خلال المحاضرات الخاصة التي القيتها على طلابي بمناسبة حلول شهر محرم الحرام، شهر الفاجعة الكبرى، شهر الدم الطاهر الذي أنتصر على السيف وأقتلع عروش الطغاة…
فقد قمت خلال هذه المحاضرات بتدريس كتاب للشهيد محمد باقر الصدر (( أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة اﻷسلامية)) وهو كتاب بحق يستحق القراءة والدراسة والتدبر..
وقد أستقرأ الشهيد محمد باقر الصدر التأريخ جيدا وأنتهى الى اطروحات ونتائج مدهشة مازال الواقع يؤكدها ويثبت صحتها بالرغم من مرور عقودا من الزمن على صدورها….
واليوم أحببت أن أجعل القارئ الكريم يشارك معنا في قراءة ما سطرته أنامل هذا المفكر العظيم الذي نهل من مدرسة الامام الحسين، مدرسة التضحية والإيثار، حيث أخترت لكم مقالا كتبه السيد محمد باقر الصدر سنة 1958 تحت عنوان (سيبقى هذا الصوت خالدا ) فقد جاء فيها ما نصه:
(( الحسين مصباحُ الإنسانيّة الباهر، الذي أضاء بالنور في ليلٍ من لياليها الحالكة، ليصنع لها نهارها المشرق الوضّاح، ويأخذ بيدها في سبيل تحقيق إنسانيّة الإنسان، وصقلها صقلاً إسلاميّاً خالصاً، وإعطائها حقوقها الفرديّة والاجتماعيّة، بعد أن انتزعتها منها حكوماتُ الإرهاب والاستعباد، التي لم تقرّ يوماً ما نظرةَ الإسلام في الحكم والنظام .
الحسين هو الفرد الذي اختُصِرَت في فرديّته العبقريّةِ قداساتُ الإنسانيّةِ كلّها، وتماوجت في روحه الفذّة حياةٌ تصنع الحياة، فكبر عليه أن يستأثر بها، وَوَهَبَها للعقائد والأجيال، فشاعت حياةُ الحسين فيها، وتحوّلت من حياة شخصٍ محدود إلى حياةٍ ثريّة خالدة للمثل الإسلاميّة العليا، وحياة ضميريّة خيّرة في قلب الأجيال الواعية من بني الإنسان .
وهكذا استمدّت العقيدةُ نشاطها واستعدادها للخلود من روح الحسين ودمه، كما كان قد استمدَّ منها ] كيانَه [ وضميرَه، فصارت تحيى بحياةٍ حسينيّةٍ مشعّة، كما كان يحيى بحياة عقائديّةٍ طاهرة .
الحسين هو ذلك العاشق المفتون بالحقيقة الإلهيّة المقدّسة وجمالها الأزلي، الذي لا يحسب حساباً للدنيا وما فيها؛ لأنّ ذلك كلَّه ليس إلّا شعاعاً ضئيلاً من ذلك المنبع الفوّار الذي قد فنى فيه، وسَحَرَ روحَه وكهرب مشاعره كلَّها.
استمع إليه وهو يخاطب معشوقه العظيم عند مسيره إلى جهاده في دعاء عرفة، الذي هو النشيد الخالد للعبوديّة المخلصة : «ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك».
بهذه الروح الرائعة التي لا يدخل شيءٌ من أشياء هذا العالم المحدود في حسابها، ولا ترى بعد الظفر بالجانب الإلهي جانباً آخر يخشى فواته، أو يؤمل إدراكه؛ لأنّ المحدود ليس إلّا لمعة لذلك الوجود غير المحدود .
أقول : بهذه الروح المعنويّة الباهرة دخل إلى معركة كربلاء، مضحّياً بنفسه وبصفوة البنين والإخوة والأصحاب، وبجميع اعتبارات هذه الدنيا الفانية؛ لأنّ سكرة العشق الإلهي جعلته يرتفع عن ذلك كلّه، فلا يرى بعينَيْ عقله إلّا معشوقه العظيم، يتقبّل منه قرابين التضحية، ويبارك له فيها، فيزداد إطلاقةً وبِشراً كلّما ازدادت المعركة اتّساعاً وفارت دماً .
