(وداع باريس بين قصر فرساي وكاتدرائية القلب الاقدس)
عزيزي رافد…
أرجو أن تكون بخير …
في يومنا الاخير بباريس آثرنا النهوض مبكراً من أجل التوجه الى قصر فرساي ( Chateau de Versailles) وحدائقه ، كما أخبرتك في رسالتي الاخيرة ليوم أمس، والتي تقع جنوب غربي باريس في منطقة(Versailles) التي تبعد عن وسط باريس حوالي عشرون دقيقة.
ركبنا المترو من محطة مترو بورت دي كليشي (Porte de Clichy) الى محطة سانت لازار ( Lazare Saint ) حيث انتقلنا الى محطة القطارات التي تقع تحت الارض وأخذنا القطار الى فرساي حيث اسمتعنا بجمال الطبيعة في المناطق التي مررنا بها.
لدى وصولنا لى محطة قطارات فرساي ، توجهنا عبر علامات الدلالة المنتشرة في تقاطع الشوارع الرئيسية في المنطقة الى الطريق المؤدي الى قصر فرساي فبدت لنا بناية القصر وقبته وسياجه المُذَهَب من بعيد ، وكان علينا أن نمشي على الاقدام لمدة لا تزيد عن عشر دقائق في طريق تحفُه الاشجار العالية قبل الوصول الى القصر. لذا آثرنا الجلوس في مقهى يقدم المشروبات الحارة والباردة فطلبنا القهوة المعمولة بالطريقة الباريسية المفضلة لدينا . وبعد أن انتهينا من شرب القهوة عاودنا المسير عبر الطريق الممتلىء باوراق الاشجار اليابسة والذابلة التي تغطي طول الطريق،وشاهدنا قيام عدد من عمال النظافة برفع الأكداس من الاوراق ووضعها في عربة نقل صغيرة ، إذ نحن في فصل الخريف حيث تتساقط أوراق الاشجار بعد أن أورقت واشتدت نضارة في فصل الربيع وأيعنت في فصل الصيف ، فالولادة والنضوج والنضارة والذبول والموت والتلاشي هي جزء من دورة الحياة في عموم الخليقة التي تُعاد مادامت الحياة.
وأنا أمشي في هذه الاجواء الجميلة خطرت في بالي قصيدة الشاعر الفرنسي الشهير جاك بريفير (1900 – 1977 ) التي تحمل اسم الأوراق الميتة (Les Feuilles Mortes ( ، التي كتبها عام 1945 وغناها أول مرة الممثل الفرنسي إيف مونتان عام 1946 والتي يقول فيها :
” هي ذي الأوراقُ ، أوراقُ غصون الشَّجَراتِ
فـوق جرّافـة حـرثٍ جُمـِعَتْ بعد شَتاتِ
وكذا الآهـاتُ طـرّاً وجميعُ الذكـريـاتِ
إنّ حُـبّـي ، هادئـاً عذبـاً نـقـيّـا ،
باسمٌ دوماً وممتـنّ ٌلهاتـيـكَ الحــياةِ
وحياة الأمس أحلى زانها عطـر ووردُ
حيث كانتْ شمسُنا أكثرَ وهجاً وسطوعاً
غير أني لم أكنْ أصنـع إلاّ الحَسَـراتِ
والتي غنّـيْـتِـها لي من أغانيك شجيّا
سوف أبقى دائماً أسمعها ما دمتُ حيّـا “
وصلنا الى بوابة قصر افرساي( Le château de Versailles )الذي يعود بناءه الى عام 1200م تقريباً إذ بُنيّ كقلعة ملكية في بادىء الامر ، بعدها أمر لويس الثالث عشر عام 1624 ببناء منزل صغير للصيد على تل قريب من قرية فرساي الصغيرة كون الأدغال القريبة وافرة الصيد لكي يتخذه منتجعاً مؤقتاً ليقضي فيه مواسم الصيد ، وبعد موته أمر إبنه لويس الرابع عشر ببناء قصر على نفس المكان ، وفي عام 1632 أمر بتوسيع المنزل، وقد أُعيد بناؤه مرة أخرى كقصر ملكي في القرن السابع عشر الميلادي , في زمن لويس الرابع عشر (1638 – 1715) الذي أمر ببناءه، بدأ العمل في إنشاء القصر عام 1661 تحت إشراف المهندس المعماري الفرنسي لويس لوفو , وإستغرق بناء القصر أكثر من أربعون عاماً , وتولى المهندس (لوفو) في عام 1668 عملية توسعة المكان وبناء الواجهة العريضة التي تبلغ (850 مترآ) وهي المواجهة للحديقة ، ومع مرور السنين أضاف الملوك الذين حكموا بعد لويس الرابع عشر عددًا آخر من الحجرات إلى القصر وكان المقر الرسمي للأسرة المالكة لأكثر من مئة عام . منذ ذلك التاريخ قام عدد كبير من ملوك فرنسا بتوسعة القصر, حتى تمت إضافة الجزء الأخير للقصر في عهد
نابليون عام 1852,وفي الوقت الحاضر تم تحويل القصر إلى متحف وطني.
