خاص : كتبت – ابتهال علي :
ما أشبه الليلة بالبارحة في إسبانيا، حيث أصبح الرئيس والصحافي الكتالوني “كارلس بويغديمونت” مثل “دون كيشوت”، بطل رائعة الأديب الإسباني “ميغيل دي ثيربانتس”، يمتطي صهوة حصان متهالك ويشهر سيفًا مَثْلُومًا ليحارب طواحين الهواء.
فمنذ إعلان استقلال إقليم “كتالونيا” عن المملكة الإسبانية وتحوله إلى جمهورية وليدة أوائل الأسبوع الجاري والأحداث تتلاحق ما بين إلغاء الحكم الذاتي في الإقليم وفرض وصاية الحكومة المركزية في مدريد عليه إلى فرار “بويغديمونت” وعدد من وزراء حكومته إلى بلجيكا، بصورة يعتبرها البعض شهادة وفاة “الجمهورية” الوليدة في مهدها.
وغادر الزعيم الانفصالي مع بعض الوزراء في حكومته إلى “بلجيكا” الإثنين الماضي، بعد أن أقالته مدريد من منصبه في 27 تشرين أول/أكتوبر 2017، عقب إعلان استقلال “جمهورية” كاتالونيا من طرف واحد.
الهروب الكبير وفوضوية معركة الاستقلال..
في قراءة لموقف رئيس “كتالونيا” المقال بعد فراره إلى بلجيكا، عبرت صحيفة مجلة “لوبوان” الفرنسية عن مفارقة ذات دلالة تمثلت في أن أسلوب إدارة حكومة كتالونيا برئاسة “كارلس بويغديمونت” للأزمة منذ استفتاء الانفصال في غرة تشرين أول/أكتوبر الماضي؛ اتسم بالفوضوية رغم أنه خطط بعناية فائقة لعملية هروبه إلى “بلجيكا”.
وأضافت المجلة الفرنسية أن “بويغديمونت” وجه لطمة قاسية لأنصاره الذين احتشدوا أمام قصر الجنرالية “la Generalitat” – مقر الحكومة الكتالونية – عقب إعلان إسبانيا حلها؛ على أمل أن يخرج زعيم الانفصال عليهم صباح الإثنين الموافق 30 من تشرين أول/أكتوبر المنصرم ليطلق شرارة حركة المقاومة السلمية ضد الحكومة المركزية في مدريد.
ووصفت “لوبوان” أن الرد نزل عليهم أشبه بالماء البارد؛ بعدما ظلوا يرددون “أين بويغديمونت”، عندها تسربت الأنباء أن “كارليس بويغديمونت” فر مع خمسة من اعضاء حكومته المخلوعة إلى بلجيكا.
الفرار لبروكسل عبر مرسيليا..
فصلت المجلة الفرنسية، ما أسمته بخطة هروب زعيم “كتالونيا”، مشيرة إلى أنها كانت خطة محكمة للغاية؛ حيث هرب “بويغديمونت” بالسيارة إلى مدينة “مرسيليا” الفرنسية ومن هناك طار إلى العاصمة البلجيكة بروكسل. وألمحت إلى أنه عمد إلى تضليل أنصاره؛ حيث نشر في الصباح الباكر، على الموقع العالمي للتدوين القصير “تويتر”، صورة لقصر “la Generalitat” ليرسخ أنطباعًا في الأذهان أنه داخل مكتبه في مقر الحكم، وبعد ساعات قليلة ادعى مستشاره “غوزيب رول” أنه اجتمع به في برشلونة في الصباح، بل ونشر “رول” صورة له في مواقع التواصل الاجتماعي ليعطي انطباعًا أن حكومة “كتالونيا” تمارس مهامها. ولكن بعد بضع دقائق، اقتحمت الشرطة الكتالونية، بعد تغيير قياداتها، مكاتب الحكومة وأمهلت الوزراء الانفصاليين دقائق معدودة لجمع متعلقاتهم الشخصية ومغادرة مقر الحكم.
جاء الهروب الكبير بعد ساعات من توجيه الإدعاء العام الإسباني لرئيس وأعضاء حكومة كتالونيا المقالة ومن مجلس نواب الإقليم المنحل تهمًا تتعلق بالعصيان والتمرد وإساءة التصرف في المال العام “الإختلاس”، وهي تهم تصل عقوبتها للسجن لمدة تصل إلى 30 عامًا.
واليوم التالي لمغادرته البلاد، ظهر “بويغديمونت” للعالم في مؤتمر صحافي من بروكسل، للحصول على ضمانات قانونية طبقًا لقوانين الإتحاد الأوروبي، مبررًا اختياره العاصمة البلجيكية لأنها عاصمة الإتحاد الأوروبي وهم مواطنون أوروبيون – حسب تصريحاته.
