17 نوفمبر، 2024 8:21 م
Search
Close this search box.

لماذا لم يشهد العالم ديانات كبرى بعد الإسلام؟

لماذا لم يشهد العالم ديانات كبرى بعد الإسلام؟

سجن سيبينانغ في شرق جاكرتا، يقف كالقلعة المنيعة بأسواره العالية وأبراج المراقبة الموزعة على أركانه،، يفصل ضجيج المدينة الصاخب عن المجرمين القابعين داخل أبوابه.
هذا السجن معروف على المستوى الوطني باستضافته لأعتى المجرمين من دهاقنة المخدرات الذين تغطي الوشوم وجوههم وأذرعهم، وأباطرة الإرهاب الذين روعوا البلاد، ومن بين نزلائه أيضا شخص يدعى أحمد مُصدِّق، محكوم عليه بخمس سنوات، تهمته مختلفة وغريبة؛ إنه متهم بالهرطقة وابتداع دين جديد.

عريض المنكبين، رمادي العينين، يرتدي طاقية تشبه تلك التي كان يرتديها جواهر لآل نهرو، وتعلو وجهه ابتسامة ظافرة، لقد كان مصدق مدرب المنتخب الأندونيسي لرياضة البادمنتون ، ثم تحول إلى واعظ، فداعية، ثم في آواخر التسعينات ادعى أنه قد أوحي إليه أنه ابن الله.

منذ ذلك الحين إلى اليوم، أصبح له أتباع يقدرون ب 50 ألفا من الأندونيسيين والماليزيين المسلمين، إنهم اليوم يعتقدون أنه النبي الذي بعثه الله بعد محمد(ص)، وأسسوا حركة دينية تدعوا إلى تعاليم مصدق وطقوس الدين الجديد الذي أطلقوا عليه »ملة إبراهيم» ويعرف أيضا ب «جافاتار».

ليس هذا فحسب، فإن الحركة الجديدة اعتمدت على العمل الاجتماعي من خلال حركة اجتماعية موازية ، وتنادي في أتباعها بالعودة إلى الأرض بإحياء الزراعة، والاكتفاء الذاتي عن طريق الفلاحة، و قد اعتبر مصدق المدينة مجالا فاسدا، وأن أنجع وسيلة للعبادة؛ هي حرث الأرض في انسجام مع الطبيعة تحت ظلال مجتمع زراعي مؤمن.
بالنظر إلى حداثة التجربة، فإنها صورة حية للمراحل الأولى التي تمر بها عادة عملية إنتاج الديانات المستمرة، التي تعد قديمة قدم الإنسانية.

يرى علماء النفس أن المخاض الذي تمر به تجربة خلق دين ما أو عقيدة، هو ظاهرة نفسية، ومن عادة المتنبئين والزعماء الدينيين أنهم يَرَوْن في ذواتهم العظمة والشموخ والسمو الروحي والأخلاقي عن باقي الأفراد. هم أيضا في أنفسهم يجسدون ديانات صغيرة حية، لكنها لم توفق في اكتساح البشر مثل الديانات الكبرى لأسباب مختلفة، منها افتقاد الغموض وعتاقة الماضي، الحجب الصفيقة التي ترخيها مدة ألفي سنة مثلا، تعطي للفكرة مصداقية أكبر، وتضفي عليها عبقا أسطوريا ساحرا، بينما عندما يدعي مثلا كلود فوريلهون مؤسس ديانة الرايليزم في السبيعنيات أنه اطلع على أسرار أصل الإنسان، بعد أن اختطفه كائن فضائي، فإن ذلك يثير في النفس سخرية واستهجانا.

أمثال مصدق موجودون بيننا بكثرة، قد لا يدرك المسلمون كم بينهم من الزعماء الدينيين الذين لم تتح لهم الفرصة ليصبحوا أنبياء، وظلوا تحت جبة الإسلام، لكنهم رغم ذلك انتزعوا لأنفسهم شيئا من وظائف النبوة من خلال التشريع والفتوى، واقتطعوا قدرا من القداسة من خلال الألقاب والأزياء التي تميزهم عن الناس العاديين، وبعضهم أسس جماعات وأحزاب إسلامية ودعوية، سمحت لهم بممارسة سلطة النبوة بشكل ثانوي وغير صريح على الأتباع الذين يَرَوْن فيهم ظلال الله في الأرض ويخضعون لهم خضوعا مطلقا .

