في يوم صيفي قائظ , وعدني صديقي عبد الجواد أن شقيقه أنور هيأ لي قصة قصيرة تندرج ضمن أدب السجون , وكنت أفهم أن كتابة العمل الأدبي في السجن ماهو إلا تعبير عن المغالطة بين الأديب والسجن , إذ كنت أرى أن السجن هو المكان الذي لايذعن فيه السجين الى هواياته أو عواطفه لأن وجه السجن هو المنتصر بالنهاية. ولكن ليدعم رأيه فقد أكد عبد الجواد أن السجن لايقدر على فصل العاطفة والمشاعر عن السجين لأنهما شأنآ فسيولوجيا يكمن في عمق الإنسان . وأضاف من ناحية أخرى , أن هاتين الصفتين تمتزجان مع الظلم والصبر على العذاب لتصنع عملا ثوريا يخرج من بين قضبان السجن ليغير العالم الخارجي أو عملآ أدبيآ يوثق ذلك للتأريخ وللقارئ دور في تقدير ذلك العمل .
أخترت أن أذهب لزيارة شقيقه أنور في أحد أيام الزيارة المخصصة , وجاء اليوم وكان مختوما عليّ أن أزوره في سجن المدينة, فجلست في باحة فسيحة ترص بالعشرات من الزائرين , وكان ينبغي أن تختم سواعدنا بختم ازرق , ويبدو أن هذا أرثآ تورثه إدارة السجن للزائرين ليفصل الصلة بينهم وبين السجناء . وفي تمام الساعة التاسعة صباحا دخل السجناء برفقة الأمناء الى الساحة.
كنت احسب ان السجاء يعيشون في عالمين لاتربطهما ببعض أي روابط ثقافية غير ثقافة الإجرام. ولكن عندما اتيحت لي فرصة زيارتهم أدركت أن عالمنا وعالمهم هما نسيج إجتماعي واحد ولكن ببوابتين تتميز احداهما عن الآخرى بالحرية فحسب . فالسجناء تعترضهم مشاكل تحول بينهم وبينها , لذلك يستحيل ان يندمج عالمهم بعالمنا مالم يدفعوا ثمن مشاكلهم تلك من رصيد سنوات الحرية .
كانت الوساوس في هذا الأمر تجتاحني حتى جاء ” أنور ” , وهو شاب في الثانية والثلاثين من عمره , يكاد طوله المميز , الذي وصفه لي شقيقه , الوحيد بين السجناء ويذكر برجال الروايات القديمة إلا من قسمات وجهه التي تكشف عن ظلم كبير تعرض له . وحينما تدقق أكثر تجدها وقعت بيد سلطان آخر هو سلطان الزهو بمافعل .
جلس أنور وهو يردد بصوت هادئ :
الحمد لله الذي أتاح لي أن أحلم في هذا السجن بالنور الذي يخرج منه .
ثم التفت والقى التحية وأبتسم لي قائلآ :
أهلا بك يا مصطفى في سوق الأحاديث وليس في سوق الكتب . ثم تابع قائلآ :
ولكن إن شئت فهناك الكثير منها ومن الأدباء أيضا , الذين ستأخذك الدهشة بهم وبأعمالهم رغم قيود السجن وثقلها على وجوههم .
أقتربت من أنور أكثر وأنا أتحسس أنني أمتزجت معه في شيء أسمه الأدب أو بمعنى آخر برابطة الجزء الأدبي من مضمونه الإنساني . فقلت له بعد أن أمضيت ساعة أتحدث عما حققه من ذلك المضمون في عالم السجن المستهلك للزمن الصامت فحسب :
هل صنعت شيئا وجدته يلتصق بالخارج ليصلحه ؟
بلا شك , فقد كتبت قصة حقيقية يظهرفيها الإنسان أمام جماعة غير متلاحمة مع المبادئ والقوانين ولاتوجد أي شرارة للوعي لتنطلق من تعاملهم الأجتماعي بإتجاه الآخر. لذلك يرون أن الآخر هو مجرد ركام من الأعضاء وليس جسدآ إلاهيآ يؤمن بدقة كبيرة بالعمل الذي يؤديه . لذلك نراهم يديرونه كالناعور في عالمهم المشوه بالحقائق , تكون فيه أسبقية العقوبة وتطبيقها عليه قبل أسبقية الحفاظ على بنيته الخلقية ووعيه الإنساني من التحطم , لذلك يخضعونها بما هو مختلف في الحياة خارج السجن , أي لمقادير القوة التي يرون أنها الوحيدة التي توفر القدرة على إنتزاع الحقيقة الكامنة في ذات المتهم .
