19 ديسمبر، 2024 12:00 ص

القبول المركزي وإستقلالية الجامعات

القبول المركزي وإستقلالية الجامعات

في عام 1987 كنت اشغل موقع مديرا لأحد الأقسام بوزارة الصحة العراقية ، وكان هذا القسم هو المسؤول ( بالتنسيق والشراكة مع أقسام أخرى في الوزارة ) عن تحديد احتياجات المؤسسات الصحية في بغداد والمحافظات من الكوادر الطبية ( طبيب بشري ، طبيب أسنان ، صيدلي ) ، والصحية ( خريجو الدبلوم الفني من المعاهد الصحية والتمريض من البكالوريوس فما دون ) ، كما إن القسم مسؤول عن توزيع الخريجين حسب الاحتياجات الفعلية ، فضلا عن تحديد احتياجات تلك المؤسسات من الملاكات المتخصصة من الأطباء الاختصاصيين وبقية ذوي المهن الطبية ، وقد خلفت هذا الموقع عن طبيب مرموق ومعروف ولكنهم ارتأوا أن يسندوا هذا الموقع إلى اختصاصي في التخطيط والموارد البشرية من غير الأطباء ، باعتبار إن اغلب مهام القسم كانت تتولاها لجان التدرج الطبي والصحي بموجب القوانين التي كانت مطبقة في حينها ، ولغرض قيامي بواجباتي بالشكل المطلوب فقد طلب مني وزير الصحة أن أقدم مقترحاتي بخصوص الآليات التي يجب صياغتها لتوزيع الأطباء والصيادلة وغيرهم على المؤسسات الصحية ، وقد قدمت فعلا عشرات المقترحات في حينها ومنها محاولة استحصال الموافقات الأصولية لإلغاء القبول المركزي لكليات المجموعة الطبية المتبع من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بما يكفل تنمية الموارد البشرية المحلية من المهن الطبية في بعض المحافظات ، وقد استندت بمقترحي إلى معطيات رقمية وإحصائية تشير إلى إن هناك نسبة تصل إلى 30% في بعض محافظات الوسط والجنوب والشمال من الذين تعينهم وزارة الصحة ويبذلون جهودا كبيرة للنقل إلى بغداد أثناء تدرجهم ، وفي حالة فشل محاولات البعض في النقل فأنهم يتركون العمل ويحرمون تلك المحافظات من خدماتهم كما إنهم يشغلون الإدارات في ( الواسطات ) ومحاولة النقل ، وعند بقائهم لفشل محاولاتهم مرغمين فان أدائهم لا يصل إلى الحد الأدنى المطلوب لأنهم يتمتعون بالإجازات ويلجأون للتغيب والسفر لمحال سكنهم ، وكان مقترحنا يركز على قيام وزارة التعليم العالي بتحديد حصص لأبناء تلك المحافظات لغرض التنافس فيما بينهم على نسبة من المقاعد التي تخصص لهم لقاء تعهدات بالعمل ل15 سنة في المحافظة دون تقديم طلب للنقل ، وبموجب ذلك المقترح فان لإبن الناصرية الأسبقية في القبول بكلية الطب بمعدل 88% حتى وان نافسه طالبا من بغداد أو الموصل بمعدل 93% أي أن لا يزيد فرق المعدل عن 5 درجات ، كما يتضمن تخصيص النسبة الأكبر من مقاعد كليات المجموعة الطبية الموجودة في محافظات الوسط والجنوب والشمال لأبنائها فحسب دون السماح لطلبة المحافظات الأخرى بمنافستهم وتخصيص العدد المتبقي من المقاعد الشاغرة لأبناء باقي المحافظات .
