17 نوفمبر، 2024 8:28 م
Search
Close this search box.

السياب بتمامه : مسيرة حياته وشعره حتى الشمس أجمل

السياب بتمامه : مسيرة حياته وشعره حتى الشمس أجمل

الحلقة الثانية
11 – البروز في الساحة البغدادية :
أخذت بغداد تسمع له، وتحتفي به عند المشاركة في مناسبات اجتماعية، وندوات أدبية كالاحتفال بذكرى الرصافي، ومرور أربعين يوماً على وفاة عبد المسيح وزير، وتهنئة الشاعر خضر الطائي عندما يفوز بجائزة، لفت الأنظار بجديده وإلقائه، إذ يذوب في الكلمة، ويتفاعل معها بحركات غريبة، وإسلوب مؤثر، وراح يرتاد مقاهي بغداد الأدبية كالبرازيلية والزهاوي والبلدية لتوثيق علاقته الاجتماعية، والإحتكاك بالمثقفين ممن غدوا فيما بعد رواد حركة الشعر الحر أمثال بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي ورشيد ياسين وسليمان العيسى، ولاننسى الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي بقى محافظا على القصيدة العمودية، ومرة ينزوي في مقهى إبراهيم عرب أو مقهى مبارك لينفرد مع كتبه ودواوين شعراء العصر العباسي الكبار، وطوراً يطل على مقهى حسن عجمي لملاقاة الجواهري، والتمتع بالحديث معه إعجابا وتقديراً، وكان السياب على معرفة بالأستاذ المحامي ناجي العبيدي صاحب جريدة (الاتحاد) في الصابونجية، الذي نشر له أول قصيدة عام 1945، ويزعم السياب أن النشر قد تم سنة 1941، ويتزود شاعرنا بالتراث الشعري العباسي، ويبدأ مع مهيار الديلمي والبحتري، ويقرأ (الشعر والشعراء) لابن قتيبة الدنيوري، ثم يواصل مسيرته مع المتنبي وببعض قصائد ابن الرومي، ولكنه يزداد تعلقاً بأبي تمام المجدد والمصور والمبدع، وفي وقت مبكر كبادرة لانفتاحه على الأدب الأوربي، يطالع كتاب أحمد الصاوي محمد عن الشاعر الإنكليزي برسي شللي، ثم يرجع للأصل الإنكليزي لشعر الشاعر حتى يعمق معرفته، ثم يتجه لنهم ترجمات علي محمود طه، وأحمد حسن الزيات لقصيدة (بحيرة)لامارتين، وأشعار الفريد دي موسيه، استعار شاعرنا – وهو في زحمة القراءة والكتابة – مقولة المعري (تراني في الثلاثة من سجوني)، جعلها سجناً واحداً، وأغلالاً متعددة في قصيدته (السجين):

(سجين ٌ)، ولكن ّ سجني الكتاب **** وأغلالي الآسرات الســـــطور
فما بين جنبيه ضاع الشبـــــــــاب *** وفوق الصحائف مات السرور

وفي الجامعة تحرك السياب في السنة الدراسية (1944-1945) لتشكيل جماعة (أخوان عبقر) وهدفها الاهتمام بمواهب الشعراء الشباب، وإقامة الندوات الشعرية والأدبية، والتطرق إلى أهداف الشعر وأثره في الحياة، وكانت الشاعرة نازك الملائكة، والأستاذ كمال الجبوري والدكتور المطلبي من المؤسسين، وساهم عميد الدار الدكتور متي عقراوي و الأساتذة العراقيون والمصريون في دعمها.

وعندما نجح للصف الثالث (السنة الدراسية 1945-1946)، حاول بإصرار الانتقال لفرع اللغة الإنكليزية، ليتخلص من الاعتماد على القواميس عند ترجمة نتاج شعراء الإنكليز الكبار، ثم إنها محاولة كسر الجمود الصامت في كيان التراث الشعري العربي …نعم إنها محاولة جادة وخارقة من مبتدىء مغوار تحمل بإصرارتغيير الأقدار ..اقدار الشعر العمودي ونهجه، نجح في هذا طائراً إلى أفق جديد، و شاركته في مسعاه الحميد رفيقة دربه، وزميلة درسه، وسامعة شعره، وزفرات لوعته في باحات الكلية، ورحاب قاعاتها الشاعرة الرائعة نازك الملائكة، وإن كل واحد منهما ادعى الريادة الريادة، فكلاهما رائدان، والطريق يتسع.

