئيس صدام حسين إلى روسيا؟
أعلمت شقيقي بتفاصيل الوضع في بغداد وبعدم صحة الإشاعات ألتي كانت الأحزاب الكردية تبثها في المدينة وبأنّ الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري بدأت بالتحشد في أطراف مدينة كركوك للبدء بالهجوم على المدينة.
أتجهت مع أردال نحو دار شقيقي يلماز بعد أن أستبدلت ملابسي العسكرية بملابس مدنية أعارني إياها شقيقي وتم إخفاء هذه الملابس مع رتبتي العسكرية ودفتر الخدمة العسكرية في مكان أمين تحسبا لأي طاريء.
بعد مسيرة نصف الساعة وصلنا في الساعة الخامسة مساء إلى دار شقيقي وبعد الإطمئنان على سلامتهم وإعطائهم موجزا عن مغامرتي قررت البدء بالمرحلة الأخيرة من البحث للعثور على زوجتي وأطفالي.
ودعت شقيقي أثناء رحلة العودة بالقرب من زقاقهم وواصلت المسير متجها نحو شمال المدينة بالرغم من التعب والإنهاك التي كنت أعاني منه نتيجة المسيرة المضنية ألتي أستغرقت تسع ساعات.
كانت الشمس قد بدأت بالمغيب في ذلك المساء الربيعي وجيوش الظلام تحفزت للزحف على ما تبقى من من خيوط الضياء التي بدأت تتقهقر تدريجيا.
كانت أنباء الأضطرابات في العاصمة بغداد قد وصلت إلى مدينة الذهب الأسود وكان جميع الذين ألتقيتهم من الأقارب متيقنين بأنّ سلطة الرئيس صدام حسين وحزب البعث الحاكم قد ضعفت وبأنّ الحكومة ستسقط أمام الضربات الماحقة للمعارضة.
في هذه الأثناء توقفت سيارة نقل ذو حوض خلفي بالقرب من أحد أفراد الميليشيا الكردية وطرق سمعي الحديث المتبادل بينه وبين سائق السيارة وكان الحديث باللغة التركمانية.
أغتنمت هذه الفرصة بالرغم من المخاطر المحفوفة بها وسألت السائق عن وجهته وبعد أن علمت بأنّه متجه إلى منطقة قريبة من هدفي، طلبت منه أن يقلني معهم وقد حظي طلبي بالقبول.
أرتقيت الحوض الخلفي للسيارة وجلست قبالة أحد أفراد الميليشيا الكردية ( البيشمركة) ألذي كان مسلحا ببندقية روسية الصنع من نوع الكلاشنكوف.
تحركت السيارة ببطء مخترقة عتمة الليل بضوء مصابيحها وأتجهت نحو شمال المدينة.
أثناء مرورنا أمام مبنى المحافظة بصق الكردي على صورة للرئيس صدام حسين مرسومة على جدارية كبيرة والتي كانت مقامة قرب المبنى وقد تم تشويهها بالأصباغ الدهنية، وقال وهو يتفحصني بنظراته الثاقبة:
إنّ هذا الشارع الذي نمر به والذي كان يُسمى بشارع الثورة سيتغير إسمه من الآن وصاعدا إلى شارع ( مام ريش ) وهو أحد قيادي الميليشيا الكردية ألذي قُتِلَ في إحدى المعارك في شمال العراق أثناء حركة تمرد سابقة.
في تلك اللحظات خطر ببالي خاطر غريب، فهذا الكردي المتمرد والمتحمس لدعواه الذي يجلس قبالتي لو علم بأنّي أحد ضباط الجيش العراقي لفتك بي في طرفة عين، ولكني طردت هذا الخاطر من عقلي مبتسما في قرارة نفسي.
وصلت السيارة إلى هدفها وبعد أن ودعت السائق شاكرا جميله تلمست طريقي في ظلام الليل الدامس نحو محلة تبه حيث تسكن عائلة والدة زوجتي متحاشيا الشوارع الرئيسية ونقاط التفتيش المنتشرة فيها.