رائع أستاذ أنور . أجبته , وأضفت :
ولكن ألا ترى أن السرد في هذه القصة سيكون بالغ التعقيد لكي توصّل الجوهر الذي تراه الى تلك الجماعة لتقوم بإصلاح شأنها ؟
لوّح أنور بيده بالرفض وتناول ورقتين وفضهما أمامي , وقبل أن يقرأ قال:
سيأتي دورك بعد أن أنتهي من قراءتها لتعلق بماشئت عن خصوبتها الأدبية .
أشرت برأسي موافقآ وبدأ أنور يقرأ :
” بدأت أسمح لذاكرتي أن تزحف للوراء لتلامس محتوى الماضي البعيد , فهنالك العديد من الاصدقاء كنت أحبهم وأنظر اليهم كأنهم سيرثون مجدآ عظيمآ من خلال أعينهم , فمنهم من كانت عيونه زرقاء واسعة ومنهم من كانت نرجسية مليئة بالصرامة تارة وبالقسوة تارة أخرى . وهناك آخرون ممن كانت عيونهم سوداء صافية وبهية كأنها المرآة تتمنى النفس لو تنظر اليها طوال حياتها , وكنت أشعر بالفخر لصداقتهم وكان دمي يندفع في رأسي عند تذكرهم دون أن أعرف السبب وراء ذلك . فهل العواطف والمشاعر تتغير إزائهم بسبب الاحتجاز أو بسبب غيابهم عن زيارتي , أم أنه البحث عن سد النقص ؟
أتوقف أحيانآ وكأنني أرغب في مراجعة ذلك المحتوى فحسب والاحتفاظ به لسنوات أخرى .
غطيت وجهي بقطعة القماش الخضراء التي كانت معي وقد بدأت تتهرأ بمرور الايام , إذ تغيّر لونها البرّاق وأنا أنتقل من محتجز الى آخر من دون أن تفقد ذلك العبير المميز لها إذ لاثالث بيننا في الزنزانة سوى المرارة من تلك الفعلة التي جرت عليّ فلم أجد غير قراءة كلام الله في قلبي لتدب فيّ حياة من نوع آخر .
كنت آسمع صرخات معذبة من وراء الجدران , بعيدة وأصوات رش مياه تختلط بأصوات هراء تشقق القلب وخاصة في الليل ثم يتحول الضجيج الى صمت إلا من إغلاق أبواب كأنها أبواب الجحيم فتمضي أصواتها كأصوات إغلاق آخر حانوت في سوق الهرج عند المساء . وبعد أيام يتسلل ضوء ألنهار من تحت الباب لعدة دقائق ثم يندلق الظلام ثانية ثقيلآ فلم أعد أحتاج الى وضع كوفيتي فوق رأسي فظلت جديدة فترة طويلة .
في سجن آخر سمعتهمم يطرقون باب الزنزانة وهم يصرخون بأنهم سوف يقتلونني إذا لم أعترف بجرائمي الاربع ثم يمضون من دون أن يدخلوا . وأحيانآ أستيقظ على أصوات مزالق الاقفال وهي تصرّ ودخول رجلين بسراويل وفانيلات مبللة بالعرق وبأيديهم مصابيح مشحونة . كنت أسير متتبعآ دفق الضياء الابيض , مترنحآ بينما تلتصق عيونهم في قامتي وأنا منقطع الانفاس . ومرّة قال لي أحدهم : ها . . . يابطل ! ثم التفت الى صاحبه يقول له : أنظر اليه كم هو أمير في عالمه المزيّف !