12 – الانتماء للحزب الشيوعي العراقي :

وفي أواخر سنة 1945 يختارشاعرنا أرضا لا يجيد السير عليها، وبقدمين لم يخلقا لهذه الأراضي الوعرة، إذ يتخذ موقفاً سياسياً بانتمائه للحزب الشيوعي العراقي متأثراً بشخص مثقف من الأهواز اسمه أحمدعلوان وعمه عبد المجيد، كان الأجدر به أن يكون حر الإبداع والرؤيا، لأنه يمتلك جناحين جبارين يحلق بهما في الأجواء العالية، ولكنهما يعيقانه عن المشي على الارض، كما يقول شارل بودلير في أزهار شره، فالسياسة مكانها الأرض، والشعر مجاله السماء، فعند الهبوط ..التصادم واقع لا محالة، والتعثر ضريبة مستحقة الدفع، والرجل وقع..ودفع ..ودفع ..والقصة آتية، خسر الملذات الفانية، وربح الذكربالباقية، بمعنى آخر، السياسة واقع يوعد بالأحلام، والشعر أحلام تتمنى الوقوع، والسياسة علم يبنى عليه، والشعر خيال يتطلع إليه، لذلك هو يرجو، ويتمنى، ولا يرى، ربما إلى مدى، يقول سيابنا الجميل:

وأين القطاف؟
مناجل لا تحصد،
أزاهرلا تعقد،
مزارع سوداء من غير ماء !
أهذا انتظار السنين الطويلة ؟
أهذا صراخ الرجولة ؟
أهذا أنين النساء ؟
أدونيس، يا لاندحار البطولة .
لقد حطم الموت فيك الرجاء
وأقبلت بالنظرة الزائغة
وبالقبضة الفارغة

لم تكن صرخاته الثورية، ومواقفه الوطنية، أقل شأناً، وأضعف رابطة من الرصافي أو الجواهري، إن لم تكن أكثر ألماً وتوجعاً، مهما يكن من أمر، الرجل شارك في مظاهرات، وإضرابات أواخر السنة المذكوره، وسجن بداية سنة 1945 وأطلق سراحه، وفصل من الدراسة، ، وضاعت عليه السنة، ودفع ثمن النضال .ولكن يواصل دراسته للسنة الدراسية (1946- 1947)، ؤيدخل السنة الثالثة، فرع اللغة الإنكليزية، فحقق بعض ما يصبو إليه – وسط اندهاش زملائه وزميلاته، وتساؤلاتهم عن شاعر عربي يهجر عربيته – وذلك بالتعرف على شعر وودزورث وكيتس وشللي، ويعجب بشعر أليوت وأديث سيتويل، ومن ثم يقرأ ترجمة أزهار شر شارل بودلير، فتستهويه، ويضمّن بعض المقاطع الشعرية لهم في شعره المستقبلي، أو يتأثر بها شكلاً ومضموناً بشكل جلي وواضح، أو يستوحي أفكارها وصورها، صائغاً ذلك حسب شاعريته الفذة وعبقريته، والشعر العالمي يؤثر، ويتأثر.

ولابد من التعريج على موقفه السياسي في هذه الفترة، ففي تموز 1946 وكان حينها بدر قابعاً في قريته، مفصولاً من كليته، يلجأ إليه أحد قيادي الحزب الشيوعي الملاحقين ( نعيم طويق)، بأمر من قيادة الحزب نفسه، فهيأ له مكاناً بين أحد بساتين النخيل، ويتثقف عليه المادية الديالكتيكية، والشؤون الحربية، وفي إحدى الليالي، صحب صاحبه إلى جلسة طرب في بستان مجاور، ودارت عليهما الخمرة، فسكرا.

وفي بداية السنة الدراسية 1946- 1947، يعود المفصول إلى داره العالية، ويواصل دراسته، وأول عمل قام به يزور رفيقه القيادي المعروف حسين الشبيبي – الذي أعدم من بعد – فيكلفه بقيادة رفاقه في الدار، يفرح لهذا الأمر بادئا، ثم يعتذر لصعوبة المهمة السياسية، وضعف القدرة البدنية.

13 – السياب يبدأ مرحلة شعر التفعيلة…ويشهر ذلك …ولنازك رأي.

في كانون الأول من عام 1947، يصدر السياب مجموعته الشعرية الأولى (أزهار ذابلة) من مطبعة الكرنك بفجالة القاهرة، تتضمن قصيدته (هل كان حباً)، والتي يزعم أنه نظمها عام 1946، وهي متعددة البحور والقوافي، أو بكلمة أدق من بحر (الرمل ومجزوءاته) . بقواف مختلفة، أي التفعيلة (فاعلاتن)، تتكرر بأعداد متباينة من شطر إلى آخر، وهذا التغيير يعتبر طفيفاً، ولكن كبداية تحسب له طفرة رائدة، ترتب عليها ما بعدها، وإليك بعض من (هل كان حباً) :

هل تسمين الذي ألقى هياما ؟
أم جنوناً بالأماني ؟ أم غراما ؟
ما يكون الحب نوحاً وابتساما
أم حقوق الأضلع الحرى، إذا حان التلاقي
لعيون الحور، لو أصبحن ظلاً في شرابي
جفت الأقداح في أيدي صحابي
دون أن يحضين حتى بالحباب
هيئي يا كأس، من حافاتك السكرى، مكانا
تتلاقى فيه يوماً شفتانا
في خفوق والتهاب

هذا ما ثبته السياب، وسجل له، وقيد باسمه، وسانده روفائيل بطي، ودعمه قي موقفه، بكتابة مقدمة لأزهاره الذابلة قائلا: عسى أن يمعن في جرأته في هذا المسلك المجدد، لعله يوفق الى أثر في شعر اليوم، فالشكوى صارخة على أن الشعر العربي قد احتفظ بجموده في الطريقة مدة أطول مما كان ينتظر من النهضة الحديثة.