خاض الحسين تلك المعركة الهائلة مندفعاً بضمير إلهيٍّ يملأ ذات نفسه، وبيده مشعلُ الحياة والنور، ولكن شاء صانعو الموت للشعوب – الذين لا يمكن أن يقيموا عروشهم الجائرة إلّا في ظلام – أن يطفئوا ذلك المشعل، ويقضوا على ذلك النور .
وكانت تلك المعركة مظهراً دامياً للصراع الهائل الذي انبثق عن وضع نظام الدولة في جوهر الإسلام؛ وذلك أنّ الإسلام -بطبيعته المتوثّبة إلى الاتّصال والخلود، وبجوهره الذي جاء بالصيغة النهائيّة لرسالات السماء- لم يكن ليرضى إلّا أن يمتدّ بوجوده ما امتدّت هذه الإنسانيّة، مهذِّباً ومنظِّماً، ولهذا وَضَعَ في الصميم من دستوره نظامَ الدولة العادلة، فكان ذلك إكمالاً للدين وإتماماً للنعمة كما أعلنه القرآن العظيم عند احتفال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ودنيا الإسلام يومَ الغدير بوضع نظام الدولة المخلصة .
وتتركّز الفكرة في هذا النظام على ضمان العدالة والمساواة بإحراز الوجود الأصلح الذي يسعد به المجتمع والفرد، ويطمَئنُّ في ظلّه إلى حياة حرّة كريمة في حدود نزيهة .
وعماد هذه الحياة الصالحة في نظر الإسلام : ذلك الوجود الأصلح الذي يكون امتداداً للنبي، لتمتدّ بذلك رسالةُ النبوّة، والذي لا بدّ أن يرتفع عن الهزّات وتمتنع عليه حُمّى الحكم ومضاعفاتها، من تأثّرٍ بعاطفةٍ، أو انحيازٍ إلى غير العدل، أو فساد في رأيٍ، أو انبعاثٍ عن غير الضمير الإلهي الجبّار .
وإمامٌ كهذا يكبر على طاقة المنتخِبين أو المعيِّنين من الناس، وبهذا كان الانتخاب الإلهي له هو الأساس الذي تقتضيه روح الإسلام، ويتّفق مع جوهره العظيم؛ فليس من جوهر الإسلام في شيء أن يقرَّ حكماً انتخابيّاً ينبثق عن شتّى العواطف ومختلف الأهواء والنزعات، وهو الذي جاء لتقويم تلك العواطف وتحديد هذه الأهواء والنزعات . وليس من طبيعته أن يمضي حكماً فرديّاً يقوم على دكتاتوريّة غاشمة لا حدود لسلطانها، ولا حساب على أعمالها .
وإنّما الذي هو من طبيعته بالصميم أن يعتدل أمر الإمامة برجل معيَّن مختار، ولكن لا على اعتبارٍ دكتاتوريٍّ في الحكم، بل وفق خطّة ] تجاوز [ بروحها روحَ الديموقراطيّة العادلة التقدميّة؛ ذلك بأنّه يجعل الله تعالى مصدر السلطة الوحيد في جهاز ذلك الحكم، ويعتبر الشعوب عياله وشعبه، ويقيم الإمام أميناً على تنفيذ قوانينه، وحارساً لأحكامه، ومسؤولاً بين يديه، يوزّع على ضوء تلك القوانين حقوق الحياة السواء بين إخوانٍ في الدين والإنسانيّة .
