في الواحد والعشرين من سبتمبر عام 1970 اعلن في العاصمة سانتياغو عن فوز الدكتورسلفادور
الليندي رئيسا لجمهورية شيلي في انتخابات نظيفة خاضها على رأس تحالف وطني لستة أحزاب فيما مني المحافظون المدعومون من قبل كبار ملاكي الاراضي وكبريات الشركات وأوساط المال والسفارة الأمريكية بهزيمة ما كانوا مستعدين أبدا للقبول بها. كان الامريكيون يعلقون آمالا عريضة على فوز المحافظين وكان السفير الأمريكي في شيلي قد أرسل قبل أيام من اعلان نتائج التصويت رسالة الى هنري كيسنجر المستشار السياسي للرئيس الأمريكي حينها ريشارد نيكسون جاء فيها : اذا ما فاز الليندي برئاسة شيلي فسنفعل كل ما بوسعنا فعله لادانة شيلي والشيليين بأقصى ما يمكن من الادانة .
وبعد أيام من فوز سلفادور الليندي تلقى ريشارد هيلمز رئيس دائرة وكالة الاستخبارات السي آي أيه رسالة من الرئيس نيكسون يطالبه فيها بالعمل على تدبير انقلاب للاطاحة بحكومة الليندي جاء فيها : مع ان احتمالات نجاح الانقلاب بنسبة 1 الى 10 لكن لابد من المحاولة لانقاذ شيلي فالموضوع يستحق انفاق عشرة ملايين دولارا هي حاليا تحت اليد ومن الممكن زيادة المبلغ حيث لنا هناك قادة جيش يمكن الاعتماد عليهم ولابد من تنفيذ المحاولة خلال 48 ساعة
لقد خطط الانقلابيون فيما لو نجحوا بالاطاحة بالرئيس المنتخب باعادة خصخصة مؤسسات القطاع العام الصناعية والخدمية فانهم سيضمنون بنتيجتها أرباحا مجزية بعد تحويلها الى شركات خاصة اضافة الى ما يمكن أن تأتي به تجارة المخدرات المنتشرة في بعض الدول المجاورة وخاصة بوليفيا التي لم تبد الولايات المتحدة معارضة لها او انتقادها. وفي صبيحة يوم الانقلاب الحادي عشر من سبتمبر 1973 قامت القوات الجوية الشيلية بقصف القصر الرئاسي في العاصمة بحوالي 17 قنبلة أو صاروخ وكانت احداها قد أصابت الرئيس مباشرة أثناء وجوده في مقره في القصر الرئاسي كما جاء ببعض المصادر بينما تدعي مصادر أخرى أنه فضل الانتحار على أن يستسلم للانقلابيين.
وبرغم اعلان حالة الطوارئ في البلاد ومنع التجوال فان آلاف العمال والشباب والطلبة قد خرجوا للشوارع شمال العاصمة سانتياغو احتجاجا ولمقاومة الانقلاب بنفس الوقت الذي قامت فرق القناصة من الموالين لنظام حكم الرئيس الليندي المتحصنين في أعالي البنايات حول القصر الرئاسي باستهداف رجال الجيش و الشرطة والأمن لكن طائرات الهليوكوبتر التي كانت تحلق في الأجواء بشكل مكثف تصدت لهم بنيرانها فقتلت الكثير منهم.
في صباح يوم الانقلاب اتصل الادميرال غوستافه كارفيل وهو واحد من قادة الانقلاب بالرئيس سلفادور الليندي عارضا عليه ممرا أمنا الى طائرة بانتظاره في المطار الدولي لنقله الى خارج البلاد لكن الليندي رد قائلا ” من تتصور انت ، احتفظ بالطائرة لنفسك ايها التافه ، انك تخاطب رئيس الجمهورية فالرئيس المنتخب من الشعب لا يستسلم يا ذي الوجهين.” والغريب في الامر ان الرئيس الليندي لم يكن ملما بالاتجاهات السياسية لقادة جيشه كما لم يكن له علم بولاءاتهم الى درجة انه حاول مرات الاتصال بالجنرال بينوشيه لثقته به لكن زمرة الانقلاب تعمدت اخفاء دوره. وعندما تعذر على الليندي التحدث اليه اعتقد خطأ أنه ربما اختطف من قبل قادة الانقلاب ثم ليعرف لاحقا ان من حسبه نصيرا انما كان رأس الأفعى . والخطأ نفسه وقع به الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم اثر انقلاب شباط عام 1963 أثناء حصار الانقلابيين لوزارة الدفاع التي كان قاسم محاصرا فيها يوم الانقلاب. فقد أعتقد خطأ ان صديقه الجنرال حميد حصونة القائد العسكري للمنطقة الوسطى هو من أنصاره الذين يعتمد عليهم حيث حاول الاتصال به عدة مرات ولم يدرك حقيقة الأمر الا بعد نجاحه بالتحدث اليه ليتأكد انه كان أول من وجه له طعنة الظهر.