ونازعته نازك الملائكة على تجديده زاعمة الأسبقية لها، وإنها استوحت في 27 -10- 1947 أصوات سنابك الخيل الناقلة لجثث موتى وباء الكوليرا الذي حل بريف مصر، فنظمت قصيدتها (الكوليرا)، من شعر التفعيلة، وعرضتها على أمها، فاستصغرت التجربة، أما أبوها فسخر منها، وأصرت هي عليها ونشرتها، فكانت الرائدة، ويقول النقاد القضية لم تحسم بعد، وإليك مطلعها:

سكن الليل
اصغ إلي وقع صدى الآنات
في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات
صرخات تعلق تضطرب
حزن يتدفق يلتهب
يتعثر فيه صدى الآهات

نشرت هذه القصيدة في ديوان نازك (شظايا ورماد)، الذي صدر 1949، ومعظم قصائده تجري على النمط الجديد من الشعر، والحقيقة كانت الشاعرة أكثر ادراكا لجديدها، وأعلنته رسميا، والسياب يذكر – كما يقول الدكتور احسان عباس في مؤلفه عنه -:ومهما يكن، فأن كوني أو نازك أو باكثير، أول من كتب الشعر الحر، أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم، وإنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر، فيجيد فيما كتبه.

14 – تجربته العاطفية الأخيرة مع الشاعرة ….ويبقى حتى الزواج.

وعلى الجانب العاطفي، في السنة الدراسية الأخيرة له في داره العالية (1947- 1948)، يجرب حظه هذه المرة مع شاعرة عراقية معروفة، كانت علاقتهما أولا ذات طابع سياسي، ثم تمتنت روابط الصداقة، لتتحول إلى وشائج حب عاطفي، يهيم بهما للارتماء في أحضان جيكور ثلاثة أيام بلياليها، وينظم أشعار العشق والغرام فيها بين زوارق الأحلام، وبساتين الهيام، ولكن حاجز الدين أقوى من غرائز اثنين، فتقف الأمور عند حدها لهذا السبب أو لآخر، ربما الشعر يغري، والهيئة تزري، والنساء يغرهن الثناء، والله خير العالمين !، فمن ديوانه ( أساطير)الذي خصص معظم قصائده عنها، إليك من قصيدة (وداع)، ما يستطاع :

ستنسين هذا الجبين الحزين
كما انحلت الغيمة الشاردة
وغابت كحلم وراء التلال
بعيدا..سوى قطرة جامدة
ستنثرها الريح عما قليل
وتشربها التربة الباردة
********
ورب اكتئاب يسيل الغروب
على صمته الشاحب الساهم
وأغنية في سكون الطريق
تلاشت على هدأة العالم
أثارا صدى تهمس الذكريات
إذا ما انتهى همسة الحالم
**********
تلفت عن غير قصد هناك

فأبصرت ..بالانتحار الخيال!

حروفاً من النار..ماذا تقول؟

لقد مر ركب السنين الثقال

وقد باح تقويمهن الحزين

بأن اللقاء المرجى..محال!!

يصاب الرجل بخيبة أمل كبيرة في الحب، عشق سبعاً، وما نال حب واحدة، عدد معي رجاء، وفيقة، هالة، لميعة، ناهدة، لبيبة (لباب)، لمياء، أليس، ولك أخريات من وهم الخيال، ليلى، سلوى، نادرة ….وإليك مايقول معترفا للباريسية، وقيل البلجيكية الأنسة لوك لوران :

وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا
ولكن كل من أحببت قبلك ما أحبوني
ولا عطفوا علي، عشقت سبعاً، كن أحيانا
ترف شعورهن علي، تحملني إلى الصين
سفائن من عطور نهودهن، أغوص في بحر من الأوهام والوجد

امرأة باعته من أجل المال، والأخرى من أجل الجمال، ولو كانت أكبر منه سنا، والثالثة تريد قصراً وسيارة، وما عنده غير كوخ وحجارة، ودفتر أشعاره !….. والأخيرة شاعرة، تختلف عنه بالديانة….ونحن بالانتظار أن تقبل عليه (إقباله) . وفي بداية الانتظار يصر شاعرنا على الانسلاخ من روابط الحب السرابي، لينطلق نحو رفاق السياسة، وأصدقاء العلاقة، ففي قصيدته (سوف أمضي) من (أساطيره)، يقول :

سوف أمضي حول عينيك، لا ترنّي اليا
إن سحراً فيهما يستوقف القلب الكسيرا
أتركيني ها هو الفجر تبدى، ورفاقي في انتظاري

ليس هذا فقط، بل أخذ السياب في قصيدته ( ليالي الخريف)، من نفس ديوانه (الأساطير)، وفي السنة ذاتها 1948، تراوده عقدة الموت، بلا مقدمات تذكر ه به، ولا أمراض تشير إليه، إنها الهواجس، والاضطراب النفسي القلق:

كيف يطغي على المسا والملال!؟
في ضلوعي ظلام القبور السجين
في ضلوعي يصيح الردى بالتراب الذي كان
أمي، غدا سوف يأتي
فلا تقلقي بالنحيب
عالم الموت حيث السكون الرهيب
سوف أمضي كما جئت وا حسرتاه!