وقد أعطى سيّد الشهداء (عليه السلام) صورةً رائعة عن ذلك في قوله : > فلعمري، ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفْسَه على ذلك لله
وقد امتُحن هذا النظام للدولة -منذ أن أعلنه الإسلام وأتمّ به رسالته- بمعارضة صاخبة أَبَت أن يبقى لون الحكم إلهيّاً دائماً، وطابع السلطة نبويّاً هاشميّاً أبداً
وجاءت المعارضة أوّلاً على شكل الدعوة إلى الانتخاب الحرّ واستمدادِ السلطة الحاكمة وجودَها من الناس أنفسهم، وعطّل ذلك النظامَ الخيِّرَ في عواصف مزلزلة لا سبيل لنا إلى ذكرها الآن .
وقام الحكم في دنيا الإسلام انتخابيّاً في لونه الظاهر، بعد أن حصرت دائرة الترشيح في إطار ضيّق من مهاجِرَة قريش خرج منه أكثر المسلمين، وقُصِرَت الأصوات الانتخابيّة على عددٍ لم يكن ليتيسّر أن يقوم ذاك الحكم على أكثر منه.
ثمّ ظهرت عليه مظاهر النزعة الفرديّة في السيطرة والحكم، فلم يمضِ عقدان حتّى اختصرت الانتخابَ في ستّةٍ لم يكن للمسلمين أيُّ تأثيرٍ في ترشيحهم.
ثمّ اشتدّ الطابع الفردي وضوحاً بعد ذلك .
وما زال الحكم يسير في خطٍّ منحنٍ -رسمته المعارضة في ظروف ومؤثّرات لا يتّسع لشرحها المقام- حتّى انتهى إلى دكتاتوريّة اُمويّة سافرة، هي أبعد ما تكون عن طبيعة نظام الدولة المفروض في قانون الإسلام، وضاعت الحقيقة التي قالها الإسلام في هذا الموضوع.
وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحكم الإسلامي، دقّت ساعةُ السماء في اُذُنَي الحسين، تؤذنه بأنّها لحظة التضحية والشهادة، لا لكسب السلطة عمليّاً واستردادها من الغاصبين؛ فإنّ ذلك لم يكن ليؤمّل في تلك الظروف التي درسها الحسين (عليه السلام) جيّداً، وفهمها عن آبائه جيّداً أيضاً، بل لتسفر دولةُ المعارضة بلون أحمر من الدم ولون أسود قاتم من الظلم، فينتزع بذلك عنها الطابع الإسلامي الذي كانت تدّعيه، ويضع هذا الطابع على الدولة التي أرادها الإسلام للمسلمين . لم يُقِم الحسين (عليه السلام) دولة الإسلام، ولكنّه أرّخ الدولة الإسلاميّة وكتب حقائقها الذهبيّة، وسجّل نظامها بمدادٍ من الدم الطاهر أبدَ الدهر .
كان يوم الطفِّ تاريخاً رائعاً ليوم الغدير، وكان الدمُ الزكي المنسكب على أرض كربلاء برهاناً على أنّ روح الإسلام تتعالى عن منطق المعارضة وحكوماتها .
كان يومُ الطف يومَ القيامة الكبرى التي قضت على شرف الحكم واعتبار الحاكمين، وأعلنت للمسلمين -ببطولة لم تظفر الإنسانيّة بنظيرها- حقائق الإسلام في إطارٍ دامٍ رهيب .
ولم يكتفِ الإمام بذلك، بل استغاث في ذلك الموقف العظيم بالإنسانيّة كلِّها، ودوّى صوته الإلهيُّ طالباً المعونةَ والنصر، ففاض تاريخ الإسلام بالتضحيات الكريمة والأريحيّات الخيّرة والحركات التحرّريّة الجبّارة، وسوف يبقى هذا الصوت يرنُّ في مسمع الإنسانيّة، ويدفعها إلى الموت ليخلق لها الحياة، وإلى التضحية ليهبها الكرامة، يعلِّمُها كيف يهب الفردُ حياتَه للاُمّة، فيكون شيئاً من حياة الاُمّة كلّها.))