قراءة في 3 قصائد للشاعر الفلسطيني نمر سعدي
أُقرُّ للشاعر نمر سعدي بطول باعه وتجربته الفذّة في الشعر العمودي والشعر المنثور على حد سواء. ولأّنني في الآلاف المؤلّفة من شعراء النثر، لم أعد أعرف كيف أقيس، وكي أتفاعل مع الصورة الشعرية، فإنني أترك لغيري أن يضيء على قصائد نمر سعدي من هذا النمط الذي لا يقلّ جمالاً في نظري عن الشعر الموزون، فالأخير نفسه قد يكون راقياً ومتفرّداً، وقد يكون هزيلاً إذا كان الشاعر لا يمتلك سرّ اللحظة المدهشة التي تسحر وتغيّر في المتلقي.
وردتْني في الآونة الخيرة بضع قصائد من الشاعر نمر سعدي، وعندما قرأتها وجدت نفسي في غابة من السحر والجمال، وعوّضني ذلك عن كثير من مشاعر الإحباط التي شعرتها وأنا أقف أمام نصوص تفتقر إلى مقومات القصيدة. وقد يسألني أحد: ما هي تلك المقومات؟ فأبدو وكأنّ على رأسي الطير، كما أبدو عند سؤال أحدهم: ما سر جمال هذه المرأة؟ أو هذه الوردة؟ أو هذا البحر؟ وهل الجمال يمكن اختصاره في كلمات؟
نعم لا أعرف كيف أجيب، لكنني أشعر بالجمال يداهمني. يسحرني، يطوّقني ويأسرني من كل جانب، وهذا الانصياع لأمر الشعر وسطوته لا أحسّ به دائماً إلا عندما أقرأ لكبار، من أمثال محمود درويش وسميح القاسم وبدر شاكر السياب وسعيد عقل ونزار قباني وصلاح لبكي، وعندما أقرأ للامرتين وهيجو وتريستان تزارا وإدغار ألن بو…
هؤلاء الشعراء يسيطرون على حواسي برهبة الكلمة، وأعترف أمامهم بأنني سأحتاج إلى كثير من الوقت والتجربة قبل أن أفعل فعلهم.
هكذا أنظر إلى الشاعر الشاعر، وأعيد قراءته كلّما احتاج إلى الحافز الفكري والإبداعي الذي يتملكني ويأمرني بأن أكون شاعراُ أو لا أكون. وقد كنت دائماً أقول إن الشعراء القدوة صعّبوا الأمر علينا وجعلونا نفكّر كثيراً قبل أن ندفع بنص شعري إلى الناس، فكيف يجرؤ بعض مَن أقرأ لهم على رشقنا بشعر لا يخيّل لا يبدّل، ولا يحرّك فينا ساكناً؟
نحن فعلاً نحتاج إلى تلك القلّة التي تـُنوّر حياتنا، وتقتحِم مجاهلنا، وتخرجنا من صمتنا، فننتشي معها في صلاة ترتفع وترتفع إلى أبعد من النجوم.
ولست أصنّف نمر سعدي إن كان رومنسياً أو رمزيًاً، أو واقعياً، لأنّني أعتقد أن الشاعر لا ينحصر في مذهب واحد، فقد يكون رومنطيقياً في انفعالاته، ورمزياً في طريقة تعبيره عن تلك الانفعالات، وواقعيا في تصويره للحدث الشعري. فعندما يقول لامرتين مثلاً: “أنا أشبه تلك الأوراق الصفراء، فخذيني مثلها يا ريح الشمال”، يكون رومنطيقياً في مشاعره المتألِّمة، ورمزياً في تصويره للأوراق الصفراء التي هي الموت، ولرياح الشمال التي هي عربة الموتى، وهو واقعي أيضاً لأنه يتحدث عن تجربته الشخصية بصدق. يقول دو لا كروا: “ليس للفن أن ينحصر في مدرسة واحدة”. ومن هذه الحقيقة التي أؤمن بها في مقاربتي للنص الشعري الجديد، فإنني أفضّل أن أخوض في قصائد نمر سعدي من باب النقد الانطباعي الذي يعتبره مارون عبود، وكثيرون غيره، أفضل النقد.