في الساعة السابعة مساء وصلت إلى باب البيت ولكن السكون والظلام كان يلفه ولم أجد ساكنا واحدا فيه، وكانت الحالة في دار عديلي أسعد المجاور مماثلة وفشلت محاولتي الثالثة للعثور على أي ساكن في البيت الثالث الذي طرقت بابه وهو لأحد الأقرباء الساكنين في نفس الزقاق.
خارت قواي وكدت أسقط من الإرهاق ولكن بصيص شمعة كان يخترق شباك أحد الجيران بوجل أنعش آمالي، فطرقت الباب وأعدت الطرق عدة مرات وبعد برهة تحركت ستارة الشباك بتوجس وسمعت صوتا يستفسر من وراء الشباك عن الطارق الغريب في تلك الليلة العجيبة.
تحفزت للإجابة وعرَّفتُ الرجل بهويتي ومرامي، بعد فترة وجيزة فُتِحت ضلفة الباب واصبحت وجها لوجه مع الجار العزيز ألذي رحب بي ترحيبا حارا وأبلغني بأنّ عائلتي تركوا الدار في الصباح الباكر وذهبوا إلى بيت شقيقة زوجتي فخمنت بأنّهم في دار شقيقتها الكبرى سميعة في محلة شاطرلو ألذي يبعد عن موقعي الحالي بمسيرة نصف ساعة.
أسقطت من قائمة بحثي بيت أختها الصغرى لأنّ زوجها كان منتميا إلى حزب البعث الحاكم لذلك لا يستطيع المكوث في مسكنه خوفا من أذى الميليشيات الكردية.
ودعت الجار الطيب شاكرا جميله ودعوتِه لي بالمبيت في داره وحثثت الخطى صوب محلة شاطرلو مخترقا الأزقة ومتحاشيا الشوارع الرئيسية ووصلت إلى هدفي في الساعة الثامنة مساء، طرقت الباب آملا أن أجد عائلتي هنالك لأنهي رحلة العذاب ألتي أستغرقت ثلاثة أيام سرتُ في يومها الثالث حوالي عشر ساعات مشيا على الأقدام.
فتح الباب الطفلة سوزان وأرتفع صوتها تبشر زوجتي بقدومي، فأيقنت بأنّ المرحلة الأولى من رحلتي شارفت إلى نهايتها.
كانت فرحتي بلقاء عائلتي كبيرة وسعادتي بسلامتهم طاغية، فما أحلى اللقاء بعد طول إفتراق وما أطيب العناق بعد طول إشتياق.
بعد أن حدثتهم عن تفاصيل مغامرتي، تحدثت زوجتي عن معاناتهم وقصة إحتلال ميليشيا الأحزاب الكردية لمدينة الذهب الأسود قائلة:
” في صبيحة يوم الأثنين المصادف للثامن عشر من شهر آذار أي قبل ستة أيام طرق أسماعنا أنباء إحتلال طلائع ميليشيا الأحزاب الكردية للأحياء السكنية في شمال وشرق المدينة وكانت محلة تبه ألتي تسكن فيها عائلة والدتي ضمن تلك المحلات وكنا في تلك الأثناء ضيوفا في بيت شقيقتي الصغرى أحلام في محلة شاطرلو.
كان ولدي البكر وشقيقه في بيت جدتهم في محلة تبه وقد أرسلتهم مع شقيقتي كريمة أثناء زيارتها لنا لغرض الإستحمام في بيت جدتهم لأنّ الكهرباء والماء كانا مقطوعين في محل إقامتنا وكنا نضطر لجمع مياه الأمطار من أجل إرواء عطشنا.
