إذا جمع الناقد المسرحي “حميد عبد المجيد مال الله” ما كتبه ونشره في الصحف والمجلات العراقية والعربية وكذلك في الدوريات المتخصصة بالمسرح ، منذ أوائل العقد السبعيني، ومنها قراءاته ومتابعاته النقدية للعروض المسرحية التي حضر عروضها في البصرة وبغداد وسواهما من المحافظات ، لاهتماماته الشخصية المسرحية ، أو التي اختير عضواً في لجانها التحّكيمية الرسمية، فإن الحصيلة ستكون أكثر من كتاب متخصص بـ”النقد المسرحي التطبيقي”. يشترك معه في هذا الجانب الناقد والكاتب والمخرج المسرحي”بنيان صالح” الذي لم يصدر له غير كتاب واحد عن اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة محتوياً(أربع موندرامات) ألفها في أوقات متباعدة ،خلال رحلته المسرحية التي تجاوزت نصف قرن مع إن لديه الكثير من المسرحيات الجاهزة للنشر، والمقالات الفكرية – الفنية المعنية بالمسرح ، والمنشورة في أماكن متفرقة وأزمان متباعدة في المجلات العراقية والعربية والصحف كذلك، وبعضها لم ينشر. ويشترك معهما في هذا الكاتب والناقد والمؤلف والمخرج المسرحي الراحل”جبار صبري العطية” الذي له أعمال مسرحية عديدة تتوزع بين التأليف والإعداد والكتابة النقدية المسرحية وحتى الأرشفة ، لكنه حظيَ فقط بإصدار (تحت المطر) عن وزارة الثقافة العراقية ، محتوياً على ثلاث منودرامات من تأليفه. ويشترك ثلاثتهم في إهمالهم ما كتبوه ونشروه عن تلك العروض المسرحية التي تناولوها نقداً وبحثاً ، ولم يصدروها في كتب تبعدها عن الضياع والإهمال. ومن المؤكد أن كتاباتهم النقدية تلك ، تعد ضمن” التأريخ النقدي الخاص بالمسرح العراقي” ، إذ يغدو من المتيسر الإطلاع عليها ، فيما إذا تم جمعها في كتاب مستقل، وربما أكثر، لكل منهم ، و هو ما سيفيد الأجيال المسرحية القادمة ، والباحثين الأكاديميين وغيرهم في هذا الجانب. يؤكد الناقد المسرحي حميد عبد المجيد مال الله، في حوار ليَّ معه ، أنه:” بدأ الكتابة بالعرض النقدي الصحفي وهو من تفرعات (نص النقد). وكان لا بد من إرسائه على أرضية ما، فكانت السسيولوجيا”. ولذا فإن إهمال أو تجاهل فضاءات المسرح المتجاورة والمستقلة ، لحد ما ، والاهتمام بانشغالات أخر خلال العرض المسرحي وإعارتها أهمية متدرجة والتوجه الوحيد نحو العرض المسرحي ، دون سواه، ستفضي إلى مفارقة بينةٍ بين ما يعرض على المسرح الذي يشكل خزينا متراكماً في الذاكرة الشخصية والجمعية، يتعلق قسم منها بالعمل الإخراجي وما يرافقه من معطيات والعمليات التقنية المسرحية وبعضها يشمل طرائق الإخراج و التمثيل المتقدمة فنياً ، على وفق الإمكانيات المتاحة ، ومنسجمة مع المعطيات المسرحية الحداثوية. في ذات الحوار يقول الناقد مال الله :” أخضعت مقالاتي عن العروض المسرحية التي نَشرتها سابقاً إلى نقد ذاتي صارم، على وفق ما شَخّصتْ قصورها، بعض الأطاريح الأكاديمية التي دَرَستْ نصوصاً نقدية مسرحية منها ما كَتبتهُ، وتم الكشف عن ذلك بوضوح ضمن أطروحة في (نقد النقد المسرحي) للدكتور (محمد أبو خضير)، وأطروحة (النقد المسرحي في العراق) للدكتور(ضياء الثامري)، وكذلك في تحليل أكاديمي للدكتور(عبد الفتاح عبد الأمير) تناول فيه دراسة مقارنة بين نصوص النقد المسرحي لناقدين هما الأستاذة الناقدة نازك الأعرجي وحميد عبد المجيد مال لله “. بعد أكثر من ثلاثة عقود على المتابعة والنقد والتأليف والإخراج والمساهمة الفاعلة في مختلف الجوانب والتقنيات المسرحية ، صدر للناقد المسرحي “حميد عبد المجيد مال الله” كتابه المعنون (التدوير الدرامي)* واكتفى فيه ببعض مقالاته ودراساته ، التي نشرها منذ تشرين الأول عام 2003 ولغاية شباط عام2009. في اللغة :” تَدْويرُ الشيء:جَعْلهُ مُدَوَّراً. والُمدَاوَرَةُ:كالُمعَاَلجة.” /مختار الصحاح/ ص 169.