في البداية يمكن القول ان الكراهية خطاب ذو طاقة انفعالية سلبية تلغي مكانة العقل وقدرته على التحكم منطقيا في الاحداث التي تجري في البيئة القريبة او البعيدة, وهو خطاب رافض للآخر ويسقط كل السلبيات على المختلف ويدعي لنفسه كل الايجابيات وهو يدافع عن العنف الذي يمارسه ضد الآخر ويرفض كل محاولات الدفاع عن النفس من قبل الآخر. وللتفصيل سأضع التعريف الآتي لخطاب الكراهية من عدة مراجع:
كل ما يشتمل إساءة أو إهانة أو تحقيراً لشخص أو جماعة من منطلق انتمائه أو انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو بسبب اللون أو اللغة أو الجنس أو الجنسية أو الطبقة الاجتماعية أو الانتماء الإقليمي أو الجغرافي أو المهنة أو المظهر أو الإعاقة هو خطاب كراهية ، وكل ما يشتمل تحريضاً أو قولبة لجماعة في إطار يثير التهكم والسخرية أو تقليلاً من قدر جماعة واتهاماً لها بالنقص والدونية وكذلك كل تبرير للعنف ضد جماعة ما وكل تعبير عن التميز والتفوق على الآخرين لأسبابٍ عرقية أو ما شابهها, وكل ما يشتمل معاداة للمهاجرين أو الأقليات أو تحريضاً على منعهم من الإقامة في مدن أو أقاليم بعينها وكل ما يشتمل اقتباسات وإحالات وإشارات فيها ازدراء أو تقبيح لجماعة عرقيّة أو جغرافيّة أو دينية، وكل تزييف أو تزويرأو تحريف للحقائق وكل استعارة أو تعبير مهين, وكل خطاب يفرّق ولا يجمع، لا يصل بل يقطع، هو خطاب كراهية.
لم تكن الأزمة المستفحلة بين أقليم كردستان والحكومة الاتحادية هي أزمة مكوناتية في المجتمع العراقي كما يراد للاعلام التخريبي والطائفي الشوفيني تصويرها وإعطائها بعدا متأصلا بين المكون الكردي والمكون العربي بشكل خاص وكذلك بين المكونات الاخرى, بل ذهب البعض بعيدا لإضفاء صفة الثبات المطلق على السلوك التقهقري الطائفي والشوفيني واعتباره لصيق في الشخصيتين العربية والكردية, واعطاء انطباع مشوه أنه لا يمكن التعايش بين مكونات المجتمع العراقي, وان الصراع الدائر اليوم بين ” مكونات المجتمع العراقي ” هو صراع غير قابل للتعديل واعادة الصياغة, أو أنه ثابت كثبات الصفات الجسمية العامة القائمة على اصول الوراثة البيولوجية وقوانينها الاساسية. وقد اسهم الاعلام التضليلي الاصفر والجيوش الالكترونية الفيسبوكية المتحاربة من مختلف الانتماءات السياسية الطائفية والشوفينة برسم صورة قاتمة تهدد القيم الانسانية والديمقراطية في حق الاختلاف بوجهات النظر, وبأستخدام ابشع صور التعبير والحديث والتشنيع والفضح اللااخلاقي وانتهاء في التهديد بالقتل والتصفية الجسدية.
ولتأكيد وجهات النظر تلك يذهب الكثير من المحللين السيكواجتماعيين للأستعانة بالابحاث ذات الصلة بالسلوك والتي أجريت في اطار ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية سابقة وتعميمها على ظروف الحاضر, وكذلك الاستعانة بالابحاث الانثروبولوجيا الاجتماعية التي اجريت في حقب تاريخية ووسط احداث تاريخية كبرى, كالحروب والازمات, واعتبار ما ينتج اليوم من ازمات هو وليد ذاتي وكامن في شخصية المكونات وغير قابل للتعديل مهما اختلفت ظروف الحاضر وما يستجد من ظروف في المستقبل.
