إن الإعلان الرسمي الكردي عن مغادرة مسعود البارزاني قصرَ الرئاسة في كردستان بعد أيام يضع النهاية المؤلمة ليس لسجله السياسي الشخصي فقط، بل للزعامة البارزانية التاريخية أيضا، وقد يصبح بداية العد العكسي لعمر الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي احتكر السلطة زمنا ليس بالقصير.
وهذه الزلازل التي حدثت لكردستان العراق، والزلازل المقبلة إليها في قادم الأيام، من انحسارٍ وتدهور وفقدٍ حقيقي للاستقلال (الواقعي) الذي تحقق لها في العقدين الماضيين، مع احتمال فقدانها الحكمَ الذاتي الذي حصلت عليه من الرئيس الراحل صدام حسين الذي يشتمه الكرد ليل نهار، لم تكن لتحدث لو كان العراق دولة ً سوية مثل دول العالم العاقل، هيبتُها محترمة، وحدودُها وسيادتُها، وحقوقُ أهلها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية محفوظة، وقضاؤها عادل ومستقل يُنصف المتظلمين والمتضررين، ودستورُها مكتمل الصحة والعافية وغير ملغَّم بالقنابل والمفخخات، ومحميٌ ببرلمان فاعل وقوي ومؤتمن، ورئاسة جمهوريتها ووزرائها مهيبة، وجيشُها قوي متماسك محتفظ بوحدته الوطنية التاريخية المتوارثة.
ولكن رؤساء أحزاب الجبهة الكردستانية، ومسعود قائدُهم، وقادة أحزاب حلفائهم الإسلاميين الموالين لإيران، وحزب الدعوة زعيمهم، وعلي خامنئي وليُّهم، نكثوا بوعودهم أيام المعارضة السابقة، فاقتسموا الوطن مناصفة، ودفنوا أمل العراقيين في أن يكون النظام الذي يخلف ديكتاتورية صدام ديمقراطيا يحقق العدالة والمساواة لجميع المواطنين، بجيش واحد وحكومة واحدة ترفض وصاية رجل الدين أو رئيس القبيلة، وتمنع إنشاء المليشيات، ومحاصصة التحاور بالمفخخات.
والحقيقية أن مصائب الوطن العراقي كلَّها، من يوم ظهور داعش وحتى اجتثاثها وتحرير آخر قطعة من الوطن من شرورها، وخسائرُ كردستان أهمُّ بعضِها، من صنع فرد واحد أركبه على ظهور العراقيين ثلاثة، ابراهيم الجعفري وزلماي خليل زادة سفير أمريكا في العراق يومها وضابط ارتباط المخابرات الأمريكية في العراق.
وإليكم الحكاية كما رواها زلماي نفسه لصحيفة نيويوركر الأمريكية.
– غضب الرئيس الأمريكي جورج بوش (الإبن) على ابراهيم الجعفري بسبب وتردده وفشله وضعف شخصيته وتخلفه.
– سأل الرئيس الأمريكي سفيره زلماي: ” ألا يمكن التخلص من الجعفري؟” أجاب السفير: “نعم، ولكن الأمر لن يكون سهلا”.
– وقد كان الجعفري رافضا، بإصرار، أمر الإقالة الأمريكي.
– ولكن السفير البريطاني في العراق دخل عليه وبيده حقيبة سوداء، وأمره بالاستقالة، ولكن الجعفري استشاط غضبا، وكرر إصراره على عدم الاستقالة، ففتح السفير الحقيبة وعرض عليه وثائق بريطانية رسمية تفضح كونه لاجئا سياسيا في بريطانيا قبض، وهو رئيس ةوراء العراق، مساعدات مالية وخدمات، وقال له “إن لم تغادر، فورا، فسأعطي الصحافة هذه الوثائق. عندها احمرَّ وجه الجعفري واصفر، وتصبب عرقا، ووافق على الاستقالة مرغما، ولكن بشرط أن يخلَفه واحد من حزب الدعوة، ورشح علي الأديب.
– رفض زلماي تكليف الأديب، بعد أن اكتشف أن والده إيراني لم يغادر إيران.
– قال، شاكيا، لزائره مسؤولِ محطة المخابرات الأمريكية (سي آي أي) في العراق ” هل يعقل ألا يكون في بلد الثلاثين مليونا مرشحٌ واحد لرئاسة الحكومة سوى واحد ضعيف كالجعفري، وإيراني كالأديب؟!
– فرد ضابط الارتباط بالقول “لدي مرشح لك اسمه نوري المالكي”.
– وفي ليلة اليوم التالي، وخلال مأدبة عشاء في السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، سأل السفير الأمريكي نوري المالكي، هل تريد أن تصبح رئيسا لوزراء العراق؟. ويقول زلماي إن وجهه امتقع، وخاف وارتبك. ثم كانت الواقعة.
ورغم أنه أثبت فشله، في فترة رئاسته الأولى، وظهر فسادُه وطائفيته وجهله بالسياسة والقيادة، فقد فرضه مسعود البرزاني، باتفاق سري بينهما في أربيل 2010، رئيسا للوزراء فترة ثانية.
وعرفانا بفضل الكرد عليه أغمض نوري المالكي عن أقطاب أحزاب الجبهة الكردستانية، وعن مسعود البارزاني بشكل خاص، وسمح لهم بحلب الدولة، ونهب أموالها، وتخريب وزاراتها وسفاراتها حين كان محتاجا لسكوتهم عن فساده، ولتطنيشهم عن عمالته وحملات ظلمه وانتقامه من خصومه السياسيين السنة والشيعة، إلى أن اختلفت المصالح، وتصادمت الأهداف، وتفجرت نوازعه الديكتاتورية، وحبه المَرَضي للهيمنة، فمارس ضدهم كل أنواع الغرام والانتقام، ردا على إحسان، واعترافا بجميل.
هنا فقط أدرك مسعود وشركاؤه في الجبهة الكردستانية خطيئة التحالف معه، وراحوا يشتمونه، ويلعنون الساعة التي عرفوه فيها، ويتباكون على الوطن والمواطنين، ويتآمرون لعزله بأية وسيلة وأي سبب، إلى أن أسقطوه، و(أجازوا) ترئيس قيادي آخر من حزب الدعوة مكانه، هو حيدر العبادي، ولكن بعد فوات الأوان.
وكمن يهرب إلى أمام حكمت المآزق والاحتقانات الداخلية والخارجية المتلاحقة على مسعود البرزاني بركوب الصعب، والمقامرة بمستقبله السياسي وبمصير كردستان ذاتها، على أساس (فإما حياة تَسرُّ الصديق وإما مماتٌ يَغيظ العدا)، فقرر مكاسرة الحكومة المركزية، ومحاصرة خصومه في حزب جلال الطالباني وحركة التغيير بالاستفتاء، وبالتلويح بالانفصال، ليجد نفسه وحيدا في النهاية، مأمورا بالرحيل، غير مأسوف عليه.
شيء واحد حققه مسعود قبل رحيله المحتوم، وهو أنه ذبح نظام المحاصصة من الوريد إلى الوريد، ونَسَف النظام (الفيدرالي) المغشوش من جذوره، وجعل العراق، كله، من زاخو لحد الكويت، مستعمرة واحدة موحدة ملحقة بدولة الولي الفقيه. ولو كره الكارهون.