أثناء المسير ألتقينا ببعض العوائل التي كانت تتجه نحو الجهة المعاكسة محاولين الفرار من المدينة من نفس النقطة التي دلفنا منها. بعد سير حثيث مشوب بالتوجس والخوف أستغرق حوالي عشر دقائق أقتربنا من الدور السكنية لحي واحد حزيران وأنعطفنا نحو جهة اليمين فأصبحنا داخل أزقة الحي.
كان الإنطباع الأول عن الموقف في الحي يدعو للإطمئنان فبعض النسوة والأطفال كانوا واقفين أمام دورهم وبعض السابلة يحثون الخطى في بعض تلك الأزقة ولم نلتقي بأحد من الميليشيا للأحزاب الكردية أو نلاحظ وجود نقاط للسيطرة لهم في الحي.
الشخص المسلح الوحيد الذي إلتقيناه كان لابسا بدلة مدنية زرقاء كالتي يلبسها عمال المصانع وكان مشغولا بمحادثة أفراد عائلته وكان يتكلم باللغة العربية، فسلمنا عليه ورد التحية بمثلها.
أكثرية سكنة حي واحد حزيران كانوا من القوميتين التركمانية والعربية. مدينة الذهب الأسود مكونة من أحياء ومحلات متعددة، معظم سكنة الأحياء المحيطة بالطريق الواصل من المدينة إلى بغداد أي القسم الجنوبي من المدينة هم من التركمان والعرب أما الأحياء والمحلات في القسم الشمالي من المدينة القريبة من الطريقين المتجهين إلى المدينتين أربيل والسليمانية فمعظم سكانها كانوا من القومية الكردية كحي رحيماوة وحي إمام قاسم والشورجة.
الأحياء في مركز المدينة كمحلة صاري كهية وبريادي والمصلى وجقور ومنطقة القورية التي هي المناطق السكنية القديمة من المدينة معظم سكنتها كانوا من التركمان، أما القلعة التاريخية في مركز المدينة فكان يسكنها التركمان والمسيحيون قبل أن يأمر صدام حسين بهدم جميع دورها السكنية.
واصلنا المسير مسرعين ومتحاشين الإلتفات نحو الشخص المسلح وبعد دقائق معدودات أفضى بنا إحدى الأزقة إلى شارع عريض يخترق مركز الحي ولكننا بالرغم من الإعياء الشديد لم نتوقف للراحة وكنت في تلك اللحظات أحلم بسرير مريح وفراش دافيء أرتمي عليه لأريح جسدي المنهك.
بعد فترة وجيزة من السير قدمت سيارة نقل صغيرة كانت تحمل عائلة في المقعد الأمامي ووافق سائقها على نقلنا في الحوض الخلفي إلى حي غرناطة ألذي كان متجها إليه بدون مقابل.
بعد أن أشتريت علبة سجائر وأشعلت سيجارة منها بلهفة تحركت السيارة على مهل نحو حي غرناطة الذي يقع في القسم الجنوبي من المدينة وغرب نهر خاصة صو ويضم هذا الحي دار رفيق السفر أحمد ودار شقيقي أردال وهو الشقيق الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد أن أنتزع يد المنون أشقائي أورخان وياووز ويلماز وهم في أوج شبابهم.
ترجلنا من السيارة في طريق بغداد وهو الطريق الرئيسي المتجه نحو العاصمة ولاحت لي طلائع قوات الميليشيا الكردية وهي تجوب الطريق ذهابا وإيابا بالسيارات وهم بملابسهم التقليدية الكردية وكانوا مدججين بالأسلحة الخفيفة وكان قسم منهم واقفين على طوار الطريق على شكل مجموعات مشكلين نقاطا للسيطرة والتفتيش.
بعد أن ودعنا وشكرنا السائق ألذي أقلنا أنعطفنا مباشرة نحو يمين الطريق ودلفنا إلى الزقاق الذي كان فيه دار أحمد.
كان قدوم أحمد مفاجأة لعائلته وأستقبلوه بفرح وبعد أن أطمأن على سلامتهم ودعني بعد أن أخرج من حقيبته بيريتي العسكرية و ناولني إياها.
حثثت الخطى نحو دار شقيقي ألذي كان يبعد مسافة قليلة من دار أحمد، ألفيت شقيقي جالسا على كرسي مع أحد جيرانه أمام الدار فأرتسمت الدهشة عل وجهه عند رؤيتي وعانقني بحرارة وكانت فرحتي بلقائه وسلامته كبيرا.