ولعل ابرز ما يستخدم اليوم بين صراع مكونات المجتمع العراقي هو مفاهيم تأصل العنف في الشخصية العراقية دون غيرها, وازدواجيتها الأبدية في التعامل اليومي والسياسي, وفطرية العداوة بين العرب والكرد الغير قابلة للحل إلا عبر اجتثاث الآخر ونفيه والخلاص منه. ونظرا لتعقد الخلاف ” العربي ـ الكردي ” عبر تاريخ الدولة العراقية ومنذ تأسيسها, وعدم العثور على الحلول الانسانية والناتجة اصلا من غياب البنية السياسية والاقتصادية الحاضنة للمكونات, أصبح من السهل التعميم واللجوء الى الدراسات التي تأصل المشكلة وتبتعد عن الحل. وهو بالتأكيد عجز فكري ومنهجي لفهم السلوك الانساني. السلوك الانساني في معظمه نتاج الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, وأن التأصل النسبي فيه هو ناتج من تأصل الظروف التي انتجته تاريخيا وحاضرا.
وكما أن السلوك الفردي قابل للتعديل ويخضع للقياس والتجريب عبر التحكم في الظروف التي انتجته, فأن السلوك المجتمعي والمكوناتي هو الآخر قابل للتحكم فيه واعادة ضبطه وانتاجه أو تغيره عبر التحكم بمجمل الظروف التي تنتج مختلف انماط السلوك.
وعلى نسق الدراسات السيكولوجية التي تجري لدراسة الوحدات الانسانية المتماثلة بيولوجيا ولكنها تعيش في ظروف متباينة, والتي تؤكد ان حتى التوأم المتطابق والمتماثل عند عزلهما في ظروف مختلفة انتجت لنا سلوكيات وشخصيات متباينة, ولم يجمعها مشترك الا بعض الملامح العامة ذات الطابع الجسمي, وعلى نسق ذلك لو اخذنا توأم كردي أو غير توأم احدهما عاش في المناطق العربية وغير العربية, والآخر بقى في بيئته الأم, فعلى ماذا سنحصل من نتائج لاحقا, وبالمقابل لو فعلنا ذلك مع اطفال عرب وتركناهم يترعرعوا في بيئة كردية مثلا, عن ماذا سنحصل. نتائج ذلك هي التي تدفعنا للتدقيق بعوامل الاختلاف سواء على المستويات الفردية والاجتماعية.
التاريخ الانساني العالمي يحدثنا عن عداوات وكراهية واقتتال وتصفيات جسدية وجرائم ضد الانسانية بين ابناء الدين الواحد كما جرى للمسيحية تاريخيا, او الذي يجري اليوم في بقاع اسلامية بين المسلمين انفسهم, وكراهية اخرى بين الاوربين المتحاربين في الامس في حروب دموية توسعية ونفي لوجود الآخر من العرق والمكون نفسه, فالحروب الاوربية عبر التاريخ لم تخرج عن تلك القاعدة, وفي آخر حربين عالميتين دليل على ذلك, فأسباب الحروب والاقتتال بين المكونات المختلفة وداخل المكون الواحد هي اقتصادية سياسية فكرية تعكس مستوى ادنى من مراحل التطور الانساني, وتتلبس فيها الاديان والاعراق كواجهات لديمومة الحرب واضفاء قدسية على المتحاربين.
الصراع ” العربي ـ الكردي ” او المكوناتي اليوم هو امتداد للصراع السياسي الذي ارتبط بنشأ الدولة العراقية وخطابها السياسي والاجتماعي, فهناك حروب وهناك محطات تهدئة, وهناك محاولات لأبرام او انتاج عقد اجتماعي, وهناك فرط للعقود, وجميعها ارتبطت بمديات الصدق وسقفه للتعايش مع الآخر, والكل لم يرتقي الى حل الأزمة حلا جذريا بسبب غياب الخطاب الانساني الجامع لدى المكونات, وبشكل خاص بين ” العربي والكردي “, فكلا الخطابين بقى متمترسا في اطار شوفينيته القومية ممثلا باحزابه وقياداته ” التاريخية ” والذي بقى محصورا في أروقة قبلية وشوفينية تعصبية.