كنت أنظر اليهما من دون أن اتفوه بشيء , لأن الكلام كان يجهدني لكنني أتذكر أنني قلت : أنتم تظلمون أنفسكم فأنا بريء , والعروق النافرة في وجوهكم أجعلوها ضد عدوي وعدوكم . ردّ عليّ أحدهم : تحمّل نتيجة الفوضى والكلام غير المهذب الذي تطلقه للاغراض البطوليه الفارغة . ثم أدرك أنه عاجز عن النطق بالحقيقة لأنه كالآخرين ممن أعتنق الخداع وعمل به فقال وقد القي بي في زنزانة أخرى لاتختلف عن أختها بشيْ : لم لا توكّل المحامية تلك ؟ فقلت في نفسي : أنها ينبوعهم الذي يدعونني للشرب منه .
تلك المحامية أخبرت أمي مرة قائلة : أن أبنك مجرم ولديه سوابق , وهو متهم بقتل عشرين شخصآ كان أحدهم طبيبآ . ثم أردفت تقول : أنا وحدي أقدر على أطلاق سراحه وإلا سيبقى في السجن حتى يتعفن . حينما غادر الأثنان زنزانتي الجديدة وهم يصفّقون بأيديهم كأشارة لغلق الباب , كانوا يقولون لي : ستتعفن إن لم تطرق باب المحامية . لكنني آثرت أن لا أطلب ذلك من أمي التي أثقلت الديون كاحلها , وهي الوحيدة التي أمتلكت القوة والبسالة لمواجهتي أول مرة في السجن .
مرّ شهر آخر كنت أستعير ذاكرتي الجميلة فكان يوم تشاجرت فيه مع عامل مضخة البنزين الذي ينقص لترآ إثر لتر كل يوم يملأ فيه خزانات البنزين البلاستيكية . نظرت اليه بأمعان , فقد كان أسود مثل غجري في بدلة العمل الزرقاء , ذي عينين سوداوين غائرتين وكأنه يعمل في منجم . أمسكت به وقلت : ألم يخبرك أحد بما يفعله المال الحرام ؟ ! لماذا تلوّث الدم الذي يجري في عروقك ؟ ردّ عليّ بجسارة اللصوص : وهل أنت راهب أو لقمان الحكيم ؟ ثم أضاف : ألم تنظر الى وجوههم المتوردة وأولادهم وقصورهم ومازالوا يسرقون , أما أنا فكما ترى لاجسد لي يقوى على عمل غير هذا ولاوجهآ متوردآ أحمله ولا أموال عندي في خزائن البنوك مثلهم .
على الرغم من المرارة التي صعدت الى حلقي والاحمرار الذي علا وجهي قلت له بشفتين يابستين :
وهل نظرت الى ماينمو ببطء في أجسادهم لكي تسند ظهرك على ماتفعل أم أن عينيك تحملق بالالوان التي تلاعبوا بها وهي عند الله أشد سوادآ من أفعالك . ثم قلت :
تمتع إذن معهم في نزهة مع الشيطان , فأنت لاتعرف من أين أتيت ولا أين ستذهب . هزّ رأسه مستنكرآ ثم ربّت على كتفي بخبث قائلآ :
نحن جميعآ في عالم زائف .ثم أضاف : أنظر كم بنوا بيوتآ لله وقصورآ فهل من يحاسبهم ؟
نهضت رافعآ خزان البنزين وقلت مغادرآ : تستطيع أن تأكل بالحلال وأن تصبر مثلما يصبر الآن أبناء جلدتك على سنوات الجوع .
