23 ديسمبر، 2024 9:46 م

التعارض والتوافق بين المواطنة والطائفية والقومية

التعارض والتوافق بين المواطنة والطائفية والقومية

سؤال وموضوع يتجادل الناس حوله كثيرا، وتدور حوله صراعات السياسيين، وفلسفة المفكرين، تبنى عليه توجهات اجتماعية، وتضيع فيه أمم إن لم تحسن الإجابة عليه، ملخصه هو: هل هناك تعارض بين المواطنة والطائفية والقومية؟ أم أن المواطنة لا تمنع المواطن أن يكون طائفيا أو قوميا؟
دعونا أولا نوضح معاني كل مفهوم على حدة، ثم نرى بعدها إن كان هناك تعارض أو توافق بينهما، فالمواطنة في مفهومها السياسي تعني الانتماء إلى وطن معين، له حدود سياسية معترف بها في القانون الدولي، وهي بهذا تختلف عن القومية، حيث تعني الانتماء إلى عرق من الإعراق الإنسانية، ولا يشترط في القومية الاعتراف الدولي، ولا الحدود السياسية، لأنها تستوجب وحدة الدم فقط، فالعرب قومية واحدة على اختلاف أوطانهم السياسية، كما أن الأكراد قومية واحدة على اختلاف أوطانهم السياسية أيضا، فالمواطنة تعني الانطواء تحت وطن ضمن حدوده السياسية، والتعايش مع بقية الأفراد ضمن تلك الحدود السياسية، ولا يشترط في المواطنة ضمن المفهوم السياسي الوحدة الفكرية، أو العرقية مع بقية أفراد الوطن، لأن الجامع الذي يجمع الأفراد في المواطنة هو الانتماء إلى الحدود السياسية لذلك الوطن.
أما الطائفية فهي تعني الانتماء إلى توجه فكري، ديني أو دنيوي، إيمانا بأن مفردات ذلك التوجه الفكري تحقق السعادة، وتحقق الذات للمؤمن بها، سواء أكان ذلك في الدنيا، أو في الآخرة، وهي بهذا تختلف عن المواطنة باعتبار أنها تستوجب الوحدة الفكرية مع بقية الأفراد المنتمين للطائفة، بينما تستوجب المواطنة وحدة الحدود السياسية، ولهذا فيمكن أن يجتمع تحت مفهوم المواطنة المختلفون فكريا، أو المختلفون عرقيا، وهذا لا يمكن في مفهوم الطائفية، أو في مفهوم القومية.
إذن المواطنة ضمن المفهوم السياسي أعم وأشمل من الطائفية ومن القومية، حيث يمكن أن تجتمع تحت مفهوم المواطنة قوميات كثيرة، ومعتقدات كثيرة، فالصين مثلا فيها أكثر من مائة وستين قومية مختلفة، وفيها من المعتقدات والأديان الكثير أيضا، وكل تلك المختلفات تنطوي تحت دولة واحدة هي الصين. أما من الناحية الاعتقادية والفكرية فإن مفهوم الطائفية يكون أعم وأشمل من المواطنة ومن القومية، فالمعتقد قد ينتشر في دول كثيرة، ويؤمن به أناس ينتمون إلى أوطان مختلفة، كالشيوعية مثلا حينما كانت تسيطر على أفكار أجيال مختلفة في جميع بقاع العالم، وهكذا بقية الأديان، فالمسلمون يشعرون بأنهم كتلة واحدة، وأمة واحدة رغم اختلافهم في الانتماء السياسي، وفي الانتماء القومي.
أما من الناحية الإنسانية، أو العرقية فإن القومية تكون أشمل من المواطنة، ومن الطائفية، فقد ينتمي أفراد القومية إلى دول سياسية مختلفة، وإلى توجهات فكرية مختلفة، لكنهم يجتمعون جميعا تحت مظلة واحدة وهي الدم والعرق.