أستطردت زوجتي قائلة:
عند سماعي بأنباء إحتلال محلة تبه بدأ القلق يراودني على مصير الطفلين المعزولين في تلك المنطقة وزاد من قلقي إلتقاط المذياع للمكالمات اللاسلكية للطائرات السمتية التي كانت تُنبيء بالمباشرة بقصف تلك المنطقة لتحشد قسم من البيشمركة فيها، لذلك عزمت على إختراق منطقة القتال الذي كان ناشبا بين قوات الجيش والميليشيا الكردية في شوارع الحي.
أصطحبت معي إمرأة من الجيران توثبت لمساعدتي لإنقاذ الطفلين البريئين من المخاطر المتوقعة نتيجة القصف الجوي.
بعد نصف ساعة من المسير تمكنا من إختراق منطقة الإشتباك وكانت طلقات البنادق تئز من فوق رؤوسنا ووصلنا إلى بيت والدتي، وبعد الإطمئنان على سلامة الطفلين وسلامة والدتي وأخواتي قفلنا راجعين بصحبة الطفلين من نفس الطريق إلى دار شقيقتي الصغرى أحلام فوجدتها بإنتظاري على أحر من الجمر.
كانت شقيقتي متهيأة للرحيل وقد كومت الأغذية وما خف حمله وغلا ثمنه في سيارتنا ألتي كانت تحوي قليلا من الوقود، وأعلمتني بنيتهم ترك الدار خوفا من وصول القوات الكردية إلى المحلة وإيذائهم لزوجها علي.
أستطردت زوجتي وهي تحكي معاناتهم قائلة:
أتجهنا صوب جنوب المدينة وكان هدفنا الوصول إلى دار شقيقة علي في حي الضباط التي كانت تعيش مع أشقائها بعد إستشهاد زوجها الضابط في الجيش العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية.
كنا نعتقد بانّ تلك المنطقة آمنة ومن المستحيل وصول القوات الكردية إليها نظرا لحجم قوات الجيش التي كانت محتشدة للدفاع عن المدينة.
في صباح اليوم التالي جفلنا من النوم على أصوات الطلقات النارية وبعد ساعات قليلة أحتلت المعارضة الكردية حي الضباط بكامله وبدأت عمليات النهب لمخازن الأغذية الحكومية القريبة من الحي.
في ظهيرة نفس اليوم طرق زمرة من افراد البيشمركة الأكراد باب الدار وهم مدججون بالأسلحة الخفيفة وبعد الإستفسار عن عائدية ملكية السيارات الثلاث المتواجدة في الدار وبعد معرفتهم بأنّ زوجي غير متواجد في المدينة عزموا على سلب سيارتنا بحجة أنّ مالكه ضابط في الجيش وهو الآن يحاربهم في صفوفها.
بعد محاولات عديدة تمكنت من إقناعهم بأنّ زوجي ليس ضابطا بل مهندسا في وزارة الإسكان والتعمير، فلان عريكتهم أمام إصراري بعدم تسليمهم مفاتيح السيارة فتركونا إلى حين.
في اليوم التالي أخترقت شظية قذيفة مدفع زجاج الشباك لإحدى غرف النوم وتكوم الزجاج المتناثر فوق الطفلة الرضيعة زينب وهي البنت الصغرى لشقيقتي أحلام.
بعد ساعة ونيف من ذلك الحدث سمعنا طرقا عنيفا على الباب الخارجي للدار وكان التيار الكهربائي والماء مقطوعا منذ اليوم الأول من إحتلال الميليشيات للأحزاب الكردية لمدينة الذهب الأسود.
هرعنا نحو الباب الخارجي للمسكن فإذا بمجموعة أخرى من المتمردين الأكراد متجمهرين أمام الدار وبعد أن تأكدوا من ملكية السيارتين العائدتين لشقيقة وشقيق علي أستفسروا عن مالك سيارتنا التي كنا قد نقلناها إلى مرأب المسكن المجاور الخالي من سكانها لغرض إخفائها عن أنظارهم.