أنه أمر طبيعي أن أنام وحيدآ وأستيقظ وحيدآ في كل زنزانة , لكن ذات يوم أستيقضت فوجدت رجلآ نائمآ في الركن البعيد من الزنزانة . كان مبللآ وكأن أمواج بحر هائج القت به بالقرب مني . لم أقترب منه , بل ترددت في باديء الامر فأنتظرت علّيّ أسمع أهة يطلقها أو صوت أنفاس , لكن دون جدوى حتى تسلقني السأم فأسندت ظهرى على الحائط كأنني أشاركه اللامبالاة .
لم يتحرك الرجل , فساويت بينه وبين الزمن في الزنزانة فقلت في نفسي : ماذا يعني أن أجد رجلآ لاينتمي الى منظومة الحياة وفي سجن غير نمطي كهذا ؟!
أشتد السأم بي وبدأ التوتر يأخذ شكله وكأن مرحلة جديدة بدأت تمتد في كياني ببطء , ثم حدثت نفسي : ترى هل هو ميت ؟ لكنني لاأشم رائحته التي تذكربرائحة الطلاء , يالهذا الفصل الدرامي !
لم أسمح لنفسي أن أقترب منه , بل بدا لي أني تراجعت عنه كثيرآ من دون أن أدرك ذلك وكأن المرء تحركه سيطرة الباطن لا الظاهر . بقيت على هذه الحال كأنني أمام أمتحان عقلي , أنفعالي لم أستيقظ منه حتى حلّ ظلام الكون في فسحة الزنزانة الضيقة . هكذا أذن . قلت في نفسي , هاهو الموت أمامي في الظلام بكل دلالاته وشكله ولم يبق لي غير الاستغاثة , ولكن بمنّ ؟ والعلاقة بينهم وبين الموت علاقة انضجها الطغيان الذي توارثوه وتراجعهم عن أنسانيتهم . تذكرت أسماء ممن كتب عن ظلام السجن والمنافي فكانوا حقآ صادقين في وصف أنهيار الانسانية وتسلط الذات المريضة التي تدير ظهرها للخالق وأديان العباد خدمة لايقاع السلطة المقيدة بالزمن المحسوب .
ولم أكد أتجاوز أفكاري حتى قفز النعاس في عيوني والتعب في جسدي وبدا لي كأن الرجل نهض وتقدم نحوي دون أن أرى شيئآ منه في الظلام وسرعان ما أستأنفت تراجعي حتى أصطدمت بالحائط اللامبالي وانا أغمغم بكلام لم أعرف كنهه فصرخت ولم يتوقف صراخي حتى وجدت نفسي في زنزانة أخرى وحيدأ لاأسمع سوى الصمت . في اليوم التالي دخل أثنان من رجال السجن أحدهم طويل ذو لحية سوداء ووجه نحيف وعينين سوداوين خلف زجاج نظارة بيضاء جديدة , أما ألاخر فقد كان قصيرآ وبدا متعبآ ذا وجه أحمر ولحية بيضاء , أما عينيه فكانتا صفراوين كبيرتين وكأنه من وسط البلاد . لم يكلمني أحد منهما إذ أنشغلا بالنظر في جدران الزنزانة وأرضيتها , ثم بدأ الرجل القصير بالكلام متسائلآ :
ماذا رأيت البارحة ؟ هل كنت في قبر حتى ترتجف وتصرخ أم رأيت نفسك كيف تموت ؟
لم تخامرني الكوابيس تلك الليلة ولم تكن أستغاثاتي هي الرد على ذلك , بل كنت غير مستعدآ للموت ربما لأني لم أضف شيئآ ذا قيمة في حياتي أو لأني تذكرت أمي كيف ستكون من بعدي , لكنني أدركت من بعد أنني نجحت في معرفة ذلك الغضب الموجه ضد الموت الذي جاء لينتزعني من الحياة بسياق طغياني متوارث وإيقاع زمني سريع لم أرغب به .
