ان التعامل الدولي في هذا العصر الذي هيمنت فيه المبادئ المادية والنفعية على سلوك اغلب الحكومات/ الدول، لم يعد يقوم على مثل عليا او قيم سامية، بل على اساس التعامل المصلحة. فأية حكومة/ دولة ذاتية القرار، سواء كانت كبرى او صغرى او بين بين، تتبع في سياستها العالمية ما تراه محققاً لمصالحها، سواء اكانت هذه المصالح اقتصادية او سياسية او عسكرية او غيرها…. فليس العجيب او الملفت للنظر ان تبدل الحكومات/ الدول مواقفها تبعاً لمصالحها، بل العجيب ان لا تغير اتجاهها وفق مقتضيات هذه المصالح.
وان كان قد مر زمان اعتبرت فيه الميكافيلية عيباً يتجنب السياسيون والدول الظهور بمظهر المتلبس به، فانها اصبحت اليوم القاعدة عند الكثيرين وما عداها فشذوذ.
وكما قال السياسي البريطاني ونستون تشرشل “ليس لبريطانيا اصدقاء دائمون ولا اعداء دائمون وانما لها مصالح دائمة”. وما ينطبق على تشرشل ودولته ينطبق على غيرها. وما اختطته بريطانيا لم يكن ولن يكون حكراً عليها وحدها بل اختطته الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد ان افل نجم بريطانيا وتقلص دورها العالمي بعد الحرب العالمية الثانية في تعاملها الدولي مع مالها من حول وقوة…. فماذا سيتوقع المرء من سياسة الدولة الجديدة الاولى مع دول العالم؟
ان الحقيقة الناصعة التي لا تحتاج لأي اثبات او برهان، هي ان الولايات المتحدة لا تتصرف ولا تتعامل مع غيرها من الدول حسب الاهواء الشخصية والامزجة الفردية، بل انها تتخذ مصلحتها العليا هدفاً مقدساً فوق كل اعتبار وغاية قصوى لا تتحمل نقاشاً او جدلاً.
فالولايات المتحدة، الدولة العظمى، تخطط مسبقاً وتحدد الاهداف لعشرات من السنين القادمات… فتغدو هذه الخطط والاهداف سلوكاً ثابتاً لجميع مؤسساتها… فلا تتعدل ولا تتحور تلك الخطط والاهداف حسب الامزجة والاهواء مهما تبدلت الادارة الا بقدر ما تسمح به هوامش الفروق الشخصية بين هذا الرئيس او ذاك.
وهذا ينقلنا الى التنويه بالخطأ الذي يرتكبه البعض من العرب بصدد الولايات المتحدة وعلاقاتها وتصرفاتها… الا وهو محاولة تطبيق المبادئ الاخلاقية على مواقفها وانماط سلوكها… اذ ان الولايات المتحدة لا تقيم توجهاتها الا بحسب ما يجلبه لها هذا الموقف او ذاك من فوائد او خسائر واضرار. من هنا، فان المصالح هي التي توجه الولايات المتحدة لا المبادئ، كما يتراءى للبعض.
ومن خلال فضائح الحياة السياسية الامريكية، سواء كانت في الداخل ام في التعامل مع الخارج، يرى المرء ان اثارها لم تقتصر على مكانة الرئيس الامريكي او هيبة الولايات المتحدة على المسرح السياسي الدولي، بل ان اثارها الرديئة امتدت الى ما بقي من ثقة في نفوس الشعوب الطامحة الى قدر من الامن والاستقرار في وجود قوى دولية تعمل في صمت على وقف النزاعات بين الدول وتطبق مبدأ التفاوض لحل هذه النزاعات وتأمين ارساء اسس متينة للعلاقات الانسانية بين الامم على اساس العدل والسلام.
لكن السياسة الخارجية الامريكية اصبح لها سلوك لا يتغير او يتبدل مهما تعاقبت الرئاسات الحاكمة… واصبحت تتمتع بخاصية لا يمكن التنبوء بها. فهي تترك الاصدقاء والاعداء على حد سواء في حالة من الشك والحيرة والغموض المدروس والمحسوب. ولهذا السلوك اهمية عظمى لها، حيث انه يترك الخيارات الامريكية واسعة ولا تنحصر في زاوية معروفة الاهداف. والغموض المتعمد في اتخاذ القرار السياسي فن يدركه الامريكان جيداً. فاذا تحولت السياسة الامريكية الى معادلة حسابية معروفة مسبقاً فانها تخسر اهميتها وتأثيرها واهدافها.