 

بعض الباحثين في الأديان الجديدة يقدر عدد الأديان المستحدثة في تاريخ أندونيسيا المعاصر بما يفوق عن 600 حركة دينية،هذا الأرخبيل من التجمعات الدينية في أندونيسيا، ليس أمرا فريدا في العصر الحديث، وبالرغم من تزايد الوعي العام، وتطور الفكر الإنساني، وتمدد العلم بالتكنولوجيا الحديثة، وارتفاع أعداد المتعلمين، فإن المجتمعات بمختلف تجاربها عبر العالم، ما انفكت تنتج باستمرار أديانا جديدة، وخصوصا في الدول التي تتسم حكومتها بنوع من المرونة في التعاطي مع المتنبئين و دعاة الاتصال بالإله، مثل الولايات المتحدة وكندا وروسيا، وحسب مجلة نيويورك تايمز فإن شريحة عريضة من 106 أشخاص الذين أدانهم القضاء في أندونيسيا بالكفر والزندقة منذ 2004، كانوا من المتنبئين وحوارييهم .

ومثل غيرها من الحركات، تأمل ملة إبراهيم في التوسع والتمدد حتى تغدو أكثر أتباعا من الإسلام والمسيحية باعتبارهما الديانتين الإبراهيميتين الأوسع انتشارا. ويعتقد مصدق أن الديانات الإبراهيمية قد استهلكت حيويتها، ويزعم أنها في طريقها إلى التفكك والاندثار بفعل البدع و الفساد الذي داخلها والجوع إلى الحكم والسلطة، إلى أن يظهر في الناس الرسول المجدد الذي سيعيد إحياء العلاقة الإبراهيمية الأصيلة مع السماء.

لا يرى مصدِّق في الأحوال المضطربة التي يتقلب فيها الشرق الأوسط، وشيوع القتل في مدنه والحروب المستمرة بين طوائفه، إلا إحدى الإشارات إلى أن الإسلام قد بلغ مداه، و أن دوره قد حان ليستلم مشعل النبوة ويجدد للناس دينهم، مثلما كانت اليهودية متبوعة بالمسيحية، وهذه الأخيرة بالإسلام، فملة جافاتار سوف تخلف الإسلام.

إن مثل هذه الحركات الدينية تجد شعبية في المجتمعات المتخلفة في دول العالم الثالث، وحتى بعض المجتمعات المتقدمة المحافظة في الغرب، حيث يسهل استقطاب البسطاء ومتواضعي الثقافة والأميين نحو أي دعوة روحية تلعب فيها كاريزما الزعيم وبلاغته الخطابية وإدراكه لنفسية المخاطبين وتلاعبه بمشاعرهم، دورا محوريا في ضم الأتباع وتمدد الدعوة.

لكننا نلاحظ أن الدعوات الدينية والزعماء الذين يدعون النبوة قد عجزوا على امتداد 1400 عام منذ ظهور الإسلام، على خلق ديانة أممية بحجم الإسلام أو المسيحية، وظلت الديانات الأربعة: المسيحية والإسلام والهندوسية والبوذية، تحتكر وفاء 92% من سكان المعمور من المؤمنين.

لعل أهم الأسباب التي ساهمت في حصر تلك الدعوات في أعداد ضئيلة لا تبلغ حد منافسة الأديان الكبرى، هو التضييق الذي تواجهه تلك الأقليات من طرف الحكومات، فقد أكدت تقارير منظمة هيومن رايتس ووتش أن أندونيسيا تعد من الدول الأكثر انتهاكا لحقوق الأقليات الدينية.

فقد حلت الحكومة حركة جافاتار، وبعد ذلك بوقت قصير قام الأهالي الغاضبون بحرق الأراضي الفلاحية التي هاجر إليها أتباع أحمد مصدق في أقصى البلاد، حيث باعوا ممتلكاتهم في مدنهم الأصلية ليعتزلوا الناس ويمارسوا أنشطتهم الزراعية والروحية بعيدا عن مضايقات السكان، في بلاد ذات أغلبية مسلمة مثل أندونيسيا.