واتنهت المرحلة الرومانتيكية المبكرة لشعره، وكان نتاجه فيها تسعاً وتسعين قصيدة، مغناة، لاتتصف بالطول، نظمها ما بين (1941-ومنتصف 1948)، وتضمنتها دواوينه (أزهار ذابلة 1947)، ( أعاصير 1948) حافظ الشاعر في هذا الديوان على الشكل العمودي في قصائده ذات المضمون الإنساني ، (أساطير1950)، أعاد الشاعرطبع قصائد الديوان الأخير في ديوان (أزهار و أساطير) باستثناء ( سراب، عبير، عينان زرقاوان، يا ليالي، خطاب الى يزيد، إلى حسناء القصر)، ثم ضمنت بعض قصائد هذه المجموعات في دواوين طبعت فيما بعد.

15 – من تخرجه…حتى خروجه من الحزب الشيوعي …بداية مرحلة شعرية جديدة.

يتخرج السياب من داره العالية صيف 1948، ويتعين مدرسا للغة الأنكليزية في مدينة الرمادي في خريف السنة نفسها، ينزل في أحسن فنادق المدينة، خلّف علاقته العاطفية وراء ظهره بعد اليأس والملل، ومعرفة حقيقة نفسه، وواقع أمره، ثم إنه ودع الحياة الجامعية، وعهد الاختلاط بالجنس الآخر، لذلك توجه الرجل للمجال السياسي، والعلاقات الاجتماعية، والنواحي التثقيفية، فأخذ يشغل نصف الوقت المخصص للدروس في مدرسته بالأحاديث السياسية، وبث مبادئه العقائدية بكل حماس، وإلقاء قصائده الشعرية.

ومن الجدير ذكره، كان العراق منذ بضعة أشهر قد مرّ بمرحلة سياسية صعبة جداً، فرئيس الوزراء صالح جبر عقد معاهدة بورتسموث مع بريطانيا العظمى، والشعب قد رفضها، لإحساسه بالظلم والجور، فتحركت الجماهير وأحزاب المعارضة – ومنها الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه الشاعر – فألهبت الساحة، وأثارت مشاعر الناس، فثار الطلاب وأضربت بعض الكليات، حتى أنتهت الأحداث بإتفاضة 27 كانون الثاني 1948، فاستقال رئيس الوزراء، وهرب إلى الخارج، وحل محله السيد محمد الصدر، ولما أوشكت الذكرى الأولى لها تعود بدايات 1949، أخذت الحكومة تعد العدة لتسير الأمور بشكل سلس وطبيعي، فجعلت العطلة النصقية للمدارس والجامعات تترافق مع الذكرى، تحاشيا للتجمعات والتكتلات، وحاصرت بعض أعضاء الأحزاب المعارضة وأعتقلتهم، وحددت موعداً لتنفيذ حكم الإعدام الصادر بحق فهد ورفقيه، سكرتير وعضوي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي .
16 – فصله من وظيفته التدريسية ، واعتقاله.
فكان من نصيب بدر من هذه الأجراءات، أن يفصل من وظيفته التدريسية، بعد أن قضى فيها أكثر من ثلاثة أشهر، فتبخرت آماله المهنية والاقتصادية، وزاد الأمر سوءا، بأنه أعتقل عند عودته إلى قريته في يوم ممطر حزين، ونقل إلى سجن البصرة، ثم معتقل الكرخ ببغداد، وأطلق سراحه بعد ثلاثة أشهر بكفالة تضامنية من قبل أبيه مقدارها خمسة آلاف دينار عراقي.

في فترة الرمادي نظم أول قصيدة مطولة وسمها (في السوق القديم)، وقسمها أحد عشر مقطعا، أشار في مقاطعها الأخيرة إلى شاعرته المفقودة، ودموعه المسكوبه :

الليل، والسوق القديم
خفتت به الأصوات إلا غمغمات العابرين
وخطى الغريب
وما تبث الريح من نغم حزين
في ذلك الليل البهيم
الليل، والسوق القديم، وغمغمات العابرين
والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب

مثل الضباب على الطريق
من كل حانوت عتيق
بين الوجوه الشاحبات، كأنه نغم يذوب
في ذلك السوق القديم
**********
أنا من تريد، فأين تمضي بين أحداق الذئاب
تتلمس الدرب البعيد؟
فصرخت:سوف أسير، ما دام الحنين إلى السراب
في قلبي الظامي ! دعيني أسلك الدرب البعيد
حتى أراها في انتظاري: ليس أحداق الذئاب
أقسى علي من الشموع
في ليلة العرس التي تترقبين، ولا الظلام
والريح والأشباح، أقسى منك أنت أو الأنام
أنا سوف أمضي ! فأرتخت عني يداها، والظلام
يطغي
ولكني وقفت وملء عيني الدموع!