من خلال المفاهيم أعلاه نرى أن المصطلحات التي ذكرناها حول المواطنة والطائفية والقومية يمكن أن تكون متوافقة من غير اختلاف، أو تعارض بينها، ويمكن أن تكون متعارضة، أو متناحرة، وكل ذلك يعتمد على مدى التوافق على تقديم مفهوم من المفاهيم على المفاهيم الأخرى، فلو توافق أهل الوطن الواحد على تقديم مفهوم المواطنة على المفاهيم الأخرى، بمعنى أن الوطن السياسي مقدم في الاعتبار على مفهوم الطائفية، أو القومية فإن الاستقرار السياسي سوف يسود في ذلك الوطن، وذلك يستوجب في حالة تعارض أي مفردة من مفردات الطائفية أو القومية مع مفهوم المواطنة فإن تلك المفردة الطائفية أو القومية سوف تحذف أو تمنع، وتكون عديمة التأثير.
أما إذا لم يتوافق المواطنون على تقديم مفهوم المواطنة، وصارت مفردات الطائفية، أو القومية مقدمة على مفردات المواطنة فإن الصراع والصدامات بين أفراد الوطن سوف تبدأ، وتكون النهاية: إما بتقسم البلد وفقا لتلك التقسيمات الطائفية أو القومية، وإما بحرب طائفية تدمر كل شيء يقف في وجهها، والأمران معا قد حدثا في العراق، فقد بدأت حرب طائفية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، تلا تلك الحرب تقسيم واضح على الأرض، ينتظر الفرصة ليتم إقراره سياسيا، لتكون دولة الأكراد في الشمال، ودولة السنة في الغرب وجزء من الوسط، ودولة الشيعة في الوسط والجنوب.
لقد استطاعت دول كثيرة حل مشكلة الطائفية والقومية بطريقة حضارية، ومن تلك الدول مثلا كندا، التي استطاعت حل مشكلة الصراع بين ذوي الأصول الفرنسية، وبين ذوي الأصول الإنجليزية بإقامة نظام سياسي ديمقراطي يستوعب ذلك الاختلاف، فنرى في مونتريال مثلا بأن اللغة الفرنسية هي المفضلة مع وجود اللغة الإنجليزية، وكذلك الأمر في بلجيكا التي ينتمي سكانها إلى الهولنديين، ونصفهم إلى الفرنسيين، ولم تحدث بين القوميتين أي صراعات دموية على الرغم من الخلاف الكبير بينهما، حتى إنهما ومنذ فترة لم يستطيعوا تشكيل حكومة بسبب الخلاف السياسي الكبير بينهما، إلا أن بلجيكا قائمة بوصفها دولة، وتعمل مؤسساتها بشكل فعال، ولم يحدث خلل يذكر في الاقتصاد البلجيكي على الرغم من عدم وجود حكومة منذ فترة طويلة، وهكذا الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول التي قامت على هجرة جماعات مختلفة فكريا وعرقيا إليها، ولكن التوافق الذي حصل بين أفراد تلك الأوطان على تقديم مفهوم المواطنة على المفاهيم الأخرى جعل تلك الدول تستثمر الاختلاف بين الأفراد ليكون قوة ودافعا لنهوض تلك الدول.
في حقيقة الأمر فإن حل تلك المشكلة بسيط جدا، يقوم على نبذ وتحريم فكرة إقصاء الآخر، أو القضاء عليه، وحين تنتهي فكرة القضاء على الآخر من العقلية الجماعية لأي طائفة أو قومية فإن الفكرة الأخرى التي تحل محلها واحدة لا غيرها، وهي إن كان لا يجوز أن أقضي عليه، فكيف أتعايش معه؟ ومن هنا يبدأ الحوار حول فكرة التعايش مع الآخر، هذا الحوار ينتهي حتما بأن لكل طائفة أو قومية حقوقا، يجب على الآخرين احترامها، ويجب على الدولة تشريع القوانين لحماية تلك الحقوق، كما أن الحوار سوف ينتهي أيضا بوجوب إيجاد حلول للشعائر والممارسات الطائفية التي قد تستفز الآخر، وبما إن الآخر له الحق في ممارسة شعائره التي قد تستفز الآخرين فإن المشرعين سوف يجدون الحلول المناسبة، من خلال توفير الأماكن الخاصة لممارسة الشعائر الطائفية، أو القومية للأفراد، وبهذا لن يكون في ممارسة تلك الشعائر إيذاء للآخرين، وبهذا يكون الشارع، ومؤسسات الدولة العامة ملكا للجميع، تمنع فيها أي ممارسة طائفية، فيقوم الأفراد في ذلك الوطن بعد ذلك بالتعاون والتنافس من أجل تطوير البلد، باعتبار أن الوطن هو الحامي للحقوق، والضامن لسلامة الأفراد، والوسيلة الفعالة لمنع التصادم، فتكون المواطنة الصالحة هي السبيل الأمثل لجميع المواطنين.