وقد لعب نسبيا الخطاب الانساني والاشتراكي العالمي والذي تبنته قوى عربية وكردية يسارية واخرى تقدمية اجتماعية دورا كبيرا في خلق مزاج ايجابي تقبلي للآخر استطاع التأثير في خلق اتجاهات قيمية نحو الاعتراف بوجود الآخر المغاير في الانتماء القومي وحقه في تقرير مصيره, ولكنه بقى محصورا ومطاردا جراء هيمنة القرار السياسي والسلطات الشوفينية في المركز وتمركز الثروة والسلاح بيدها, الى جانب بقاء المجتمع الكردي اسير الاستقطاب القومي الشوفيني والقبلي.
اليوم يعاد نفس خطاب الكراهية المؤسس على الطائفية والمذهبية والشوفينية والتعصب, ولكن خطورته تكمن في الجانب المؤسساتي والدستوري, الذي ساعد على انتاجه, والذي ساهمت في صياغته الاطراف المتحاربة اليوم ولنقل ” بغداد ـ اربيل “, حيث لم تستقرئ القوى المتحالفة المستقبل وخطورته, بل استقرأت مصالحها الانانية الضيقة في اقتسام السلطة والثروات بعيدا عن النظر الى الوحدة الوطنية التي تجمع تلك المكونات, فكان للطائفية السياسية نصيب في الاستحواذ على سلطة المركز والثروة, كما وجد ممثلي القومية الكردية ضالتهم في الدستور للحصول على مكاسب سريعة ومن هنا لم ينتج الدستور عقدا اجتماعيا يحفظ المكونات وسلامتها الداخلية والخارجية, بل انتج خطابا اجتماعيا محاصصتيا مولدا لأزمات مستديمة تهدد سلامة الدولة والمجتمع. ومن هنا تأتي ضرورة العمل جديا اذا كانت هناك حقا ما تبقى من فرصة سانحة لتفويت الفرصة على اعادة انتاج خطاب الكراهية على نطاق مجتمعي اوسع مما حصل, والمساهمة الفعالة والنزيهة في انتاج خطاب وطني عابر للطائفية والاثنية, ويجب ان يمر من خلال ما يأتي:
ـ الاصلاح الشامل لأعادة بناء العملية السياسية من خلال اعادة صياغة الدستور على أسس واضحة بعيدا عن الازدواجية والغموض فيه.
ـ التأكيد على النظام الفدرالي بشكل واضح لا لبس فيه في اطار وحدة العراق, وضمان حقوق الشعب الكردي الى جانب المكونات الأخرى.
ـ العمل على اعادة صياغة قانون الانتخابات بما يضمن حقوقا متكافئة للجميع للمساهمة في العملية الانتخابية والديمقراطية.
ـ التأكيد على فصل الدين عن الدولة ومنع نظام قائم على اساس الدين او الطائفة او العرق.
ـ الأعمار السريع لكافة المناطق التي تضررت من الارهاب واحتلاله واعادة النازحين والمهجرين ومساعدتهم ماديا ومعنويا لعودتهم للحياة الطبيعية.
ـ مكافحة الارهاب وتجفيف كافة منابعه ومصادر تغذيته المادية والفكرية, والقضاء على المظاهر المسلحة غير الرسمية والمليشيات المسلحة.
ـ تأكيد سياسة العراق الحيادية والابتعاد عن المحاور الاقليمية المتصارعة وتجنب كافة اشكال الدعم الخارجي التي تكبل السيادة الوطنية.
أن الديمقراطية الحقيقية غير المحاصصاتية الطائفية والشوفينية هي التي تنقل العراق الى بر الأمان وتعيد انتاج الخطاب الوطني المتصالح مع الذات ومع الوطن.