قراءة 1
في قصيدة له يقول سعدي:
“ظفرُ تلكَ التي كنتُ أحببتُها لدقائقَ معدودةٍ في مكانٍ نسيتُ…
ربَّما كانَ في حرمِ الجامعةْ
ربمَّا في القطارِ البطيء
ربمَّا في حدائقِ عينينِ صيفيَّتينِ تضيئانِ ما لا يُضيءْ
ربمَّا في الطريقِ إلى الموتِ أو صخبِ الحافلةْ
ربمَّا في مساءٍ بظلِّ المجمَّعِ أو في انتظارٍ طويلٍ طويلٍ لما لا يجيءْ
ربمَّا في ندى الوردِ أو في خطى السابلةْ
كانَ يلعنُ هذي الحياةَ بعينيهِ أو روحهِ الشاعرةْ
كانَ يهذي بغيرِ فمٍ:
ظفرُ تلكَ التي كنتُ أحببتُها لدقائقَ معدودةٍ في جهنَّمَ
حتى ولو سُميَّتْ عاهرةْ
أحنُّ وأفضلُ من كلِّ زوجاتيَ العشرِ….
عانقتهُ ثمَّ وصَّيتهُ بصغارِ الملائكِ.. ودَّعتهُ وبكيتُ.. انتهيتُ من الليلِ
ثمَّ مشيتُ.. مشيتُ.. تشقُّ الخيولُ المجنَّحةُ الماءَ فيَّ ولا تستريحُ الخيولُ
شاعرٌ هو أم.. فوضويٌّ جميلُ؟”
لوحة شعرية ولا أجمل، لو جزّءناها لفقدت كثيراً من خصائصها الجمالية، ولو نظرنا إلى زاوية منها دون الأخرى لفاتنا كثير من قيَمها. مزيج من الوصف، وعرض الأمكنة المحتملة للقاء، والمشاعر، والموقف الذاتي، وصولاً إلى الحركة التي تجسدها الافعال المتتالية… فالقصيدة تبدأ بوصف الأمكنة، حيث تلتهب المشاعر تجاه المرأة في مكان يمكن أن يختاره المتلقي بنفسه، ثم يمتزج العذري بالإباحي في وضع محيّر، فهل ظفر الحبيبة أم نهدها أم شيء آخر هو التحول المباشر إلى جهنّم، بالمعنى الديني المعروف؟… بعد ذلك تنتقل القصيدة إلى فضاء الفعل: “عانقته، وصّيته، ودّعته وبكيت، مشيت، تشقّ ولا تستريح”… والخاتمة تستدعي هذه الحركة الانفعالية في مواجهة المشهد أو الموقف، لكن المتلقي الذي يتفاعل مع النص قد لا يفهم من هو هذا الشاعر؟ لعلّه نمر سعدي نفسه في انفصامه عن ذاته، في رغبته وقيوده، في “تحرّره” الجسدي وسموّ روحه… نعم إنه شاعر، فوضوي وجميل أكثر من الجمال، ورؤيوي إلى أبعد من الرؤى.
لا أخفي سراً إذا قلت إنّ لا حاجة لفهم القصيدة، ولا تجوز مطالبة الشاعر بأن يكون دائماً في حالة الكشف، فالمتلقي له دوره في النص، وهذا ما يفهمه الشاعر نمر سعدي، ويطّبقه على من يتبعون أفكاره ويجمعونها كخيط في ثوب ربيعي مزركش، وكنت أنا من أول التابعين وجامعي الخيوط، على أنني لم أستطع التقاط جميع الجزئيّات، فكما يقول أوكتافيو باث: “بين ما أراه وما أقوله، وبين ما أقوله وما أصمت عنه، وبين ما أصمت عنه وما أحلم به، وبين ما أحلم به وما أنساه، هناك يكون الشعر.”