أما في المسرح فان “ما يحدث في العرض المسرحي فهو ( تدوير درامي) لثيمات سابقة، أو تدوير لسمات في نصوص المؤلف. والأمر ينسحب على رؤى ومنهجيات الإخراج المسرحي آنياً و(التدوير) يتبارى في أداء الممثل/ الممثلة في أدوار سابقة له ولها, و أدوار الآخرين وفيه محاولات لإعادة مسرودات سابقة ومنها العواطف ، وما يماثلها أو يختلف معها ، التي سبق ممارستها كذلك، وهي اهتمامات رئيسة للمسرح في كل زمان ومكان، لكن مفردة/ يعيد, يصور/ نصاً وعرضاً وأداءً ، تؤكد إمكانية شيء يتجاوز معرفتنا، كما يغير شكل الموضوع”.(شبكة الانترنت العالمية/ بتصرف). يذكر الناقد” مال الله” في مقدمة كتابه بأنه محاولة رصد مكثفة للتدوير في مسرح بالغ الأهمية هو(مسرح الطفل) ضمن فضائي النص والإخراج مؤكداً أن فن المسرح من أكثر الفنون تداولية (للتدوير) لأنه يحتوي على جدلية يطلق عليها، (التفاوضية) و تلتقي بشكل ما مع ذاكرة المتلقي، التي ستتحرك نحو البحث عن المراجع التي استقدمت منها المادة التي أمامه، ويشاهدها بصفتها عرضاً مسرحياً. قسم الناقد” مال الله” كتابه على قسمين غير متكافئين ، القسم الأول احتوى على (أربع عشرة) مادة ضمن موضوع واحد هو: مسرح الطفل. درس فيه: العنوان/ فضاء النص/ التدوير الدرامي/ تدوير اسم الشخصية/ اللعب/ الاستعارة/ التشبيهية/ المسرح البيئي/ القناع/ خطاب اللون/ المايم/ الدراما الموسغنائية/ التلقي/ ومسرح الطفل..مفتوح أم مغلق. أما القسم الثاني فكان بعنوان: علامات مسرحية. تضمن (أربعة) مواضيع فقط هي: المركبة الشبح/ التغليف/ المؤثرات الشمية/ الهاتف. كما ألحق بكتابه (تسع) صور فوتوغرافية لعروض مسرحية متعددة من دون الإشارة إلى زمانها ومكانها وتحديد شخصياتها، ومن ضمنها إعلان عن مسرحية “الصوت البشري” للممثلة” انكريد بريغمان” وباللغة الانجليزية.في موضوع التدوير الدرامي(ص20) يقدم الناقد” مال الله” إحصائية لنماذج مسرحية تم إعادة( التدوير) الذي مرت وتمر به مسرحيات مثل ليلى والذئب، الصبي الخشبي، من يقرع الجرس، المزمار السحري، ملابس الإمبراطور، الأقزام السبعة، رحمة وأمير الغابة المسحورة ، السندباد البحري، كلكامش. كما يذكر في الموضوع ذاته بعضاً من نماذج(دُورتْ) مسرحياً عن “ألف ليلة وليلة” بمجلداتها الثلاثة، ومنها رحلات السندباد البحري إعداد عبد الرحمن طهمازي، وكذلك السندباد البحري تأليف وإخراج جبار صبري العطية، ومسرحيات أخر كثيرة عراقية وعربية عن الموضوع ذاته يوردها في الإحصائية، وفي ذلك فإن إعادة سرد قصص وحكايات معروفة كالقصص الشعبية وحكايات الجنيات وشخصيات من التاريخ والموروث الشعبي الشفاهي، وإعدادها بما يتناسب مع التقنيات المسرحية برؤى جديدة، تعد جزءاً من اهتمام الدراما في كل الثقافات الإنسانية، ولعل بعض مرتادي المسرح يحضرون أساساً ليروا نصاً معيناً من خزين ذاكرتهم. و يذكر الناقد”مال الله” أن (التدوير) شمل ملحمة كلكامش/ ترجمة طه باقر/ وإخراج سامي عبد الحميد باسم مسرحية كلكامش ، و جلجامش/ انكيدو/ اتوبنشتم/ وهي مسرحيات لطلال حسن ، والطائر الأزرق مسرحية موريس ميترلنك ترجمة عبد الخالق جودت / دار ثقافة الأطفال بغداد 1987 وطير السعد/ مسرحية أسطورية للأطفال لقاسم محمد منشورة في مجلة المسرح والسينما العدد الأول تشرين الثاني 1970 ، وقصة لبينو كيو بعنوان(الصبي الخشبي) ترجمة محمد هيثم 1980 بغداد، و(الصبي الخشبي) مسرحية للأطفال إعداد قاسم محمد عن قصة ( كالو كلروكلردي) ، باسم (ليلى والذئب) و يذكر المؤلف انه قرأها في أربعينيات القرن المنصرم، عندما كان تلميذاً في الدراسة الابتدائية ضمن كتاب (المطالعة)، المقرر دراسياً، وتحولت بعد ذلك إلى مسرحية تأليف ” يفديني شفارتس” وترجمها محمد خضور وأخرجها د. طارق العذاري منتصف الثمانينيات في البصرة ، وقصة أخرى هي ( من يعلق الجرس) تحولت إلى مسرحية بعنوان (أهل التفكير وأهل التدبير) من تأليف الكاتب المصري عادل أبوشنب ، وأخرجها عام 2007 عبد الكريم خزعل لصالح معهد الفنون الجميلة في البصرة، وأخرى غيرها نوه عنها الناقد وقدم عنها إحصائيات في (ص20-26 ) من كتابه. وبذا فان الناقد “حميد عبد المجيد مال الله ” يوصلنا إلى نتيجة ملخصها أن لا جديد في عالم الفضاء المسرحي ، إذ يبدو كل شيء (مدوراً) عما سبقه على وفق ما يراه وكتبه. ونرى فيما إذا تم نقل مفهوم (التدوير) من حقله المسرحي إلى الحقل الأدبي والثقافي فأننا سنصل إلى مفهوم ( التناص) الذي يؤكد أن كل إنسان في هذا الكون، وما يصدر عنه مهما كان شكله ونوعه ، (متناصٍ) مع مَنْ سبقه لأنه ليس صنيعة نفسه وغير بعيدٍ عن مؤثرات الأسرة الصغيرة والمجتمع والتاريخ والأفكار والرؤى الثقافية – الفنية التي تجتاح العالم وفي هذا يؤكد بعض علماء وكتّاب نظرية “التناص” أن الكائن الوحيد غير (المتناص) هو(آدم) فحسب، على وفق النظرية المثالية في خلق الكون ، إذ انه لم يجد أحداً قبله في الكوكب الأرضي كي يتناص معه. ومصطلح “التناص” كـ”مفهوم” أطلقته الباحثة “جوليا كريستيفا” عن دراسة “باختين” لـ”دوستويفيسكي” ، وعرفته بأنه مجموع العلاقات القائمة أو المتشابكة ،الظاهرة والخفية ، بين نص أدبي ونصوص أخرى. (التدوير) في المسرح و(التناص) في الأدب والثقافة وحتى الأفكار إذا استخدما بشيء من (التعسف) والتفسير المتشدد لهما ، فأنه سيصل حد(المغالاة) أحياناً في الاستخدام المسرحي والأدبي- الثقافي والفكري ، وبذا يبدو (التدوير) و(التناص) ، على وفق أعلاه، يتنكران للمعطيات الإنسانية الخلاقة في الكشف عن أهم ما يشغل الإنسان الواقعي في لحظته الزمنية – التاريخية التي يعاصرها ويسعى إلى أن يقدم لها أجوبة محددة في زمنه ومكانه وضمن رؤاه الفنية والجمالية ، الذاتية، المشروطة باللحظة التاريخية التي يعيشها ويتفاعل معها بقدراته الثقافية- الفنية الخاصة والاجتماعية التي يعبر عنه. وفي هذا يؤكد ( لوسيان غولدمان):” إن ذلك يعني عزل بضع عناصر جزئية من عملٍ ما عن سياقها، ونجعلها كليات مستقلة ، ثم نستنتج بعد ذلك وجود عناصر مماثلة في عمل آخر نقيم معه تقارباً “. ويضيف:” إننا نخلق هكذا تشابهاً مصطنعاً يتجاهل عن وعي أو غير وعي السياق المختلف كلياً، والذي يعطي هذه العناصر المتشابهة نفسها دلالة مختلفة أو مناقضة”. لذا لا يمكننا أن نتصور أي عمل فني، إلا بصفته مظهراً بسيطاً أو جزئياً لواقع أكبر عبر مهيمنات تؤثر في الإنسان الذي هو أهم عنصر فاعل ضمن شروط معطاة تاريخياً بفعل مجموعة الظروف الاجتماعية والكونية، وتأثيراتها الحادة- القاسية في الإنسان ذاته و نتاجاته الفنية وقيمها الجمالية من خلال محاولات إجرائية مرهونة بالظروف الجماعية-الاجتماعية من جهة، لكون العمل المسرحي ليس نتاجاً فردياً فحسب بل هو بالأساس عمل جماعي، دون التنكر للخصوصية من خلال التنقيب والبحث والتجريب، ضمن رؤى و مناهج فنية- جمالية معاصرة وتاريخية كذلك ، و يمكن استخدامها والاستفادة منها ومن معطياتها التي لا حدود لها.
* إصدارات اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة / بدعم شركة أسيا سيل للاتصالات/ الغلاف تصميم المترجم والفنان نجاح الجبيلي.