وبعد تقديم تلك المقترحات طلب وزير الصحة عرضها بالتفاصيل والأمثلة ، فقدمت له عرضا تفصيليا واقترحت عليه أن يستحصل الموافقات لكي تتاح الفرص لأبناء المحافظات في الحصول على مقاعد المجموعة الطبية فحسب لكي يستقروا في محافظاتهم ويخدموا أهلهم بمعدلات حتى وان كانت تقل عن المحافظات الأخرى وإلزامهم ( بكفالات وضمانات على الاستقرار المهني لعدد من السنوات ) آخذين بعين الاعتبار أنهم غير قادرين على منافسة طلبة محافظات محددة في المعدل والمجموع لأسباب تتعلق باختلاف الظروف والبيئات ومنها مستويات التدريس والتقنيات المستخدمة وغيرها من العوامل ، فهل من المعقول أن تكون ظروف دراسة ابن ( الجبايش ) في الاهوار متقاربة مع ظروف مدارس المتميزين في بغداد ؟ والى متى تتعب العوائل لكي يتخرج أبنائها من كليات الطب وطب الأسنان والصيدلة ثم يتركون العمل بعد تعيينهم في العمارة والبصرة والناصرية والسماوة وغيرها التي تختلف مدنها وأريافها عن ظروف بغداد ، وهم شباب قضوا حياتهم في الدراسة وليست لديهم خبرات واسعة في الحياة ، فاغلبهم لم يدخلوا معسكرات كشفية أو يذهبوا في سفرات لأنهم يقضون معظم أوقاتهم في الدراسة للحصول على أعلى المعدل والدرجات ، وبعد إن اقتنع الوزير بكلامي كلا أو جزءا طلب أن ينجز هذا الموضوع من قبل لجنة أمر بتشكيلها لغرض إعداد الدراسة لعرضها على ( ديوان الرئاسة ) في حينها طالبا توخي الدقة لصياغة المفردات والتفاصيل لغرض ضمان الموافقة كلما أمكن ذلك ، وكان للوزير ما أراد فقد قضينا ليالي طويلة لإعداد الدارسة لان العمل في أوقات الدوام الرسمي لا يوفر الوقت الكافي لمن شاركنا فيها بسبب زحمة الأعمال ، وبعد انتهاء إعداد الدراسة قدمناها وهي تحوي العديد من المسوغات الموضوعية والنصوص القانونية مع جداول تعرض نتائج مهمة بالفعل منها عدد الدارسين والخريجين والتسرب أثناء الدراسة وبعد التخرج والتعيين والإجراءات المتخذة لمعالجة بعض الحالات ومدى فاعلية تلك الإجراءات ، وكنا نتوقع نجاح تلك الدراسة وموافقة مجلس الوزراء عليها ، لان مثل هذه الحالات كانت تعرض على ديوان الرئاسة لغرض بيان رأي دوائرها ثم تعرض على رئيس المجلس الذي يمتلك صلاحية عرضها على المجلس لغرض إدراجها في جدول الأعمال ثم المناقشة واتخاذ القرار ، وحسب ما علمنا به لا حقا فان الدراسة أدرجت في إحدى جلسات مجلس الوزراء بالفعل ، وبعد مناقشات قصيرة كان القرار بالرفض على أساس إن هناك ثوابت لا يجوز العدول عنها وارتباط الموضوع بالقبول المركزي وهو موضوع ( مقدس ) وعدم جواز المساس به ومنح استثناءات بهذا الخصوص .