ويروي الصحفي البريطاني ستيوارت رسل مراسل وكالة رويتر للانباء الذي كان يراقب شاشة التلفزيون من داخل سفارة بلاده في سانتياغو انه شاهد الجنرال بينوشيه في جلسة استرخاء مع زمرة من القادة العسكريين يرفعون انخاب الشامبين احتفاءا على ما بدا بنجاح انقلابهم بعد أن أذاعوا بيانهم الأول باعلان حالة الطوارئ في البلاد. لقد أعلنوا أيضا عن حل البرلمان واغلاق الصحف والاحزاب السياسية واتحادات نقابات العمال والمحاكم واعلان منع التجوال في كل أنحاء البلاد الى اجل غير معلوم
في اليوم التالي للانقلاب شاهد الصحفي من خلال نوافذ السفارة خلو الشوارع من المارة عدا السيارات العسكرية والجندرمة التي كانت منشغلة ذهابا وايابا مكتظة بالمعتقلين الذين كانوا في طريقهم للملعب الرياضي مركز الاعتقال الرئيسي في العاصمة سانتياغو الذي زج فيه آلاف المعتقلين من أنصار الرئيس الليندي والمتعاطفين مع الزعيم الكوبي حينها فيدل كاسترو. بنوشيه وزمرته استمروا في مزاولة ديكتاتوريتهم العسكرية 17 عاما ناشرين الخوف والموت في نفوس الشيليين خدمة لمصالح أسيادهم من البنوك والشركات التجارية الاحتكارية الأجنبية المتلهفة للهيمنة على موارد وأسواق الشيلي. فالاجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة الشيلية التقدمية خلال الفترة القصيرة من وجودها مثل وضع بعض النشاطات الاقتصادية تحت ادارة الدولة هي اجراءات شائعة في كافة الدول الرأسمالية بما فيها بريطانيا وألمانيا وجميع الدول الاسكندنافية. هي اجراءات ليست اشتراكية الا اذا اعتبرت كذلك وهو ما أشعر الولايات المتحدة بالرعب غير المبرر. رد فعل الولايات المتحدة يشبه الى حد بعيد جنوح الثور من اللون الأحمر ومن هنا فاننا لا نبالغ عند وصفنا المسئولين الأمريكيين بضيق الأفق والسخف لمبالغتهم في كراهية كل ما يمت للاشتراكية أو للروس بصلة حتى ولوكان فن رقص البالية الذي يبدعون في عرضه في المسارح..
انقلاب الحادي عشر من سبتمبر 1973 في شيلي هو واحد من سلسلة لا تنتهي من الانقلابات العسكرية التي خططتها ونفذتها ومولتها وكالة الاستخبارات السرية سي آي أيه لضمان المصالح الامبريالية الأمريكية عبر ربط بلدان العالم سياسيا واقتصاديا وماليا ومنعها من الخروج من دائرة نفوذها أبدا. فكان انقلاب فاشي في العراق في شباط عام 1963 وفي البرازيل عام 1964 وبعده بفترة قصيرة في بارغواي والاروغواي وبوليفيا ومن ثم في الارجنتين واندنوسيا عام 1965. وفي حالة غيرت الحكومة التي نصبها الانقلاب سياستها الخارجية بعيدا عن الحدود المرسومة لها أمريكيا فان انقلابا جديدا سيطاح بها وتنصب حكومة أكثرخنوعا من سابقتها. حدث هذا في دول أمريكا اللاتينية وفي العراق في عام 1964 و1968 و2003 . .
وبناء على رفع السرية في عام 2013عن بعض التقارير الرسمية لأحداث دولية كان لبعض الوكالات الأمنية السرية للولايات المتحدة دورا فيها طالبت لجنة من أعضاء مجلس النواب الأمريكي بالكشف عن دور السي آي أيه في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الليندي وقتله عام 1973 . وبعد مرور 40 عاما على ذلك الحدث الاجرامي قامت الوكالة بتقديم تقريرها عن بعض وليس كل ما ارتكبته من فظائع قبل وخلال وبعد نجاح انقلابها الدموي على الحكومة الديمقراطية الشيلية.
لقداعترفت الوكالة انها شنت حملة دعائية واسعة مضادة ضد الرئيس الليندي قبل انتخابه عام 1970 ثم بعد فوزه وتشكيل حكومته مع ان الرجل لم يكن شيوعيا ولم يدعي الشيوعية ، بل يحسب على الاشتراكيين الديمقراطيين. فهو رجل ديمقراطي تقدمي لكن مع ذلك أقام الرئيس نيكسون الدنيا وأأقعدها لأن شخصية مثقفة ماركسيا أبدت رغبتها لزعامة بلادها لتحسين حياة شعبه بحسب ما يعتقده أنه الطريق الأفضل لخدمة بلاده .واستجابة لضغوط الرئيس نيكسون المفتون بالعداء للدول المستقلة بادارة شئونها الداخلية والخارجية قامت السي آي أيه بتنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات سياسية وعسكرية متعاطفة مع نظام الليندي أو لرفضها التعاون مع المحاولة الانقلابية ضده. كما قامت بمحاولة فاشلة اختطاف جنرالا كبيرا يحترم نفسه ومنصبه ومهنته هو رينيه شنايدر لرفضه طلب الوكالة استخدام نفوذه العسكري لمنع مجلس النواب الشيلي من الموافقة على تأكيد فوز الليندي رئيسا لجمهورية شيلي. ورغم فشل عملية الاختطاف جرى اغتياله بعد يومين من انعقاد المجلس النيابي ومع ذلك أنكرت في كذب سافر أنها قامت باغتياله. كما اعترفت بدفعها مبالغ مالية لقادة الشرطة لخدماتهم في اعتقال شخصيات عسكرية وسياسية بمافيها دفعها مبلغ 35000 دولارا للمجموعة التي حاولت اعتقال الجنرال شنايدر وفشلت وكذلك دفعت مبالغ مالية الى الجنرال مانوئيل كونتريراس رئيس الشرطة السرية للخدمات التي قدمها للوكالة. ..