ثم ألتفت اليّ الرجل الثاني قائلآ : آ … قل لي كيف أنضممت الى هؤلاء ياولد ؟ ثم أضاف : هل فشلت في الحصول على عمل فجئت تكسب المال عن طريق قتل الأبرياء ؟ ! تيبست مثل العرجون القديم وقلت : وهل يدفع لك أنت لتظلم ؟ ! أزرقت شفتا الرجل وأسودّ وجهه قائلآ : أتعرف كيف يضعون حبل المشنقة ؟ هكذا ستنتهي , ثم أستدرك قائلآ : تذكر أن ساعة وضع الحبال ستحين قريبآ إذا لم تعترف بجرائمك .
في تلك اللحظة كنت أقارن بين وجهه الاحمر الذي بدأ يسودّ وبين وجه (دارم ) صاحب دكان الزيوت , فقد كان وجهه أصفرآ لما ورثه من مرض فقر الدم , لكنه عندما يغضب يصبح أحمرآ كأنه ثمر الرقي . بعد هذا الاستغراق عدت فقلت لصاحب الوجه المسودّ : أن جريمتي الحقيقية هي رفض شتائم خادمكم ونحن في طابور التفتيش . أشاح الرجل برأسه غيظآ وقال : يالجرأتك , من آنت حتى تردّ على مسؤول . لم أرد عليه , وبعد لحظات وجدت نفسي ثانية في زنزانتي السابقة وألالام تحيط بجسمي كله . جاهدت لكي أنهض إذ تورمت قدماي وعجيزتي فنمت في تلك الليلة وعرفت أنني قد سلمت نفسي الى الايادي الظالمة والقلوب الميتة في تلك
المقابلة , ولم أنتبه الى مصير ضيفي النائم الصامت .
في اليوم التالي , جلس بقربي ثلاثة رجال مع أنوار الصباح الزائرة وكان الباب مفتوحآ . في تلك اللحظة كانت غمائم الرحمة فوق رؤوسهم , فقال لي كبيرهم : سنخرجك , نعم سنخرجك هذا اليوم الى مكان آخر . ثم أضاف بلهجة دافئة : نرجو أن تعذرنا يا محسن عما حصل منّا فأنت تعرف أن هذا واجبنا . أحسست بصمت عميق وأنا أحدق الى مكان الضيف الخالي فقلت في نفسي : ماهذا ؟ أين ذلك الرجل الذي رأيته البارحة ؟ أنتبه محدثي لأنشغالي بالتحديق الى ذلك المكان فقال لي : يبدو أنك مسكون بالهواجس ؟! دارت عيناي في محاجرها من دون أن أرد عليه كأنني نسيت تفاصيل حلم ففضلت النظر في وجهه وكان الصمت عميقآ هذه المرة حتى رأيت الثلاثة يتكلمون من دون أن تخرج الاصوات من أفواههم وكأنني سقطت في هوّة عميقة , عميقة جدآ خرجت منها بسرعة وأنا أعبر الشارع التجاري وبيدي خزان البنزين وأصيح بصوت عال : لا .. أنه ثمانية عشر لترآ بعشرة ألاف دينار . ثم وصلت الى سيارة فارهة لينظر اليّ سائقها وهو يتمتم بشيء لم أفهمه . ثم رفع زجاجة الباب وأنطلق بسيارته لأعود الى مكاني ليسألني صديقي (دارم) : الم يأخذ البنزين هذا المتغطرس الشيطان ؟ ! قلت له :
أنه حرّ , أما نحن فقد تعودنا على هذه المهنة ومازلنا أحرارآ .
: حسبي الله على من أضاعوا علينا الفرصة ولم يقبلوا بتوظيفنا , أنهم والله يعبدون ألهة أخرى من دون الله . رد صديقي .
