تتوالى ردات الفعل حول إجراء استفتاء كردستان في الاسبوع الماضي (25 أيلول) حول الانفصال عن جمهورية العراق. فالاقليم منذ عام 1992 يتمتع بشبه إستقلال ذاتي، تتقاسم في إدارة الإقليم القيادة الكردية (بحزبيها البرزاني والطالباني) جيمع أموره التشريعية والتنفيذية والقضائية خارج نطاق وتأثير السلطة المركزية، وقد أقر هذا الوضع المتميز الذي يحظى به دستورنا العتيد، فجاء الدستور كوثيقة سياسية لإعطاء شرعية للواقع السياسي في إقليم كردستان بكل صلاحياته. فـمثلاً ينص الدستور بـحق سلطة الاقليم “تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الاقليم، في حالة وجود تناقض او تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الاقليم، بخصوص مسألةٍ لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية”. وبما أن السلطات الحصرية للحكومة الاتحادية محدودة، فإن إدارة الإقليم تدعي بأن اجراء الاستفتاء هو عائد لصلاحياتها التي منحت له في الدستور، والذي تشير مادته (117): يقر هذا الدستور عند نفاذه، إقليم كردستان وسلطاته القائمة، إقليماً اتحادياً.
ومع كل هذا، فإن إجراء الاستفتاء جاء وكأنه صدمة للقوى السياسية في العراق، بالاضافة الى النظام الاقليمي والدولي. ومع أن الإستفتاء ونتائجه لم يحظى بأي تأييد دولي أو توافق وطني حوله، إلا أن ردود الأفعال السياسية كانت كبيرة تتراوح من تلك التي ترغب بالمقاطعة الشاملة مع الأقليم الى تلك التهديدات العسكرية بأخضاع الإقليم الى سيادة الدولة المركزية بالقوة.
القيادة في اقليم كردستان كان لها رؤية واضحة لمستقبل كردستان، عملت عليه منذ اليوم الأول لتأسيس الدولة في العراق في عام 2003. وجاء الدستور العراقي الذي جرى التصويت عليه في عام 2005 (بإستفتاء عام) ليحقق لهم طموح الاستقلال. فقد أقر الدستور جميع السلطات التي كانت عاملة في الاقليم بدون أي تغييرات لازمة لتكون ملائمة أو مواكبة للنظام الفيدرالي. فقد ثُبت ذلك في المادة (117) الخاصة بإقليم كردستان والوضع القائم فيه، والتي شرعنت هذا المبدأ: يقر هذا الدستور، عند نفاذه، اقليم كردستان وسلطاته القائمة، اقليماً اتحادياً. وفي مادة أخرى جاءت بالتصريح: لسطات الإقليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفقاً لاحكام هذا الدستور، باستثناء ما ورد فيه من اختصاصاتٍ حصرية للسلطات الاتحادية. كما اعطى الدستور الحق للإقليم بـ “تجاوز إو إلغاء القوانين الإتحادية التي تتعارض مع ما تقره سلطات الإقليم”، فيحق لسلطة الاقليم، “تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الاقليم، في حالة وجود تناقض او تعارض بين القانون الاتحادي وقانون الاقليم، بخصوص مسألةٍ لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية”.
فإجراء الاستفتاء في 25 أيلول في إقليم كردستان إنما هو نتيجة حتمية لهذا التحرك السياسي المدروس والذي يطمح الى إقامة دولة كردية في حدود المحافظات الثلاثة التي يتشكل منها الإقليم، وكذلك حق المطالبة في مناطق أخرى يدعى الإقليم “كُرديتها” والتي أطلق عليها إجحافاً تسمية “المناطق المتنازع عليها” مع أن الترجمة الحرفية للنص الإنكليزي كما جاء في “قانون إدارة الدولة في المرحلة الإنتقالية” في فترة الإحتلال الإمريكي هي “المناطق المختلف عليها”، (disputed territories). وقد أُقرت دستورية هذه التسمية “المناطق المتنازع عليها” التي تحمل في طياتها النزاع والخصومة وشرعية التنازع عليها. فواضعي الدستور أقروا هذا المصطلح الذي يحمل في طياته العنف والخلاف والفرقة، ولم يلجأوا الى التوسل بمصطلح يدعوا الى الحوار والإتفاق وإحلال السلام في داخل الوطن المتآلف.
