غادرنا الشاعر والاديب والقاص والمفكر والمثقف البارز احمد حسين ، ابن قريتي مصمص ، وشقيق الشاعر الشهيدراشد حسين .
رحل وفي عمقه الماً ووجعاً وقلقاً وجودياً كبيراً ، رحل بعد ان اعطى وقدم الكثير لحركة الابداع الفلسطيني وللفكر السياسي والايديولوجي العربي ، رحل تاركاً تاريخاً وفكراً وابداعاً شعرياً وقصصياً وتراثاً فكرياً سيبقى زوادة للاجيال الفلسطينية الصاعدة ولمن يعشقون الكلمة ويؤمنون بفكر الثورة والمقاومة .
احمد حسين من القامات الشامخة في المشهد الابداعي والثقافي والفكري والسياسي الفلسطيني المعاصر ، ظل ملتزماً بفكره وعقيدته ، متمسكاً بالهوية الكنعانية والفكر الكنعاني ، ومسلحاً بثقافة تراثية وقرآنية توراتية اصيلة واعية ، ومواقف جذرية وثورية مبدئية مغايرة لكل الافكار والعقائد والمعتقدات القائمة السائدة على الساحة الفلسطينية ، وشكلت حياته تاريخاً حافلاً يعبق بغبار الميادين والساحات ورائحة البنادق في الخنادق وشذى الشوارع ، دفاعاً عن قضية شعب يعاني منذ عشرات السنين ، ويحلم بوطن وهوية .
مات احمد حسين مختتماً حياة عريضة وواسعة ومغايرة حافلة بالنضال والمواجهة والتحدي ، وبث الوعي الفلسطيني الحر ، وتعميق الروح الوطنية الوثابة ونشر الفكر التحرري والملتزم المقاوم ، الذي لا يقبل الهزيمة ويحارب الاستسلام والانكسار .
مات احمد حسين القيثارة الفلسطينية السحرية التي ملأت فضاءنا الثقافي بالابداع الأصيل الراقي المتميز المتفرد والانتاج الشعري والأدبي الخاص ، الذي ينم عن فكر حضاري واع وثقافة تاريخية واسعة شاملة ومنفتحة ، وقد ساعد انتماؤه الفكري العقائدي على الابداع الأدبي .
اتقن احمد حسين فن البدايات والنهايات ، لم يعرف الخوف ابداً ، كان جريئاً وشجاعاً في طرح آرائه وافكاره ، لم يتملق لاحد ، ولم يساوم يوماً على موقف . وقف ضد الخيانة ، عرى المتخاذلين من رجالات وزعامات اوسلو ، تحدى جميع السياسيين واعلن انحيازه التام لفكر المقاومة .
تصدى للمأجور المرتزق عزمي بشاره ومواقفه ومسلكياته الخنوعة ، وفتح النار على سميح القاسم ومحمود درويش وطه محمد علي في حياتهم ، وعلى الحزب الشيوعي واحمد الطيبي ، وعرى الانتهازيين الانبطاحيين المتسلقين من ادعياء الوطنية والأدب ، وحارب بكل قوة المزيفين المنافقين التفرغين الفارغين ممن حصلوا على جوانز التفرغ او ما يسمى ” الابداع ” السلطوي ..!!
قارع الحزبيين واصحاب الدكاكين الحزبية و ” الوطنية” ، ورفض الجوائز والنياشين وشهادات التقدير والتكريم ، واعلن على الملأ وبملء الفم ان الكلمة النظيفة والموقف الوطني الجذري الصحيح والتغريد خارج السرب هو وسام وتاج الشرف للمبدع الحق والمفكر الملتزم فلسطينياً ووطنياً .
عانى احمد حسين طوال حياته من الحصار الفكري والتغييب الاعلامي من قبل الابواق الحزبية ، نتيجة مواقفه واجتهاداته وطروحاته المختلفة التي لا تتماشى مع الخط السياسي العام ، وتنتمي للفكر الثوري المقاوم المغامر ، وقوطع من صحف البلاط الفلسطينية والعربية ، وجوقات الفكر الاستسلامي الانبطاحي .
غاب احمد حسين سيد الكلمة النقية النظيفة الملتزمة ، غاب المفكر المثقف الطليعي الثوري الواعي ، المفكر المشتبك الاستثنائي الذي لا يشبه احداً ، ولا يشبهه احد .
