الثِقة بناء لا يكتمل في يوم وليلة؛ وإنما يَمّر بمراحل عِدة حتى يصل إلى شكلهُ الأخير المثالي الذي يسعى اليه الانسان كما هو الحال في تشييد المنزل، فاحذر وأنت تضع الأساس كيلا ينهار البناء عند أول زلزال يضرب البلاد.
تعيش بلادي عامةً والطبقة السياسية خاصة ازمة ثِقة بعد احداث 2003، وان كانت هي في الاصل متجذرة و موجودة سابقاً قبل هذا التاريخ، فكان الجار يخشى من جاره كي لا يكون عرضة للاعتقال في حال ابداء رأيه في السلطة الحاكمة آنذاك، لان النظام السابق كرس هذه الخصلة من اجل ابقاء نظامه لفترة اطول، فكانت طبقات المجتمع بين مؤيد لسلطة وبين معارض وممتعض منها فلا يستطيع الفرد ان يطلق العنان لكلماته خشيتاً ان تتم تصفيته ويصبح نسياً منسيا كما هو حال الكثيرين في تلك الحُقبة التي مضت فلم تكن هذه الظاهرة على السطح لعدم وجود اعلام يتطرق لها، لكن بعد احداث التاسع من نيسان وبوجود وسائل الاعلام لكثرتها وتنوع اتجاهاتها اخذت حيز الاتساع اي ازمة الثقة بين مكونات الشعب لكن من نوع اخر هذه المرة، فهذا ينتمي لهذه الطائفة و المذهب والعرق فلا يثق بالطرف الاخر خوفاً ان تتم تصفيته بسبب انتمائه المذهبي والعرقي وجراء هده المسميات نزف العراق دِماء كثيرة.
بعد مرور فترة زمنية من الاحداث الدامية استطاع العُقلاء بِأخماد الفتنة التي كادت ان تحرق العراق بِاكمله وكان في طليعة من كان له الفضل الكبير في درء الفتنة الطائفية مرجعية النجف الاشرف التي لم تتوانى للحظة واحدة عن طريق خطابها الانساني والاسلامي المعتدل الى نبذ الاحقاد والاختلاف والدعوة الى التآخي والمحبة والسلام فاستطاعت باعادة الثقة بين مكونات المجتمع العراقي وان كان الثمن غالياً زهقت في سبيله العديد من الارواح الغالية على قلوب اهلها وذويها.
اما مايخص الطبقة السياسية فكانت وطئتها اشد فتكاً من الفتنة الطائفية التي عصفت بالبلاد وتأثيرها سلباً على العراق، فكانوا السبب الرئيس في اشعال فتيل الفتنة الطائفية من اجل الهاء الناس بعضهم ببعض، فبالمقابل هم يتفرغون للاستيلاء على ثروات البلاد.
فكلما اقترب العراقيون من بعضهم البعض تخرج لنا من هنا وهناك اصوات نشاز تذكرهم باحداث الاقتتال الطائفي، فلا يروق لهم ان يروا مشاهد يتوحد فيها الشعب والسبب في ذلك خوفاً على مصالحهم الشخصية ومشاريعهم القائمة على التفرقة فينكشف امرهم وتصبح بضاعتهم منتهية الصلاحية من اجل البقاء لمدة اطول جاثمين على صدر العراق.
ازمة الثقة بين السياسيين انفسهم، ادت بالتالي الى تعطيل البلاد وتأخُر في عجلة التقدم وانعكس بالسلب على المشهد العراقي، فالبلاد مفتقرة الى ابسط الخدمات، فالسياسيون منشطرين على انفسهم فقدم في الحكومة واخرى في البرلمان كمعارضة فلا هذا يقدم خدمات ولا ذاك يقوّم عمل الحكومة وانما يتصارعان من يكسب هذه الصفقة وتلك المقاولة والضحية بين هذا وذاك المواطن العراقي الذي بسبب ازمة الثقة فيما بينهم دفع الثمن غالياً فكانت دمائه وارضه.
المرجعية الدينية في النجف الاشرف رغم كثرة مناشداتها عن طريق منبر الجمعة ولسنوات عِدة تخاطب السياسيين الى مد جسور الثقة فيما بينهم وتعزيز الاواصر والاعتماد على القاسم المشترك الذي يربطهم وهو العراق ان يتنازل البعض للبعض الاخر من اجل خدمة ورفعة هذا البلد وتقوية النسيج المجتمعي والابتعاد عن المهاترات السياسية والطائفية، الا انها لم تجد اذان صاغية من قِبل معظم السياسيين، مما دفع المرجعية الى اتخاذ خطوة جريئة بغلق الباب في وجوههم كما فعل الراحل السيد محسن الحكيم “قدس سره” في وقتها، عسى ان يرجعوا الى رشدهم وصوابهم لكن حب الدُنيا اعمى بصيرتهم وتجاهلوا كل المناشدات وضحوا بالعراق وشعبه من اجل الحِفاظ على مكتسباتهم، فهذه واحدة من مأسي ازمة الثقة التي تعيشها البلاد.