تغربْ عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم، واكتساب معيشة
وعلم، وآداب، وصحبة ماجد
ما تقدم بيتان للإمام الشافعي، فيهما من النصح والإرشاد الشيء الكثير، كما فيهما من الحكمة ماهو أكثر، وما استذكاري الأسفار والتنقل، إلا لما أراه في ساسة بلدي ومسؤوليه وأولي أمره، فهم يحثون الركاب ويجدّون السير دون هوادة، يتقلبون بين هذا البلد وذاك، وكأنهم على بساط ريح يأتمر بسلطان ما أنزل الله به من سلطان، والسلطانان غير معقولين ولا مقبولين. وقطعا، مقامي هذا لايسع سرد سفريات ساسة البلد وأولي أمره بقضهم وقضيضهم، أو بحجهم وحجيجهم، أو بيأجوجهم ومأجوجهم، فهم كالدود أو كالجراد، أو فلنقل “عدد النجم والحصى والتراب”. إلا أنني سأستضيف في سطوري الآتية نموذجا واحدا من رجالات بلدي، رجل من المفترض أنه المؤتمن على محافظات بلده الشمالية، وكلنا يعرف ثقل الأمانة وواجب الحفاظ عليها، وضرورة أدائها الى أهلها.
ذاك الرجل هو كاكه مسعود بارزاني، صاحب بساط الريح السندبادي، والذي طالما شد الرحال عليه الى بلدان المشرق والمغرب طالبا العون، أو سائلا الغوث، أو مستجديا النصرة والتأييد في واحد من أخطر مشاريعه، ذاك هو مشروع الانفصال الذي يسعى الى دق إسفينه، بعملية الاستفتاء التي يصر على القيام بها نهاية الشهر الجاري.
وقطعا هو لايقوم برحلاته المكوكية هذه تطبيقا لقول الإمام الشافعي أعلاه، فقد لازم هذا الرجل وسواس السفريات الخاطفة وغير الخاطفة، المجدية وغير المجدية، واضعا أمامه هدفه الذي يستقتل في تحقيقه، وهو إنشاء بلد مستقل للأكراد، مسترشدا بحقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، متناسيا أن الأكراد صاروا جزءا من نسيج العراق الفسيفسائي من غائر الأزمان، وانصهر مصير الاثنين في بودقة واحدة. أما الحق الذي يستند عليه فهو حقهم في إنشاء إقليم يضم مواطن سكناهم في المحافظات العراقية الثلاث، وهذا ما تحقق لهم منذ عقدين ونصف.
وللحديث عن موضوع الأقاليم وحقوق قاطنيها، فشواهد الواقع تقر أن الأكراد في الإقليم يتمتعون بما لايتمتع به سكنة أية محافظة من محافظات العراق -بلد مسعود الأم- لاسيما بعد عام 1990، فقد كان الحصار الاقتصادي على العراق وما رافقه من ظروف قسرية جائرة، كلها في خدمة المحافظات الشمالية الثلاث، التي هيأت لأكراد العراق -حصرا- ولادة إقليم ماكان يحلم به أجدادهم طيلة تأريخهم، وكان حريا بالحزبين اللذين تصدرا قيادة هذا الإقليم، أن يوثقا وشائج الاتصال والتقارب بين الشعب الكردي وبلدهم الأم العراق، إلا أن تأثير كاكه مسعود كان قويا بدكتاتوريته وغطرسته وأساليبه القمعية مع شعبه، الأمر الذي أبعد الإقليم برمته عن باقي محافظات العراق، وإنه لمن المخزي على قيادة الإقليم، أن تضع ضوابط قاسية على العراقيين العرب الوافدين اليه لتجارة او سياحة او زيارة.
أما لو تحدثنا عن تاريخ الأكراد في باقي الدول الإقليمية، وهي سوريا وتركيا وإيران، فالحديث يأخذ تشعبات لاتخدم بارزاني وشعبه العراقي الكردي. إذ بمقارنة بسيطة لحقوق أكراد هذه الدول، يتضح لأي منظر الـ (دلال) الذي يرفل به مسعود و (ربعه) في محافظات العراق الشمالية. ورب سائل يسأل عن سبب مطالبة مسعود الشديدة اليوم بالانفصال عن أمه -وأبيه- العراق، وإقامة دولة كردية -قد يسميها الدولة الكردية العظمى- فيكون الجواب حينذاك على وجهين، اولهما؛ أن مسعود رجل له طموح في أن يدخل تاريخ الشعب الكردي من أوسع أبوابه، وأن يكون البطل القومي الذي لم يتمكن أي من أجداده فعل ما فعله، وهو إقامة الدولة الكردية المستقلة.
أما الوجه الثاني من الإجابة؛ فهو أن سياسة هذا الرجل سياسة توسعية انتهازية، وهو يستهوي التصيد في عكر المياه، كما أنه يتحين الفرص بحنكة ودهاء عاليين، وطبعه هذا مسجل في تأريخه السياسي الذي رافقه معظم أيام نضاله في الحزب الديمقراطي الكردستاني، لاسيما بعد تسنمه زعامته بعد وفاة أبيه ملا مصطفى بارزاني عام 1979. ولما كانت الأيام كفيلة بتغيير كثير من الأطباع، فإن ماتغير من طبع هذا الرجل كان انحرافا في مسيرته الحزبية، بعد أن قام بتحريف أهدافه المنصوصة في بنوده.
فباستذكار أهداف هذا الحزب نرى أن أحدها كان يدعو منذ نشأة الحزب عام 1946 حتى عام 1991 الى “الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان”. ولكن رئيسه شذ عن القاعدة منذ اواسط التسعينيات، وبدأ ينحو منحى آخر، وصار يطالب بدولة مستقلة لأكراد العراق، والانفصال عن رحم أمهم.
فياكاكه مسعود.. ظرف العراق اليوم صعب، وهي فرصتك -ولعلها الأخيرة- لتصحيح أخطائك بحق بلدك، لعله يغفر لك عقوقك بحق وطنك الأم. أما الشعب العراقي فهو أول مسامحيك وعاذريك إن طويت معه مامضى وبدأت صفحة جديدة في التعايش، ولاتنسَ أن الناتج يصب بتحصيل حاصل في مصلحة شعبك الكردي.
هي إذن، فرصتك في عمل صالح لأبناء جلدتك، فاغتنمها قبل فوات أوانها، وقد قيل:
لاتدع فعل الصالحات الى غد
لعل غدا يأتي وأنت فقيد