14 نوفمبر، 2024 3:07 م
Search
Close this search box.

اغتراب المثقف واضطرابه في رواية (أنثى بلون المطر) 

اغتراب المثقف واضطرابه في رواية (أنثى بلون المطر) 

خاص: كتب- أمين غانم

رواية عراقية ثالثة أكملت قراءتها للتو، بعد “الباب الخلفي للجنة” لهيثم الشويلي، و”مواسم الثلج والنار” لكاظم الشويلي، وكلها بمثابة الإختزال لإغتراب المثقف في الداخل العراقي، حيث تظهر وبجلاء حجم الضغط النفسي الذي يعانيه المثقف.

ثلاث كتب سردية صادرة في العام 2017 هي حصيلة بسيطة من قائمة طويلة لحقبة سردية بإمتياز، لكنها تقدم صورة واحدة كاملة حتى الآن على الأقل، تحاول بطرق مختلفة أن ترى وترصد حياة المثقف العراقي من داخل الجامعات ومن خارجها، لكنها ضمنا تجتمع على سرد الإيقاع الدامي بلد، قصة العراق مابعد العام 2006 م، بحيث صار لازما على السرد أن يحمل على عاتقه ثلاث مهام أساسية:

– الإقتتال الطائفي، بحيث تشي أحداث السرد بالبشاعات الدامية مرورا ب2008 ومابعده أي أشتداد الهجمات والقتل بالهوية خصوصا على المسيحيين، وفرار البعض (من كل الطوائف) إلى المدن الأوربية.

– الإرث الحضاري لبلاد الرافدين.

– الإغتراب عن الواقع الكابوسي الذي يعيشه مثقفي الداخل من أزمة الهوية إلى إنفلاتاته الأمنية وتناقضاته المادية ليغدو محورا لأبطال السرد خلال عقد من الزمن.

– بث رسائل صريحة من الكاتب للناس للإقلاع عن التخندق خلف المشاريع الطائفية.

إنه إغتراب من نوع آخر، يفوق إنكفاء وإنكسار المثقفين الألمان واليابانيين عقب الحرب العالمية الثانية، متجاوزا صدمة المثقف العربي بعد نكسة 67.

رواية “أنثى بلون المطر”، هي الأخرى حكاية تأخذ على عاتقها أعباء الزمن وإعياءه، تحاول أن تخرج من شرنقة المقارنة المطبقة، الحضارة والبؤس، ماضي تليد وحاضر يمضي بسادية لاتلقي بالا للمخيلة.

لكننا الآن أمام تجربة جديدة، مهما بدت سوداوية في علاقتها بالعالم، فالسوداوية غدت طورا موضوعيا للتكوين أو لمواكبة نهوض الشخصية لدى السارد العراقي، لاسيما حين يكن 2006 هو البداية والنهاية، إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين وإعلان فصائل تنظيم القاعدة توحدها تحت راية الدولة الإسلامية في العراق، نهاية حقبة وبداية حقبة بهذين الحجمين ليس بالشيء الهين على المثقف.

الرواية كانت تنحو بلغتها الرومانسية والشعرية صوب عالم وردي، بيد إنها كانت تتجه في عمق الإنسان، لتقدمه عنوة في قص للاوعي، في تلازم الإرادة بالخيبات الراسبة، أشبه بصناعة أسطورية للأبطال، وتشكيل ملامحهم وفق ذائقة واعية، لكن الفنان لايكتشف مدى فداحة الإبداع حين ينتقل من بين أنامله إلى الناس، ويغدو الواشي الأخطر لكل أسراره، هكذا رسم لسجاد بطل الرواية، كشاب رومانسي مرهف.

“سجاد الوائلي” شاب جامعي مثقف، من أقصى جنوب العراق، البصرة كانت مدينته أما بغداد والسماوة والوركاء، محطات سير حكايته الغرامية بإبنة خاله “مرام”، حتى صارحته في آخر المطاف بعدم رغبتها بالزواج منه، لتبدأ حياته بالتحول شيئا فشئا للإنكفاء والإعتزال، ليغدو فريسة سهلة للإكتئاب أو بالأحرى رجلا فاقدا للأمل ممتلئا بكراهية كل مظاهر الحياة.

وهكذا شاء البطل أن يسير ككائن يستبطن كل الصدمات، يتنامى بمفرده، باحثا عن سلوى ما، أو بالأحرى أمل، فكان يسرد حكاية ممزقة، وأشخاص عابرين إلا من ألوان ملابسهم، ولون عينيهم، كانت الألوان هي كل شيء يراه ويقرأه وربما يستبطنه، كان اللون الوردي يقفز للوهلة الأولى من كل إطلالة لنساء يقابلهن، لما له من دلالات نفسية في تهدئة الذات .

