كلنا نمارس التبرير في حياتنا اليومية سواء كنا زعماء سياسيين او مفكرين او اشخاصا عاديين ضمن اطار العائلة في البيت الصغير او في المجتمع والدولة، الكل يبرر للكل، حتى الطفل الذي يرتاد مدرسته يكون قد تشرب ابجديات “فن” التبرير في البيت او الحارة قبل تعلمه ابجديات اللغة في المدرسة، ويحفظ عن ظهر القلب المبررات التي يغطي بها غيابه وكسله ومشاكسته في الصف او في الشارع امام معلميه او ابيه، محاولا اقناعهم بحجته، وقد تنجح خطته ويقتنعون بها وقد لا تنجح ويتعرض لموقف بايخ، الامر يتوقف على مدى ذكاء ومهارة المبرر في وضع خطته “كذبته”المحبوكة، وعندما يشب ويكبر تتوسع خبرته ومداركه ويتعلم مباديء واسس هذا الفن اكثر، حتى يصبح استاذا كبيرا في هذا المجال ثم يقوم بدوره بتعليم الاجيال اللاحقة وهكذا دواليك..
تنتشر هذه العادة وتتطور اكثر في المجتمعات المتخلفة، بينما تضيق وتنحسر في المجتمعات المتحضرة التي تعتمد الصدق والشفافية في مسيرتها الحياتية.. ويختلف التبرير عن الكذب، بأن الأول، يكذب فيه الإنسان على نفسه، بينما يكذب الانسان على الناس في الثاني، وانا اقول ان التبرير ليس فقط كذب الانسان على نفسه بل على الاخرين ايضا، و”التبرير” يعتبر اهم واعظم اختراع لغوي وفكري واجتماعي وسياسي واقتصادي اكتشفه الانسان منذ ان وجد، ومايميزه عن الحيوانات ليست اللغة ولا العقل ولا الإحساس ولا الوظائف الجسدية، ولا أي شيء آخر؛ كل ما هو موجود فيه موجود فيها ايضا، وربما اكثر، ولكن ما يميزه عنها هو”التبرير” فهو اختراع يتفرد به الإنسان وحده دون غيره من الكائنات الحية.. والعجيب ان الانسان يظل يمارس هذه العادة حتى وهو في الاخرة امام الله في محاولة للتملص من اعماله السيئة”يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوءالدار”.. وبشكل عام التبرير عادة سيئة واثره خطير على المجتمع ولكن اخطر انواعه هو ما يسوقه السياسيون والحكام لخداع الجماهير واضفاء الطابع القانوني لقراراتهم وسياساتهم وتغطية لاهدافهم الحقيقة، برر صدام حسين قصفه لمدينة “حلبجة” الكردية بالكيمياوي وقتل الالاف من الابرياء بلحظات بانه كان يدافع عن حياظ الوطن ويحافظ على حدوده من دنس الايرانيين، وكذلك فعل “نوري المالكي” طوال فترة حكمه وكان يبرر لكل ازمة يثيرها في العراق وله تفسير جاهز لها، خاض حرب اهلية مع السنة وسقط من جرائها عشرات الالاف ليبرهن انه حامي حمى المذهب والمدافع عنه ودخل في صراع مرير مع الكرد ومارس بحقهم كل انواع التخويف والتهديد وفرض عليهم حصار شديد في اعتقاد خاطيء بانه بذلك انما يحمي العراق من التفكك والتقسيم، ومازال حيدرالعبادي واعضاء حكومته يسيرون على نفس طريقته في معالجة القضية الكردية ويرفعون شعاره الذي اغرق العراق في بحر من الازمات وهو “العقاب الصارم انجع وسيلة لردع الكرد عن توجههم الاستقلالي” ففي غضون اسبوع واحد بعد ظهور نتائج الاستفتاء التي فاقت نسبة 92 بالمئة لصالح الاستقلال تلقى الكرد حزمة من الاجراءات العقابية الجديدة ضدهم بدأ بالحصار وانتهى بمنع تحليق الطائرات في مطاري اربيل والسليمانية، هجوم بربري متسلسل لامثيل له في التاريخ لتركيع الشعب الكردي وخضوعه للوصايا الطائفية بحجج وتبريرات واهية مثل الحفاظ على الوحدة الوطنية ومقاومة “التمرد والانفصال” ومنع التقسيم والالتزام بالدستور وهي نفس التبريرات والذرائع التي كان النظام السابق يسوقها لارتكاب جرائمه الكبيرة ضد الكرد.. لم يتغير شيء!