دعوة رئيس الوزراء حيدر العبادي اتاحت الفرص امام الكفاءات المستقلة للتقدم لشغل مناصب عليا في الهيئات المستقلة، لاتعد خطوة إصلاحية جرئية وحسب، إنما واحدة من تجليات السلوك الديمقراطي ومبدأ العدالة الإجتماعية وروح المواطنة اذ تقطع الطريق على الفساد والتخلف ،وكما حدث ويحدث في بلادنا منذ أربعة عشر عاما ً، وكان الدكتور العبادي صائبا وجريئا ً بوصفه المختصر لهذا الظاهرة ونتائجها حين قال ؛( أن انعدام مبدأ تكافؤ الفرص أدى الى تفشي الفساد والظلم في أروقة الدولة .) .
أتفق مع السيد العبادي بتشخيص الظاهرة وفق منطق اخلاقي ووطني صريح ، لكن المعضلة الأخرى التي برزت في الدولة العراقية الجديدة 2003- 2017 ، ان سياقات التحاصص الحزبي في مواقع المسؤولية بجميع دوائر الدولة قد أفشل مشروع الدولة الديمقراطية الحديثة، ورهن الواقع الى نمطية سلطة ديكتاتورية تتوزعها الأحزاب الممثلة بالبرلمان والحكومة، بديلا عن دكتاتورية الحزب الواحد السائدة قبل 2003 .
الشيء الآخر المهم في هذا الضياع والفوضى الإدارية ، هو غياب التخصص وإنعدام البناء التراكمي للمؤسسات والدوائر، فأنتشر الفساد جراء تسنم المسؤوليات الكبيرة في الدولة (الوزراء والمدراء العامين والدرجات الخاصة) من قبل شخصيات ليس لها خبرة وتخصص وتجربة وتسلسل وظيفي تؤهله لشغل الوظيفة ، وكل حزب يتقلد موارد الوزراء يأتي بأتباعه وعشيرة الوزير ورئيس القائمة دون صلاحيهم للوظائف المناطة بهم.. وهكذا تعطل الأنتاج وزادت السرقات وعمت الفوضى وتزايدت أعداد الفضائيين بما أثقل كاهل الدولة العراقية، وأدخلها في اطار التفكك والترهل والإنحدار.
خطوة إصلاحية كبرى للدكتور حيدر العبادي حين يبدأ بالهيئات المستقلة التي تمثل أحد أهم أركان بناء الدولة والمجتمع، خصوصا في هيئات تتعرض لإستلاب حزبي وتخلف مهني صارخ وانتهاك وظيفي غير مسبوق، وهنا أقصد الهيئات اللامستقلة التالية ، مجلس القضاء الأعلى ومفوضية الإنتخابات والهيئة الوطنية للنزاهة والإعلام والإتصالات والبث والإرسال (شبكة الإعلام العراقي ) والبنك المركزي ودوائر الأوقات، وتطبيق مايدعو له رئيس الوزراء العبادي بمعادلة الكفاءة والتخصص والنزاهة، سوف ينجز نصف المهمة الإصلاحية ويعيد إرساء عمل الدولة وفق السياقات السليمة ويقطع الطريق على الظلم والفساد وهما أسوأ ملامح تجربتنا السياسية في ١٤ سنة عجفاء ماضية .
الأمر بحد ذاته خطوة ثورية مهمة وأساسية في مسار تصحيح الأخطاء العميقة ، لكن الخطير في هذا الموضوع الوطني هو موقف الأحزاب والكتل التي رسخت هذه التقاليد الفاسدة وكرستها لمصالحها الحزبية ونفوذها ومواردها المالية والبشرية، الأمر الذي سيجعل السيد العبادي بمواجهة معارضة واسعة من الأخراب التي تحتل هذه المواقع وتتمسك بها كرصيد سياسي وجماهيري ومالي ، وسوف تتحرك حيتان الفساد المتنافذة مع كبار السياسيين الذين يحتكرون منافع هذه الهيئات ويقفون ضد كل من يطالب بإصلاحها، لذا أجد أن مهمة الصحافة والإعلام ستكون الأولى في دعم هذا المشروع الإصلاحي، كما هي مسؤولية المواطنيين والقوى الوطنية والشخصيات التي تنادي بالإصلاح وخصوصا مرجعية النجف الأشرف والسيد السيستاني والهيئات الأكاديمية والثقافية والمجتمع المدني عموما .