وبعد أن أدت الثورة الفرنسية 1789 إلى خلع ملك فرنسا , غزت الجماهير الثائرة القصر ونهبت و خرّبت معظم الأثاث والأعمال الفنية , وتعرض القصر للسلب والنهب , وفقد بعضآ من تحفه الفنية , وبذل القليل من الجهد لاحقآ للمحافظة على القصر , حتى بداية القرن العشرين الذي بدأت فيه أعمال ترميم وتجديد للقصر مازالت مستمرة حتى الآن وقد شاهدناها بأعيُننا لدى الزيارة.
يشير المؤرخون الى أن قصر فرساى كان ساحةً لعدد من الأحداث التاريخية الهامة ، فمنه أنطلقت أولي شرارات الثورة الفرنسية عا 1789 ، وكانت مدينة فرساي أثناء الحرب البروسية – الفرنسية 1871 مقر قيادة القوات الألمانية ، وفى القصر، توّج وليم الأول (الألمانى) إمبراطورآ في كانون الثاني 1871، كما كان القصر مقر مجلس النواب أثناء حقبة الجمهورية الثالثة حتى 1879، وفيه وُقِعَت معاهدة فرساي الشهيرة بعد الحرب العالمية الأولى عام 1919، وكانت مدينة فرساى أيضاً مقراً القيادة العامة لقوات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية وتحديدآ مابين عامي 1944- 1945.
يحتوي القصر على 1,300 غرفة مخصصة للويس الثاني عشر ولويس الرابع عشر ، بالإضافة الى الأوبرا التى بُنيت خصيصاً بمناسبة زواج لويس السادس عشر بماري إنطوانيت , مع كنيسة جميلة ؛ وشقة الملكة التى تضم ستة صالونات , كما يضم عدد من الصالونات الضخمة والفخمة وتُزين سقف الصالون لوحة تمثل مشهدًا من حياة هرقل “بطل في الأساطير الإغريقية” .
يوجد في القصر أيضا ممر المرايا الذى يعتبر تحفة فنية رائعة الجمال , ويبلغ طول ممرالمرايا 75 مترآ وعرضه 10 أمتار ، تُزين سقفه لوحات تمثل الإنتصارات الفرنسية وهو يضم سبعة عشر نافذة مطلة على الحديقة (كل نافذة فى مواجهة مرآة) وكانت تتم إضائته زمن لويس الرابع عشر بثلاثة آلاف شمعة .
ويستمتع كثير من الزوار برؤية غرف نوم الملك والملكة وصالة المرايا وصالون هِرَقْل , وقد زُركشت حجر النوم بالخشب الموشَّي بالذهب وزُينت بكثير من التحف النادرة .
ويوجد بالمتحف عربات تجرها الخيول للتنزة في ساحات القصر الفسيحة , أو عربات قطار صغيرة تشبه الحافلات لتنقل بين قصر تريانو والقناة الكبيرة.
لكننا آثرنا المسير على الاقدام للتمتع بجمال الطبيعة ولغرض التقاط الصور بين حدائق الورود والنافورات ، مرورا بمعبد الحب (The Temple of Love) ، ذو القبة المرتكزة على 12 عمودا يوجد تحتها مباشرة تمثال جميل يرمز للحب ، وكانت الملكة : ماري إنطوانيت تحب كثيرآ التنزه فيه حيث حدائق القصر التي تجذب مرتاديها اليها بشكل ساحر ، فهي تتالف من مسطحات خضراء محيطة بالقصر من حديقة ومتنزه يغطي مساحة تبلغ نحو 100 هكتار، رُتّبت النباتات في الحديقة في نسق هندسي زاهٍ حول النوافير والُبرَك , وفى زاوية من زوايا الحديقة يوجد قصري التريانون, قصر تريانون الكبير شُيد عام 1687، وقد صُمم على نمط القصور الإيطالية ، حيث كان لويس الرابع عشر يحبذ الإقامة فيه ويخلد فيه إلى الراحة للهروب من ضوضاء القصر الرئيسي , والقصر ذو طابق واحد ويضم مجموعة من الشقق الملكية الفخمة . بينما شيد لويس الخامس عشر التريانون الصغير الذي أصبح فيما بعد المقر المفضل لماري أنطوانيت زوجة لويس السادس عشر .
أما حديقة القصرالتى أشرف على تنفيذها المهندس الشهير (لونوتر) فتمثل أفضل مثال لتصميم الحدائق الفرنسية وهى تشغل 100 هكتار وتضم كثيرمن النافورات أشهرها نافورة ديان ؛ وحوض أبوللو المواجه للقصر وتزين ممرات الحديقة مجموعة تماثيل لمشاهير فرنسا، بالإضافة إلى بحيرتها التي يتجاوز عرضها الستين مترآ وطولها 2 كيلومتر . التقطنا العديد من الصور في مناطق مختلفة على امتداد المسطح المائي وبين الحدائق الخلابة التي كنا نشاهد جزء منها في برنامج تلفازي قديم يحمل عنوان ” الحدائق جنة الاحلام” .
وعندما وصلنا بداية المسطح المائي الطويل كان عدد من السواح يستأجرون قوارب صغيرة للتنزه، وعدد كبير منهم مستلقي على ضفاف المسطح تحت اشجار وارفة الظلال .. شعرنا بالتعب والحاجة الى الراحة فجلسنا لبعض الوقت ، ثم عاودنا المسير بالرجوع الى بوابة القصر.
كانت الفراشات تسبح في الفضاء حولنا ، وكانها تريد أن تُكمل سمفونية جمال الطبيعة في هذه الحدائق رائعة الجمال التي يُخال لمن يمشي بينها ، بأنها ليست على الارض بل هي قطعة من الفردوس الاعلى ، فذكرّتني بقصيدة الشاعرالفرنسي ( لا مارتين ) “الفراشة ” ، والتي يقول فيها :
” أتت..
صحبة الربيع تخطو..
ونمت مع إكليل الزهور.
على جنح الصبا،
ويد الجمال..
تطير سابحة في حبور.
ترفرف..
على ثغر الورود..
وتستنشق شذى العطور.
وتحيى..
لا تبالي شر يوم..
ولا تخش نوائب الدهور.
وكونها..
يشيعه الضياء..
ويحكيه تعلل العبير.
وسابحة..
كنسيم الصباح..
بأجنحة من الوشي الحرير.
وترتشف.
من كؤوس الورود..
مدامع الندى ودم البذور.
فتتخذ من الروض وكرا..
وفي الفضاء..
جنة السرور.
فراشة..
يلاعبها القضاء..
فتذبل كورد في المسير.
وكلما انقضى الربيع..
نامت عن الدنيا..
إلى يوم النشور.”
أنهينا زيارتنا الى القصر وحدائقه ، وعدنا من ذات الطريق الذي جئنا من خلاله ، حيث كنا بحاجة الى الراحة فجلسنا مرةً أخرى في أحد المقاهي قريباً من محطة المترو ، وتناولنا قدحين من العصير الطبيعي ، ثم ركبنا القطار عائدين الى محطة سانت لازار ، ومن ثم أخذنا مترو الانفاق الى منطقة اقامتنا حيث الفندق الذي نسكن فيه ، فاخذنا قسطاً من الراحة .
وفي المساء، اتجهنا الى كاتدرائية القلب الأقدس(Sacré Cœur Cathedral)
التي تقع على تل “مونتمارتر” أعلى تل في باريس حيث يصل إرتفاعه إلى حوالي 130 متراً , وأعلى نقطه في هذه المنطقه هي الواقعة فيها الكنيسة الضخمة الشهيرة ، ويقوم الكثير من الزائرين بزيارة كنيسة القلب الأقدس
حيث إكتمل بناء الكاتدرائية في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي وهي تتميز بنقوشها المحفورة في الصخر، والتي تُعّد واحدة من أكبر وأجمل كاتدرائيات العاصمة الفرنسية باريس.
صعدنا الى قمة التل بواسط سيارة أجرة ، في حين كان عدد كبير من الزائرين يصعدون عبر سلالم يصل عددها الى 285 درجة , كما يمكن الصعود إليها بواسطة التلفريك, ويرى الزائر في هذه المنطقة باريس من من بوابة الكنيسة إطلالة رائعة على مدينة باريس، كما يشاهد جموع السياح والرسامين والمهرجين،وبائعي الالعاب الذين كان أغلبهم من الافارقة .
عدنا من هذا المكان الى الفندق حيث سنغادر يوم غد الى استانبول ومن ثم الى بغداد …
كلي أمل أن تكون قد استمتعت بما حدثتك به في رسائلي الاربع عن زيارتي الى باريس ، متمنياً لك دوام الصحة والخير والأمان…
المخلص وليد
باريس في الحادي والثلاثين من آب ٢٠١٢