كانت فلسفة مصدق تكمن في الدفع بأتباعه نحو نمط من العيش أكثر راديكالية، ورأى في أنه لا بد أن ينأى بفصيله عن المجتمع ذي الأغلبية المسلمة؛ حتى تخلو له أجواء الإعداد وأسباب الدعوة بعيدا عن أي عوائق ومنغصات من طرف الحكومة أو الشعب على حد سواء.

كانت دعوة مصدق تشبه كثيرا ما حدث مع الزعيم الروحي جيم جونس في الولايات المتحدة؛ الذي أقنع أتباعه بالرحيل إلى منطقة قاصية من أدغال غوايانا للعمل على إنشاء مشروع زراعي ضخم، ثم ما لبث أن تسبب في عملية انتحار جماعي ل900 من أتباعه عن طريق تناول سم سيانيد في سبعينات القرن الماضي، من ضمنهم 300 طفل.

لقد أعادت السلطات الأندونيسية 7000 من أتباع مصدق إلى أقاليمهم الرئيسيّة على متن الطائرات والبواخر بعد انتزاع الأراضي الفلاحية منهم، وأدان القضاء 25 عضوا في الحركة بالكفر والهرطقة، أما باقي أعضاء التنظيم فقد فرضت عليهم الحكومة الالتحاق بدروس التوعية الدينية لإعادتهم إلى صحيح الإسلام.

فالملاحقات التي تمارسها الدولة بمعونة السلطة الدينية في المجتمع سبب رئيس في انحسار الأديان الجديدة والحيلولة دون تكوين دين أممي كبير، حيث يلعب رجال الدين دورا بارزا في هدم المعتقدات المحدثة لصالح المعتقد التقليدي الأول، الذي يتمتع بدعم الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية، ويحول القانون في الدول الإسلامية خاصة دون تكوين جمعيات دينية تدعو إلى معتقدات جديدة، الأمر الذي تناهضه بشدة منظمات حقوق الإنسان وترى فيه تعديا على حرية التعبير والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية.

وبالرغم من ظهور أديان جديدة في العصر الحديث نجحت في حصد ملايين الأتباع مثل ديانة المورمونيين في ولاية أوته في أمريكا الشمالية التي نشأت قبل قرن ونصف، أو الساينتولوجيين، أو البهائيين، فإنها تبدو كالكويكبات المتناهية الصغر بالمقارنة مع الأديان الأربعة الكبرى، فالبهائيون رغم أعدادهم الكثيرة نسبيا، حوالي 7 مليون منتسب، و هو ما قد يعطي انطباعا بالدهشة، لكنهم في الحقيقة لا يمثلون سوى 0,1 من سكان الأرض، مع العلم أن البهائية أسست قبل 150 عاما تقريبا، منذ 1863.

ويرجع ذلك النمو البطيء كما ذكرنا إلى مضايقات السلطة، فالبهائيون في مصر مثلا لا يحق لهم تسجيل ديانتهم في خانة الديانة في بطاقة الهوية، وقبل أيام منعت السلطات المغربية معتنقي الديانة البهائية من إقامة احتفالات رسمية بمناسبة مرور 200 عام لولادة بهاء الله مؤسس الديانة، وقد اعتادت السلطات في المغرب على منع أي نشاط دعائي للطائفة، وظلت تعتبر دعوتهم تهديدا لثوابت الأمة المغربية.

لكن ليس هذا هو العامل الوحيد في عدم انتشار الأديان الجديدة، لأن هناك بلدانا تسمح بقيام مثل هذه الدعوات، وممارسة أنشطتها بحرية مطلقة، لكن هناك عوامل ذاتية تخص جاذبية الأفكار التي ينتجها الدين الجديد، وهل يجيب على الأسئلة الوجودية التي تشغل الإنسان، لابد أن يهيئ إجابات مقنعة لمعنى الحياة والموت، ولابد أن يتمتع بطابع اجتماعي، و خطاب عقلاني يأخذ في الاعتبار معطيات الحداثة و التحولات البنيوية للمجتمعات المعاصرة، كما ينبغي ألا يكون على تضاد مع حقائق العلم الحديث و المعطيات العلمية في تفسير الظواهر الطبيعية، لأن الناس باتوا يكنون احتراما كبيرا للنظريات العلمية، وهذا ما جعل كثيرا من الأديان الجديدة تخفق في ذلك لحد الآن.

 

أحدث المقالات