إن الحرية الفكرية تعني تمحيص الافكار والاراء باتباع المنهج العقلي الموضوعي, أي ان الحرية الفكرية تكمن في التحرر من التقليد الاعمى والتسليم المطلق لكل رأي وخاصة الاراء السائدة والمشهورة…
فكثير من المسلمات والمشهورات لا تصل الى درجة اليقين او الاطمئنان بل هي تتخبط بين الظن والاحتمال…
حتى النظرية فإنها لا تمثل إلا قناعة العالم التي من المتوقع ان تكون قد حصلت له عن طريق اتباع المنهج الصحيح…
وهذه القناعة ليست بالضرورة أن تصل الى درجة اليقين وهذا مما لا سبيل الى انكاره, بل أن العلماء بمختلف مجالاتهم واتجاهتهم يقرون بهذه الحقيقة فأرباب العلم الحديث يقرون بأن نظرياتهم هي عبارة عن مجرد إحتمالات راجحة”ظنية”…
وهذا الامر لا ينكره حتى علماء الدين والعلوم الانسانية….
ولذلك قالوا ان ظنية الطريق لا تضر بقطعية الحكم.
نعم التطرف الاعلامي من خلال الرغبات السياسية التي احيانا تتخذ من الايدلوجية وسيلة للوصول الى اهدافها المتمثلة بالوصول الى السلطة والحكم, هذه الرغبات السياسية تحاول ان توهم الناس بأن هذا الظن العلمي هو علم ويقين, وقد نجحوا في ذلك الى درجة اقناع الملايين من الناس بهذا الوهم…
وقد تصدى الشهيدان الصدران لهذا الايهام الذي زرعه ساسة الاستكبار وفلاسفتهم المتطرفون…
ومن هنى يكتسب فكر الشهيدين الصدرين الأهمية الحضارية, لأنه يحتوي في جميع اروقته على المناهج الموضوعية الصحيحة التي تحرر عقل الانسان –اي انسان- من عبودية التقليد الاعمى والتعصب والتشبث بالاوهام…
ولا بد ان اختم هذا الحديث بمثال واحد من الاف الامثلة والشواهد…
وهذا المثال يرتبط بالمرأة…
حيث ان المرتكز في اذهان الكثير بل الملايين من المسلمين أن المرأة عورة.
وقد ناقش السيد الشهيد محمد الصدر هذا الموضوع في بعض مؤلفاته كماوراء الفقه وفقه الاخلاق وغيرها.
أنقل لكم بعض ما قاله في هذا الصدد بالنص:-
(…أن العورة في الجسم بأي معنى كان, هي خلق من خلق الله سبحانه وتعالى وجد لأجل مصلحة متعلقة في وجوده, لا عبثا ولا اهمالا. وقد قال الفلاسفة: إن جانب الوجود خير, إذن فوجود العورة خير في الاساس.
وهي تؤدي وظيفتها التكوينية المطلوبة, كما يؤدي سائر اجزاء البدن كاليد والرأس والرجل وظائفهما المطلوبة منها. فاستشعار النقص والقبح فيها تكوينا منظورا إليها بحيالها كما هو مقتضى الاحتمال الاول. إستشعار غير صحيح.
ويدعم ذلك: الأصطلاح على أن جسم المرأة عورة, مع أن الغالب في المرأة في ردح كبير من سنوات عمرها هوالجمال والرقة والحسن.فكيف نسمي ما هو جميل وحسن عورة؟بمعنى أنه قبيح ذاتا. هذا غير ممكن)إنتهى.
[ما وراء الفقه الجزء الاول القسم الثاني]
إن كلام الشهيد محمد الصدر صريح وواضح بأن ما يسمى عورة هو ليس نقصا ذاتيا…
فضلا عن جسم المرأة الذي هو جمال ورقة وحسن…
وفي طيات البحث يوضح السيد محمد الصدر سبب نشوء هذا المصطلح “العورة” واستعماله للدلالة على ما هو حسن وجميل وقد قال السيد محمد الصدر في نفس المصدر ما نصه :-
(نعم, لما كان هناك تركيز وتشبع بلزوم الستر جاء لفظ العورة باعتبار لزوم الستر. فكل ما يلزم ستره ويحرم كشفه والنظر اليه فهو عورة . إذن, فهذا إصطلاح حكمي أو “قانوني” ثابت بعد الالتفات الى لزوم الستر, وليس بغض النظر عنه.
وإذا كان ناشئا منه لم يمكن أن يكون اوسع من دائرته يعني لا بد أن يكتسب إصطلاح ألعورة إقتصارا على هذا المقدار الحكمي. ويكون الاستشعار الناشئ منه بكون العورة نقصا وخللا وقبحا, بلا موجب .
إذ الحكم بوجوب الستر, لم ينشأ من القبح الذاتي للعورة, إذ لا يوجد قبح ذاتي كما قلنا. وإنما وجد الحكم ونشأ من مصالح فردية واجتماعية تمت الى حياة الانسان وتكامله وتعامله بصلة)إنتهى.
ويضيف السيد الشهيد محمد الصدر في نفس المصدر جواب على الاشكال الذي ذكره حيث اجاب الاشكال بما نصه:-
إن شدة التركيز على الستر امر حق. الا اننا اشرنا الى ان وجوبه ليس ناشئا من القبح الذاتي في العورة. بل لمصالح متعلقة بالحكم تمت الى حياة الفرد الاجتماعية وتعامله مع الناس والى تكامله المعنوي وصعوده في مقامات الكمال او الثواب الاخروي من جهة اخرى.
ويدعم ذلك ما ورد من اطلاق لفظ العورة على “السر” لانه يجب ستره وكتمه. ففي الحديث انه قال (ع): عورة المؤمن على المؤمن حرام قلت: اتعني سفليته . قال: ليس حيث تذهب إنما ذاك كشف سره. وكذلك قولهم: بيت معور اذا كان ايلا الى الانهدام. فان هذه الجهة مما تتعلق المصلحة بعدم كشفه للناس وتعرفهم عليه .)انتهى.
ويضيف ايضا في نفس المصدر حيث قال ما نصه:-
(بل الامر اكثر من ذلك, اذ لو تصورنا ان العورة تحتوي على خلل ذاتي ونقص اساسي, لكان في ذلك اعتراض على خلق الله سبحانه (الذي اتقن كل شيء) وسوء ظن بحسن الصنعة وتمام الخلقة. مع ان القران الكريم نص على حسنها والعقل دال على ذلك, حتى قال الفلاسفة: ليس في الامكان خير مما كان. والعدل الالهي
اللامتناهي شامل لكل الخلق ومدبر له احسن تدبير وهذا المعنى لا يختلف فيه ما تسميه عورة عن غيره.
اذن فالعورة ليس لاجل ان فيها نقصان ذاتي بل ان اصطلاحها ناشئ من وجوب سترها لا اكثر. بل النقص كما قلنا انما يسمى عورة من اجل وجوب ستره.
اذن, فكل ما يجب ستره عرفا او عقلا او شرعا, فهو عورة من زاوية ذلك القانون الذي امر بالستر.)انتهى.
ان هذا الكلام خير شاهد ومثال على القيمة الحضارية والعلمية لفكر الشهيدين الصدرين…
ان الزهد والاعراض عن هذا الفكر الفذ هو دليل على عدم موضوعية وانصاف الباحثين