لتنتقل مشاهد من “الملهاة الكاتولونية” إلى بروكسل، خاصة بعدما ترددت أنباء عن أن رئيس كتالونيا المقال سوف يطلب اللجوء السياسي لبلجيكا، الأمر الذي يضعها في خط المواجهة مع إسبانيا.
هشاشة حلم الانفصال عن مدريد..
تفرض مغادرة “بويغديمونت” بهذه الطريقة، مزيدًا من الشك حول نهاية حلم استقلال “كتالونيا”، واكد تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية على أن الزعماء القوميين في كاتالونيا كانوا يدركون جيدًا، منذ اللحظة الأولى أن مشروعهم الإنفصالي من الهشاشة بمكان.
وأورد التقرير مجموعة من الظواهر التي رافقت احتفالات أنصار الإنفصال عقب إعلان استقلال كتالونيا، الجمعة الماضي، منها استمرار وجود علم إسبانيا مرفرفًا فوق قصر”la Generalitat” رغم إعلان ولادة “جمهورية كتالونيا” الجديدة.
كما تلفت مجلة “لوبوان” الفرنسية إلى أن “بويغديمونت” وأعضاء حكومته كانوا يأخذون تهديدات إسبانيا بالملاحقة القضائية والاعتقال محمل الجد، ما دفع أعضاء البرلمان إلى اللجوء إلى الاقتراع السري في تصويت يوم الجمعة الماضي على استقلال “كتالونيا” بديلًاً عن التصويت الإلكتروني لعدم كشف هوية من قالوا (نعم) للاستقلال ومنع ملاحقتهم من قبل القضاء الإسباني، الذي ألقى بالفعل على إثنين من قادة الانفصال؛ وهما: “غوردي سانشيز” و”غوردي كويكسارت”، لتنظيمهما مظاهرات ضد القضاء، وليصبحا أول السجناء السياسيين في الجمهورية الكتالونية الوليدة.
وهي مظاهر تعكس حقيقة بديهية أن حلم استقلال الكتالونيين وُلد مقبورًا في أذهان قادة الانفصال لأنهم الأكثر إدراكًا لمدى هشاشة مشروعهم.
طعنة أوروبا.. ومخاوف انهيار قطع “الدومينو”..
أوضحت صحيفة “الغارديان” البريطانية أن الدولة الوليدة تحتاج لتحقيق حلم السيادة إلى أمرين على الأقل: هما: “الاعتراف الدولي والسيطرة الفعلية على آراضيها”.
وركزت “الغارديان” على الطعنة التي تلقاها زعماء استقلال كتالونيا من الحضن، الذي تصوروا أنه الملاذ الوحيد لحلمهم وللدولة الوليدة، فلم يكن مستقبل الاعتراف بدولتهم مبشرًا، لاسيما من قبل الإتحاد الأوروبي الذي عول عليه “بوغديمونت” ورفاقه آمالًا قصوى، فلن تتجه أوروبا إلى الدخول في معركة انفصال منطقة جزء من دولة محورية في القارة بحجم إسبانيا؛ وهي لم تتعافى حتى الآن من صدمة انفصال بريطانيا من الإتحاد الأوروبي بعد استفتاء “بريكست” العام الماضي.
وهناك معضلة أخرى تعوق أوروبا عن قبول الاعتراف بـ”جمهورية كتالونيا”، وهي قلقها من أن تتسرب حمى الحركات الانفصالية عبر القارة البيضاء، وهو ما يزعزع استقرار أوروبا ويضع صورة الديمقراطية الأوروبية النموذج في أدبيات العلاقات الدولية في مقتل.
وهو ما عبر عنه النائب الإسباني في البرلمان الأوروبي، “إستيبان غونزاليس بونس”، عندما حذر بقوله لأعضاء البرلمان الأوروبي: “إذا سمحتم اليوم لكتالونيا بكسر وحدة إسبانيا، ستبدأ قطع الدومينو بالتساقط في جميع أرجاء القارة. وبدلًا من قارة مكونة من 27 دولة، سنجد أمامنا دويلات صغيرة”.
تكمن ألغام الانفصال على مدى خريطة أوروبا، بفعل الطبيعة الجيوسياسية لقوميات الشعوب الأوروبية، مثل إقليم “الباسك” في إسبانيا وفرنسا، وهو أحد مناطق الحكم الذاتي في شمال إسبانيا، الذي يمتد عبر جبال البيرينييه الغربية على الحدود بين البلدين، وجزيرة “كورسيكا” في البحر المتوسط الخاضعة لحكم فرنسا، وأيضًا اسكتلندا، التي تخطط لتنظيم استفتاء للانفصال عن المملكة المتحدة العام القادم بعد خروج بريطانيا النهائي من الإتحاد الأوروبي عقب استفتاء “البريكست”.
وهناك المخاوف من الحركات الانفصالية في دول البلقان، خاصة البوسنة وصربيا، وفي بلجيكا، ذاتها، تسود المخاوف من انفصال إقليم “الفلاندر” الناطق باللغة الهولندية. وتنتظر إيطاليا، نتائج استفتاء مقرر تنظيمه خلال الشهور القليلة القادمة بشأن استقلال منطقة “الباداني” عن الحكومة المركزية في روما.
كما تتطلع الدنمارك للعام المقبل، حيث يتوقع أن تجري جزر “فارو”، الواقعة شمال المحيط الأطلسي والغنية بالنفط والغاز، استفتاء لاستقلالها عن الدنمارك التي تسيطر على الجزر منذ عام 1948.
المثير للتأمل أن الدول الأوروبية بصورتها الحالية خرجت من عباءة إمبراطوريات مثل الإمبراطورية البريطانية والفرنسية والبرتغالية، فهل تتحول بفعل رياح التجزئة والتيارات الانفصالية إلى مجرد دويلات ؟
المادة (155) سلاح “راخوي” الدستوري..
تتطرق صحيفة “الغارديان” البريطانية إلى الركن الثاني الضروري لتحقيق الاستقلال الكامل لكتالونيا، وهو السيادة على الأرض.
وتؤكد الصحيفة على أن زعماء الانفصال في “كتالونيا” أدركوا أن سيادتهم تعتبر بكافة المقاييس مؤقتة وغير مكتملة الأركان، خاصة مع لجوء إسبانيا إلى تفعيل المادة رقم (155) من الدستور، التي تنص بفرض الحكم المركزي على الحكومات الإقليمية؛ وهي 17 أقليمًا يتمتع بالحكم الذاتي في البلاد.
وجاءت القرارت العملية من حكومة رئيس الوزراء الإسباني، “ماريانو راخوي”، عقب إعلان قرار الاستقلال سريعة ومباغتة، إذ أعلن “راخوي” إقالة حكومة إقليم كتالونيا وحل برلمانها ودعا لإجراء انتخابات مبكرة في الإقليم يوم 21 كانون أول/ديسمبر المقبل.
واستبدلت مدريد كبار قادة الشرطة في كتالونيا؛ وصدرت الأوامر بإزالة صور “بيغديمونت” من المكاتب الحكومية المحلية.
وتمثلت أبرز تحركات حكومة “راخوي” في استدعاء المحكمة الوطنية في مدريد – أعلى محكمة جنائية إسبانية – رئيس إقليم كتالونيا “كارلس بيغديمونت” و13 آخرين من حكومته للمثول أمامها الأسبوع الجاري، لاستجوابهم بشأن إعلان استقلال كتالونيا. ويتوقع أن تصدر المحكمة مذكرة اعتقال دولية في حال عدم مثولهم أمامها، ويواجه “بيغديمونت” تهماً بالعصيان والتمرد والإختلاس، وهي تهم تصل عقوبتها إلى السجن 30 عاماً.
وفي هذا السياق، بدأت الصحف الإسبانية في التنقيب عن ملفات تدين أعضاء حكومة “كتالونيا” المقالة، وذكرت صحيفة “El Independiente” الإسبانية أن حكومة كتالونيا بزعامة “بويغديمونت” كانت تدعم الشركات في الإقليم بنحو 43 مليون يورو العام الجاري 2017، بهدف دعم قدرات تلك الشركات الابتكارية والتنافسية على مستوى العالم.
وأشارت الصحيفة الإسبانية إلى أن حكومة كتالونيا المقالة عمدت، عبر شبكة من المكاتب التجارية بالخارج، إلى الترويج لشركات الإقليم متجاوزة بذلك اختصاصات الحكومة الإسبانية وسفاراتها حول العالم.
وأضافت أن تلك المكاتب توزعت بين 8 مكاتب في الإقليم و40 في أهم العواصم والمدن في قارات العالم، من بينها “لندن وبرلين وموسكو وواشنطن ونيويورك ودبي وباريس وسيدني وبكين ومومباي”.
وأخيرًا ليس أمام المراقب للتطورات الأخيرة في المعضلة الكتالونية إلا انتظار نتيجة استفتاء كانون أول/ديسمبر القادم، الذي أعلنت حكومة مدريد تنظيمه في الإقليم لمعرفة مصير “دون كيشوت” كتالونيا المقال.