وبعد الأحداث التي شهدها العراق في عام 1990 وفرض الحصار وما تركته حرب الخليج من خراب ودمار وصراعات مع الحكومة ، فان البلد اخذ يستنزف المزيد من الخسائر الكبيرة للعديد من الكوادر الطبية كل عام ممن تظهر تعييناتهم خارج بغداد ولكنهم لا يلتحقون أو إنهم يتركون العمل فيما بعد لظروف تتعلق بالأمن والأمان وعدم كفاية الرواتب لتغطية المصروفات ، وقد ازداد الأمر سوءا بعد 2003 حيث بدأت هجرة الكفاءات للخارج بعد رفع قيود السفر وإطلاق منح الوثائق لخريجي المجموعة الطبية وغيرها من التسهيلات التي اضطرت بلدنا لاستيراد الأطباء والممرضات من الخارج رغم الزيادة الكبيرة التي حصلت في عدد الجامعات والتوسعة في مقاعد المجموعة الطبية ، لقد تذكرت تلك الإحداث وأنا اطلع على قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بمنح الاستقلالية للجامعة التكنولوجية وهي الوزارة ذاتها التي أدمنت على المركزية ولم تسمح بتنمية الملاكات الطبية المحلية منذ 1987 ، كما إنها الوزارة التي تزيد من مركزيتها عاما بعد عام تحت غطاء الرصانة العلمية فهي التي :
. أوجدت الامتحانات المركزية منذ تسعينات القرن الماضي رغم ما تتكبده من جهود وتكاليف
. طبقت القبول المركزي على الكليات الأهلية رغم ما يجب أن تتمتع به تلك الكليات من مرونة
. ألزمت الجامعات الحكومية بمركزية التقديم السنوي للدراسات العليا وللاختصاصات كافة
. لا تزال تطبق القبول المركزي على جميع مدخلاتها دون إعطاء استثناءات لبعض المحافظات
. تمثل الممول المركزي للتعليم الحكومي ومن خلال الموازنة الاتحادية التشغيلية والاستثمارية
. تخضع كل معاملات البعثات والزمالات والاتفاقيات وفتح ملفات النفقة الخاصة إلى المصادقات
. تصدر كل ما يتعلق بمواعيد الدراسة والامتحان والتعطيل في الجامعات والمعاهد والكليات
إن تحقيق استقلالية الجامعات هدفا يسعى لبلوغه كل من يعي مفهوم وأهمية ومزايا الاستقلال ، وهي أمنية تمتد إلى عقود مضت وترتبط بالصالح العام وكنا ننتظر تحقيقها فيما يتعلق بإلغاء أو تقويم القبول المركزي في الجامعات ولبعض التخصصات على الأقل ، ولكن ذلك يجب أن لا يتحول إلى شعار أو منجز سياسي مجرد عن معانيه ، فمن الضروري ربط العلاقة بين استقلالية الجامعات مع التمويل المركزي من الموازنة الاتحادية ، كما إن هناك أرضية ومقدمات يحتاج إليها هذا الانتقال المهم ومنها تثبيت القيادات الجامعية بعد توصيفها بشكل دقيق وإلغاء العمل بالوكالات وإيجاد سياقات تضمن التداول السلمي للسلطات والصلاحيات في الجامعات وتشكيلاتها وعدم التمسك بها والعمل بحيادية عالية تضمن العدالة في التعامل مع الآخرين بإطار تعاوني مبني على الثقة بالقدرات والدافعيات العلمية من دون تشكيك وتخوين مسبق ، فضلا عن إيجاد ضمانات تكفل عدم تدخل الأحزاب والكتل والإدارات المحلية بخصوصية واستقلالية الجامعات ، لان الجامعة ليست دكان ( أو مول ) وإنما كيان علمي يفترض أن تتوافر له الظروف الموضوعية ليحقق الريادة علميا وتربويا وبلوغ كل ما هو ايجابي بما يلاءم البيئات المحلية ويواكب التطور العلمي السائد عالميا مع تحقيق السبق في بعض المجالات ، مما يعني إن الاستقلالية ليست ( هبة أو مكرمة ) وإنما هي عملية انتقالية متكاملة تتم على وفق منهج علمي مترابط من حيث الإمكانيات والتوقيتات بحيث يشهد المنتسب والمواطن مزايا الاستقلالية بشكل ملموس ، ونحن على ثقة بان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قد أخذت هذه الأمور وإبعاد أخرى بنظر الاعتبار في إدخالها إلى حيز التطبيق موضوع استقلالية الجامعات سيما وإنها تدار حاليا بالتكنوقراط البعيد عن اغلب الضغوطات .