بعد تيقنهم من عدم وجود مالك السيارة في الدار عزموا لأخذها ولم تفلح محاولاتي لإقناعهم بالعدول عن قرارهم المجحف.
في هذه الأثناء تعرفت على أحد أفراد الزمرة وهو من ألأكراد الساكنين في كركوك وكان يسكن في نفس الزقاق المتواجد فيها دار والدتي في محلة تبه، فأستطاع هذا الجار من إقناع زملائه بالعدول عن عزمهم وأدعى بأنّه يعرف زوجي ولا علاقة له بالجيش من قريب أو بعيد.
بعد إبتعادهم عن الدار تنفست الصعداء وقررنا الفرار من حي الضباط إلى دار شقيقتي الأخرى سميعة التي تسكن مع زوجها وطفليها في محلة شاطرلو ولكن علي زوج شقيقتي أحلام أعتراه خوف من ألمجيء إلى تلك المنطقة المزدحمة بالأكراد الساكنين والذين يعرفونه لأنّه يسكن في نفس المحلة.
في هذه الأثناء ألتقى شقيق علي الذي خرج لزيارة والديه بشقيقي محمود مصادفة وأخبره بعزمنا على ترك حي الضباط الذي بدأ القصف المدفعي للجيش العراقي يزداد عليه لتمركز قسم من القوات الكردية فيه.
حضر شقيقي محمود على عجل وأصطحبنا بسيارتنا إلى محلة شاطرلو ثم رجع لإصطحاب شقيقتي أحلام وزوجها بعد أن تطوع أحد جيران شقيقتي من الأكراد الطيبين من سكنة مدينة كركوك لمرافقتهم وحمايتهم طوال الطريق.
بعد إستقرارنا في دار شقيقتي في محلة شاطرلو قضينا هنالك ثلاثة أيام ضيوفا عليهم وأقترح جارهم الكردي بأن يخفي سيارتنا في مرأب دارهم حفاظا عليها من النهب “.
بعد إكمال زوجتي حديثها وإحاطتي علما بمقدار معاناتهم، عزمت على إنقاذهم من هذا الكابوس المرعب بأقرب وقت ممكن، لذلك بدأت البحث عن الوقود لسيارتي ولكن جميع محاولاتي بالعثور على الوقود وعلى منفذ آمن للخروج من المدينة بالسيارة باءت بالفشل، فالطريقان المؤديان نحو العاصمة بغداد كانا محفوفين بالمخاطر وقد حدثني أحد معارفي بأنّ طائرة سمتية تابعة للجيش العراقي قصفت سيارة إحدى العوائل بينما كانوا يحاولون إختراق الأرض الحرام الذي يفصل الميليشيا الكردية عن قوات الجيش العراقي.
أثناء بحثي عن الوقود لسيارتي عرجت على عدد من محطات الوقود ولاحظت بأنّ القوات الكردية قد نهبوا مولدات الطاقة الكهربائية لتلك المحطات ونظرا لإنقطاع التيار الكهربائي في المدينة فإن مضخات تزويد الوقود في تلك المحطات لم تكن تعمل، وشاهدت عدد من أفراد الميليشيا الكردية يحاولون إستخراج الوقود من الخزانات المتواجدة تحت أرض المحطة بإستخدام حبل مربوط بدلو.
عمليات النهب في المدينة شملت محتويات جميع دوائر الدولة من الأثاث والسيارات ومخازن الغذاء الحكومية التابعة لوزارة التجارة التي كانت تزود الأهالي بالمواد الغذائية حسب نظام البطاقة التموينية،كما قام الغوغاء بنهب محتويات مخازن مديرية تربية كركوك من الأقلام والدفاتر المدرسية وكذلك محتويات دور الضباط والقيادات الحزبية وقيادات الجيش الشعبي التابعة لحزب البعث العربي الأشتراكي.