إن ما حدث في العراق قبل سقوط بغداد وبعدها كان مختلفا جدا عن مفهوم المواطنة الصالحة، وكان العرب السنة، وخصوصا سنة الجنوب هم ضحية عقلية السنة الجمعية التي تعاملت مع مفاهيم المواطنة والطائفية والقومية بشكل خاطئ. وكانت الأخطاء كثيرة ومختلفة، وقد آن الأوان لأن نكون أكثر صراحة في طرحها، وفي معالجتها، وفي إيجاد الحلول لها، وأحد تلك الأخطاء القاتلة هو تعامل العرب السنة مع العراق على أنه بلد عربي سني، باعتبار أن العراق كان مهدا للخلافة العباسية، وهي خلافة عربية سنية، وهذا لا يعني أنها خلافة إسلامية، بل هل خلافة إسلامية على رغم أنف الحاقدين، ولكن ما نود قوله بأن العراق بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية يختلف اختلافا تاما عن العراق أيام الخلافة العباسية، فهو لم يعد عربيا سنيا بحتا، بل صار فيه خليط من عناصر مختلفة في العرق، وفي التوجه الفكري أو الديني، كما أن الحكومات المتعاقبة لم تكن سنية بالمفهوم الديني أو الفكري، بل كانت غير ذلك، فهي إما ملكية تسعى للحفاظ على عرشها، وهذا لا علاقة له بالسنة كمذهب ديني، وإما قومية علمانية وهذا ليس له علاقة بالمذهب السني، ولهذا فاعتقاد السنة بأن العراق الحديث سني كان اعتقادا خاطئا، ترتبت عليه كوارث كثيرة.
إن التقسيم السياسي للعراق الحديث يحتوي على قوميات، هي العربية، والكردية، والتركية، والقومية العربية هي الأغلبية، وعلى هذا كان يجب أن يوضع في نظر الاعتبار أن العراق ليس بلدا عربيا خالصا، والحكم فيه ليس إسلاميا يستوجب على الناس طاعة الخليفة فيه، بل صار العراق دولة مواطنة، وعلى هذا كان يجب أن تبنى القوانين على أساس مفهوم المواطنة الذي يضمن لجميع الأفراد حقوقهم، ويشعر فيه كل فرد من الأفراد بأن انتماءه العرقي، وانتماءه الفكري أو الطائفي محفوظ، وهذا لم يحدث في قوانين الدولة العراقية الحديثة، فقد حاول المستعمر، ومن جاء بعد المستعمر بناء العراق على أساس علماني، وبعض الأحيان شيوعي، وبعض الأحيان ملكي عربي، وكل تلك الأنظمة لم تضع بعين الاعتبار الحقوق الخاصة بالاختلافات العرقية والفكرية، بل كلها وبطريقة أو بأخرى كانت إقصائية، وهي إقصائية للجميع، السني، والشيعي، والكردي، والتركاني، واليزيدي، فكيف يمكن للكردي مثلا أن يشعر بالانتماء للوطن وهو لا يستطيع الدراسة بلغته؟ بل عليه أن يدرس باللغة العربية مثلا، وكيف يشعر الكردي مثلا بأن العراق هو وطن الأكراد مثلما هو وطن العرب إن كان يقرأ في مدخل مدينة كركوك شعار: نفط العرب للعرب؟