خلال دراستنا في الصف الأول من كلية الهندسة, وكنا مجموعة من مختلف محافظات العراق, أي ” شلة”.. ومن ضمنها خمسة أو ستة صرنا مقربين جدا, وعلاقتنا تختلف عن بقية المجموعة.
حصل تقاربنا بحكم تلامسنا الفكري والثقافي, رغم أن احدنا من النجف والأخر من البصرة والأخران من بغداد, وأخر كردي.. لكننا لم ننتبه كثيرا لهذا الموضوع, إلا عندما نتندر بنكته عن كرم الدليم, بطريقة المزاح, نريد التحرش بصديقنا علي, أو عن الكرد نريد بها صديقنا هيوا, أو عن دهين أبو علي, ليتحرشوا بي.
لم تخلوا صحبتنا, من نقاشات عميقة, لثقافنا العالية وفهمنا وتفاهمنا, رغم عمرنا المبكر نسبيا, إلا أن نقاشاتنا ورغم حدتها أحيانا, دوما كانت تنتهي بالضحك, ونعود ليروي كل منا نكته ليتحرش بأصدقائه, تغرقنا بالضحك, حتى المستهدف بالمزاح.
في يوم ما, وخلال معسكرات الطلاب المزعجة, التي كانت تقام خلال حكم البعث إجباريا للطبة, كنت وصديقي هيوا نتحدث في موضوع الكرد وحلمهم بالدولة, وكنت أسأله لو خير بين دينه وقوميته, أجابني دون تردد, أنه سيختار الكردية.. صدمت في حينها من جوابه, فلم أكن أتوقع, ولا حتى في أكثر خيالاتي جموحا, أن يترك شخص ما دينه وعقيدته لأجل حلم قومي!
لم يعجب العراقيون بشخصية كردية, كما أعجبوا بشخصية الراحل “المام جلال”, فرغم طرافته وأريحيته, وعلاقته المميزة بكثير من المناضلين العراقيين, ونضاله دفاعا عن مظلومية العراق والكرد.. إلا أن أغلب هذا الإعجاب يعود لواقعيته, ولإحساس الناس أنه كان عراقيا في صميم قلبه, ونجح بشكل حقيقي, في الموازنة بين عراقيته وكرديته.
تحدث بشكل صادق عن حق الكرد في نيل الحرية, وواجب الحكومة في رفع المظلومية عنهم, وعن حلمه بدولة كردية, واكد أنه حلم, وأن من حقهم أن يحلموا.. لكنه مع تصويت الكرد لدستور العراق الواحد, وكان فعلا صمام أمان للكرد, ومفتاح حل لأي مشكلة مع بين المركز والإقليم, فرغم منصبه التشريفي كرئيس للجمهورية, إلا أن ثقله السياسي وتاريخه النضالي, ورصيد علاقاته على الساحتين العراقية والعالمية, أعطاه قوة وسلطة, تفوق ما يمثله منصبه.
ما حصل خلال تشييع جنازته, من لف الجثمان بعلم الإقليم, كان خطوة خاطئة بكل المقاييس, حاول من قام بها, إستفزاز وإحراج كل الأطراف, بحركة صبيانية تخلوا من الحكمة, في وقت كانت أغلب الأطراف, تريدها مناسبة للتقارب, فالرجل كان وسطيا حكيما, يميل للعقلانية.. وكانت فرصة لإذابة الجليد, أضاعوها بإستعراض فارغ.
محاولة البعض تسويق الحدث على أنه إهانة للعراق وعلمه, أو تقليل لقدر الراحل, هدفها سياسي.. فلا هذا ولا ذاك حصل, فالعراق وعلمه أعظم من أن يقيم بلفه حول جثمان أي كان, والطالباني وتاريخه, أكبر من أن يضيعه حمقى بتصرفات صبيانية.