23 ديسمبر، 2024 9:16 م

محرقة العقول العراقية – 1

محرقة العقول العراقية – 1

لا اعتقد أن بلدا في التاريخ الحديث مثل العراق شهد محرقة مأساوية للعقول، وانتهاك صارخ للملكية الفكرية العراقية، وحرب استنزاف متواصلة على مدى ثلاثة عقود مضت من الزمن، مورست فيها على العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين العراقيين في الداخل والخارج ضغوط نفسية واقتصادية وجسدية قاسية، ابتزوا فيها ونكل بهم إمعانا في الإذلال، والمستهدف الأساس فيها العراق بغض النظر عن مكوناته الاجتماعية والدينية والعرقية، وبرهنت الأحداث أن خلف إفراغ العراق من الكفاءات العلمية والفنية والفكرية مخطط دولي كبير، يتجاوز قدرات إسرائيل، وأكبر من إيران وتحدياتها، نعم هاتان الدولتان تعهدتا بتنفيذ الجزء الظاهر من مسلسل الملاحقة والتصفية الجسدية للعقل العراقي، تمهيدا لتأجيج نار الصراع والفتنة الطائفية التي تفاقمت في العراق اليوم نتيجة اجتثاث الفكر وتصفية المفكرين.
في سبعينيات القرن الماضي أمم العراق أبار نفطه وتولى مهمة استخراجه، وبعد التي والتيا سويت الأوضاع مع الشركات النفطية الاستعمارية بالتعويضات، فأصبحت عوائد العراق المادية من النفط خيالية، وبات مصرف الرافدين العراقي خلال عشر سنوات أغنى مصرف في العالم، ومن الطبيعي أن تفكر القيادة  في استثمار هذه الثروة في بناء نهضة اجتماعية وعلمية واقتصادية، وأن تبدأ بتهيئة الكوادر العلمية القادرة على إدارة دفة المؤسسات الصناعية والاقتصادية والاجتماعية والتجارية أولا، وبالفعل أوفد العراق خلال عشر سنوات مئات الآلاف من طلبة الدراسات الجامعية الأولية والعليا وتم تدريب طواقم فنية مدنية وعسكرية واسعة لتامين قاعدة النهضة، باعتبار المؤسسة العسكرية القطاع الأوسع الذي سيحتضن نمو وتطور الصناعة التي تسد احتياجات العراق واحتياج المنطقة، ففتح الباب أمام كل طالب حصل على مستوى متوسط فأعلى من خريجي الدراسة الثانوية والجامعية ولديه طموح للتزود بالعلم والخبرة فرصة الحصول على بعثة علمية أو تدريبية مهنية في الولايات المتحدة وأوربا والدول الاشتراكية.
أغدقت الحكومة العراقية على طلبة البعثات الصرف، رواتب وأجور دراسة، رحلات بحث ومخصصات كتب وملابس وعلاج، منح ورواتب للزوجات وتذاكر سفر سنوية لزيارة الأهل وأحيانا كل ستة أشهر، ليبقوا على صلة قوية بوطنهم وذويهم، وقلما كان يخفق عراقي في الحصول على مبتغاه، ولو جابهنه صعوبات ينقل إلى جامعة أخرى أو بلد آخر وتمدد فترة دراسته، واستأثرت وزارة التعليم العالي بنصيب وافر من موازنة الدولة، ويبدوا أن خطة الدولة العراقية بتوفير قاعدة علمية رصينة للنهوض بالبلد أثارت حفيظة الدوائر الاستعمارية والمنظمات العالمية المشبوهة، فبدأت تتوجس خيفة، وتعد الخطة لمواجهة خطر صعود العراق كدولة متقدمة منافسة كاليابان والصين، وصارت تخطط للإيقاع به والكيد له وبخاصة بعد ارتباطه بعقود تصنيع وتشيد بنية معمارية واسعة، والعلماء قادمون، والتمويل المالي جاهز، وكنت مرة من بين الذين يستمعون للرئيس صدام حسين وهو يستنهض الهمم، ويقول: كل من لدية مشروع وطني لبناء مصنع أو مستشفى أو مزرعة مخازن، أو مدرسة من الوزراء إلى المحافظين حتى أصغر مسئول محلي يتقدم وسنوفر له التمويل المالي بشرط أن لا يأتي آخر العام ليعيد المبالغ التي أخذها لعجزه عن تنفيذ نصف ما وعد به وخطط له.
حتى إذا أقبل فجر الثمانينات وبدأت وفود العلماء تتأهب للعودة تفٌجرت الحرب العراقية الإيرانية لتستمر عشر سنوات، أطول حرب طاحنة في التاريخ المعاصر، وقفت الدول الكبرى تتفرج وتتاجر بالسلاح على حساب الدم العراقي والإيراني ليستحكم العداء بين اكبر فصيلين مسلمين في المنطقة: العرب والفرس، تمهيدا لتفجير فتنة طائفية عنصرية فيما بعد بين السنة والشيعية. واستغلت الحرب لتخويف الخريجين لكيلا يعودوا لوطنهم فيقاتلون ويقتلون، واستثمرت أمريكا وأوربا  الظرف لتمنح العراقيين ممن انهوا دراستهم فرص العمل في جامعاتها ومؤسساتها وأغرتهم برغد العيش واستطاعت استقطابهم لصالحها كفاءات جاهزة فتخلف ما يربو على أربعة ألاف خريج عن العودة تعللا بظروف الحرب وعدم وجود فرص وظروف عمل علمية لعودتهم فكانت مجزرة الاستنزاف الأولى للعقول، استخدمت فيها إيران عود كبريت لإحراق واردات العراق ومدخراته، ومهدت للدول  الصناعية سرقة العقول العراقية.
ولم تحسن الدوائر الثقافية العراقية في الخارج التصرف مع الخرجين الرافضين للعودة فباتت تلاحقهم وتطاردهم وتهددهم بدافع الحرص، وتدعوهم بالمرتدين وناكري الجميل  والخونة وتشكك بوطنيتهم وولائهم فازداد تخوف الخريجين المتخلفين من أخطار العودة ونفروا من بلدهم ومع مرور الزمن تحولوا إلى معارضين وأعداء ومتمردين سهل على دوائر الاستخبارات العالمية تجنيد بعضهم بالضغوط، واستغلوا أبشع الاستغلال ولم ينجو منهم إلا من رحم ربي، ولوحق من تعفف من النوابغ فقتل كثير منهم باغتيالات وحوادث طريق مفتعلة، وابتز آخرون بشبهات عاطفية افتعلتها الدوائر المشبوهة، وسجلات وزارة التعليم العالي حافلة بأسمائهم. أما المعاناة التي كابدتها العقول العراقية داخل وطنها فلها الفرصة القادمة.