إنّ ظاهرة النهب تحصل دوما عندما تفقد الحكومات السيطرة على بعض المناطق وذلك بتأثير البطالة والجوع والعوز التي ترافق فترات الحروب والكوارث الطبيعية والحصار الأقتصادي وذلك بدافع غريزة البقاء.
في اليوم الثاني والثالث من مكوثي في مدينة كركوك تصاعد القصف المدفعي وقصف الطائرات السمتية وكانت القذائف والقنابل تسقط على أحياء المدينة بصورة عشوائية وكانت الخسائر في الأرواح جسيمة.
بدأ سكان المدينة بالفرار بالسيارات نحو المنفذين الوحيدين السالكين وهما الطريقان المؤديان نحو مدينتي أربيل والسليمانية التي كانتا تحت سيطرة قوات ألأحزاب الكردية.
أما العوائل ألتي قررت الإتجاه جنوبا نحو مدينة تكريت فلم يكن لها إلا خيار واحد وهو السير مشيا على الأقدام والخروج من خلال حي واحد حزيران والعبور إلى الطريق المؤدي إلى مدينة تكريت ومن المنفذ الوحيد الذي دخلت منه إلى مدينة الذهب الأسود قبل ثلاثة أيام.
في ظهيرة اليوم الرابع من مكوثي في المدينة لاحظت بأنّ قسم من قوات الميليشيا التابعة للأحزاب الكردية قد بدأت بالإنسحاب من المدينة مصطحبة معهم معظم العوائل الكردية بإتجاه مدينتي أربيل والسليمانية.
أيقنت بأنّ ساعة الصفر قد دنت وأنّ الهجوم البري المرتقب لقوات الحرس الجمهوري والجيش العراقي بات وشيكا، لذلك قررت الفرار من المدينة مع عائلتي نحو مدينة تكريت ومن ثم محاولة الوصول إلى العاصمة بغداد.
بعد أن وصلنا بسيارتي إلى مسافة قريبة من طريق تكريت لم أستطع إختراق الأرض الحرام لإشتداد القصف الجوي والإشتباك بين الطرفين المتقاتلين فعدلت عن عزمي وأيقنت بأنّ الموقف هناك محفوف بالمخاطر لذلك قفلت راجعا وتوجهت نحو دار شقيقي أردال وقد قررت في تلك اللحظة محاولة الخروج من المدينة سيرا على الأقدام نحو الطريق الذي يؤدي إلى مدينة تكريت في صبيحة اليوم التالي.
وصلنا إلى دار شقيقي والقصف المدفعي والجوي يزداد عنفوانه وحمم النيران تتساقط على جميع أجزاء المدينة بلا رحمة.
أخبرني شقيقي بأنّ شقيقتي آيسل عرجت إليه بسيارتها للإستئناس برأيه حول قرارهم الرحيل بإتجاه مدينة أربيل وبأنّه لم يؤيد هذه الفكرة لذلك أسرعت بسيارتي إلى دار زوجة شقيقي الراحل يلماز لأمنعهم من الإقدام على هذه الخطوة الغير الحكيمة فالمأساة التي ستحدث في مدينة كركوك ستتكرر في أربيل والسليمانية وبعنف أشد لكون غالبية سكان هاتين المدينتين من الأكراد ألذين تمردوا على حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة الرئيس صدام حسين.
حين وصولي إلى الدار لم أجد فيه غير العجوز رؤوف والد زوجة شقيقي وأعلمني بأنّ جميع من في الدار ذهبوا إلى دار أبن خالتي فيصل وذلك للسفر معهم إلى مدينة أربيل.
قدت سيارتي بسرعة نحو دار أبن خالتي لأنّ دقائق قليلة وربما لحظات معدودة ستحدد مصيرهم، ووصلت إلى الهدف في اللحظة المناسبة فالحقائب كانت محزومة ومشدودة إلى سقف السيارات وقافلة الضياع كانت على وشك الحركة نحو المجهول.