17 – بعد خروجه من السجن ، يتقلب بين العمل والبطالة والتسكع وطبع الديوان الأول :

انتهى أمر الشاعرة ! بعد أن كفل الأب ابنه الشاعر، وأخرجه من السجن، اشتغل السياب عاملاً في مصلحة التمور العامة كذواقة للتمور، وهذا دليل على معرفته لأنواعها، ومن ثم عين كاتبا في شركة نفط البصرة، وشاءت الصدف أن يضرب عمالها عن العمل مطالبين بحقوق افتقدوها، وساهم الشاعر بطلب حزبي بتأجيجها واستمراريتها حتى تحقيق أهدافها، واستمر هذا الحال أواخر سنة 1949، وبداية السنة التي تليها، وتحققت بعض المطالب، وعدّ الأمر انتصارا، ولكن السياب فقد عمله جبراً أو اختياراً، وذهب صاحبنا إلى بغداد بحثاً عن العمل والنشر والشهرة والانفتاح، بعد أن ذاقت به الأمور، وتوقف عن كتابة الشعر، فما وجد في العاصمة إلا البطالة، والتسكع في مقاهيها، ويترددعلى مقهى حسن عجمي على الأخص، يساعده أصدقاؤه المقربون لتسيير عجلات الحياة، أمثال أكرم الوتري ومحي الدين اسماعيل وخالد الشواف إلى أن وجد عملاً في إحدى شركات تعبيد الطرق، وخلال تلك الأيام العصيبة، واللحظات اليائسة، والانتقال من عمل يدوي إلى غيره، يعرّفه الوتري على الشيخ علي الخاقاني صاحب مطبعة البيان النجفية، فيتفق معه لطبع ديوانه (أساطير)، ومما يفهم من إهداء الديوان إلى أخويه الكريمين في صدره (ص2)، إنهما ساعداه في طبعه، ووقع على الشيخ أيضا نشره، وقدم له قبل مقدمة الشاعرالتي جاءت لتسليط الضوء على تجربته الشعرية، ومعرفة ظروف النظم من أحاسيس وانفعالات وصور، ولكن لا تدل هذي المقدمة السيابية على عمق نقدي، وتصور واضح عن تجربته الرائدة.

المهم كما ذكرنا سابقا، معظم الديوان يتضمن شعراً عن حبيبته الموعودة، وشاعرته الجميلة المفقودة، وقصائده كلّها قد نظمت في السنة الأخيرة من داره العالية (1947-1948)، ومن قواف مختلفة لبحور متقاربة، وتفعيلات بتعداد متباين حسب أطوال الأشطر وقصرها، ولكن القصيدة العمودية الوحيدة في الديوان، هي (خطاب الى يزيد)، ربما أدرجت بطلب من الخاقاني، والقصيدة ألقيت في عاشوراء سنة 1948 بقاعة ثانوية العشا ر، ويقارن فيها صورة الشهيد المثالي، بالطاغي المتعالي، ويرسم مأساة الفاجعة، ويستوحي شخصية بطلتها الحوراء، ولا ينسى ان يستلهم رسالة غفران المعري، وكوميديا إلهية دانتي لصور الجحيم والعذاب الأليم، فتراه يخاطب يزيد في رسالته إليه قائلاً :

إرم السمــــــــــاء بنظرة استهزاء *** واجعل شرابك من دم الاشلاءِ ِ
واسحق بظّلك كلّ عرض ٍ ناصعٍ*** وأبح لنعلك أعظم الضعفـــــاء
وأملأ سراجك إن تفضى زيتـــــه *****مما تدرّ نواضب الأثـــــــــــداءِ ِ
واخلع عليه كمــــــــــا تشاء ذبالة ً **هدب الرضيع، وحلمة العذراء ِ
واسدر بغيّك يا يزيد فقـــــد ثوى **عنك الحسين ممزق الأحشــــاء
تلك ابنة الزهراء ولهى راعـــهـــــــا*****حلم ٌ ألمّ بهــــــــــــا مع الظلماء ِ
يكتظ ّ بالأشباح ظمأى حشرجت ***ثمّ اشرأبت في انتظار المـــــاء
أيد ٍ تمد ّ الى السمـاء وأعينٌ ******ترنو الى المــــــاء القريب النائي
عز ّالحسين، وجلّ عن أن يشـــترى **** ري ّالقليل، بخطة ٍ نكــــراء

18 – نظم المطولات .