وفجأة رأيت الثلاثة يمسكون بي وهم يقولون : ماهذا العويل أيها المجنون , أتجرؤ أن تعبث بنا فتقفز هنا وهناك ؟ ! ثم مالبثوا حتى أرخوا أصابعهم الحجرية عن كتفي ويداي وعادوا الى لهجتهم الدافئة ليقول لي أحدهم : قلنا لك سنخرجك هذا اليوم , ثم قال آخر : لاتخف , لاتخف ولم يزيدوا على ذلك شيئآ ثم أخذوا ينظرون الى بعضهم من دون أن يتكلموا بعدها غادروا الزنزانة لأعود الى مكاني وجسمي يئنّ من الآلام وكأنني بأنتظار موت لامفر منه . في صباح اليوم التالي نهضت وأنا أتوق لرؤية الشارع بعينين مازالتا تتذكر كيف خاض هذا الجسد المقهور بالضعف الآن تحدي الفقر وأهمال العالم بالانحياز الى المعرفة فجعل العمل وكسب المال الحلال فم الحياة الذي يصغي اليه على الرغم من ليالي البلاد المظلمه وبروز نجومها الهزيلة ليصبح سيد نفسه,
بلى . قلت في نفسي وأردفت : سأرى التبليط والنور والناس , ستعود اليّ الرغبة في التحدث وأسمع صوت الله في الصباح وسأنام قبل أن يهبط الليل لكي لاأراه ثانية .
آه .. بدت نفسي وكأنها تقايض جرحها بالآمال أو كأنها ترسل أشارات أحتضار قريب . أقتربت الساعة السادسة صباحآ بعد أن ولى الوسن الادبار أمام لهفة الحرية وفضائها العجيب .
أنطلقنا في سيارة من دون أن أعرف نوعها وأنا معصوب العينين لا أسمع سوى صدى العجلات وهي تدوس الشارع المبلط تارة والحجارة تارة أخرى وكان الجو حارآ فأحسست بالحجارة تتحطم تحت العجلات وكأن الريح اللاهبة ستذيب بدنها , بينما أهتزازاتها لفرط السرعة جعلتني أصطدم بجسدي بجدرانها فتختفي أصوات ارتطام عظامي مع هدير دواليبها فعرفت أنني ملقى في المكان الخلفي من السيارة من دون أن أتحكم بجسدي بسبب الاصفاد المثبته بيدي .
بين الحين والأخر أسمعهم يشربون المياه المعبأة دون أن يضعوا شيئآ منها في فمي . في تلك اللحظة تجسّم أمام عيني يوما كنا نعمل في منطقة القرينات جنوب المدينة . كان الصيف حارقا في الصحراء وكان الثلج الذي نأخذه معنا عند الساعة الخامسة صباحآ يذوب عند الثامنة حتى يغدو ماء حار . لم تزل تفترش ذاكرتي تلك الصور التي تجيء في لحظة الخذلان كأنها تهدف الى حجبه من أن ينقض فيحطم كل شيء . كنا نضحك في سيارة البك آب برفقة الحرية ونسخر ونأكل فطورنا قبل أن تطأ أقدامنا موقع العمل في فضاء الصحراء الرحيب , فلم أعبأ بكأس الماء البارد الذي تجاهلني لعدم رغبتي به في تلك الرحلة .
توقفنا فجأة وبدأت خطواتي تنطلق بسرعة وأياديهم ممسكة بي , بينما الاحساس بالمكوث في المكان الجديد أنتابني بشكل غريب يشبه الى حد كبير تكرار الانتقال من بيت الى آخر بسبب عدم قدرتي على دفع الايجار المتصاعد في كل مرة . تبدو هذه الاستعادة للذكريات وكأنها ثقبآ في جدار السجن الى الحريه , وكأن الوقوف في الفراغ يعكس هذا الاحساس . هذا ماجاشت به نفسي . أحسست بالايدي وهي ترفع العصّابة عن عينيّ فرأيت النور ينفذ من خلال أجفاني على الرغم من تعودها على الظلمة فتمنيت برغبة لاشعوريه لو أسبح بضوء الشمس عاريآ لتقتلع الظلام الحبيس عن كل جسدي . لم أجد في فمي شيئآ لأقوله , بل أرتجفت وسقطت دموعي .