غاب سيد الشعراء والمبدعين والقصاصين في نشيده الكنعاني الطويل نحو الازلية البيضاء والسرمدية ، غاب كسير الروح بعد ان حقق معنى الاسطورة ، ومعنى الالتزام والاشتباك ، ومعنى ان تكون حراً وليس تابعاً ، وليس ثمة عزاء الا فيما تركه من فراديس ابداعية مدهشة ، وارث ثقافي وفكري مميز ، وجواهر فكرية ماسية ، وكشف يقين لشاعرية مبدعة راقية متدفقة بالرفض والمقاومة والتوهج الشعري والقصصي الابداعي .
لقد ترددت ان اكتب عنك امام رهبة موتك القاسي ورحيلك الصعب ، ايها المعطر بالقصائد وطهر الثرى والتراب الفلسطيني ، وقدسية الشهادة ، ويا ايها المطر والغيث الذي تساقط غزيراً على الارض الفلسطينية التي طالما تغنيت فيها وانشدت لها ، شعراً وفكراً وايحاءً وترتيلاً ، واغان مبتلة بالروح الثورية والنفس الفلسطيني الكنعاني، والالم والوجع الانساني الكبير .
ابداعك يا ابا شادي باق ما بقيت ” عنات” وبقي ” كنعان” فهو في الشرايين يتدفق من اقصى الوطن الى اقصاه ، من عكا وحيفا واللجون مروراً بالروحة وقيسارية وصولاً الى يافا الحزينة الباكية الغافية على البحر هاتفة ” على صدوركم باقون” وحتى القدس زهرة المدائن التي تحرس الاقصى والذاكرة الفلسطينية الحية .
لقد زرعت فينا الشعر والحب والنور في زمن العتمة ، وزمن اللاحب ، زمن الخوف ، زمن الانتكاسات الفكرية والخنوع والتواطؤ ، زمن الحقد والظلام ، وزمن التطرف الداعشي .
فيا ايها البهي الراحل الى حضرة الأبدية كل العنادل الفلسطينية المتماوجة تهدل بقصائك الكنعانية وتحفك الشعرية التي شكلت الخريطة الحقيقية لهذا الوطن الذبيح الجريح والمغتصب .
كيف يا ابا شادي لا تنهض من ركام الموت لتحرس التاريخ الهجري وتمسح دموع حيفا التي احتضنتك وودعتك الوداع الاخير ، والتي قلت يوماً فيها :
حيفا على شفة الخليج قصيدة
هيهات يكتب مثلها الشعراء
انت من علمتنا ابجدية المعجزات ، وعمدته ربة الشعر في حدائق الأدب وجداول الابداع والخلود .
انت يا من اسقيتنا روح التطوع وغرست فينا قيم العطاء ، وقيم الجمال والفن والالتزام السياسي والفكري الواعي ، يوم بادرت الى اقامة لجنة العمل التطوعي ،انت يا من هديتنا الى التاريخ الهجري والى دروب الكنعانية وطريق الحق لقلة سالكيه .
اطمئن يا ابا شادي انت باق بفكرك وهويتك وشعرك الجميل المصفى كعسل النحل ، المنساب في القلب والروح كالشلال .
وليس لنا في موقف الوداع اجمل من كلماتك التي فاضت بها قريحتك وروحك عندما وقفت منتصب القامة مرفوع الهامة يوم رحيل واستشهاد شقيقك شاعر الوطن راشد حسين ، مردداً بصوت خافت لكن واثق :
جددت عهدك والعهود وفاء
ان على دروب الكفاح سواء
نم في ثراك فلست اول عاشق
قتلته اعين ارضه النجلاء
ماذا يرد عليهم ان يختفي
رجل وملء الساحة الابناء
ميلاد موتك موعد لم تخطه
من قبلك الاحرار والشرفاء
شعب المصيبة نحن في عصر زنت
فيه الحضارة وانزوى الشرفاء
فاليك يا اخر العاشقين الشاعر والاديب والمفكر والمثقف والانسان احمد حسين الرحمة ودفء القلب ، ولتكن ذكراك طيبة عابقة كزهر اللوز في كل زمان ومكان .