يشرع السياب في هذه المرحلة من حياته بنظم مطولاته السياسية والاجتماعية، ولكونه مازال عضواً فعالاً في الحزب الشيوعي، يفجّر (فجر السلام) مشحونة بشعارات حركة السلم العالمي، وأشكال السلام في البلدان الاشتراكية والرأسمالية، دون أن ينسى تشبيهه لها بالأم الرؤوم، والحصن الأمين، القصيدة ولدت بأنفعال عاطفي آني، وصور شعرية فنية عادية، أحلام وردية لدنيا مثالية، متناسية في غمرة الشعارات الرنانة الصراع الأزلي الواقعي بين الإنسان وأخيه الإنسان من أجل المصالح واللذات وحب التسلط، هدفها سياسي بحت، لذلك لم يبال ِأن تنشر دون ذكر اسمه، وسخر منها لاحقاً حين تم الطلاق مع حزب الرفاق، ولكنها تعتبر تحولاً عن نهجه الرومانتيكي، وتكريساً لما بدأه من مطولات، مثلها مثل ( القيامة الصغرى) – التي لم يكتمل نشرها -، و ( مقل الطغاة)، ولكي لا نطيل، نسمعك بالهمسات بعض اللمسات من الشعارات:

لاشهوة المـــــــــوت في أعراق جزّار ِ ***تقوى عليها، ولا سيلٌ من النار ِ
المـــــــــوت أزهى سدا من أن يشـابكها ***وهي التي مـــدّت الموتى بأعمارِ
وهي التي لمّت الأحقــــاب واعتصرت **ممّا انطوى في دجاها فيض أنوار ِ
هذي اليد السمحة البيضــــاء كم مسحت ***جرحـــاً، وكم أزهقت أنفاس جبّار ِ
وأطلقت في الدجى الأعمى حمــــــامتها ****بيضاء كالمشعل الـــوهاج في غار ِ
سل تاجر الموت كيف اصطك من فزع ٍ *** لمّا رآها، وكــــــــــــم أودت بتجّار ِ
وسمّرت نعش طاغوت بما شرعــــــــت ***كفاه مــــــــــــن خنجر ٍيدمى وأظفار ِ

أراك ترى المصطلحات المألوفة للخير والشر، الموت..الجّزار..النار ..الدجى ..الأنوار..اليد السمحاء ..والحمامة البيضاء ..الجرح ..تاجر الموت، وإلى آخره من طغاة وخناجر وأظفار ، ماهو الجديد سوى التشكيل والنشيد، وهو يواصل المسير ليذكر متناقضات الحياة، والأمل المنشود للإنسان المنكود :

عيون ٌوراء المدى *** تنام وترجـــــــــو الغدا
دفوق السنا باسطاً *** لأحلى رؤاهـــــــا يدا
ستجبلهــــــا ولقعاً **** نقياً كذوب النــــــدى
يكفّر عمّـــا جنت *** * عصورٌ طواها الردى
وفي الحقل بين الظلال ** عذارى حملن السلال
لهنَّ الهـــــــوى والغنـــــــاء****وللظالمـــــــــين الغــــــلال

أكتفي بهذا القدر من القصيدة، ليرجع إليها من يشاء، فهي سياسية بإمتياز، ترى الحق والخير والأمل مع اليسار الاشتراكي، والقتل والاستغلال والدمار واليأس عند اليمين الرأسمالي، تسير بانسياب جميل، وتشكيل جيد، وهي من بدايات مطولاته، المتعددة القوافي والبحور، يستدرجها مرات للقصيرة منها، ليسهل حفظها وإنشادها من قبل الجمهوروالعموم، وصفها السياب انّها ” كانت من الشعر الشيوعي النموذجي، فقد شحنتها بأفكار حركة السلم .” كتبها 1950، نشرت أول مرّة في كراس خاص دون ذكر الشاعر، ثم قدمها عطا الشيخلي في كراس خاص، ثم طبعت ضمن مجموعة نشرها باقر الموسوي بعنوان (هديل الحمام)، واصدرتها( دار العودة) – بيروت – من بعد سنة 1974، وقدم لها ناجي علوش بكلمة، وشرحها الدكتور إحسان عباس، إضافة الى مقدمة السياب عن أهداف حركة السلم وغاياتها.