ان تقرير السي آي أيه يفضح النظام الأمريكي بكليته وليس نشاط الوكالة وحده فقد كانت تدفع مبالغ مالية لوسائل الاعلام الشيلية من أجل كسب التأييد الشعبي لحكومة الانقلاب الارهابية تحت أمرة الجنرال بينو شيه بكونها خدمت البلاد بشكل ايجابي ولنشرها تقارير وأخبارا ملفقة للاساءة لسياسات النظام الجديد وضد الأحزاب اليسارية ونشاطاتها لتشويه سمعتها ولاضعاف نفوذها بين المواطنين الشيليين والأمريكيين اللاتينين . .
ليس سرا ان السي آي أيه خلقت أجواء الانقلاب في شيلي منذ العام الأول لحكومة الليندي فنفذت نشاطات لبث أجواء الرعب والفوضى والترقب بين الناس لاشعارهم بأن عليهم انتظار الأسوء. ومع ان وزارة الخارجية والسي آي أيه غير متأكدين وواثقين من جاهزية الجيش للقيام بالانقلاب فان الحكومة الامريكية كانت تلح بشكل لا رجعة فيه للاطاحة بالرئيس الليندي. وقد طلب من صندوق النقد الدولي والبنوك الأمريكية ان تختلق المصاعب أمام المؤسسات الاقتصادية الشيلية في حالة التقدم للحصول على القروض المالية لارباك الحالة الاقتصادية في البلاد. أما انفاقها مبالغ مالية لشراء سياسيين واحزاب لتوسيع الجبهة المضادة للرئيس المنتخب واضعاف جبهة مناصري الرئيس فكانت اخبارا يتداولها الناس في جميع أنحاء الشيلي..
ومنذ عام 1960 أنفقت الولايات المتحدة سرا ملايين الدولارات على الاحزاب السياسية التي تختارها وبخاصة الاحزاب الديمقراطية المسيحية في سياسة تاكتيكية جديدة موجهة ضد الأحزاب اليسارية، لأن الشعب الشيلي كان متعاطفا معها في تلك الفترة. وقد تعهد الرئيس نيكسون بعد فوزه في الانتخابات بزيادة الأموال المخصصة لتغيير ذلك الواقع بوضعه عشرة ملايين دولارا لانفاقها داخل الشيلي. وقام نيكسون بخطوة أخرى لزج الجيش في الحياة السياسية كبديل للحكم المدني و طالبها بالاستيلاء على السلطة وتطهير الجيش من العسكريين الذين يدعمون الحكومات المدنية في دول أمريكا الاتينية.
وفي السنين الأخيرة من حياة نظام بينو شية اتسعت عزلته داخل شيلي وخارجها بسبب انتهاكاته الفظيعة لحقوق الانسان حيث تزايدت اعداد المعتقلين المغيبين وضحايا التعذيب مما أثار معارضة واسعة محليا وعالميا اضطرت حكومة بينوشيه لطلب المساعدة من الحكومة الأمريكية بارسال عدد من المستشارين يساعدون الأجهزة العسكرية والبوليسية المتورطة في تلك الانتهاكات لابعادهم عن الوقوع تحت طائلة القانون وسوقهم للمحاكمات . وقد استجابت الحكومات الامريكية بالطلب من شركاتها الصناعية والتجارية والبنوك بدمج مسئولين من نظام بينوشية في أجهزتها وكانت جنرال موتورز أحداها وهو دليل ناصع بأن سياسات النظام القمعية وانتهاكاته انما تمت بموافقة وتوجيه المسئولين الأمريكيين على أعلى المستويات.. .
وبذلك أثبتوا لمن ليس له علم بأن ما كانت تمارسه زمرة بينوشية هو بالضبط نموذج الديمقراطية التي تحاول الولايات المتحدة نشرها في العالم الحر وان بدت همجية ولا انساني
علي الأسدي15\9\2017
لمزيد من الاطلاع أنظر:
1- Jonathan Franklin , The Guardian , 10\9\2003
2-Hugh O`shanghnessy ,The Observer , Chilean Coup 40 years ago , I wached Pinochet Crush a Democratic Dream , 7\9\2013
3- Central Intelligence Agency , CIA Activities in Chile , 18\9\2000
4- Shane Quinn . The Horrers of The First Routinely Overlooked , Global Research , 11\9\2017