بعد الحديث مع المجموعة أستطعت إقناعهم بالعدول عن قرارهم وأخبرتهم بعزمي الخروج من المدينة سيرا على الأقدام من المنفذ ألذي كنت أعرفه في حي واحد حزيران، وقد وافق الجميع على الإنضمام إلى قافلة الغد فيما عدا أبن خالتي وعائلته فقد كانوا عازمين على الخروج بإتجاه مدينة أربيل ليس من مدينة الذهب الأسود فقط بل من العراق.
إنّ بعض النماذج الإنسانية أثناء تلك اللحظات العصيبة وبعد معايشة مثل هذه المآسي لا تأبه بأي رابطة تربطه بالوطن فغريزة البقاء أقوى من كل رابط والنداء الوحيد ألذي تسمعه في تلك اللحظات الأليمة هو الخلاص من هذا الجحيم الذي خلقه بنو البشر في الأرض.
قضينا تلك الليلة مسهدين وكانت قذائف المدفعية تمزق سكون الليل بين فينة وأخرى، وفي صبيحة اليوم التالي دب النشاط في أوصالنا وتحركت قافلتنا المكونة من عشرين فردا معظمهم من النساء والأطفال بقيادتي سيرا على الأقدام صوب الطريق الرئيسي ألذي يؤدي إلى مدينة تكريت مخترقين الأحياء بإتجاه منفذ النجاة اليتيم في حي واحد حزيران.
قبل مغادرتي دار شقيقي أردال أخفقت جميع محاولاتي لإقناعه بالإنضمام إلى قافلتنا مع عائلته فقد أخبرني بأنّه لا يستطيع السير هذه المسافة الطويلة لأنّ صحته لا تسمح بذلك فقد كان كاحله ملتويا نتيجة لحادث، لذلك تركت سيارتي في مرأب داره وسلمته المفاتيح ليستعين بها إذا أراد الخروج إلى ضواحي المدينة عند بدء الهجوم المرتقب للحرس الجمهوري والجيش العراقي.
قبل الوصول إلى حي واحد حزيران لاحظت بأننا لم نكن القافلة الوحيدة في تلك الأنحاء فالمئات من العوائل كانت تحث الخطى قادمة من عدة إتجاهات نحو الهدف كأننا جداول مياه تشق طريقها لتصب إلى النهر الكبير ألذي يتجه بدوره بفعل جاذبية الأرض نحو المصب الآمن.
بعد مسيرة ساعتين وفي حوالي الساعة العاشرة صباحا عبرنا خط السكة الحديدية والفتحة العتيدة في السياج المحاذي لها بدون حادث سوى بعض الطلقات النارية الطائشة التي مرت فوق رؤوسنا.
رحب بنا الجنود والضباط بعد وصولنا إلى الطريق الرئيسي الذي يتجه نحو مدينة تكريت مدينة الرئيس صدام حسين.
فور وصولنا إلى مقربة قطعات الجيش بدلت ملابسي المدنية بملابس عسكرية التي كنت قد أخفيتها في إحدى الأكياس لأتمكن من الحصول على سيارة لنقل مجموعتي إلى العاصمة بغداد.
بعد فترة من الإنتظار بجانب الطريق قدمت شاحنة عسكرية روسية الصنع من نوع إيفا تقطر خلفها خزانا للماء وتوقف سائقها بناء على إشارتي وتسلق الجميع حوضها الخلفي وتحركت بإتجاه الجنوب ولكن الشاحنة توقفت بعد قطعها عدة كيلومترات في تقاطع إحدى الطرق وأعلن سائقها بأنّه سيتوجه إلى قضاء الحويجة لجلب الماء لأنّه مكلف بهذا الواجب.