كان الجو حارآ في الخارج إلا أن الارض المحيطة بالسيارة كانت مليئة بأشجار السدر ونباتات الكابرس الاخضر فأحسست بالبرودة وهي تجهض كل الحرارة في جسدي . نظرت الى المكان الفسيح المضلل بالاشجار لأتذكر أمي . لم ينتابني الندم على مافعلت فهي التي غرزت فيّ روح الكفاح والشجاعة في قفص العبيد الصامت .
عبرت البوابة الرئيسية وأنا لاأجد غير المرارة في هذه الرحلة التي أخذت مني أكثر من سنتين , ففي كل يوم أرحل باللاشعور الى تلك الايام لأخاطبها لتميّز بينها وبين الأيام التي يقضيها رفيقها المضطهد الآن . فلا متعة إلا في أرتعاشة قلبي حينما أحلم بها , فهي الفردوس الذي سأغمض عيني به .
وصلنا الى إحدى السقائف وقد بلغ النهار منتصفه , أدركت أنها أعدت لإيواء المعتقلين . أدخلوني بها ورحت أنظر بشغف الى وجوه الناس المتفرقين في جلوسهم على أكوام الفراش الملموم كأنني جئت لإصافح عالمهم الذي أعصبوا عيني عن رؤيته . كانت جدران السقيفة مليئة بصور شيوخ كبار وآخرين شباب وقد أحيط أسفلها بقطع مستطيلة طويلة من القماش الاسود لتشكل إطارآ مهيبآ للجدران بينما أمتلأ المكان بروائح ذكية وهواء غير معبأ برائحة دخان السكائر كما كنت أتوقع . سررت بذلك المكان الذي يذكر بزحام عمال الميناء ورائحة العرق المتصاعد منهم وهم يخزّنون أكياس الرز تارة و السكر تارة أخرى حتى تلامس السقف المتشابك بالالواح الحديدية , بينما كانت مناديلهم المعبأة بطعام الغداء البسيط خارج السقيفة . . آه , كم مدهشون أولئك الذين عاشوا على قبضات من التمر وفتات من الخبز وبعض أعواد من الخضروات . هاهي السقيفة الآن تؤول الى جيل آخر , فجيل عمال الموانيء ولدوا في عالم رأوه جديدآ وها هو جيل أخر يولد فيها لكنه جيل سجين . يبدو أن القدر لايختص بجيل دون سواه فيا لوقاحته . خاطبت نفسي بمرارة ونمت .
” في ذلك الحشد لم يرغب محسن في شيء سوى النوم , فطلب منا أن نتركه لينام بضعة ساعات ثم يجيب على أسئلتنا فجئته بفراش وقلت له : لاتيأس , فستحلّ الساعة قريبآ , ثم تركته لينام . مرّت ثلاث ساعات عندما أستيقظ على هدير أصوات السجناء عند وقت العشاء . جئته بصحن من البلاستك وقلت : أذهب وخذ حصتك .
تناول طعامه من مرق البطاطا والرز ورغيف واحد من الخبز ثم شرب الشاي وقال لي : هل تعلم يا مراد أننا محشورين في قدر يأبى أن يجعل الاخرين يفهموننا كهؤلاء الذين يأكلون . ثم توقف عن الكلام وأسند ظهره الى الحائط .
ملأني شعوربالاعجاب به عندما نظرت الى النفر من السجناء وهم يمضغون طعامهم بصوت مسموع وهم جالسون أمام بعضهم وأحاديثهم تخرج من بين الطعام الممضوغ من دون أن نفهم منهم شيئآ .
بعد هنيهة أقتربت منه وقلت : ها … ماذا ترى ؟ !
أرى محنتنا لاتحرك الأمراء , وسوء حظ . أجابني بضجر وأضطراب . ثم همست بأذنه وقلت :
ماهي تهمتك ؟
إنها قصة بسيطة . قال
ماهي ؟ قلت
لقد شتم أمي أحدهم ونحن في طابور التفتيش , يحسب أني أبيع البنزين خلافآ للقانون .