علمت من أردال بأنّ شقيقتاي قد تركوا مسكنهم في حي البعث هربا من القصف الشديد على ذلك الحي إلى بيت شقيقي المتوفي يلماز في حي المنصور القريب من حي غرناطة وأخبرني بأنّه زارهم هناك صباح ذلك اليوم وأطمأن على سلامتهم، كما علمت منه بأنّ عائلتي تركوا بيت عديلي علي وأنتقلوا إلى بيت شقيقة علي في حي الضباط ثم قفلوا راجعين إلى مسكن والدة زوجتي الواقع في الجزء الشمالي من المدينة في محلة تبة وذلك بعد إنتهاء الإشتباكات في ذلك الحي.
بعد سماعي هذه الأنباء زال قسم من القلق الذي لازمني طوال رحلة الشقاء.
بادرني شقيقي بالسؤال الذي واجهني كثيرا خلال مكوثي في مدينة كركوك:
– هل صحيح بأنّ العاصمة بغداد سقطت بأيدي المعارضة وهرب الرئيس صدام حسين إلى روسيا؟
أعلمت شقيقي بتفاصيل الوضع في بغداد وبعدم صحة الإشاعات ألتي كانت الأحزاب الكردية تبثها في المدينة وبأنّ الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري بدأت بالتحشد في أطراف مدينة كركوك للبدء بالهجوم على المدينة.
أتجهت مع أردال نحو دار شقيقي يلماز بعد أن أستبدلت ملابسي العسكرية بملابس مدنية أعارني إياها شقيقي وتم إخفاء هذه الملابس مع رتبتي العسكرية ودفتر الخدمة العسكرية في مكان أمين تحسبا لأي طاريء.
بعد مسيرة نصف الساعة وصلنا في الساعة الخامسة مساء إلى دار شقيقي وبعد الإطمئنان على سلامتهم وإعطائهم موجزا عن مغامرتي قررت البدء بالمرحلة الأخيرة من البحث للعثور على زوجتي وأطفالي.
ودعت شقيقي أثناء رحلة العودة بالقرب من زقاقهم وواصلت المسير متجها نحو شمال المدينة بالرغم من التعب والإنهاك التي كنت أعاني منه نتيجة المسيرة المضنية ألتي أستغرقت تسع ساعات.
كانت الشمس قد بدأت بالمغيب في ذلك المساء الربيعي وجيوش الظلام تحفزت للزحف على ما تبقى من من خيوط الضياء التي بدأت تتقهقر تدريجيا.
كانت أنباء الأضطرابات في العاصمة بغداد قد وصلت إلى مدينة الذهب الأسود وكان جميع الذين ألتقيتهم من الأقارب متيقنين بأنّ سلطة الرئيس صدام حسين وحزب البعث الحاكم قد ضعفت وبأنّ الحكومة ستسقط أمام الضربات الماحقة للمعارضة.
في هذه الأثناء توقفت سيارة نقل ذو حوض خلفي بالقرب من أحد أفراد الميليشيا الكردية وطرق سمعي الحديث المتبادل بينه وبين سائق السيارة وكان الحديث باللغة التركمانية.
أغتنمت هذه الفرصة بالرغم من المخاطر المحفوفة بها وسألت السائق عن وجهته وبعد أن علمت بأنّه متجه إلى منطقة قريبة من هدفي، طلبت منه أن يقلني معهم وقد حظي طلبي بالقبول.
أرتقيت الحوض الخلفي للسيارة وجلست قبالة أحد أفراد الميليشيا الكردية ( البيشمركة) ألذي كان مسلحا ببندقية روسية الصنع من نوع الكلاشنكوف.
تحركت السيارة ببطء مخترقة عتمة الليل بضوء مصابيحها وأتجهت نحو شمال المدينة.
أثناء مرورنا أمام مبنى المحافظة بصق الكردي على صورة للرئيس صدام حسين مرسومة على جدارية كبيرة والتي كانت مقامة قرب المبنى وقد تم تشويهها بالأصباغ الدهنية، وقال وهو يتفحصني بنظراته الثاقبة:
– إنّ هذا الشارع الذي نمر به والذي كان يُسمى بشارع الثورة سيتغير إسمه من الآن وصاعدا إلى شارع ( مام ريش ) وهو أحد قيادي الميليشيا الكردية ألذي قُتِلَ في إحدى المعارك في شمال العراق أثناء حركة تمرد سابقة.
في تلك اللحظات خطر ببالي خاطر غريب، فهذا الكردي المتمرد والمتحمس لدعواه الذي يجلس قبالتي لو علم بأنّي أحد ضباط الجيش العراقي لفتك بي في طرفة عين، ولكني طردت هذا الخاطر من عقلي مبتسما في قرارة نفسي.
من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)
يتبع