والمطولة الأخرى في هذه المرحلة . والتي نشرت 1952، هي اجتماعية بتداخلات سياسية، وسمها بـ ( حفار القبور)، وكما تعلم أن مهنة حفر القبور مهنة صعبة عملياً ونفسياً، وهي ضرورة شرعية وصحية واجتماعية، ولكن الشاعر -وهو أدرى بذلك – ذهب به الخيال ليجعل منها قصة ألف ليلة وليلة، وكأنما هذا المسكين بيده مفاتيح الموت والحياة، ولا يشتغل عزرائيل إلا لحسابه الخاص، يطلب من الله أن يساعده على إنطلاق الحروب المدمرة كي يرتزق، ومن ثم يمجن ويعبث ويسكر، وهو الذي يدفن أمه وأباه، وأخته وأخاه، وإذا اقتضى الأمر يعاشر المومس ليلاً، ويسترد ما أعطاه لها في الحياة من بعد الموت، ولا يريد بالطبع شاعرنا إلا ( الرمزية) للطغاة و تجار الحروب والموت والدمار، الذين لا يرحمون بعيداً ولا قريباً، ولا شريفاً ولا وضيعاً، يستغلون الإنسان أبشع استغلال، فالمجرمون هم الطغاة، وليس حفار القبور:

وغداً أموت غداًأموت
وهزّ حفار القبور
يمناه في وجه السماء، وصاح رب أما تثور
فتبيد نسل العار، تحرق بالرجوم المهلكات
أحفاد عاد ٍ، باعة الدم والخطايا والدموع
يا رب ما دام الفناء
هو غاية الأحياء، فأمر يهلكوا هذا المساء
سأموت من ظمأٍ وجوع
إن لم يمت هذا المساء إلى غدٍ بعض الأنام
فابعث به قبل الظلام

ولكن هل حقّاً هذا شعوره البويهمي لإشباع غرائزه، يجول في الساحة وحده، كلا.. هناك تكبيت الضمير، ورجوع الإنسان الى إنسانيته، ألم تره يعتذر، ويرجع الأسباب الى المتحضرين المزدهين :

أنا لست أحقر من سواي
وإن قسوت، فلي شفيع
إنّي كوحش في الفلاة
لم أقرأالكتب الضخام
وشافعي ظمأ ٌ وجوع
أوما ترى المتحضرين
المزدهين من الحديد بما يطير وما يذيع
إني نويت ويفعلون
والقاتلون هم الجناة وليس حفار القبور
وهم الذين يلونون لي البغايا بالخمور
وهم المجاعة والحرائق والمذابح والنواح
وهم الذين سيتركون أبي وعمته الضريرة
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
أو يفحصان عن الجذور ويلهثان من الأوام
والصخر كالمقل الضريرة

المهم أتسعت همومه، وفاضت خوالجه، وزادت أشجانه، فكثرت مطولاته، ليريح ويستريح، ويسير على نهج ( ت .س . إيليوت)في ( أرض يبابه)، ويجاري أبا تمام والبحتري والمتنبي ومن بعدهم الجواهري في جزالة ملاحمهم، وقد أصاب ولكن في شعره التفعيلي، وسيستمر هذا التدفق الهائج، وتحثه الرغبة الملحّة اللجوج حتى نهاية سنة 1953، ستطل علينا من بعد، لأن نشرها جاء من بعد، وهي (المومس العمياء)، و ( والأسلحة والأطفال)، و (إنشودة المطر)، ولكل حادث حديث، ثم تتبلور المشاعر، وتتوحد الأحاسيس، فيقول لنفسه مكانك ِتحمدي أو تستريحي ! فيسير الهوينى بأتجاه واحد… بقصائد أقصر، وتشعبات أصغر.

المهم نحن الآن نسير خلال سنة 1952، والسياب فيها وقبلها، أشتغل في الصحف أمثال (الجبهة الشعبية) و (الرأي العام) و (العالم العربي)، إضافة إلى ما كان يصدرها الجواهري، ولكن الصحف في حينها لم يكن صدورها مستمراً، بل يخضع للظروف السياسية المتذبذبة، لذلك اضطر شاعرنا أن يشتغل عاملاً بأجر يومي في بعض المتاجر، ثم توسط له بعض رفاقه عند مدير عام مصلحة الأموال المستوردة لتعيينه دون الحاجة إلى شهادة حسن سلوك، وهكذا كان، واستقرت الأمور، وعادت رفيقته اليهودية (مادلين) تتقرب إليه، وتبرع أمام رفاقه الزواج منها لقضاء وطر – لم يشهر به – عندما هُددت بالطرد من العراق، وزواجها من مسلم يحل ّ مشكلتها، أمّا على المستوى السياسي، ففي تشرين الثاني من السنة المذكورة، وإبان إنتفاضة فلاحي (آل أزيرج)على الإقطاعيين، ومقتل العديد منهم بعد سحق إنتفاضتهم، ينتفض طلاب كلية الصيدلة لمطالب دراسية، ودوافع سياسية، تمتد الاضطرابات، وتشتد ّالقلاقل، ويزداد العنف، فيتدخل الجيش، و يتخذ الحياد، فأوعزت الحكومة للشرطة بحسم الأمور، فهاجم عدد كبير من المنتفضين مركز شرطة باب الشيخ، وذهب عدد من الضحايا، وكان للسياب دورقيادي في هذا الهجوم، لذلك خشى من إلقاء القبض عليه، توجه الى قريته، ومن هناك استطاع بمساعدة أقربائه أن يهرب إلى إيران، ومكث فيها سبعين يوماً، حصل خلالها على جواز سفر إيراني مزور باسم (علي أرتنك)، وركب سفينة شراعية، قاعها مغطى بطبقة طينية لمنع تسرب المياه اليها، وكان ملاحها أهوج، اراد ان يصدمها بأحد الفنارات لولا تدخل الشاعر الهارب وإنقاذ الموقف، ومن ثم – وهو في الكويت- نظم قصيدة، عثرأحد أصدقائه على جزء منها، يقول فيها واصفاً الرحلة :