قراءة 2
في قصيدة “تقمّص”، يقول الشاعر نمر سعدي:
“آهِ يا ميمُ ماذا تقولينَ لي؟
أنني ربمَّا أتقمَّصُ نجماً صغيراً من القطنِ في كاحلِ الماءِ،
أو كحلِ أحلى الفراشاتِ يا ميمُ؟
أو ربَّما أتقمَّصُ حلماً من الليلكِ الرخوِ في قُزَحِ العُشبِ؟
يا ميمُ ماذا تريدينَ من عطشِ الأغنياتِ،
وفيكِ الينابيعُ تركضُ مبهورةً بالأشعَّةِ؟
هذا أنا العربيُّ الشقيُّ الذي قصمَ الوردُ صبحَ النوارسِ فيَّ
ولستُ شبيهي الرومانسيَّ،
لستُ أنا الشاعرَ الانجليزيَّ ما قبلَ قرنينِ
يا ميمُ لستُ أنا اللوردَ بايرونَ ولستُ أنا أنا
ربَّما أنا أنتِ”.
تهيمن على القصيدة التساؤلات، فماذا يتقمّص الشاعر ومَن؟ هل يتقمّص نجماً صغيراً، أم حلماً من الليلك؟ وهل هو الشاعر الإنكليزيّ قبل قرنين؟ لا. هل هو اللورد بايرون؟ أيضاً لا… ولماذا اللود بايرون تحديداً؟ واللورد بايرون رمز من رموز الرومنسية وحرية الشعوب… حتى يصل الشاعر إلى قمّة القصيدة ليعلن أنه لا يعرف نفسه عندما يقف أمام مرآته، فليس هو هو، في المنطق الأفلاطوني، بل هو غير ذلك، هو الحبيبة، ميم نفسها، التي تقمّصها فتداخل الحبيبان كالعطر في الليلك، وكالأشعة في الينابيع.
التقمص هنا ليس ولادة بعد الموت، بل هو حياة في حياة. حياة الشاعر في حياة حبيبته ووجودها في وجوده.
ولا أخفي أن هذ الفكرة: “التوحّد بين الحبيب والحبيبة” قد وردت كثيراً في الشعر، وفي قواميس العشّاق، لكن الجوّ العام للقصيدة يوحي بأنّ التقمّص يأخذ شكلاً روحياً، فلا تلميح إلى جسد الحبيبة ولا إباحية أو عبث، فكأني بسعدي يقول مع المتصوف الكبير جلال الدين الرومي في قصيدة لشمس تبريز: “إذا كنتَ أنتَ أنا وكنت أنا أنت، فما هذا الانفصال بيننا؟ نحن نور الله، ومرآته، فلماذا نتعب مع أنفسنا والواحد مع الآخر؟ ولماذا يهرب ضوء من الضوء الآخر؟”
قراءة 3
في القصيدة الآتية نقع على نوع آخر من الشعر، فالتفعيلة في القصيدة الأولى لم تكن منتظمة، بينما هنا نحن أمام شعر عمودي يلتزم بعدد التفاعيل وترتيبها في بحر البسيط.
“الأقحوانةُ.. عطرُ الماءِ.. شهوتُهُ
المرأةُ.. النورسُ.. الحوريَّةُ.. الرشأُ
يبكي على يدِها من عشقهِ برَدى
وينتهي في حوافيها.. ويبتدئُ
تُعلِّمُ الشبقَ الفضيَّ في شفتي
طيورُها.. كيفَ حولَ النارِ ينطفئُ
الياسمينةُ أجلوها.. فينثرني
صوَّانُها الرخوُ.. أو يعلو دمي صدأُ؟
تسقي خطايَ فراشاتِ البحارِ ولا
تهذي بغيرِ شظايا.. ما هو الظمأُ؟
قصيدتي جرَّها الفاشيُّ حافيةً
من شعرِها.. والندى الجوريُّ يهترئُ
أكلَّما خمشَتْ عصفورةٌ عُنُقي
جاءَ ابنَ زيدونَ من ولَّادةٍ نبأُ؟
ضحكُ الدمشقيَّةِ الغيداءِ يغسلني
بلهفةِ الدمعِ حتى لستُ أنكفئُ
أروادُ فيها بعينيها تُعاتبُني
وليسَ تغفرُ لي نسيانَها سبأُ”.