ترجل الجميع من الشاحنة وبدأنا بالإنتظار بجانب الطريق مرة أخرى، وبعد نصف ساعة من الإنتظار توقفت سيارة نقل عسكرية صغيرة ذو حوض خلفي بالقرب منا ولاحظت بأنّ ضابطا برتبة عميد كان يجلس بجانب السائق، وسمعت في هذه الأثناء أحد الجنود الواقفين بقربي يحادث زميله قائلا: بأنّ هذا العميد التركماني ينتظر قدوم عائلته المحصورة في المدينة قبل أن يبدأ الهجوم البري.
أغتنمت تلك الفرصة السانحة وطلبت من العميد بعد أن أديت له التحية العسكرية بأن يقل مجموعتي إلى نقطة السيطرة المقامة بالقرب من قناة الري وهي المنطقة التي قضيت فيها الليلة العصيبة قبل أربعة أيام.
وافق العميد على مد يد المساعدة وأنتقل خلف مقود السيارة ليفسح المجال لأكبر عدد ممكن من الأفراد بالصعود إلى السيارة، وركبت مع زوجتي والطفل الرضيع أحمد في المقعد الأمامي الوحيد بعد ترجل الجندي السائق من السيارة بأمر من قائده بينما تكوم باقي مجموعتنا في الحوض الخلفي للسيارة فيما عدا اربعة من الشباب تخلفوا عن الركوب لعدم وجود موطيء قدم فيها لذلك قرروا تعقبنا سيرا على الأقدام.
بعد نصف ساعة من المسير لاحت من بعيد دعامات الجسر المشيد على قناة الري وترجلنا من السيارة في الشاطيء الآخر من القناة وبعد أن شكرت الضابط أفترشنا الأرض بالقرب من قطع المدفعية والراجمات بأنتظار المتخلفين من القافلة.
لاحظت قرب موقع الإنتظار حركة مستمرة لقطعات الجيش والحرس الجمهوري كأنّها تتهيأ لبدء الهجوم البري على مدينة الذهب الأسود وتبينت من بين الضباط والقادة حسين كامل زوج أبنة الرئيس صدام حسين وعزت الدوري نائب مجلس قيادة الثورة. أستغرقت فترة الإنتظار هذه ثلاث ساعات ألتحق في أثنائها بقية أفراد المجموعة المتخلفين بالقافلة وأغتنمت فترة الإنتظار للبحث عن وسيلة نقل تقلنا إلى بغداد.
باءت جميع محاولاتي للحصول على وسيلة لنقلنا إلى بغداد بالفشل ولاحظت بأنّ قسم كبير من العوائل تعتلي متون ناقلات الدبابات المتجهة إلى مدينة تكريت بعد إفراغ حمولتها كأنّهم أكوام من النمل ألتصقت بقطعة من السكر وكان منظرا غريبا ومعبرا عن المآساة الإنسانية في زمن الحروب.
في الساعة الثانية ظهرا قدمت حافلة كبيرة من بغداد تقل الجنود العائدين من إجازاتهم، وبعد أن علمت بأنّ الحافلة تروم الرجوع إلى بغداد تمكنت من تأمين مقاعد لأفراد مجموعتي في الحافلة ثم تحركت الحافلة صوب الجنوب متجهة نحو العاصمة بغداد.
ألقيت نظرة الوداع الأخيرة من الشباك الخلفي للحافلة على مدينة ألذهب ألأسود فلم أرى سوى ألدخان الأسود ألمتصاعد من إحدى آبار ألبترول ألتي أحترقت أثناء هذه ألأحداث ألدامية فلفني موجة من الحزن وألأسى وألقلق على مصير هذا ألشعب ألصابر ألذي أُصيب بلعنة ألذهب ألأسود.

المؤلف: كامل علي
مهندس معماري
باحث في ألمعتقدات وألأديان يؤمن بالعلمانية والديموقراطية وحقوق ألإنسان.
مؤلفاته:
ثورة ألشك
أساطير ألأولين
ألرائيليةمحاولة للتزاوج بين ألدين والعلم
لعنة ألذهب ألأسود

أحدث المقالات

أحدث المقالات