هو البحر …لا زال يسخر في كل ّحين
بهذا الشراع الضعيف، ينوء به صدر هذا السفين
ويسخر من كل ّما يرهق المبحرين
هو البحر..لا زال بيني وبين العراق
وبيني وبين السنين
هو البحر…سوراًمن الماء قام
بوجهي بوجه الحنين
لابدّ أن هروبه كان بدايات سنة 1953، لذلك يوسم إحدى قصائده بـ (فرارعام 1953)، يقول مطلعها:
في ليلة ٍ كانت شرايينها
فحماً، وكانت أرضها من لحود
يأكل من أقدامنا طينها
تسعى إلى الماء
إلى شراع ٍمزقته الرعود
فوق سفينٍ ٍ دون أضواء
في الضفة الأخرى يكاد العراق
يؤمى ؟ يا أهلاً بأبنائي
لكننا واحسرتا لا نعود

بعد وصوله الكويت ينزل في بيت متواضع مع سبعة من رفاقه الهاربين، بينهم العامل والفلاح والمعلم والسائق والكاسب، ثلاثة منهم مصابون بمرض السل، ربما هو رابعهم، أو أصيب به من بعد حين مكوثه بينهم، وقيامه بمهام تنظيف البيت، وترتيب الأسرّة، وغسل الصحون، وحصلت خلافات بينه وبين رفاقه لتابين المستوى الثقافي، والحماس الحزبي الأجوف، المهم اشتغل في شركة كهرباء الكويت، وخلال هذه الفترة وضع الشاعر قصيدة، تعد من أروع قصائده وأجملها وأخلدها، يوم جلس يائساً في عزّالظهيرة، وقت الهجيرة على ساحل الخليج، حيث الشمس اللاهبة، والرياح اللاهثة، والكادحون من البحارة حفاة، أشباه عراة، يطوون أشرعة السفائن (القلوع) للإقامة والمكوث، أو ينشرونها للمغادرة والرحيل، الدنيا في حركة ولهيب، والسياب في سكون ٍ رهيب، بينه وبين العراق بحر واسع، ووقت ضائع، بين ذلٍّ واحتقار، وانتهار ٍ وازورار، مترب القدمين، تقتله الخطية:

ما زلت أضرب، مترب القدمين آشعث
في الدروب تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار
أبسط بالسؤال يداً ندية
صفراء من ذلّ وحمى
ذل شحاذ ٍغريب ٍبين العيون الأجنبية
بين احتقار ٍ، وانتهار ٍ، وازورار ٍ..أو خطية
والموت أهون من خطية

تعاوده أخيلة الذكريات كشريط ٍ مسجل مرئي لليالي العابرات، لظلام العراق ونهاره، وما يوحى إليه من حنين أمه، وأحاديث عمته، واللعب مع أصحابه، وجيكور الهادئة أبان الغروب، وغابات نخيلها الموحشة، ورفيقة دربه المؤنسة، ما بين يأس الغربة ووحشتها وذلّها..وبين لوعة الشوق، وشدة الحنين لموطن عزّه، وينبوع كرامته، ولو كان على مرمى حجر ٍ عنه، وفوق أرض ٍ قريبة منه، يصرخ صائحاً:

صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع الى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون، وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان، وإن تكن فقدت مكانه

يكرر كلمة (عراق) سبع مرّات، على عدد أيام الأسبوع، كأنما يستحضر فيها روحه بشكله المطلق – كما هو مألوف في الرياضات الروحية – بلا تعريف، ولا تفخيم، لأنه معرّف بذاته، فخم بكيانه، ولا أحسبك تقف عند قراءة المقطع لمرّة واحدة، ولا تستعيد، لجمال النغمة، وحسن الصنعة، وصدق العاطفة، والعراق هو الملتقى وبدونه لا لقاء، ولا استقرار، وهو الشمس والظلام، وكل ما في الحياة من معنى :

لو جئت في البلد الغريب إلي ّ ما كمل اللقاء
الملتقى بك والعراق على يديّ..هو اللقاء
شوقّ يخضّ دمي إليه، كأنّ كلّ دمي اشتهاء
جوعٌ إليه ..كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين، إذا اشرأب ّمن الظلام الى الولادة
إنّي لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسانٌ بلاده ؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون ؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام، هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
والنهايات تلتقي بالبديات ..بالريح والقلوع، والقصيدة تدور، وتمر ّستة شهور، كأنّها عصور ودهور، ولكنه يعود، والعود أحمد – كما يقال – وهذا مثال…!!

 

أحدث المقالات