نقع في القصيدة على رويّ الهمزة، وهو روي لم يُستخدم كثيراً في الشعر العربي، على الرغم من جماله، ولعلّ السبب في ندرة استعماله هو قلة وجود ألفاظ تتضمن هذا الروي. لكن الشاعر نمر سعدي استفاد من تجربته الفذّة لكي يحشد تلك الألفاظ من غير أن يكون هدفه القافية، فجاءت الهمزة محبّبة طيبة، وجاء استخدامها عفوياً طليقاً، حفراً وتنزيلاً – كما يُقال.
في القصيدة ثلاثة أمكنة، هي الشام، ودلالتها: بردى، الياسمينة، الدمشقية… والأندلس، ودلالتها ابن زيدون وعشيقته ولادة بنت المستكفي… واليمن ودلالتها سبأ. ولست أعرف ما هو الرابط بين الأمكنة الثلاثة، لكنها على تباعدها الجغرافي تعكس وجوهاً لحالة واحدة، حالة الشاعر في حبّه واشتياقه وشغفه… ولو سمع المتلقي هذه القصيدة لما استطاع إدراك أبعادها بسهولة، فالعصر ليس عصر امرئ القيس أو عمر بن أبي ربيعة أو المتنبي، بل هو عصر الحداثة التي تنفتح مساحتها أمام التعبير، ولا أفق لحرية الشاعر فيها، وعن هذا يقول د. فالح الحجية في مقالة له بعنوان “القصيدة العربية بين الحداثة والمعاصرة”: “إن الشعر معرفة انسانية تحمل معطيات الرؤية والاحساس النابع من القلب. وهذا الاحساس المعني هو المصدر الوحيد لمعرفة الأشياء في هذا العالم الذاتي، أي إنّ الشعر الذي ينبثق من الروح اللاعقلية واللاتصورية مضاد لكل تفسير منطقي. أي إن ما عناه الشاعر ربما يبقى مبهما عند الآخرين وربما يحقق المقولة المعروفة (المعنى في قلب الشاعر)”.
بيد أن هناك بعض الأبيات في قصيدة الشاعر نمر سعدي التي يمكن قراءتها بسهولة:
“قصيدتي جرّها الفاشيّ حافية من شعرها… والندى الجوريّ يهترئ”.
وهكذا يتداخل الواقعي والذاتي بالرمزي والغريب في كوتيل متناسق لا يفسد للشعر قضيّة.
لقد أمتعني الخوض في شعر نمر سعدي الذي يصف نفسه بأنه “مناضل في الحياة”، وينفي عن نفسه صفة “شاعر كبير”، لكن ليسمح لي بأن أعبّر عن رأيي بحرّية، فسعدي من شعراء قلّة وقدوة في عالمنا العربي اليوم، يحافظون على الشعر من الاندثار، ويحرصون على الأصالة من غير تفريط بضرورة الحداثة. وسعدي، الشاعر الكبير، لا يذهب إلى قصيدة النثر كما يفعل كثيرون لخوفهم من التفعيلة، فهو الملاّح الذي يرتاد البحر هادئاً كان أم هائجاً، فيدرك أبعاده ويحمل منها غنائم وفيرة، ويعود من رحلته وقد عركه الصراع مع العاصفة، لكنه غنيّ بما ملكت يداه من كنوز الخيال وثراء الروح.