18 ديسمبر، 2024 10:43 م

والدي يقول: مع الله كل شيء مختلفش

والدي يقول: مع الله كل شيء مختلفش

كل الأشياء التي نعايشها في الحياة، تختلف كلياً عما يحدث في عالم البرزخ، فكل شيء مع الله يبدو أنقى وأطهر، وأكثر طهراً من الدنيا وما فيها، وكأني بوالدي يقول لي:مع الله يصبح الألم راحة، والضجيج سكوناً لأنك بحضرته سبحانه وتعالى، وهو الطاقة المحركة لأمنيات الموتى بالعودة مرة أخرى، ليعملوا صالحاً أكثر مما عملوا ليمثل دينهم نقطة إستحقاقهم الجنة، فتراهم لا يحترقون بلهيب الإفتراق عنا، لكننا نشتاق لهم بمقاييس الدنيا كوننا أحياء، أما هم فأرواحهم راضية مطمئنة.

غرف بيتنا تئن ألماً وحزناً على بقاياه من الصور، التي باتت مؤئلاً لجراحنا وأفراحنا على السواء، فإخوتي وأخواتي ما عادوا كما الأمس، فمحطات الدنيا وجنونها أخذت منهم الكثير، لكن ما يجعلنا نعود أدراجنا بسرعة وبشغف، هو ذلك الصوت الدافئ المتوجع الصادر من غرفة أمي، ونعيها الذي يلمس شغاف قلوبنا المتألمة للفراق، مع إيماننا بأن كل شيء يدور حول والدي جيد وآمن، فهو في رعاية الله وحفظه، على أننا نفتقد رصيدنا الأبوي، حيث كان يلازمنا ويأسر أرواحنا البريئة.

لن أهرول للكتابة عن الموت، فكل نفس ذائقة الموت كما يقول الباريء عز وجل، في محكم كتابة العزيز، لكنني لا أكف عن النظر لثروة أبي، التي تركها لنا ولن نفرط فيها أبداً، إنها الطيبة والكرم اللذين لازماه حتى مماته، وصنعنا منهما ثقافة عائلية فكلنا كرماء سرنا على خطاه، وأمي تصرُّ علينا في ضرورة الحفاظ على هذا الإرث المفعم بالقداسة، ورغم أننا لم نحظى توالدنا يوم وفاته، إلا إننا نعيش لحظاته كل يوم، ومع ذكرى إستشهاد الإمام محمد الجواد (عليه السلام).

والدي رجل لا يمكن إختزاله في كلمات أو سطور قليلة، فقصة موته المعلنة، تختلف كلياً عن قصة وفاته ليلة إستشهاد تاسع إئمة الهدى (عليهم السلام)، فأحفاده الطيبون في البيت الكبير يحيون مناسبتين: (إستشهاد جدهم الأكبر الإمام الجواد عليه السلام، ووفاة جدهم السيد هاني عليه الرحمة)، الذي لم يشاهدهم كلهم، لكنهم يستحضرون صوره وكرمه، وأحاديث الجدة التي تعبق برائحة الشاي، وجلسة وقت العصر المميزة، حيث تقفز أحاديث والدي من رأسها المهموم.

والدي العزيز: ما أحوجنا لوجودك بيننا في فرحنا المؤلم وألمنا المفرح، فنحن كما عودتنا نؤمن بأن بعد العسر يسراً، لكننا ننتظر منكَ رسالة بين الفينة والأخرى، لأننا ندرك عظمة المكان الذي يحويكَ، فانتَ بين يدي الله الرحمن الرحيم، ولن ننسى ما حيينا كلامكَ الرائع، أن بين كل خير وخير مسافة مرهقة تسمى الإبتلاء، لكنها مليئة بالأجر لمَنْ صبر، فالرحمة لا تُشترى ولا تُباع، بل هي مستقرة في أعماق قلوبنا الطيبة، فكل ود سنُهديه لروحكَ، وكل ما في العالم من ورد سنضعه على قبركَ.