كم أمضيت بالحجز ؟
أنها السنة الخامسة . قال بتحسر
وهل حوكمت . قلت له .
كلا , لأنها أصبحت أربع تهم . أجابني بلوعة ثم أضاف : قتل وأرهاب وخطف وتفجير
إذن قضيتك هي تشابه أسماء ليس إلا ! قلت له بأسف , ثم أبتسمت له وقلت : نحن نتشابهه في التهم , فأنا متهم بسبع جرائم وهي مكافأة عودتي الى البلد بعد غياب دام ثلاثين سنة وتجوالي فيها جائعآ . ثم قلت : لاتخف فذلك الرجل الذي تراه نائمآ متهم بأربع عشرة جريمة أقلّها تفجير حي سكني وأنا أعرفه لايقدر على خلع جناح ذبابة .
ماالأمر برأيك إذن ؟ قال .
أنها القسوة أو شيئآ سندركه بعد سنوات . قلت له وهو يحدق عاليآ في الواح السقف الجملوني .
بعد ثلاثة أيام من إيوائه في السقيفة لم يكن فيها قادرآ على المشي من دون أن يترنح وهو ينشد :” إن زلّت الاقدام بهم فأننا عن الحق لا نزلّ ” . فلم يكن يعرف ماحلّ به طيلة فترة أحتجازه خلف النوافذ والابواب المظلمة , فلم يشارك بالأحاديث معنا بغير أبتسامته الباردة . بعد أنقضاء اليوم الثالث أخبرته أنهم سوف يسمحون له بالزيارة فلم يعط غير عنوان أمه للآتصال بها . كان بحاجة الى زيارتها له , فقد كان يظن أنه سوف يموت فرغب في رؤيتها قبل أن يندسّ في قالب الموتى الخشبي .
لم ينم تلك الليلة , كان يتقلب من الألم والأنتظار في تلك السقيفة المظلمة إلا من نور القمر المتسلل من ثقوب السقف ولمعان عينيه المعلقتين في الواحه الحديدية . فقال لي : أمنيتي أن أحكي لزوجتي وأولادي مارأيت عند خروجي . فقلت له مشاطرآ وأنا أضحك : تزوج أولآ يا محسن لتراهم .
هذا ماأخبرني به زميله “مراد ” في السقيفة وأضاف : أن ” محسن ” لم يفز بزيارة أمه إلا وهوميت . ففي اليوم التالي جاءت الى السقيفة أمرأة طويلة ضخمة الجثة ذات وجه صارم يبدو عليه الحزن والتعب . أستلقت بقربه وعانقته لتقول : مجرمون …حبس الله صياحكم ومنع بعزه جاهكم . ثم رفعت ذراعيها الى السماء وصاحت : لقد مات بين يديك وأمام ناظريك ” .
أنتهى أنور من قراءة القصة , ونظر اليّ وقبل أن ينطق بكلمة قلت مخاطبا:
إنه رجل فاقد للإرادة ويدور في فلك رجال لايحسنون إدارة السجن وهم يتشابهون معه في ذلك الفقدان ,ثم سألته : ترى هل تعتقد أن حجرآ يلقى في هاوية لاقرار لها يمكن أن تسمع صوت أرتطامه ؟
صمت أنور وبدا وجهه خال من اي تعبير , إلا أنني أدركت أنه كتب القصة تحت تأثير ذلك الشعور لإقتناعه أن السجن يتجاوز على تدمير الإنسان من الخارج , لكنه لايقدر على تدميره من الداخل.
أنتهت فترة الزيارة وقمت لأودع أنور بعد أن وعدته بالكتابة عن قصته فبادرني قائلآ :
ياصديقي زيارتك القادمة ضرورية وسأرى ماتكتبه عن عالمنا المغلق الذي يسمى السجن.
خرجت من بين الزائرين تغمرني الغبطة لمعرفة أن السجين هو كائن خلاق لا تلغى مشاعره وعواطفه في أي مكان مغلق وهو ليس ركاما من الأعضاء ملقى خلف القضبان .