كان “سجاد” يفضح الدلالات السطحية للألوان، دون أن يتحول لإسقاط مباشر كان قد هيئ له، ويمضي كشخصية عصية على الفهم شكلا، بيد أنه كان يعكس وبجلاء مرير لأي مدى بات على الإنسان أن يكابد جريرة لا يدري كنهها، وأن يستمر في قياس الحياة على نمط غرام الخزفي بمنحوتاته، كأن يستدرج نزعاته للظهور وما يلبث حتى يجهز عليها، ضربا من المازوخية، حين تأت تصرفات الإنسان على شاكلة الإنقضاض على كل ماتفضي إليه الغرائز من رغبات، وكأن “سجاد” هو الصورة المرادة.

كان السرد لايبني شيئا، إنما “سجاد” كان من يبدد فضاءاته، في أشتات مقتضبة من إشارات الزمن الممتد، أشبه بأنقاض معطوبة للفعل، ذات مساء،ذات صباح، لتشكل بناء الرواية بمزاجية تزحف صوب هوانها دون تسقط في سيماءات المرض والإكتئاب بسهولة، لم يكن “سجاد” السارد العليم، بل كان المظهر اللاشعوري لعذابات كثيرة مازالت تتدافع بكثافة قادرة على السير خببا في الأرض الرخوة /النص.

أشبه بهوية ما، كبتا غليظا، طاقة للموت أو للتمرد الهش لا فرق، لكنها بالمقابل معنى غائر، فلسفة مضادة لإغراء الإنسان للقفز من الضفة القريبة، في سياق إخضاع كل من تناسخ الأرواح وتناص الكبت وإعلاءه بداخل العمل الواحد لدوافع مرضية واحدة، في تداخل لاشعوري للحب بالعدوانية، هكذا كان يجمع “سجاد” كل حيثيات الصورة المبتغاة في فتاة مرام، ويهيئ لها طريقا مريبا.

لقد افتتن “سجاد” بشخصية “سعيد “ورسم لنفسه مسارا غريبا، ليمض في تقمص شخصية معدمة تجابه كل ماحولها من تناقضات عريضة بغية الإقتصاص لحب مسلوب، أو يسعى جاهدا أن يحقق بنفسه تلك النهاية المرجوة، كغرام الفنان بشخصية خيالية صنعها بيديه ومالبث حتى عشقها ونفخ فيها الحياة، لكن “سجاد” هنا اختزل الشخصية في ذاته كإرادة تتضخم بإضطراد، تتشكل وتبني عذابها اليومي كصيرورة حانية للتلذذ بالألم، في تشابه كثيف للشخصيات المحورية للنص، رغم تباين أدوارها الشكلية الإ إنها تلتقي ضمنا في مواكبة “سجاد” والإلتفاف حوله كأرواح شتى تسكن جسد واحد، تظهر تفانيا غير مسبوق في سوق “سجاد” صوب غايته المريبة.

هنا تظهر لعبة غير مباشرة في إسقاط الفكرة على البطل وإسقاط البطل على كل السخصيات المحورية، لتتجلى الشقة الفنية بين إسقاطات المحمداوي (المؤلف) كإرادة واعية، وإسقاطات سجاد (السارد البطل) كتناص يتضافر في تسيير دفة الحكاية، والإيغال بعيدا في نفخ بوالين الألم حتى تنفجر ناشرة كل رذاذات الزمن الأسود كبثور تتقيح للتو على محيا جيل موغل في الضياع والتيه، لتبدو معالم اللعبة السردية في الشخصيات الثانوية كتفاصيل متشابهة، ل”سعيد” و”ميثاق” و”سجاد” في موقع الإبن الثاني في الأسرة على اعتبار أن لكل منهم أخ أكبر يدعى أحمد ومحمود هو الأخ الأكبر ل”سجاد”، شخصيات ثانوية تتطابق في الإسم وفي الغياب بطريقة تشي بإندماج الحدود الهشة بين الأساسي والثانوي الفعل واللافعل، الخيال والدوافع اللاوعيه للحب كغاية لإغتراب الذات وسبرا للهوية النازفة، ضمن فتك لاشعوري للفوارق الجوهرية بين شخصيات العالم السردي، وأضحت هلاما لاتفاصيل له، سوى تشظى “سجاد” على واقع حاد ماينفك يدمي وجدانه المتعب، ويلقي به في رغبات تتداخل مع الألم إلى حد الشغف المرضي.

فحين يصف صديقه ميثاق علي عباس: شابا ذي الرابعة والعشرين ربيعا بلون أسمر بعينين عسليتين وحاجبين كث الشعر يرتدي قميصا أبيضا وبنطالا كتان رصاصي.. وحين يصف الدكتور “أنطون عامر” فنان تشكيلي وأستاذ بجامعة بابل: ونحن نسير داخل المنزل الأنيق كان هناك طفل امتزج لونه بلون الورود الحمراء التي في الحديقة كان يلعب كرة القدم، أدخلتنا السيدة إلى صالة الضيوف ولم تمر خمس دقائق حتى استقبلنا الدكتور كان يرتدي بدلة بلون صحراوي وساعة ذهبية من النوع الثمين.