فحمل الدستور في طياته وبنوده فقرات الإنفصال والنزاع والفرقة والتنافس. وجاء هذا على عكس الغاية المتواخاة في كل الدساتير في العالم التي تؤسس الى بناء الوطن المتآخي والذي يؤسس الى روحية المواطنة الجامعة في الدولة المتحدة. ومع أن هنالك إشارات هنا وهناك الى أن الهدف العام من الدستور هو إقامة نظام حكم جمهوري ودولة إتحادية واحدة، وإن “هذا الدستور ضامن لوحدة العراق”، ولكن هنالك الكثير من الثغرات والبنود التي تُعتبر بمثابة “ألغام” تؤدي الى الفرقة والإنفصال أو على الأقل تؤدي الى التنافس والصراع على الموارد ضمن العملية السياسة. أين هذا من مبدأ القرآن الذي جاء ليوحد الفرقاء المتصارعين في المدينة والوافدين إليها من مكة ليؤلف بين قلوبهم:
يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم… واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم اذ كنتم اعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها كذلك يبين الله لكم اياته لعلكم تهتدون… وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.
فإقامة الوطن وبناء الدولة الرصينة والأمة المتكاتفة لا تقوم على أساس “المناطق المتنازع عليها”، أو الصراع على تقاسم الصلاحيات والموارد، كما في المادة (115): ” كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، والصلاحيات الاخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والاقاليم، تكون الاولوية فيها لقانون الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، في حالة الخلاف بينهما”. فالدستور أقيم على أساس حق أبناء المناطق في اقامة الاقاليم حتى ليس بين مجموعة محافظات فحسب، بل هذا الحق أعطي حتى لمحافظة واحدة فقط. فيكون لكل إقليم دستوره الخاص وسلطاته المختصة به ويتنافس مع الدولة المركزية على الصلاحيات والموارد المالية والطبيعية والاقتصادية والمائية، و الإختلاف على الحدود و”المناطق المتنازع عليها”.
وقد تكون تلك التوجهات هي نتيجة وردة فعل طبيعية لما حدث من ظلم قاهر من قبل سلطة حزب البعث وصدام طوال الثلاث العقود الأخيرة من القرن العشرين. ولكن ردات الفعل عادة لا تقيم أوطاناً ولا تبني دولاً ولا تؤلف أمماً، ولكن الرؤية المستقبلة الواضحة هي التي تحقق الأهداف المرجوة في التآلف والبناء والعيش المشترك. فكانت هنالك حالة ضبابية قاتمة حول مفهوم صهر الفئات والأمم والشعوب ضمن وطن واحد ودولة قيمة تحفظ الحقوق وتلبي مصالح الجميع يشارك الجميع في بنائها وسير أعماله. فبناء الدولة لا تخضع بالمرة لمبادئ توزيع الموارد وتقاسم “الكعكة” بين الفرقاء، فهي ليست “قصعة” يجري التداعي بين أفرادها على تقسيم ثرواتها؛ كما في وصف الرسول عندما قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. أليس هذا هم عين ما هو حالنا الذي نتباكى عليه اليوم!
نحن بحاجة الى “عقد اجتماعي” جديد قائم على بناء اللُحمة بين أبناء الوطن الموحد الذي يجمع الفرقاء ويؤلف بين قلوبهم على قواسم مشتركة وليس على مصالح يتنافس الجميع على استحواذها. وهذا العقد الاجتماعي يجب أن يكون مرناً يتجاوب مع أختلاف الظروف الموضوعية والتطورات الانسانية. فدستورنا الحالي يحمل توجهاً واحداً للتغيير قائم على أساس الفرقة والتمحور والعزلة وحفظ المصالح على حساب المصالح العامة. فهو ينص على أنه “لا يجوز اجراء اي تعديل على مواد الدستور، من شأنه ان ينتقص من صلاحيات الاقاليم التي لا تكون داخلةً ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، الا بموافقة السلطة التشريعية في الاقليم المعني، وموافقة أغلبية سكانه باستفتاءٍ عام”…
كان الأجدر أن ينص الدستور بالعكس تماماً بأنه يسمح بإجراء تعديل مواد الدستور بصورة مرنة بما يضمن وتوحد أبناء الوطن وصيانة أراضيه وتنمية موارده وثرواته وعدالة حكمه وقضائه.
فإستفتاء كردستان من أجل الإنفصال عن الوطن والإستقلال إنما هو نتيجة طبيعية لما جرى رسمه عند إرساء أسس هذه الدولة والنظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية. يتحتم علينا بإعادة النظر في بناء أسس عقد إجتماعي مبني على رؤية مستقبلية تكون لمنفعة الجميع. فمجموع المنفعة الفئوية الضيقة لكل طائفة لا يمكن أن تساوي المنفعة الكلية لجميع المواطنين كافة. فكما هو منطقياً أن مجموع الأجزاء هو أقل دائماً من المجموع الكلي، فتجارب التاريخ تثبت أن الطاقة الناتجة في البناء والعطاء هي أكثر خيراً مما يمكن الحصول عليه من مجموع نتاج الفرقاء المختلفين المتنافسين. هذه سنة الحياة عبر التاريخ، ونحن لسنا بدعاً من الأمم.