وانطلاقاً من هذا الفهم السياسي يجب على صانعي القرارات في الجانب المقابل، خصوصاً نحن العرب، التعامل مع هذه السياسة ادراك عقليتها المتقلبة مع تغير الاحوال والمصالح… ولهذا التكتيك السياسي نتيجتان متضاربتان:
الاولى- انه يغطي كستار غامض أية ستراتيجية مفهومة يمكن ادراك معالمها واهدافها. ومن يتابع تاريخ التعامل الامريكي مع مشاكل العالم، يكتشف هذه النتيجة الحزينة حيث تبدو السياسة الامريكية تدور حسب المصالح والاهواء.
والثانية- ان هذا التكتيك يصبح على المدى الزمني خطة سياسية بحد ذاتها. فالولايات المتحدة توهم الجميع بانها تهتم وتستمع لشجونهم في حين انها تلعب على الحبال وتشتري الوقت لا اكثر ولا اقل.
فقد كانت الشعوب المغلوبة على امرها تتطلع بعين الرجاء الى الولايات المتحدة التي ظهرت بقوة على المسرح السياسي الدولي في اعقاب اخطر حرب عالمية في التاريخ، على انها سقف يحمي العلاقات الدولية بين سكان هذا العالم باسلوب جديد يختلف اختلافاً رأسياً عن اسلوب الامبراطوريات السابقة التي حطمتها الحرب الثانية.
ولكن تصرف الرئاسات الامريكية المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية دلت على ان هذه الادارات لم تستطيع ان تخط للولايات المتحدة سياسة خارجية تتفق ومبادئها في الحرية والعدالة الانسانية، بل تركت نفسها تنساق في التيارات السياسية غير السوية لدول العالم الاوروبي القديم حتى اصبحت تقدم على اعمال اخطر من اعمال الامبراطوريات البائدة.
نحن العرب اليوم، نعاني بشكل خاص من كل شعوب العالم، الامرين، من جراء هذه السياسة. ونظرة خاطفة على خارطة المنطقة توحي الى كل ذي عقل وبصيرة ان البركان العربي يغلي غلياناً ساكناً قد يوحي بانفجار عظيم.
ومما زاد الطين بلة، ان الولايات المتحدة تعطي نفسها حق الوقوف كشرطي دولي وحق ضرب أية عاصمة آهلة بالمدنيين بحجج واهية ذات الف معنى ومعنى. واول هذه المعاني المحسوبة: خلط اوراق المعادلات العربية- العربية، والعربية- الاسرائيلية، والعربية- الدولية، فضرب بعض القوى العربية الواقفة ضد المصالح الامريكية- الاسرائيلية، يبدو الآن هو السلوك السائد، الا ان هذا السلوك هو دلالة ضعف وفشل لا قوة. وفشل السياسة الامريكية ينبع اصلاً من عدم فهمها لجذور المشاكل العربية والابعاد السياسية الاجتماعية لها.
وبين المحللين من يقول: ان الولايات المتحدة لا تريد فهم جذور الامور لكي لا تأخذ على عاتقها مسؤولية ايجاد الحلول والتسويات، فالوضع الراهن الساخن قد يكون ملائماً لمصالحها الذاتية ولمصالح حليفها الاقليمي اسرائيل دون اعطاء العرب اية اهمية ضمن حسابات اهتماماتها، لانها تشعر بأن الحل للقضية الفلسطينية يتطلب معاناة وطول اناة وصبر وهي لا تملك هذه الضمانات الضرورية لصنع الحلول.
ويبدو ان كل معالم الوضع الحالي ستتكرر ربما في عهد الادارة الجديدة مرة اخرى، وتعمم المنطقة غيوم سوداء قاتمة… فالحلول السياسية مازالت جامدة منذ اكثر من عقود من السنين وكل العرب مازالوا يراقبون الوضع بحذر وتشاؤم وخيبات امل مسبق، فيما الخطوط العسكرية ترسم وراء الكواليس المستقبل الامريكي المنظور لتبدل معالم الخريطة السياسية فيما بعد.
ان العالم لا يحتاج من الولايات المتحدة الى قدرة سياسية ميكافيلية كالتي سودت تاريخ الانسانية على مدى عدة قرون بدخان الصراعات… ان العالم يحتاج الى سياسة دولية جديدة تنسجم مع المبادئ الاساسية التي قام عليها العالم. ليس المطلوب ان تقوم الولايات المتحدة بدور الشرطي المحافظ على السلام الدولي بل المطلوب من اجل السلام الدولي ان تلتزم الولايات المتحدة في سياستها مبادئ الحياة الانسانية بابعادها كافة في العالم.
[email protected]