كانت الرؤية عند “سجاد” تقف عند حدود النظر، أو فيما ترتجله عينيه من التقاطات براقة خاطفة دون الحاجة للنفاذ في العمق، تقارب رؤية المكتئب للعالم من خلف لوح زجاجي، هكذا كان يرى “سجاد” الناس كفزاعات لونية، كائنات تلبس ألوانا زاهية، كائنات بلا أرواح أو ملامح مألوفة، تصرفات تنم عن إضطراب نفسي الذي مايفتأ يدفعه عنوه للبحث عن حب إضطراري، والإصرار على غرام غريب، لم تصل علاقته بفتاتة “مرام” أبعد من الأمور الاعتيادية.

لندع “سجاد” يصف طريقة وداعه ل”مرام” بعد لقاءه الاول، بعد إختراع حيلة شاحن هاتفه النقال للدخول لغرفتها: تركتهم أمام الباب وتسللت لغرفتك، أحاطني الخوف بكلتا يديه، فالأمر صعب بالنسبة لي فهذه الخطوة الأولى لجرأتي، لكنني كنت مجبرا..

ويستمر في نظراته الدقيقة على فتاته النائمة حتى تقع عيناه على زهرة بيضاء موضوعة بسندان صغير، ويأخذها قائلا: قررت أن أسرقها..

هكذا بنى “حيدر المحمداوي” حكايته، وفق توهان “سجاد” وهيامه الجامح، تاركا أدواته في مخيلة رجل يلعق خيباته ويلثم خيالاتها بنهم طاغ، يثب هنا وهناك في إذكاء اللحظة المنتظرة بالمزيد من إقصاء الشخوص والأمكنة والمناسبات وإعفاءها من الإستمرار، كنسيج متداخل يتمدد حتى النهاية، يوظف عناصر السرد في تواتر كثيف لتشييد الحكاية وبناءها، بيد إن فعل القص يغدو هنا ذلك التخلي الذي يفسح الفن فيه للحرية كي تمر، وإن جاءت على حساب الإنسان، قوة خرقاء، صدع يزعزع كل آماله، يستشري بصخب التداعي الهائل للنرجسية ويخفت بسكون دفئ لإعياء النفس وسقمها، فحين يسرد سجاد: في يوم الثالث من شهر ابريل 2011، كانت الأزهار تتفتح مبتسمة للربيع إلا في البصرة، فحرارة النهار لا تناسب الأزهار الرقيقة، أتصل أحد أقارب والدتي يخبرها أن خالي عاصم اشترى بيتا فخما في محاذاة شط العرب، منطقة يسكنها الأثرياء.. ثم ينتقل: أتذكر ذات مساء حين قررت أن ترحلي عني.

ثم ينتقل لسرد موضوعا ما قائلا:كنت أتمنى أن أكون مريضا. ثم يمضي في هذيانه: في أحد المساءات الماطرة كانت تقول، سجاد إعتصرني بقوة.

لتجئ عبارته في وصف حنان الوجه الجديد الذي يحمل كل المعاني الحقة لطالما كان يبحث عنها، كانت إغراء للحب ولكل عذابات الماضي، لكنه يصدها بقنوط مرير قائلا: مثل حنان كانت محاولة خاسرة، مشابهة هي لصمت الموتى، ومطابق أنا لصراخ المتألمين.

هكذا يسدل “سجاد” ستارا سميكا وقاتما على مسرح في ذروة مشاهده، كما أقفل وأجفل من مهرجان تشكيلي لصديقه ميثاق، وترك القاعة وخرج، وكما فعلها أيضا في الوركاء في غضون زيارة الدكتور عامر وثلة من الأصدقاء، ليترك مشهد ثري للوصف والمشاهدة، ليبتر كل إسترجاعات الإنسان للحقيقة ولو بعد آلاف السنين، بإستبصار السحر وإجلاء مجد غابر من محيا جلجامش، وكل عظات سبق السومري للعصر، يأبى “سجاد” أن يكمل ويصغي، ليجفل، ويفعلها لاحقا في مسرحية من فصل واحد، ويخرج مختزلا كل نكايات الزمن والحكاية والصورة، ويحيلها كوقائع ناقصة المعنى والدلالة والضرورة.

يبقى جمال السرد وإبداع الفن في مغامرة تقديم الشخصية المتآكلة كالإنتماء والهوية، في طريقتها لسرد حاضر عراقي بحكاية تبدأ بشخوص معينة وتستمر بوجوه مغايرة حتي تنتهي بآخرين، في مباغتة جريحة لأشواق الإنسان وإنكساراته، عشقه وجنونه، بحثا عن الرموز الوجيهة لحب الأرض والإنتماء إليها.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة