قحطان المدفعي أسم ليس من السهولة بمكان سبر أغواره أو اكتشافه لكثرة مواهبه واشتغالاته الفنية الواسعة المدى، لقد برز هذا الفنان الكبير كعلم من أعلام العراق ومن رواد عمارة الحداثة منذ خمسينيات القرن الماضي ولاسيما بعد حصوله على درجة الدكتوراه في العمارة من جامعة كارديف/ المملكة المتحدة عام 1952، ويقدم الانجازات تلو الانجازات المعمارية في العراق وخارجه. اصطلح المدفعي على دراسة العمارة تصنيفاً مميزاً اسماه (بالمعرفة العمارية) انه اصطلاح مغامر في عالم متغير بزمانه ومكانه، يربط العمارة باللغة وكأنك تقرأ نصاً أدبياً أو صورة شعرية، إن التأويل وتفسير شكل أو هيئة العمارة عنده لغة ناطقة تحلل إلى العمارة/ النص/ المعرفة،إذ يقول د.قحطان المدفعي في هذا الشأن ((لم تكن العمارة بالنسبة لي إلا تركيباً زمكانياً تعبر عن شيء ما منذ بداياتي العمارية عندما كان المجال الفني الشخصي ضيق نسبياً كان السطح الأبيض الأملس الفارغ هو الالفباء لما أصبح بعدئذ سطحاً متطوراً بل سطحاً رياضياً يستلهم الأفكار ويعبر عنها وأصبح هذا السطح هو احد سطوح الفضاء والحيز الذي يحده ويتحدد به)). ويتحدث الدكتور قحطان المدفعي عن ولعه بفن العمارة قائلاً ((عندما كنت طالباً في الإعدادية المركزية ببغداد طلبوا منا أن نتبرع بالدم وكنت قد لبيت تلك الدعوة وذهبت لأتبرع بالدم في كلية الطب في منطقة باب المعظم، وبعد أن تبرعت عدت إلى مدرستي التي تقع بالقرب من جامع الأحمدي وهي ما تزال في موقعها الحالي وبالقرب من قاعة الشعب حالياً استوقفني شخص كان مدهشاً في نحت شعار في أعلى الحجر وعندما سئلت عن ذلك الشخص عرفت انه جواد سليم يقوم بنحت شعار مصلحة نقل الركاب. لقد أدهشتني عملية تزيين العمارة بالزخارف والأشكال وقد أحببت العمارة منذ ذلك الحين)). إن الإحساس بالقيمة العمارية عند قحطان المدفعي يتحدد من خلال العلاقة القائمة ما بين الشكل والفضاء مع تحولات الزمكان. ربط المدفعي الأسلوب العماري العراقي بالمرجعيات الثقافية والفكرية للفنان العراقي التي أصبحت ضاغطة في المنجز الفني وواضحة المعالم، إذ أشار المدفعي إلى (السويرة) كما تسمى باللهجة العامية البغدادية وهي الدوامة التي تحصل في وسط النهر وتسبب تلك السويرة إلى الغرق، لأنها تكون بشكل دوائر متتابعة تكبر كلما وصلت إلى سطح النهر، إذ أشار المدفعي إلى العلاقة الكبيرة ما بين السويرة وبين التشكيل المعماري المعاصر ومنها استنبط شكل الزقورة في الفكر العراقي القديم التي تبدأ على شكل دوائر تتدرج من الصغيرة إلى الكبيرة، وقد أثرت السويرة في تفكير المدفعي ولاسيما فكرة الانبعاث والازدهار وبلوغ القمة وهذا ما طبقه فعلاً في أعماله المعمارية ولاسيما تلك الفكرة المتجددة والمرتفعة إلى الأعلى. إذ اتسمت معظم عمارة المدفعي بالمفهوم ذاته كما في عمارة بناية الطاقة الذرية في بغداد عام 1973 وعمارة مبنى وزارة المالية الحالية عام 1972، وعمارة متحف التاريخ الطبيعي ببغداد، إذ صمم عدة دوائر متتابعة مع بعضها في الجزء الأمامي من مدخل المتحف.
يصف المعماري قحطان المدفعي نفسه بأنه من المعماريين التعبيريين في منجزه الفني من خلال الآصرة الكبيرة ما بين الموروث الفكري والثقافي ولاسيما التراث البغدادي والتأثيرات التي يفرضها الفضاء على المنجز العماري مع تغيرات الزمكان. لقد قدم المدفعي لأكثر من نصف قرن الكثير من المنجزات العمارية التي تعد من أهم عمائر العراق المعاصر ولاسيما العمارة البغدادية التي جسدها في التكوين العام للعمارة كما في تصميمه لجامع البنية في بغداد المتميز في طريقة بنائه وريازته فضلاً عن التصميم الداخلي المتقن للجامع وعلو محرابه التي تتميز معظها بالتكامل الفني والجمالي في التصميم ما بين الداخل والخارج. فالقوس أو العقد الإسلامي كانت له خصوصيته التشكيلية في العمارة، إذ اهتم المدفعي اهتماماً كبيراً بالقوس أو العقد الإسلامي ولاسيما العقد المدبب المعروف في الأبنية الإسلامية الأولى، كما وجدت تلك العقود في مبنى جمعية التشكيليين العراقيين في بغداد والأقواس المفتوحة من الأعلى في منتزه 14 تموز في مدينة الكاظمية ببغداد أيضاً. إذ يصف المدفعي العقد المدبب بأنه رمز للتوحيد في العمارة، وان جانبي العقد يرتبطان بنقطة اللقاء التي يسميها نقطة النون وهي إرادة الله ومشيئته. فالتراث قائم بالتقاليد العراقية التي تحافظ على هيبة العمارة المعاصرة، ويصف المعماري الدكتور خالد السلطاني طريقة المدفعي في إنتاجه للأشكال المعمارية ((انه مولع بإقحام الأشكال المنحنية المعقدة في تصاميمه , تحدوه رغبة قوية للتخلص و التحرر من تكبيل تطرف يقينية عقيدة ( التصميم المستقيم ) أو ( التصميم المعتمد على الأضلاع المتوازية ) وهو يعرف جيدا أن طبيعة ظروف العمل الحرفي و اليدوي المميز للبناء في العراق يجعل من استخدام الأشكال المنحنية و الملتوية أمراً لا يقتضي تنفيذه صعوبات كثيرة))، وليختصر المعماري د.خالد السلطاني تلك التجربة العمارية الكبيرة للمدفعي في قوله ((تميز المنجز التصميمي للمدفعي طيلة أربعة عقود من العمل الاستشاري الدؤوب والمثمر، بتحديد أسلوبه الخاص، وتتجلى توافقية نزوع المعمار نحو الحالة التمايزية، مع فراده طبيعة الموضوعة المعمارية للمبنى، تتجلى في المشاريع الخاصة بعمارة المعارض، ولاسيما تلك الأجنحة التي تمثل العراق في المعارض الدولية )).
عرف الدكتور قحطان المدفعي بتعدد مواهبه وإبداعه فهو الرسام الذي يمتلك تلك الموهبة الكبيرة منذ زمن طويل ولاسيما انه احد ابرز مجموعة الرواد منذ منتصف الأربعينيات وعضو الهيئة التأسيسية لجمعية التشكيليين العراقيين عام 1955،كما يذكر الفنان الراحل د.خالد القصاب ذلك في مذكراته، إذ أشار إلى تلك العلاقة المهمة التي تربط ما بين المعماريين والرسامين ولاسيما بوجود الكثير من المعماريين الرواد الذين ساهموا بتأسيس الجمعية ومنهم محمد مكية ورفعت الجادرجي وقحطان عوني فضلاً عن قحطان المدفعي. ويصف القصاب المعماري كالنحات يعتمد الخطوط والألوان والإحجام لإنشاء أبنيته الجميلة، كما هو شأن النحات في النصب والتماثيل. إذ يشيد الدكتور القصاب بنشاط وفن قحطان المدفعي في تطور الفن العراقي المعاصر كرسام ونحات للعمارة كما يسمي المعمار.
انعكست الهندسة بأشكالها المعروفة في معظم لوحات قحطان المدفعي بألوان تميزت بالانسجام والتباين وبالتسطيح الكامل للوحة مع غياب البعد الثالث المتمثل بالعمق أحياناً، يقول الدكتور قحطان المدفعي في حديثه عن فن الرسم، ((الرسم ككل فعالية فنية أخرى وككل ما أنجز وقيم عمله في القرن العشرين وبعده خاضع لعنصرين كبنائين أساسيين هما الزمان والمكان وهذا البعد الزمكاني هو البعد الذي يسيطر على أعمالي)). ويبدو أن لتأثيرات الزمكان في معظم أعماله الفنية سواء كانت في الرسم والعمارة كانت ضاغطة وواضحة المعالم. لقد صنف المدفعي نفسه ضمن الفنانين الانطباعيين وهو ليس من الذين يرسمون باستمرار ومن خصائصه انه يرسم مباشرة فوق قماش اللوحة دون أن يخططها، أو يعمل لها نماذج أو اسكيجات كما تسمى، اتصفت معظم لوحات المدفعي بالتجريد من حيث كثافة الخطوط وتوزيع الألوان وتنوع الأشكال، وكأنك تفسر حلماً في عالم الخيال لا يحده زمان ولا يعرف فيه مكان، نستطيع أن نحدد الرؤيا التي أراد المدفعي تقديمها أو إرسالها كرسالة واضحة المعالم من خلال الرموز المستعملة في لوحاته التي قد ترتبط بمرجعياته الفكرية وخيالات ذاكرة بغدادية تغوص في أعماق التراث والأصالة. وقد وصف الناقد التشكيلي عادل كامل أسلوبه الفني بأنه تعبير عن رؤية فلسفية لوحدة الفنون داخل بنية اختزالية، تتوازن مع خبرته المعمارية وأفكاره المعاصرة. لقد تأثر المدفعي بالفن الحركي وتطبيقاته في الفنون كافة كالعمارة والرسم، وقد كان تأثره بالباوهاوس (Bauhaus) وما طرحته تلك المدرسة من معطيات فنية وجمالية من خلال الحركة وإيقاعها وتأثر بالفنانين الحركيين في هذه المدرسة أمثال (كاندنسكي)، و(بول كلي) و (لوكوربوزيه)، في منجزه الفني. ولابد من الإشارة إلى إن الدكتور قحطان المدفعي احد أعضاء الهيئة التدريسية الأولى المؤسسة لقسم الهندسة المعمارية في جامعة بغداد منتصف الخمسينيات مع محمد مكية وهشام منير ومحمد المخزومي وناصر الاسدي.
من المواهب الأخرى التي يتمتع بها الدكتور قحطان المدفعي هي موهبة الشعر، إذ أكد المدفعي على كون الشعر بعفويته وتلقائيته هو الشعر المعبر عن الحياة بكافة جوانبها ولاسيما المرتبطة بالإنسان حساً ومكاناً وزماناً، وقد اعتمد الحركة والشكل الهندسي في كتابة وتوزيع الكتل الكتابية للقصيدة وكأن القارئ يتتبع صورة لبناء شعري معماري، إذ يمكن أن نصطلح على أسلوبه في كتابة الشعر بأنه مصمم القصيدة كما يرى الغرض منها والهدف من كلماتها واثبات قوة الحضور الزمكاني للمعنى والصورة الشعرية في معظم قصائده. فتارةً تكون القصيدة مربعة الشكل وتارةً أخرى تكون القصيدة دائرية تشبه الساعة المدورة، انه صاحب نشر حر لكلمات القصيدة وتوزيعها. مما تقدم فقد وضع قحطان المدفعي بعداً خامساً في منجزه الفكري والإبداعي إضافةً للأبعاد الأربعة المعروفة في كل عمل فني وإبداعي هي الطول والعرض والعمق أو الارتفاع فضلاً عن البعد الرابع وهو الزمن ليضيف إليها البعد الخامس وهو (اللاوعي)، أو اللاشعور أو التلقائية في الخيال البعيد عن الوجود، بل الراسخ وجوده في الخيال العقلي، ويرتبط اللاوعي بسيكولوجية الإدراك، والقابلية على التأويل غير المرئي بل المدرك مرئياً من خلال العقل الباطن. ويشير المدفعي إلى التأثير الكبير للبعد الخامس (اللاوعي) في بناء التجربة الفنية وبناء العمل الفني من خلال الإرهاصات والانفعالات الشخصية التي يتأثر بها الشخص أو الشخصية المبدعة في نتاجه الفني. فالسراب في الصحراء هو لاوعي وهو بعد خامس وله واقعه الملموس في التفكير والبحث عن الحياة والاستقرار من خلال انفعالات ضاغطة في رؤيا الإنسان المبتكر ولاسيما الفنان المبدع.
بيد انه يرى أن البعد الخامس لا علاقة له بالسريالية أو الخيال المفرط الحالم البعيد عن تجسيد الواقع، بل انه تجسيد للواقع أو ما سوف يكون لينتقل بالحدث إلى مستقبله المحدد في الذات المبدعة المفعمة بالحركة الدائمة والتدفق والحيوية في البحث عن حيثيات الفكرة وآليات بنائها على وفق التعامل ما بين المحيط الكامل بعوامله البيئية الضاغطة على الإنسان ولاسيما الإنسان المبدع والحالة النفسية (السيكولوجية) من حيث الاستجابة والإدراك والأداء وأخيراً الناتج الإبداعي.
إن طرح المدفعي لفكرة البعد الخامس في العمل المبتكر هي من الأفكار الجريئة في الطرح والتطبيق والإدراك، بل تعد مغامرةً لابد من النظر إليها بكل تركيز واهتمام لأنها موجودة حقاً بل ومؤثرة على الذات المبدعة من حيث عدم الشعور بالعوامل البيئية على سبيل المثال وما تسببه من نتائج ترتبت على اللاوعي. إن البعد الخامس راسخ في الذات الإنسانية ويكاد يكون متحكماً في الأداء والنتائج والسلوك وغيرها. كما يرتبط البعد الخامس (اللاوعي) بالاعتقاد، وهو من الحالات التي تدرك تلقائياً من خلال وعي المصمم وما يحيط بالفضاء من محددات تؤثر في عمله الفني والنتاج النهائي للعمل الفني.
ومما لاشك فيه إن تجربة قحطان المدفعي الإبداعية أسهمت في وضع بصمات واضحة في الفن العراقي المعاصر ولاسيما العمارة بوصفها اختصاصه الدقيق الذي أحبه منذ صباه واستمر في العمل على حركية تلك العمارة مع احترام الزمكان وتأثيراته المباشرة وغير المباشرة في الكشف عن قوة المنجز وتأثيره الظاهري من حيث الشكل العام في المتذوق المحلي وغير المحلي، انه ملتزم بحركية التراث وتأثيراته الملموسة بيد انه مفعم بالمغامرة التي رسمها بكل حيوية وحركية لا تعرف السكون. انه امتداد حقيقي لاورنمو باني الزقورة ومؤسسها ليطبع ذلك المجد والإبداع في العمارة المعاصرة ويستمر بعطائه الثر وبروحه الجميلة وبتواضعه الجم إنساناً مبتكراً ومبدعاً مجدداً.